الفصل التاسع عشر

41 10 0
                                    


السماح بالرحيل !

مر الهزيع الاخير من الليل ، كان لا يزال جلباب الليل الاسود يغطي صفحة السماء ، والرياح تولول وسط الطرقات والشوارع ،منذرة بعاصفة قوية قادمة من بعيد ،وحتى ذلك الوقت المتأخر كانت لا تزال بلقيس وطارق يبحثان عن محمود ، فهما لم يتركا ﺃي مكان لم يبحثا فيه ،ولم يكتفيا بهذا فحسب فهما قد اتصلا بكل معارفهما وأصدقائهما ولكن بدون جدوى فلا ﺃحد كان يعرف عنه ﺃي شيء .

وهذا ما جعلهما يظنان بأنه ربما قد فقد عقله ،وأقدم على فعل غبي ،وهنا تدهورت حالة بلقيس وانهارت ،ولهذا قرر طارق اعادتها ﺇلى المنزل كي ترتاح قليلا ريثما تصله اخبار جديدة عن الاصغر ،الذي رحل من دون ﺃن يترك اثرا ورائه ، بمجرد ﺃن دلفا البيت ، شما رائحة غريبة ، وفي تلك اللحظة نظر الاثنان ﺇلى بعض ثم صارا يتحققان مصدر الرائحة ،والتى كانت تشبه شيئا يحترق ، لتسأل بلقيس طارق

_ هل هذه رائحة احتراق شيء ما ﺃم التعب قد اثر في قدرتي على الاستيعاب !

مرر طارق لسانه فوق شفتيه ،وهز رأسه بمعنى اجل ﺃنت لم تخطئ في التخمين ، وهذا ما زاد من قلق بلقيس ،التى شعرت بمغص كبير في معدتها وصارت ركبتيهما تصدمان ببعضهما البعض ،بمجرد تفكيرها في بأن محمود قد قام بإيذاء نفسه ،تشبثت بطارق مثل جبل وصار يتمشيان حتى وصلا الى مصدر الرائحة .

قام طارق بفتح الباب الزجاجي ،وخرجا معا ﺇلى الحديقة ،ﺃين كان هناك جبل من النار في الوسط ومحمود يقف امامه ويلقى بالمزيد من الاوراق لتذكي النار ﺃكثر ،اقترب الاكبر ثم وضع رأسه على كتف الاصغر ،وتنفس الصعداء وبعد لحظات فتح عينيه وقال

_ﺃنت هنا ونحن نبحث عنك في الخارج ،ثم ما هذه النيران !

لم يجب محمود على السؤال، واستمر بإلقاء المزيد من الاوراق فوق السنة اللهب ،ولكن رائحة الدخان خنقت بلقيس بل كاد يغمى عليها ،ولهذا ترك طارق كل شيء ودلف ﺇلى قاعة المعيشة واحضر مطفئة الحرائق ،ثم صار يرش تلك النار حتى انطفأت تماما ليقول محمود

_ليتك تركتها تذكي اكثر ، فلقد كنت اشعر بالدفء !

تبادل بلقيس وطارق النظرات ،ثم وضع الاكبر مطفئة الحرائق على جنب وتقدم من الاصغر ، حيث وضع يديه حول كتفيه وأداره من اتجاهه

_ﺃنا افهمك ﺃلمك محمود ، ما رأيك ان نخرج مثل الايام الخوالي نتمشى على شاطئ البحر ،ونتحدث مثلما كنا نفعل دائما !

ليت ايام الطفولة تعود ، ويعود ﺃكبر هم لمحمود حفظ هو جدول الضرب ، هز رأسه يمينا وشمالا ثم قال بنبرة مليئة بالخيبة

_لا ﺃنت لا تفهم ﺃي شيء ،وفي الحقيقة لا احد يفهمني ، فلا تأتي اﻵن وتمثل دور المهتم الحنون ،لأنك لم تهتم لأمري قط ،فأنت كل ما يهمك هو مكتب المحاماة والقضايا والأجر الكبير !

وضع طارق يديه حول وجه الاصغر ،وصار يهزه ويتحدث بنبرة مليئة بالحب ، عل ذلك الواقف ﺃمامه يفهم ﺃن قسوة الاخ الاكبر عليه، لم تكن إلا اهتماما وخوفا

_لا ﺃحد يحبك مثلي ولا احد يهتم بك مثلي ، وعندما اقول لك بأنني اتفهمك عليك ان تصدقني ،فأنا افهم بأنك تعاني وبأنك مجروح وتتألم ،ﻷن جهدك ضاع صحيح انني لا استطيع فعل ﺃي شيء ،ولكنك يمكنك التحدث معي ، يمكنك اخباري بأي شيء تريده !

رفع محمود يديه وأزاح يدي الاكبر ، ثم التفت الى ذلك الرماد ، لقد كان يشعر وكأنه ينظر ﺇلى نفسه التى استحالت رمادا ،بعدما كانت نارا تدفئ من يحيطها بدون انتظار المقابل

_حاولت طارق حاولت اخي كثيرا ﺃن احدثك ولكنك كنت تصدني دائما ، كنت تعتبر شغفي هوسا وجنونا ولم تدعمني قط ، كنت ترى هوسي بموضوع الزواج المبكر طيشا ،ومضيعة للوقت بينما ﺃنا كل الذي كنت احاول فعله هو ايصال اصوات ،لم ينتبه ﺃحد لها بسبب ضجيج الكبار الذين يدعون بأنهم يعرفون كل شيء !

عندما رأت بلقيس ،بأن طارق لم ينجح في اقناع محمود بالتحدث قررت هي التدخل ، ولكن الاصغر كان قد انتهى من الكلام ، حيث تركهما هناك وتمشى ناحية الباب الزجاجي ودلف الى قاعة المعيشة ، اقترب من الكنبة ورفع حقيبة صغيرة ،وكان يهم بالرحيل ولولا بلقيس التى تشبثت بذراعه مثل طفل صغير وقالت برجاء

_لا تذهب بني ،لا تذهب ارجوك !

اقترب محمود وطبع قبلة دافئة ،على رأس والدته الحنون ، التى تعبت كثيرا في تربيتهما وفي ايصالهما ﺇلى ما وصلا ﺇليه اﻵن ،ولكنه مجبر على الذهاب بالرغم من انه سيسبب لها ﺃلما عظيما ،ليقول بينما يحاول فك نفسه من بين مخالبها

_منذ اليوم لن اتهور ولن اسبب لكم ﺃي مشاكل من شأنها تشويه صورتكم ، منذ اﻵن انا اخرس ﺃو سأحاول على الاقل ﺃن اتنصع الخرس !

قال تلك الكلمات ثم عاد ليقبل جبهة والدته ، ليتمشى بعد ذلك من اتجاه الباب ،حيث فتحه ثم خرج الى مصير مجهول ، لتسقط بلقيس وتنهار ﺃكثر ، وهناك اقترب منها طارق بسرعة ورفعها ،وصارا يتمشيان من اتجاه الكنبة ﺃين اجلسها ثم ﺃمسك يديها وقال

_اتركيه يذهب ،فالبعد سيجعله يتخلص من قيود المشاعر السلبية ، وتلك القيود الداخلية اتركيه امي وأنا واثق من ﺃنه سيعود مجددا !

وضعت بلقيس رأسها في حضن طارق ،وأجهشت بالبكاء ، بينما الابن الاكبر صار يمرر يده صعودا ونزلا على ظهرها ، عله يريحها ولو قليلا ، ولكن هل هذا يعني انه لم يتأثر ﺃو ينزعج ،من رحيل اخيه الاصغر ، بالعكس لقد انزعج كثيرا وشعر بأن لديه يدا في فشل محمود ،ولكن في نفس الوقت كان هذا الاخير يعاني من مشكلة اسمها القيود الداخلية .

ﺃولا عليه السماح لرحيل تلك القيود ،لتبدأ ذاته بالإشراق ويكتشف الطريق نحو السلام الداخلي ، و ﺇن كان حقا يريد تغيير العالم عليه البدء بنفسه ،وفي هذا الصدد يقول غادي ׃"كن انت التغيير الذي تريد ﺃن تراه في العالم " ، وبالنسبة لعائلة صالحي فلقد كانوا سيمرون بفترة صعبة ،ولكنهم سيجتازون هذه المحنة كما كانوا دائما يفعلون !

قربان على مائدة الزواج المبكر / الكاتبة بن الدين منالWhere stories live. Discover now