الشطرُ الخامس.

9.3K 1K 463
                                    


تابع سيرهُ مع أفكارٍ مبعثرة، لا شيء يستحق فعلًا أن يشغل تفكيره به فما إن تستقر فكرةٌ داخل رأسه حتى تؤول إلى الزوال.

يمكن لأي أحدٍ أن يحسب بوسطن في هذا الوقت كمدينةٍ مهجورة للهدوء الذي كان يحيط الأحياء، لقد تخطت الثانية صباحًا بلا شك.

تحاشى النظر إلى البؤس الذي كان يغلف المنطقة التي يعيش فيها متوجهًا صوبَ المبنى الذي تقبع فيه شقته البسيطة.

عندما وصل إلى بابها رفع رأسه ليجد ورقة ملاحظاتٍ لم يألفها، انتزعها ثم دخل إلى المنزل و أشعل ضوءًا كي يستنير المنزل قليلًا حيث كان الأقرب له.

رفع الملاحظة نحو النور ثم أخذ يقرأ : إن لم تتمكن من تسديد ما عليك بعد شهرٍ من الآن سأتأكد أن تلحق بوالدتك في أسرع وقت .. آمل أن كلامي واضح.

بعد تلك الجملة وجد خربشة توقيعٍ حوت بجانبها اسم المُوَقع جرايدُن.

رسم ابتسامةً ساخرةً على شفتيه ثم تمتم بشفقة : ألا يعلم أنني أتحرق شوقًا للحاق بها؟ يا له من أبله.

استلقى على الأريكة في غرفةِ الجلوس باستسلام و شيئًا فشيئًا بدأ شعورٌ فظيعٌ يتعاظم في أطرافه، كل جزءٍ من جسده يؤلمه بدرجاتٍ متفاوتة.

إنه على هذا الحال البائس منذ أسبوعين و جسده الضعيف في نظره قد أصابه الإعياء .. صداعٌ مريعٌ قد استوطن رأسه منذ فترةٍ يجهلها و الكآبةُ تتغلغل داخل شقوق قلبه الصدئ.

كان سعيدًا على الأقل أنه تناول طعام العشاء في الحانة كي لا يسمع تذمر معدته المزعجة.

تذكر أمر تلك السيدة الغريبة و مشكلتها مع عائلتها، و لأنه يعرف قيمة العائلةِ جيدًا فقد دعا أن تتحسن الأمور من أجلها.

عادت باقة الزهور تلك لترتسم في مخيلته، و لكون والدهِ كان يعمل في تنسيق الزهور فإن عبقرية المنسق قد أبهرته حتى بعد فقدانه الاهتمام بها.

كيف تناسقت الألوان الوردية و الحمراء، و بعض الخَضارِ الخفيف كي يكسر حدة اللون.

حتى تلك البطاقة قد تشكلت داخل رأسه، في كل مرةٍ يتذكرها يؤمن بسخافتها أكثر و أكثر .. يستسهل البشر الحديث متناسين أن طبيعتهم تجترهم نحو البؤس و حسب!

إلا أن عقلهُ كان يطرح عليه السؤال ذاته مرارًا : لمَ استقرت تلك الجُمَل عميقًا في جوفك أيها الشقي التعِس؟

لمَ تثير انتباههُ رغم أنها جُملٌ رنانةٌ جوفاء؟ لابد أن كاتبها مجرد أحمقٍ يظن أن الحياة ورديةٌ و قد تتغير ببعض الجمل البلهاء!

لم يتمكن من نسج المزيد من الأفكار حيث اقتحم النوم المكان دون استئذان خاطفًا وعيهُ إلى عالمٍ آخر، عالم يأمل فيه أن يقابلها و لو من قبيل الصدفة!

شطرٌ من نور.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن