الفصل السادس

26.7K 1.7K 66
                                    

الفصل السادس....

فتح "زيدان" جفنيه بعد أن قرر إغلاقهما لخمس دقائق يريح بهم نظره المشوش من إرهاق متزايد في عمله لمدة يومين كان يختطف النوم بهما كمن يقتنص ثمرة شهية من أعلى شجرة بعد أن عزفت بطنه أناشيد الجوع.
مد أصابعه يدلك جبينه برفق في حركات دائرية ربما يصمت هذا الألم الطارق في جانبي رأسه بصورة متواصلة جعلت من ملامحه الوسيمة مكفهره وكأنه انتهى التو من نقاش سَافِر.
صعد رنين هاتفه بموسيقى هادئة، فحول رأسه جانبًا يرى المتصل وما كانه منه سوى الاعتدال  في مقعده، منظفًا حلقه عدة مرات قبل أن يرد بنبرة جادة للغاية:

-أهلاً يا باشا.

استمع لصوت الأخر باهتمام بالغ وحين وصل لمبتغاه عادت ملامحه تتجهم بعدما تأجلت غايته التي كان يسعى من خلالها الهرب بعيدًا، لذا قال بنبرة ثابتة خشنة:

-يعني إيه الموضوع ممكن يطول.

استمع لرئيسه الغاضب من استعجاله في الأمر:

-في إيه يا زيدان مش عادتك الاستعجال، قولتلك الموضوع حاليًا مش سهل.

مد يده يضغط بها على فمه في غيظ، وظل يحرك رأسه في تفهم مع حديث رئيسه المتواصل، وحينما انتهى أغلق الهاتف واضعًا إياه بنزق فوق المكتب، وشياطين الدنيا تتلاعب برأسه الآن دافعة إياه بتكسير كل قطعة أثاث في مكتبه كي يهدأ من غليان مشاعره وتدهور أفكاره لمنحدر لا يعجبه.
تقلب بين جنبات دواخله كالمجنون الذي فقد هويته، لا يعلم السبيل في الخلاص مما يؤرقه، طرق كل أبواب الصبر لديه ونفذ مخزونه في تحمل الترهات التي تتقاذف خلف بعضها وهو يقف مكتوف الأيدي وأخرهم ظهور "مليكة" في حياته من جديد.
تلك التي سرقت روحه وجذبته مسلوب الإرادة نحو عالم كان يخشى الدخول به، متمسكًا بغروره وشخصه الفريد في اختياره للفتيات، فأتت هي وخالفت كل توقعاته، هادمة كل أسواره ومعتقداته بنظرات متبادلة بددت من مشاعره الصلدة لأخرى يغمرها الشوق لرؤيتها والتشبع من ملامحها وحركاتها الأنثوية غير المقصودة، والتي كانت تزيده اشتعالاً، جارفة عينيه الراغبة لها في تتوق يتفاقم كل يوم عن سابقه.
كانت ولا زالت أفضل أيام حياته حينما كانا يعيشان قصة حب سرية بعيدًا عن زملائه وأصدقائها قصة حب بدأت بشيء ربما يكون تقليدي ولكن المشاعر المتبادلة بينهما كانت تسمو لارتباط أكبر فيما بعد لولا رغبتها المحققة بما أرادته فخالف هو بعنفوان شبابي شرس وما كان منها سوى الضغط عليه حتى استفزته وقررا الابتعاد بعد أن أصرت ولم تُبدي أي عواطف للعلاقة التي تصدعت في لحظة لم يكن يتوقعها، حرك رأسه نافضًا طاقة سلبية تحيط به  أصبحت مؤخرًا كنقمة تسلبه لحضيض أفكاره.
قاوم عواطفه الفياضة المتبلورة في صورة حنين مولع بها متمنيًا في قرارة نفسه عودة علاقتهما كما كانت ولكن تلك القيود عادت تلتف حوله تمنعه من القيام بذلك، والاكتفاء بجلوسه كشريد قرر التمسك ببعض ذكريات رطبة تلطف من حالته البائسة.
لانت ملامحه بسخرية قاسية لحالته المزاجية المتقلبة، فمد يده بتلقائية يلتقط كوب العصير يرتشف منه القليل، فهاجمته ذكرى لقاء مُحبب لقلبه بعد أن شعر بمذاقه السُكري في فمه، كمثل ذاك اليوم الذي رآها تتهادى في خطواتها خارج الجامعة، تمسح حبيبات العرق عن جبينها بعد أن ارتفعت حرارة الجو كحال انصهار مشاعره وهو يسير خلفها كالمراهق...
                                            **
أنزل "زيدان" نظارته الشمسية بعد أن لمح طيفها يعبر من بين الطلاب، سالكة طريق جانبي تختار الظل لتسير فيه بعد أن ارتفعت درجة الحرارة وانصهرت هي غير قادرة على تحمل اليوم فقررت الهرع لمنزلها.
كانت "مليكة" غافلة عنه وهو يتحرك خلفها كاللص منتظرًا فرصة الإيقاع بها بعيدًا عن الجمع، وعندما اقتربت من الانحراف لطريق أخر، سارع في خطواته حتى أصبح خلفها مباشرة، مقررًا إنهاء مراقبتها الخفية بأخذ خطوة أخرى تختلف عن سابقتها ليعبر من مشاعر الإعجاب التي تحوم حوله، معتقدًا كمثل باقي الشباب أن وصل إلى مبتغاه سيقل شغفه ويعود باحثًا عن هدف أخر.
نعم هي كانت هدف يغزو أفكاره ليلاً حتى الصباح وهو ينتظرها بشغف أحرق جوفه كلما يراه برقتها المعهودة ونظراتها الشغوفة ووجنتاها المتلونة بحمرة خفيفة كمثل تلك الحمرة تمامًا حين نطق بصوت أجش أرعبها:

 رواية منكَ وإليكَ اِهتديتُUnde poveștirile trăiesc. Descoperă acum