غبية..

58 3 0
                                    

كانت أيام العلاج تمر بسرعة..لازلت أتذكر ثقل تلك الأيام،كيف أنك كنت خائفا من أن لا تسير أمورك كما ينبغي،لازلت أتحسس صلابة يدك و هي تشد على يدي كلما دخلنا غرفة العلاج،كيف كانت تعاليم وجهك تتغير كلما إستيقضت صباحا لتفاجئ بتراكم شعرك على وسادتك..لازلت ملامحك تتعاقب أمامي و أنت تنهار كلما زادوا الجرعة لك...
أتذكر جيدا بأني لم أفلت يدك،و بأني و حتى في أكثر الأيام حزنا كنت ألمح القوة بين تفاصيلك،لم تعد تكلمني كالسابق،صارت محادثاتنا قليلة جدا.. لا أنكر مطلقا بأني وفي محطات عديدة تمنيت لو أن الله لم يبتليك بمرض كذاك.. لو أن الظروف أنصفتنا..
لكني كنت أتحمل لأجلك،كل ما أردته أن يقوم حبيبي،أن يعيش حبيبي.. كنت متيقنة بأن تلك العاصفة كانت ستمر و كنت ستعوضني كما وعدتني في كل تلك المحادثات،في كل تلك اللقاءات.. في كل ذاك الوقت الذي قضينا فيه على بعضنا بدل أن نقضيه مع بعض..

*لم يكن ينبغي أن أثق..*

أتذكر بأنه كان صباح أحد حين حاولت إيقاضك..إلا أنك لم تستيقض..أتذكر رعشة يدي،تناثر خلايا جسدي..أتذكر إنتفاضة جسدي...
-آدم..إستيقظ من فضلك..آدم!!!! لا تغادرني الآن من فضلك...
إلا أن صوت آدم لم يكن يجيب،حاولت تحسس نبضه كان النبض متواجدا...
- أرجوك لا تغادرني...
لم يجب.. إتصلت بالإسعاف..ويدي ترتجف،توجهت بعدها إلى الغرفة،لم يكن الوقت قد حان ليغادرني..تحمل،لأجلي تحمل،لأجلنا تحمل..أرجوك ياالله لا تبتلني بفقد آخر..
*إلا أني لم أوقن يومها بأن الفقد أحيانا لا يرتدي لباس الموت،و أن الموت بحد ذاته ليس فقدا بقدر ما هو فراق أجساد..لازلت أؤمن بأن الموت ليس سوى فراق مؤقت.. و بأننا سنجتمع يوما بعد الحياة..*
لم يتأخر الإسعاف في القدوم..بقيت أتأمل أصحاب المآزر البيضاء و هم يضعون جهاز التنفس الإصطناعي،بقيت أتأملهم و هم يضعون تخطيط القلب.. و هم يحاولون إنعاشك!
كنت أتأمل جسدك،ترهل عضلاتك..كان شريط قصتنا يعرض أمامي في بطئ..يوم صافحتني،يوم تتبعتني إلى المقهى..تذكرت روايتنا...تذكرت الأربعين سنة التي لم أشاطرها معك و كيف أني تمنيت فقط لو أن الأقدار إتخذت منحا آخر..إلا أن الأقدار لا تستشيرنا بل تسير وفق ما قضي لها حسب ما إخترناه...
وصلنا المستشفى الخاص الذي إعتدنا زيارته،حظر طبيبه المعاين،شرحت الحالة له..
كنت فاقدا للوعي، طمأنني..و ذهب مسرعا إلى قاعة العلاج.
لم أبك يومها،كنت أشعر بالبرد فقط.. فهناك نوع من الحزن لا دموع له..لا كلام له..لا ردود له..
هناك نوع من الصدمات التي تبقى فيه كل كلمات الدنيا غير منصفة أمام وقعه..
كنت في قاعة الإنتظار عندما رن هاتفه الذي كنت أحمله بين يدي..
- أين أنت حبي،لما لم تراسلني البارحة!!
-عفوا سيدتي،يفترظ أنك أخطأت الرقم..
- آه،أعتذر!
قطعت الإتصال،و بقيت أنتظر..خرج الطبيب من الغرفة..
- سيدتي،لا داعي للقلق ما حدث عادي بالنسبة لحالته، سنقوم بالتصوير الإشعاعي لنقرر حسب النتيجة إن كانت العملية ممكنة..
- و متى سيجرى التصوير الإشعاعي؟!
- فورا سيدتي لا تقلقي!
- أبإمكاني تفقده؟
- من فضلك سيدتي،صبرا!
و غادر،حاولت دخول غرفة العلاج إلا أن الأمر لم يكن ممكنا..
بقيت أنتظر،رأيتهم و هم يقومون بنقله إلى غرفة التصوير،كان فاقدا للوعي تماما.. حملت معطفه..بقيت أشتم رائحته..
*أرجوك لا تغادرني فالوقت مبكر جدا..*
جلست،إتصلت بأهله بغية إعلامهم بسوء حالته،رغم أنه كثيرا ما نهاني عن إعلامهم،لكني يومها كنت المسؤولة عنه كان ولابد أن يسمعوا الخبر..
إتصلت بأمي بعدها
- أمي...أنا أفقده! * لم يسبق أن انهرت أمامك أمي،سامحني،فإبنتك لم تعد قوية كما كانت*
- تفقدين من!! ما الأمر
-آدم أمي...
-أين أنتم بالتحديد!!
ماهي إلا ساعات حتى حظرت أمي..برفقة والدي..
ذهبت مسرعة،إحتظنتها بقوة،و همست ببطئ في أذنها *آدم يموت..*

إنتظرتك في زاوية الطريق.. لكنك نسيت أن تستديرWhere stories live. Discover now