"صاعقة مزقت قلبي"

195 10 7
                                    

تلك الثقة العمياء يا عزيزي هي البداية لخراب كل شيء، لا عليك بها، لا أحد سيقول: يثق بي وعليّ أن أكون بقدر الثقة، بلى هو سيفعل ما يريد، حتى وإن باتت الطعنة خلفك لا عليه، فأنت تثق به في النهاية، وأعلم يا عزيزي أن بعض المواقف لا تكن عابرة، بل تكن دروسًا تتعلمها وتأخذ منها العبرة، حتى لا تقع في نفس الخطأ مرة أخرى، ثق نعم ولكن لا تكن أعمى، لأنه إذا كُسرت تلك الثقة فلن يستطع أحد أن يضمد الثقب الذي حُفر بك.

في بيت "منار".
عاد "محمود" إلى المنزل ولم يجد والدته فاستغل الفرصة وذهب إلى غرفة شقيقته، دق الباب بهدوء، لتقف هي خلفه تقول: مين؟
اخفض صوته قسرًا يردف: افتحي يا نورا أنا محمود.
تعجبت كثيرًا لما يُخفض صوته هكذا ماذا يريد؟
قالت وهي لازالت خلف الباب: ماما عايزاني في حاجة؟
أردف بنفس الصوت: لأ أنا اللي عايزك.
فتحت الباب بهدوء، فدخل مُسرعًا يغلقه.
قالت هي مذعورة: اي يا محمود مالك؟
وضع يده على فمها يقول: هششش ماما هتسمع وطي صوتك.
اخفضت صوتها قائلة: في اي طيب؟
ظل واقفًا ينظر لها فقط لا يتحدث، وعيناها تلمع بالدموع.
أردفت قلقة: مالك يا محمود قلقتني؟
ارتمى بجسده داخل أحضانها يشدد عليها قائلًا: أنا آسف يا منار، سامحيني أنا آسف.
تعجبت كثيرًا ماذا به؟
ربتت على رأسه تقول بتعجب: بس بس اي اللي حصل لكل ده؟
خرج من أحضانها ينظر لها يقول وشهقات بكائه يبكي لها الصخر: أنا ظلمتك كتير أوي يا منار، وأنتِ استحملتي وسكتي، وجيت عليكِ ووقفت مع ماما مع إني عارف إنها غلط، بس انا والله كنت بفضل أقولها تبعد عنك وتبطل تأذيكي، بصي اضربيني لو عايزة بس بالله عليكِ سامحيني والله مش هعمل كده تاني، مش هبعد عنك تاني أبدًا، أنا فقت لما عرفت إني ممكن أخسرك، قلبي مستحملش الفكرة، لو حصلك حاجة عمري ما هسامح نفسي.
ليس فقط هو من يبكي بل هي أيضًا تنظر له وهي تبكي، أخذته داخل أحضانها مرة أخرى شهقاتهما تتقاطع من البكاء تقول بلهفة: وحشتني اوي يا محمود.
_ وأنتِ كمان، عمري ما هبعد عنك تاني.
ظلت تضمه بعض الوقت حتى يهدأ، ثم ابتعدت عنه تمسح دموعه برفق تقول: خلاص أهدى.
ابتسم لها بحب، ينظر لملامح وجهها الشاحب يبدو أنها لا تتوقف عن البكاء،وجسدها المتهالك هذا، فمسح دموعها وهو يقول: مش هسمح لدموعك تنزل تاني يا منار.
تلك المرة هو من أخذها في أحضانه، يقبل جبينها، كم أن احساس الأمان جميل! كم كانت تفتقده! ولكن الآن باستطاعتها أن تغزو العالم إن أرادت.
جلسا معًا على الفراش يبتسمان، فسألته هي: اي اللي حصل يا محمود؟ يعني قصدي اشمعنا دلوقتي جيت صالحتني.
أردف بحسرة: فقت يا منار، كنت متخدر وحصل اللي فوقني.
_ اللي هو أي ده؟
= أدهم صاحبي أخته الصغيرة ماتت بالسرطان، عرفوا متأخر لأنها كانت بتخبي عليهم وجعها، كانت بتحب الضحك والفرفشة، فاختارت تعاني لوحدها، الوجع اللي في صوته وهو بيتكلم عن أخته فوقني، حطيت للحظة نفسي مكانه لقيت قلبي مش قادر يستوعب الفكرة، وخفت أوي أكون اتأخرت ويكون بجد حصلك حاجة وأنا مش جنبك، أنا اكتشفت إني ضعيف أوي يا منار.
عينيها الدامية من كثرة البكاء وهي تنظر له، ترى في وجهه كم هو نادم! وكم خائف! لأول مرة تشعر به آخاها الكبير وليس الصغير، هي تريد هذا نعم، ليكن هو الكبير وهي مدللته.
قالت بصوت باكي: ربنا يرحمها يا حبيبي، ويصبر قلبه.
= يارب.
_ خلاص اضحك بقى.
ابتسم لها ثم أردف يقول بغزل: إلا قوليلي يا منورتي هي اي الحلاوة دي؟
لا شيء لفت قلبها إلا تلك الكلمة "منورتي"، لم تستمع إليها منذ صغرهما، لكنها كانت جميلة منه.
ابتسمت تقول: منورتي؟، وحشتني اوي.
ضمها إليه مرة أخرى يقول: كل الحلو هيرجع تاني، اه صحيح بصي جبت لك الآيس كريم اللي بتحبيه.
انصدمت مما رأت قائلة: بس دول كتير أوي.
_ دول عشرة بس، وبعدين هنسهر سوا النهاردة وهناكلهم كلهم.
ضحكت على كلماته ثم قالت: طب قوم يا فالح حطهم في الفريزر عشان ساحوا.
_ يوووه يعني مش هنعرف ناكلهم دلوقتي؟
= تؤتؤ، قوم اعملنا آيس كوفي، وهاته وتعالى البلكونة يلا.
_ عيوني.
قام سريعًا يضع الآيس كريم في الثلاجة، ويحضر الآيس كوفي.
أما هي فوضعت فراش صغير في الشرفة، وأتت بالحاسوب عليه فيلم ديزني، تريد فعل كل شيء كانت تتمنى أن تفعله معه، تريد أن تُشبع قلبها من أخيها قبل أن ترحل.
_ وسع وسع للآيس كوفي.
ضحكت على طريقته ثم قالت: يا ابنى اهدي يا ابنى احنا نص الليل.
_ يا بنتي هو فيه نايم بيصحى؟، مشغلة لنا اي بقى؟
جلسا سويًا يقضيان وقت تمنا أن يقضيانه منذ زمن.
بعد قليل من الوقت نامت على كتفه، كان متفاعل مع الفيلم وهي لا تتحدث، فنظر جانبه يقول: روحتي فين يا منار؟
وجدها نائمة مبتسمة، قد تكون تلك المرة الأولى التي يراها بهذه السعادة.
قبّل جبينها ثم قام وحملها، وضعها على فراشها يدثرها بالغطاء، وأغلق الشرفة ووضع الحاسوب على المكتب، ثم فتح الباب بهدوء وخلد للنوم هو الآخر.
_____________________________________

"لم يعد قلبـي سجيـنًا"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن