الفصل الثاني

3.7K 77 0
                                    


_ ما هذا ... ما أجمله ! المكان رائع ..
همست بذلك ما أن أصبحت قريبة من الصرح العظيم لينظر لها لمك باستخفاف بينما سيارته الضخمة المفتوحة من الخلف والمخصصة لنقل البضائع تتقدم نحو المكان بسرعة فسألها بفظاظة ,لتعلم أنه مثلها مجبر على التواجد هنا
_ متى ستنتهين ؟
لم تنتبه له بينما نظراته لا تزال معلقة بما حولها فكرر سؤاله بنبرة أعلى لتخرج من أفكارها , دون أن تعطيه كامل انتباهها المنبهر بما حولها
_ لا أعلم لمك كم أحتاج من وقت !
وبنزق هدر من عدم مبالاتها
_ وما معنى هذا أنا لن أقف على الباب أنتظر جلالتك حتى تنتهين !
تأففت بضجر من شجارها معه منذ الصباح وسألت ببرود
_ وما الذي علي فعله .
أخذ نفسا عميقا مفكرا للحظات ليفكر بعدها
_ لا تفعلي أنت شيئا أنا من سأفعل .
قطبت بعدم ارتياح من جديته بالكلام ولكنه كان حقا قد وصل أمام الباب الضخم للجامعة فعضت شفتها حماسا وسارعت تمد يدها للنزول حين قال بأمر لا يقبل الجدل
_ ساعتين ونصف هما كل الوقت الذي سأمهلك إياه لتنهي ما تريدين القيام به لنعود..
أومأت مبتسمة بسعادة تكاد تقفز من عينيها ونزلت مسرعة بينما راقبها من مكانه حتى اختفت داخل المكان وما عاد لها أثر, مبتسما رغما عنه لقوتها وثقتها بنفسها فقد دخلت المكان وكأنها طوال عمرها تدخل مكانا مثله .
وانطلق مبتعدا يتركها تحقق حلمها علها تجد التوازن لحياتها سيعمل على ذلك , لن يدعها تندمج بمكان وتنسى الآخر , فلتحيى هنا وستشاركهم نشاطاتهم
_ لن تتيهي طالما قررت أنا ذلك ..
همسها بوعد مؤكدا أن لا شيء أكثر من ذلك سيقدمه لها ..
تركته خلفها دون نظرة للخلف , لا تعرف أحدا هنا ولكنها جاءت مع غالية مرة من قبل وتعرف تماما أين عليها التوجه , لذلك اتخذت خطواتها الناعمة نحو المبنى الضخم تقصد قسما بعينه والملاحظات تشير له فتبعتها بقلب متضخم من الفرح , لا تكاد تصدق حقا أنها هنا , وأنها ستكمل دراستها !
ستحصل على شهادة جامعية , هل هناك فرح أعظم من هذا ..
انتظرت دورها بصبر غير آبهة بمرور الوقت تستمتع بكل شيء حولها , الطلاب الآخرين الذين جاؤوا للتسجيل مثلها فيما تقف قربها فتاة بشعر أحمر صهباء جميلة جدا و ناعمة ..
نظرت لها تلك الفتاة ونظرت لنفسها ونظرت حولها لتنفجر بعدها ضاحكة تسارع لوضع كفها الناعم على فمها لتسكت نفسها ..
قطبت غنجة وعينيها ترسلان شرارات نارية نحوها قبل أن تسأل من بين أسنانها
_ هل لي أن أعرف ما المضحك ؟
نظرت لها باعتذار واقتربت منها حتى لا يسمعها الباقون لتهمس
_ ألا ترين أن لباسنا كبعض بينما البقية يبدون كمن خرجوا من صفحات التاريخ بالفعل ..
لم تكن غنجة قد انتبهت للأمر , فاسترقت النظر حولها لتتأكد بالفعل من كونها لباسها مختلف تماما ففتحت عينيها على وسعهما استغرابا , ونظرت للفتاة قربها لتجدها حقا تلبس فستانا قصيرا حتى الركبتين , بقبة مدورة ونصف كم بينما تحمل مثلها أوراقها في حقيبة قماشية واسعة تضعها بشكل مائل من كتفها الأيمن لتقبع جميلة ناعمة على جانبها الأيسر تبعدها عن صدرها كي لا تبدو مبتذلة المنظر ..
ونظرت لنفسها لتجد أنها حقا تكاد تكون مثلها في اللباس , لم تخرج من أفكارها إلا على همس الفتاة
_ سنقيم ثورة في القسم ..
ضحكت بتواطؤ لتشاركها غنجة ذات الضحكة
_ روز ربيع .
ظهرت الدهشة في عيني غنجة فسارعت للشرح
_ لا داعي لهذه النظرة والدي اسمه زهر الدين ربيع , فأسمتني أمي روز زهر الدين ربيع ..
_ اسمك جميل ..
تمتمت غنجة بذلك وقبل أن تقول اسمها كان شاب ثلاثيني العمر يستعجلها لتتقدم وتتم إجراءاتها فتركت روز خلفها متقدمة منه تعطيه أوراقها بينما للحظة واحدة شعرت بالخجل حينما شعرت أنهم جميعا أصغر منها عمرا ..
لكنها أبعدت هذا الخجل جانبا لتعود للسعادة فها هي تقدم أوراقها وتعطي الصور الشخصية لتحصل على البطاقة الجامعية التي حلمت بها كثيرا لينتهي كل شيء بسلاسة و تغادر من المبنى ناسية الصهباء و كل ما يتعلق بها ..
وانتظرت لمك على الباب و لم تنقضي المهلة التي أعطاها إياها بعد ..
............
تحركت صفاء برشاقة في المكان تترك المكتب متوجهة لمكتب المدير بناء على طلبه , تجاهلت زميلتيها في المكان , اعتادت على تعليقاتهما في كل مرة يطلبها فيها نيمار , و حتى جميعهم يعلقون على خطبتهم السريعة و رغبتهم في الزواج , علقهم الحلزوني البليد لا يستوعب فكرة أن صفاء كانت تعرفه قبل أن تأتي للعمل في هذا المكان , هذا لا يهم , ما يهمها أنها عادت للقاء نيمار بعد قطيعة طويلة ..
لا زالت لا تصدق الصدفة التي جمعتها به , تحبه وتعشقه و تموت غيرة عليه و خاصة من الحلزونات حولها ..
طرقت الباب بهدوء بعد أن ابتسمت لملهم سكرتيره الخاص , الذي يثير غيظ الفتيات ... وبخاصة نهال التي ما أن استلم نيمار الإدارة هنا حتى أبعدها , ابتسمت بمكر في سرها فقد كانت هي سبب إبعادها وهي من طلبت أن يكون له سكرتير رجل وكان بالفعل ..
رأى ابتسامتها الماكرة فأدرك بالحال فيما تفكر , هذه الساحرة تؤثر فيه كثيرا , تلفه حول إصبعها .. بمزاجه ..
قبل عامين تحديدا كانا على علاقة حب كما يقولون أسطورية ولكنها انتهت بسبب غيرتها المجنونة , لتعود وتجمعهم الصدف في هذا المكان ..
فلم يكن ليسمح لها بالخروج من حياته مجددا , يتنفسها كالهواء , ففعل المستحيل كي تعود له , وبالفعل تمكن من إقناعها أخيرا ما أن تم تعيينها في هذا المكان , ولحظهما فكانت مسألة أيام فقط قبل أن تتم ترقيته ليصبح هو المدير !
وببعض الحب الكثير تسلل لعقلها وأقنعها بإسراع الزواج ..
أيام فقط وتكون له وحينها حتى لو ماتت غيرة وجنت لن يحررها ..
كيف وقد أصبحت له أخيرا ؟
يحبها بجنون وتحبه فلتتحمل الغيرة وتتجن وتفعل ما تريده إنما تحت جناحه وفي بيته وعلى يديه ومن يعلم ربما يشاركها الجنون ..
_ حبيبي أصبحت تطلبني مؤخرا كثيرا ونظرات الفتيات لا تعجبني ..
ارتفع حاجبه بينما جلست من تلقاء نفسها على كرسي جلدي أمام مكتبه فارتفع حاجبه دون أن يرد لتبتسم بخجل وتنهض مجددا لتجلس على المكتب أمامه حيث يريدها دائما , فيحيط خصرها بذراع بينما الأخرى تمارس العبث بأصابعها وخصلات شعرها المتدلية ..
همس بصوت أجش
_ لماذا ؟ هل يعلمن أني أقبلك كل مرة ؟
تصنع البراءة باحتراف بينما احمر وجهها وأشاحت عنه
_ قلت لك امسحي أحمر الشفاه قبل مجيئك لي أنت تصرين عليه فينفضح أمرنا ؟؟
_ كفى نيمار أنت تحرجني !
همست بذلك دون أن تنظر له , فأمرها
_اقتربي ..
نظرت له من مكانها وهزت رأسها بلا , ليسحبها رغما عنها من مكانها المرتفع لتسقط على ساقيه يحاصرها بذراعيه يأمرها بضحكة مجددا
_ قبليني صوفي ..
قلبت شفتيها بامتعاض من تسلطه وسلطته على قلبها
_ لا ..
كرر خلفها بصوت خشن
_ لا ؟
مالت عينيها وشفتيها بإغراء وكفها يرتفع لصفحة وجهه يلمسها ببطء
_ حبيبي أحمر الشفاه هذا ظاهر جدا ولن أفضح هذه المرة بل سأصبح مسخرة الفتيات ..
أبعدت كفها تلوي شفتيها
_ كما أنك لا تكتفي بقبلة بريئة دوما تسرق أكثر مما أرغب بإعطائك ..
أدار وجهها له بسبابته موضحا بجدية أضحكتها
_ لأنك بخيلة حبيبتي , هل رأيت رجلا يكتفي من قبلة خد! لماذا هل هو طفل صغير تراضينه ؟ أنا رجل لي احتياجاتي ..
لمعت عينيه بمكر لتشهق وتبعد وجهها عن مرمى عينيه بينما أكمل بمكر
_ احتياجات أختصرها بقبلة لا تشبعني ولا تكفيني ..
_ كفى نيمار ..
زجرته بصوت هامس غير قادرة على تحمل صراحته وغزله ليأمر من جديد
_ قبليني ..
ابتسمت ترفع وجهها له بينما سحبت من جيب بنطالها شيئا ما لم يتميز ما هو في البداية لكنه انفجر ضاحكا فيما بعد وهو يرى أحمر الشفاه في يدها لينحني من تلقاء نفسه يسرق قبلته , زاده لهذا اليوم ..
يسرق بضمير منقطع النظير ..
فلينتظر العمل قليلا ..
فلينتظر الكون ..
فهو يقطف شهده الخاص الذي يعطيه القوة لمتابعة اليوم بصلابة ..
بينما هي تسلم راضية .. سعيدة .. وراغبة رغم اعتراضها الناعم ..
راغبة جدا
تقدمت ميرا من غرفة التدريس لتجد مالك يرتشف قهوته السوداء الثقيلة بهدوء وجلست على كرسي قريب منه بعد أن حضرت كذلك لنفسها فنجان قهوة حلوة
_ التحضير للعام الدراسي أمر متعب ..
ابتسم مالك لها بود يؤيدها
_ معك حق , التسجيل الخاص هنا في المعهد هذا العام كثير ..
هتفت بفرح
_ حصلت على كثير من الحصص ..
_ وأنا كذلك , مبارك لك ..
منحته ابتسامة صافية من عمق قلبها
_ و لك كذلك ..
عم الصمت بعض الوقت , يسترق النظر لها كل حين من حجابها السكري اللون لكنزتها الواسعة ذات اللون الفاتح المميز مع بنطال جينز مناسب واسع لا يفسر جسدها إطلاقا .
حك ذقنه النامية الناعمة , مفكرا بحيرة , لما يشعر أنه من غير الممكن أن يحبها , ومن قال من غير الممكن ؟
لما لا يحاول وحسب !
وحين فتح فمه متشجعا لينطق ولو بحرف عاد وأغلقه حين اقتحم المكان زميلهم في المعهد مازن بصخبه يرمي دفتر التحضير وبعض الكتب بقوة على الطاولة الضخمة التي تتسع لكافة المدرسين في هذا المكان , قابلته ميرا بابتسامة
_ هون عليك ما ذنب الكتب ؟

اتجه لآلة تحضير القهوة يملأ كوبه الخاص بينما صوته المرتفع بالطبيعة يصدح في المكان جالبا البسمة لهما
_ سيكون عاما متعبا جدا , وكأن المدارس لم يعد لها نفع , ازداد عدد الطلاب هذا العام ثلاثون طالبا وطالبة ..
حذره مالك مبتسما
_ لو كنت مكانك لالتزمت الصمت , ثم ما دخلنا بالطلاب ومدارسهم كل ما علينا أن نعطي دروسنا بإخلاص ..
_ معه حق مازن كن حريصا حتى لا يسمعك المدير .
جلس بالقرب من مالك يضع قهوته أمامه موضحا وجهة نظره
_ أعرف ذلك , كل ما في الأمر أن المدارس حقا لم تعد تؤدي وظيفتها والجميع يعتم على المعاهد الخاصة وذلك يرهق الطلاب لأنهم يتشتتون بين المدرسين.
وافقته ميرا
_ نعم أؤكد لك أن بعضا من طلابي لا يعتمدون إلا لما أشرحه لهم مستغنيين عن الشرح المدرسي.
واستغرقت في الحديث مع مازن بينما مالك يراقبها بتركيز شديد , متسائلا ذات السؤال الذي بات يؤرقه مؤخرا ( لماذا لا )
ولم يخرجه من شروده إلا صوت هاتفه ليتأفف بصمت بينما يضغط زر الرد ليصله صوت روز الحاد الشبه باك على الهاتف فلم يقدر على فهم حرف واحد مما قالته حتى سمع صوت رجل على الخط يطلب منه الحضور ..
وبالفعل بعد نصف ساعة تماما كان يقف أمام غرفة في المستشفى المحلي للمدينة بينما صوت بكائها الحاد يصله ليدفع الباب ويدخل بسرعة لا يعرف ما السبب , ولكن ما رآه زاد حنقه منها آلاف المرات ..
فها هي تجلس على السرير , فستانها القصير مرتفع عن فخذها بينما ممرضة تحاول جاهدة الوصول بيدها لجرحها الكبير لتضع له المعقم وتنظفه من الدماء الجافة تحول دون ذلك صرخاتها الخائفة والباكية كلما اقتربت يد الممرضة من الجرح بينما الطبيب كما فهم ترك الغرفة لهما حتى ينتهي تنظيف الجرح ..
_ روز ..
هدر اسمها من بين أسنانه , لكنها لم تنتبه لغضبه تستنجد به ودموعها تغرق وجهها
_ قل لها أن تبتعد عني يا مالك أرجوك ..
لكنه تجاهل ذلك ليقترب منه ويثبت ذراعيها على جانبيها معتذرا من الفتاة طالبا منها أن تقوم بعملها ..
وما أن أحست بحرق المعقم على ساقها حتى صرخت بقوة فهدر بها
_ اخرسي روز لا أريد أن أسمع صوتك حتى تنهي عملها ..
وخرست بالفعل مغمضة عينيها بقوة أعلمته بمدى ألمها وخوفها ..
لطالما خافت المستشفيات ..
أنهت الممرضة عملها أخيرا ونهضت عن الأرض حيث كانت تركع أمامها وأعادت الفستان لوضعه رغم كونه قد تمزق في بعض الأماكن فشكرها بعد أن علم أن لا بأس عليها والجروح سطحية بإمكانها الخروج ..
و تركتهما لتخرج ..
و ما أن خرجت حتى عاد يصرخ بصوت صم آذانها من التهديد و الخطورة التي فيه أكثر من ارتفاعه فانكمشت على نفسها مبتعدة على طرف السرير
_ هل لي أن اعرف سبب هذه الدراما , و ما سبب حالتك هذه ..
و أضاف بغضب أكبر
_ ثم أين عمي و مهاب لما لم تكلمي أحدهم ..
غطت عينيها بكفيها المضمومين كطفل تائه تجيب بصوت متألم خائف
_ أبي هاتفه مغلق و مهاب لم يرد عليّ ..
_ و أمك ؟
سألها بحنق , لتنهار باكية معترفة
_ لم أفكر بالاتصال بها ..
مسح وجهه بكفيه , متسلحا بالصبر ليسألها وقد عاد له منظر ثوبها فخرج صوته حادا جعلها تبتعد أكثر و كأنها خائفة من ضربه لها , ربما لأنها تعرف رأيه بالملابس القصيرة .
_ و ما سبب حالتك هذه ..
سحبت من خلفها حقيبتها الممزقة ذات الأوراق الظاهرة ليطالب بنفاذ صبر
_ انطقي ما معنى هذا ؟
فسرت بارتجاف
_ حاول أحدهم سرقة حقيبتي , لكني تمسكت بها فسقطت على الأرض بقوة وأحدهم أصر على إحضاري إلى هنا ..
_ أحدهم ؟
زمجر بغضب , ليسحبها من ذراعها حتى وقفت بقوة كادت تصيبها بالدوار
_ هل أسمع منك الآن أنك ركبت مع غريب لا تعرفينه بملابسك الممزقة هذه ؟
لم تنطق ليهدر بها غير آبه بألمها
_ من الآن وصاعدا وانتبهي جيدا لما سأقوله , لن تتحركي خطوة واحدة دون أن يرافقك مهاب أو عمي , وفي حال عدم تواجدهما لا تتحركي خطوة حتى تكلميني , هل كلامي واضح؟
لم ترد غارقة في نشيجها المتألم من أثر المعقم ليزمجر
_ هل كلامي واضح ..
هزت رأسها بطاعة ليرمي عليها جاكيت بذلته التي للصدفة لبسها اليوم عله يخفي من جسدها ما ظهر ..
_ هيا أمامي لأوصلك ..
وما كادت تتحرك حتى تأوهت متألمة , لكنه سحبها غاضبا
_ أجلّي دلعك الآن روز , لأن لا مزاج لي به الآن وحسابك معي لاحقا على هذه الملابس ..
هتفت باكية من تعليقه على ملابسها تعرف تماما أنه إذا ما حدث والدها بالموضوع فذلك يعني أن تودع ملابسها الثمينة ..
_ ما بها ملابسي إنها جميلة , كما أني لست الوحيدة التي تلبس هكذا ..
_ لا يهمني إن كنت الوحيدة , يهمني ألا تكوني ..
كان هذا رده القاطع لتنفجر باكية ...
..............
ما أن حاولت النزول متشوقة لرؤية فاتنة وراجية حتى استوقفها لمك قبل أن تفتح الباب , يناولها علبة كرتونية , أخذتها مستغربة لم تفهم ما هي ..
سحبها منها مرة أخرى ليفتحها لها مخرجا جهازا صغيرا لم تره من قبل فشرح لها
_ إنه جهاز اتصال غنجة , لا يعقل أن تذهبي للجامعة دون أن تعرفي شيئا عن محيطك الجديد .
بان الخجل من جهلها في عينيها , فابتسم مراعيا لها
_ لا بأس تعالي معي وسأعلمك ما يجب عليك معرفته ..
وبالفعل كان على الفتاتين الانتظار بينما لمك يشرح لها كيف تستخدم الهاتف الحديث الذي اشتراه خصيصا لها , تلمع عينيها بذكاء ملتقطة كل كلمة يقولها وينطق بها , بينما يشرح لها الكثير والكثير مما لم تكن تعرف بوجوده ..
حتى سألته بعد وقت طويل
_ كيف عرفت كل ذلك ؟
ابتسم لها لأول مرة ربما ابتسامة حقيقية
_ أعرف الكثير غنجة ما عليك سوى السؤال .
فسألت بدافع الفضول
_ وهل لديك مثله ؟
أخرج من جيبه جهازا يماثله لكنه يبدو أكثر قدما من الذي معها
_ نعم ومنذ وقت طويل , أغلب الرجال هنا معهم , إنه ضروري لنا ..
اتسعت عينيها دهشة
_ ولكن لم أره من قبل !
تمطى بكسل يرمي جسده للخلف
_ لأنه لا يعنيكم أنتم , ولولا الضرورة لما أحضرت لك واحدا ..
عضت شفتها بقلق , توجه له نظرة مختلسة لا تريد توسله
_ وهل ستأخذه مني ؟
نظر لها مطولا .. لعينيها تحديدا بينما ذكرى قديمة لذات السؤال إنما ذكرى عينين باكيتين مترجيتين , تطلبان السماح , تطلبان منه الإذن لتغدره وتتخلى عنه
( هل ستأخذه مني )
فقال بهدوء دون أن يرد على سؤالها
_ اذهبي الآن غنجة , لدي الكثير من العمل أهم من الثرثرة معك ..
كان هذا الجواب هو الأفضل لأن جواب ذاك السؤال كان
( نعم سآخذه )
منحها الإذن لتحكم على قلبه بالألم , لتغدر عهده ..
منحها الإذن ..
وأطلق عهده .. لن يسامحها , مهما حدث ..
لن يسامح ..
ونهض يعود لسيارته مجددا مراقبا غنجة التي اندمجت مع صديقتيها تحكي لهم بحماس عن يومها الأول رغم كونه لم يحصل معها شيء يذكر ..
وانطلق مبتعدا عن المكان بأسره , للورشة التي رآها في طريقه ليترك السيارة ويتجه نحوها ..
وبعد عرض خبراته في مجال الميكانيكا التي أعجبت صاحب الورشة المتواضعة وسعادته لانضمام شخص متمكن من العمل مثله فهذا على الأقل يضمن شهرته في هذه المنطقة إذ أن الورشة الثانية بعيدة جدا ..
والصبي الذي معه لا يكاد يفقه شيئا , بينما غير متمكن من القيام بكل العمل وحده ..
وعله تم اتفاقهما بينما لمك يشرح له ظروفه ويتفقان على العمل ..
البقاء هنا .. يعني العمل الجاد الحقيقي لأجل الفتيات وليس لأجل غنجة فقط , فالتكفل بمصاريفها كبير جدا وهو سيكون كفيل بها ..
.................
_ جدي ؟
دخلت الخيمة الكبيرة حيث المجلس راكضة , بعد أن علمت بوجود غالية مع الشيخ رجب , ليستقبلها الاثنان بفرح لفرحها , وكالعادة رمت نفسها في حضن الشيخ رجب تقبل وجنتيه بصخب بينما تعلو ضحكاته , تتمسح فيه كقطة أليفة
_ كل هذا لأجل الجامعة ..
_ من رأى أحبابه نسي أصحابه ..
علقت غالية سعيدة بما تراه , فتقبل غنجة لما فرض عليها أمر جيد بالنسبة لها .
ضحكت غنجة بدلع يناسبها , تقول للشيخ بمكر وبصوت جعلته هامسا إنما واضحا
_ إنها تغار منك جدي لأني أحبك ..
وأردفت بهمس أكثر مقتربة من أذنه
_ لا تريدني أن أحب أحدا غيرها ..
ابتسم لها بينما زجرتها غالية بعبوس
_ ما الذي قلته يا فتاة ؟
اصطنعت البراءة وعينيها المتسعتين تنظران لها
_ قلت له أني أحبك جدا جدا ..
حاولت غالية كبت ابتسامتها من مكرها تتصنع الجدية
_ إذن تعالي واثبتي لي حبك .
واستقامت غنجة لتنهض من أحضان رجب الشيخ ولكن ليس قبل أن تميل هامسة له
_ أرأيت ؟
_ ما الذي تقولينه يا فتاة ..
تركته ناهضة لترمي نفسها عليها تقبلها بصخب
_ أحبك خالتي .. أحبك ..
أبعدتها عنها لتجلسها قربها مطالبة إياها بتفاصيل يومها الأول , فنفذت وانطلقت تتحدث بإسهاب وخاصة عن صديقتها الجديدة التي نسيت أن تعرفها باسمها , ولم تنسى أن تخبرهما عن الهاتف الرائع الذي قدمه لها لمك غافلة عن نظرات الشيخ التي أظلمت وبشدة , لكنه دارى ذلك بسرعة , وليست السرعة الكافية حتى تغفل غالية عن تبدل حاله , رغم أن الغنج لم يتوقف عن التدفق بكرم حاتمي من فم المدللة , تخبرهما بكل ما تعلمته من لمك ..
لينقضي الوقت وتغادر مع غالية , بينما بقي الشيخ رجب مكانه لبعض لحظات قبل أن ينهض غاضبا , يبحث في الأماكن التي اعتاد أن يجد لمك فيها , ولكنه لم يجده , فبقي يتمشى في المكان حتى شارف على حواف مضارب القبيلة حيث سمح لهم مجلس المدينة بنصب خيامهم ..
وفي رأسه تدور أفكار لا زال غير مقتنع فيها ومنها كيف سمح لهذه الفتاة أن تدرس , كيف وافق غالية حينها , كان بإمكانه أن يرفض الأمر وبذلك يتجنب ما هم فيه الآن , لكنه لم يفعل ..
بل وافق وبفرح على تعليمها وكأنه كان يرى فيها شيئا لا يعرفه ..
( إنها تضعفك هذه الغنجة يا رجب !)
وبالفعل أخذ نفسا عميقا بينما يرى سيارة لمك مع اقتراب المغيب تقترب ..
لم يكن يعلم أي مصيبة ارتكبت غنجة ..
فتقدم بثبات يحيي الشيخ كما اعتاد
_ كيف حالك شيخي , ما الذي تفعله هنا ؟
لكن الشيخ رجب بادره بسؤال غاضب
_ أين كنت حتى الآن لمك , هل سنقضي الفترة هنا نخاف على الرجال من المدينة كما الفتيات ؟
ارتبك لمك بوضوح من تأنيب الشيخ الذي لم يعتد منه ذلك لطالما أخبره بكل خطوة يقوم بها , تلك هي العادات ..
_ أسف , حقيقة كنت قد وجدت عملا في مكان قريب من هنا ..
تلفت الشيخ حوله ليضمن عدم سماع أحدهم الحديث , ليشير له بالسير معه حتى ابتعدا مسافة أكبر عن المكان ..
وعن أي عين وأذن متلصصة .
ليهدر من بين أسنانه
_ وما الذي يدفعك للعمل ؟ هل احتجنا قبلا للعمل ..
أخذ لمك نفسا عميقا لكي يتمالك أعصابه فهو بالتأكيد لن يزعج الشيخ ولو بكلمة واحدة , لذلك برر بهدوء ..
_ أنت تعرف حبي للمكانيك شيخي , رأيت ورشة هنا بالقرب من المكان , وتمكنت من الحصول على عمل فيها..
لكن الشيخ لم يتراجع عن سؤاله
_ وما حاجتك للعمل ؟
تنهد لمك مفكرا ( حان وقت الثورة , تمالك نفسك وتحمل منه أي شيء )
وقال بصوت واثق النبرة , نبرة من عرف أنه فعل الأمر الصحيح
_ أعمل لكي أسدد مصاريف الجامعة شيخي , فهي كبيرة جدا ولن نقدر عليها من مردود المهرجانات ..
وبالفعل هدر الشيخ غير مقتنع
_ ومن طلب منك أن تهتم بالتكاليف ..
ليتابع لمك بنفس الهدوء بينما أنفاسه تزداد غضبا وحنقا على .. غنجة !
_ غنجة لا تشارك بأي مهرجان , مدللة , متعلمة , متكبرة , بينما باقي الفتيات يعملن ويشاركن , بما سنرد عليهن حين يطلبن ذات الحقوق , هل سيكون ردنا فقط كما اعتدنا ( إنها غنجة )
لم تتغير ملامح الشيخ إلا أنه لمح ارتجافة عضلة في فكه فأدرك أنه لمس الحقيقة لذلك أكمل
_ لهذا السبب أعمل شيخي , لأنها غنجة !
وكأن اسمها لوحده سببا كافيا لأي شيء!
لم ينطق الشيخ بينما ينظر له شزرا فأخفض لمك رأسه معتذرا باحترام يناسب سنوات عمر الشيخ
_ أعتذر حقا أني تصرفت من تلقاء نفسي , ولكني فكرت كثيرا ولم أجد حلا بديلا..
التمعت عيني الشيخ وكأنه تذكر أمرا هاما قبل أن يهدر بعنف
_ وكيف سمحت لنفسك أن تحضر لها هاتفا؟ ألا تعلم أننا لم نسمح للفتيات به ؟
حينها ارتبك لمك بحق ..
وصب لعناته عليها ..
تبا لك يا فتاة ألم أخبرك أن تضبطي لسانك !
حك رأسه معترفا بذنبه يتوعدها بالعقاب ..
لكنه أجّل غضبه منها الآن ليبرر مجددا .. و للشيخ ..
_ جدي ..
استخدم لفظ هذه الكلمة فهي ترقق قلب الشيخ , و تنجح في كسب الرضا أحيانا ..
ولكن من منظره المتوحش عرف أنه لن يكسب أي رضا , بل هو الآن من المغضوب عليهم ..
حاجب الشيخ المرفوع بغضب واضح أكد له أنه من المغضوب عليهم وبشدة !
_ حسنا إنها غنجة و ..
و قبل أن يكمل كلامه قاطعه الشيخ من بين أسنانه
_ ألم تكن تطالب أن نتوقف عن حجة إنها غنجة ؟
تنهد بعمق وزفره ببطء , ليعود خطوة للخلف , هو بحاجة لضرب أحدهم ..
وهذا الأحدهم هو رأسها الغبي ..
_ لا جدي كل ما في الأمر , أنها تحتاجه , الجامعة تعني الذهاب والعودة في أوقات متفرقة , كيف سأعرف بتحركاتها دونه ..
لم يقتنع الشيخ الذي أكد بشك
_ كان يمكنك إيجاد أي طريقة أخرى , لقد غبت لعامين ودرست وحصلت على شهادة من معهد الميكانيك , و لا بد تعرف كيف تكون الأمور ..
اعترف لمك
_ نعم أعرف , لكن هي فتاة , وفي جو غريب عنها , وأنا لا أريد رؤيتها تائهة أو مترددة , و لا أريدها أن تفشل شيخي ..
_ هل تحبها !
كان ينظر للشيخ الذي يبادله النظرات القوية دون أن يرف له جفن لا يصدق أنه سأله هذا السؤال ..
بينما قلبه هدر بقوة ..
متألما .. حد الرغبة بالصراخ ..
تسارعت أنفاسه كثور هائج بينما صدر صوته وكأنه من بئر سحيق
_ لماذا الماضي الآن يا شيخ .
لم يهتز وجه الشيخ الذي أصر
_ لا أتكلم عن الماضي بل عن الحاضر ..
أظلمت عينيه مؤكدا
_ آسف شيخي , لكن الماضي لم يرحل بعد ..
واستدار لأول مرة , يهرب قهرا ..
تاركا الشيخ خلفه يسمع صوته الرخيم من بعيد
_ دعه يذهب يا لمك ..
رفع يده وكأنه لا يقبل بمجرد تذكر الأمر ..
يهرب عله يخفي الجرح ..
بعيدا ..
وسؤال يلامس عضلة قلبه يتردد ويتردد في عقله حتى أثقل صدره
( هل ستأخذه مني لمك .. هل ستأخذه الذكرى الأخيرة .. لا تكرهني .. فقط خذه ..)
( هل ستأخذه مني )
ابتعد ما يكفي ليصرخ بأعلى صوته
_ كفاااااااااااااااااااااا..
ولكنه لم يكتفي , ذلك الغدر لا زال يجتر على قلبه وعواطفه ..
تبا له حين ضعف للحب ..
وبعد وقت طويل متربصا في ذات المكان ..
منتظرا نزهة كنج اليومية .. لقد اقترب موعدها ..
وبالفعل ما هي إلا لحظات حتى كانت قد ابتعدت مع كنج عن الخيام متجاهلة كالعادة طلبهم منها بعدم المغادرة ليلا ولوحدها ..
ولكنها ..
صر على أسنانه يرفض أن يكمل الجملة ولو بعقله ..
هذا القانون سيتغير .. حقا سيتغير ..
نهض من مكانه يتوجه نحوها يتعجل خطواتها المتمهلة..
