"بَـوحٌ مُـثـقل"

212 15 5
                                    


بعضنا يحمل بداخله أشياء تُثقله، تصبح كـحِمل الجبال على قلبه، لا يستطيع البوح بها، وليس قادر على تحملها، اختياران من نار، هل أصمت وأترك البركان ينمو إلا أن يثور وحده، أم أتحدث وأكشف جرحي، قد أندم؟ بعضنا يجد خيار الاحتفاظ بالألم هو الأنسب، لكن النتائج ستكن عصيبة، لأنك لا تعلم متى ولا كيف سينفجر داخلك، وهل يا تُرى سيتحمل قلبك الصغير؟

_ قتل ماما! قتل ماما أنا شوفته!
ضمتها "شروق" إلى أحضانها، تربت على رأسها قائلة: اهدي يا ساندي! اهدي يا حبيبتي مين ده اللي بتتكلمي عنه؟!
_ والله قتلها أنا شوفته!
أردف أحمد بنبرة مترقبة: مين ده اللي قتلها يا ساندي؟
بنفس النبرة المذعورة: خليل، خليل! هو قالي أنه هيقتلني، قالي أنه هيقتلني!
حاول أحمد تهدئتها قائلًا: بس بس يا ساندي اهدي، محدش هيعملك حاجة اهدي!
أردفت "شروق" بخوف: اهدي يا ساندي، اهدي واحكي لنا قتلها ازاي!
بعد قليل من الوقت داخل أحضان "شروق" ابتعدت عنها قليلًا، تنظر حولها وكأنها للتو استوعبت ما يحدث، أخذت نفسًا عميقًا، يبدو أنها قررت الفصح عن سر بات سنوات بعمق قلبها، ينخر بها كالسكين.

أردفت بصوت مهزوز خائف كأنه رافض كشف الحقيقة المُرة: ماما بعد ما بابا مات، اتجوزت خليل ده، كان غني وعامل بيحبها، قالت إنها فرصة هيحافظ عليا وعلى بنتي، واتخدعت في مظهره، في يوم كانوا بيتخانقوا....ضحكت بعدها بسخرية قائلة: كالعادة كل يوم خناقة! بس المرة دي مكنتش زي كل مرة......

*Flashback*
صوت مرتفع ملأ أرجاء البيت.
_ وأنا بقولك هتطلقني، ومش بمزاجك، أنا عمري ما هقبل على نفسي أعيش معاك بمال حرام، كنت فاكراك شريف، وهتحافظ عليا وعلى بنتي، تطلع في الآخر تاجر بودرة! ويا ترى بقى بتشمها ولا بتبيعها بس؟
قلم قوي دوى على وجهها، مع قوله الساخر: لأ بشمها يا روح أمك، ما هو طباخ السم لازم يدوقه!
صرخت بوجهه قائلة: أنت حيوان، والله ما هسيبك، حقيقتك اللي مخبيها ورا وشك البريء ده هعرفها للدنيا بحالها، ومش كده وبس لأ أنا هبلغ عنك يا خليل.
أمسكها من شعرها بقوة، يقربها إليه، يردف بصوته الخبيث: مش هتلحقي، عشان لو فكرتي تعملي كده هبعتك لربك، سامعاني؟ امشي غوري حضريلي الأكل.
ألقاها بقوة، كانت على وشك أن تقع لكنها تمسكت بالباب، رمقته بنظرة حادة ثم خرجت للمطبخ، ومعها هاتفها، فتحته تُجري اتصالًا قائلة: لو سمحت عايزة أقدم بلاغ فـ.....
صمتت من هول الألم التي أطاح بجسدها عندما طعنها بالسكين في جانبها.
تهاوت على الأرض، عيناها مفتوحة لكنها لا تستطيع النطق بحرف.
وهذه الصغيرة التي رأت كل شيء منذ البداية إلى الآن، تقف مصعوقة تريد استيعاب ما حدث قبل لحظات فقط.
لتصرخ متألمة: مـــــامـــــا!
عندما سمع صوتها، أتى ناحيتها مسرعًا يضع السكين أمام عنقها يكمم فمها قائلًا: اي رأيك أبعتك معاها؟ فكرة حلوة صح؟
كان حقًا على وشك قتلها، لكنه تراجع عندما سمع صوت جارتهم "ولاء" تنادي على "ساندي"، أمسكها من شعرها بقوة يردف بغضب مكتوم: لو حد عرف حاجة مش هرحمك، أنا متعودتش أسيب أدلة ورايا، بس مضطر أمشي، عيني عليكِ في كل خطوة هتلاقيني زي ضلك، ومتقلقيش راجع لك، وبما إنك شفتيني وأنا بقتل يبقى موتك على إيدي، راجع لك تاني، اوعي تنسي أنا حواليكي.
تركها وقفز من النافذة الصغيرة في غرفته، لحسن حظه كانوا في الطابق الأرضي.
ذهبت لأمها الغارقة بدمائها، تحاول استيعاب ما حدث.
جلست جانبها، ثم أردفت بألم صغيرة فقدت أمها في زهرة عمرها، وهي تبكي: مــامــا! مـامـا قومي يا ماما! ماما لأ متسبنيش، أبوس إيدك، أبوس إيدك، عشان خاطر ساندي، قومي احميني منه، خليل هيقتلني، لأ مش هينفع تمشي، ساندي بتخاف، ساندي بتخاف، مش هتعرف تعيش من غيرك، يلا قومي، أنا عارفة إنك بتحبي ساندي، عشان خاطري، طب قوليلي أروح فين؟ قوليلي أعمل اي من غيرك؟ أستخبى فين منه، قومي احميني، أبوس إيدك اصحي!
لا رد.
ضمتها الصغيرة وظلت تبكي، بعد قليل من الوقت سمعت صوت قوي كأن أحدهم يود كسر الباب، فُزعت، ظنته هو، ظنته جاء ليتخلص منها، قامت سريعًا ثم أخذت سكينًا ووقفت به، أمام والدتها.
سمعت صوت أحد ينادي: ساندي، ساندي، أنتِ فين يا حبيبتي.
إنها "ولاء" جارتهم وصديقة والدتها المقربة، ومعها زوجها.
دخلت المطبخ وجدتها تمسك السكين ملابسها غارقة بالدماء، أردفت بفزع: يلهوي ساندي مالك يا حبيبتي؟ اي الدم ده كله؟
تركت السكين يقع على الأرض، ثم نظرت للخلف، لتنظر معها "ولاء" لتصيح بأعلى ما بها: نـورهــان!!!!!
ذهبت إليها سريعًا تجلس على الأرض جانبها، مفزوعة لا تعلم ماذا يحدث، ظلت تضربها بخفة على وجهها قائلة: نورهان، نورهان قومي، نورهان! مش بتردي عليا لي؟ نورهان قومي عشان خاطري، عشان خاطر بنتك، نورهان!
تأكدت أنها توفت، وبدأت بلطم وجهها بكلتا يديها، تصرخ وتنوح باسمها.
التفتت لـ"ساندي" تسألها: مين اللي عمل فيها كده؟
لتجدها جالسة تضم ركبتيها إلى صدرها تنظر للفراغ، كأنها لا تعي أي شيء.
جاءت جانبها سريعًا تضمها، وتبكي قائلة: يا حبيبتي يا بنتي، يا حبيبتي يا بنتي!
اتصل زوجها بالشرطة، وجاءت وأُخذت "نورهان" إلى المشرحة، واستجوبوا كل من في البيت، وعندما يسأل أحدهم "ساندي" لا تجيبه، فظنوا أنه من هول الصدمة لا تستطيع أن تتحدث.
ظلت عند "ولاء" أيام قليلة ثم ذهبت إلى الملجأ.
الآن وقد مرّ ما يقرب من إحدى عشر عام، وتتذكر كل شيء كأنه حدث أمس.

"لم يعد قلبـي سجيـنًا"Where stories live. Discover now