توتر كنج ..
تعرف تماما متى يتوتر كلبها بوجود أحد ولكنه لم يتحرك خطوة للهجوم على مصدر توتره كما اعتاد بل بقي ساكنها , حتى أنه تنحى مبتعدا حين صرخت من قبضة حديدية أحكمت القيد على ذرعها بينما تجرها تلك القبضة بعيدا ..
هدر بها قبل أن تنطق وتنفث نيران كلامها
_ ولا حرف وإلا أقسم أن أدق عنقك الآن ..
ولكنها لم تمتثل لما سيقوله
_ اتركني , لمك .. يا متوحش , لا يحق لك معاملتي هكذا , ذاك الاتفاق الأحمق لا يمنحك الحق .
لكنه رماها بعيدا عنه هادرا بغضب أعمى ..
يجد فيها متنفسا لما يجيش في صدره
_ فمك الأحمق هذا سأخيطه لك إن لم تتعلمي ضبطه يا فتاة ..
اعتدلت وعدلت ثيابها التي لا تحتاج للتعبير عنها فهي نفسها مع اختلاف الألوان فقط , وفي هذا الوقت لم يميز اللون إذ أن نور القمر الخفيف لم يساعده
_ لا يحق لك مخاطبتي بهذا الشكل أيها الفظ ..
_ اخرسي ..
قصف صوته عاليا غير مبال بإمكانية سماع أحد له ..
فهدأت ..
ترى فيه غضبا لم تره من قبل , سبق وأثارت جنونه كثيرا من قبل , ولكنها لم تره بهذه الحال من قبل , غالبا ما كان يهرب من الجميع حين يشتد جنون غضبه ..
ويبدو أن سوء حظها أوقعها في كفه اليوم .
فكرت بذلك , بينما تزم شفتيها بشدة ترغب بسماعه حتى ينتهي هذا اللقاء الرهيب بسرعة ..
حاول التقاط أنفاسه مفكرا أن لا ذنب لها ..
لذلك زفر مخففا من حدة صوته قدر الإمكان دون أن ينجح
_ هل لي أن أعرف لماذا أخبرت الشيخ عن الهاتف , ألم أطلب منك إغلاق فمك ؟
لعبت بقدمها بالتراب تحتها , وقد التفت يديها حول بعض خلف ظهرها , مقرة بالذنب , هي لم تسكت , لم تستطع ذلك صراحة , كانت تريد إبهار الجميع وقد نجحت في ذلك وعندما لم تجد ما تقوله مد يده بقوة قائلا بجدية وصوت لا يقبل الجدل
_ هاته غنجة , لا يليق بك الاهتمام ..
اتسعت عينيها صدمة في أسوأ أفكارها لم تتوقع أن يأخذه !
توقعت غضبه , بل وجاهدت كي تحتمله , أما أن يأخذه منها !
_ لمك ..
لم يسمح لها بالنطق كلمة أخرى مصرا على رأيه
_ هاته وبسرعة ..
تلكأت يدها وهي تسحبه من جيبها , رغم أنها لم تستخدمه , لكنها وجدت صعوبة في التخلي عنه !
انحنت عينيها بحزن , والغصة تحكم حلقها محاولة مرة أخيرة
_ لن أكررها ..
شد على أسنانه بغيظ ليهدر بقسوة متجاهلا الحزن الذي سمعه من صوتها
_ لولا لسانك لما أخذته , يكفي جدلا وهاته الآن ..
نزلت دمعة من عينها ..
رآها , وللعجب لم يحن قلبه عليها ..
بالعكس زاد صلابة ورغبة بكسر تلك الحالة ..
ذلك القانون الذي تم اختصاره بكونها غنجة ..
أخذه بقوة ما أن لامس كفه , ليحذرها بتشديد على الأحرف
_ غدا صباحا كوني جاهزة على الوقت لن أتأخر عليك ..
واستدار يغادر لكنه عاد ليستدير نحوها بعد عدة خطوات واسعة أبعدته حقا عنها ..
كان ينوي أن يحذرها ..
لكن تحذيره ذهب مع الريح ..
حين رآها تبكي محتضنة كنج وكأنها فقدت أعز ما تملك وكم بدا إلغاء القانون صعبا , لقد سلبت رحمته طواعية ..
أليست غنجة ؟
مما كان يريد أن يحذرها ؟
تساءل بينما تركها خلفه مبتعدا عن المكان , محاولا التذكر ..
لا بد أن هناك شيء أراده ..
لقد استدار غاضبا ..
لكن أي كان هذا الشيء , لقد نسيه , نسي غضبه كله من منظر فتاة تبكي محتضنة كلبها ..
فلتبكي ..
تحتاج أن تنضج وهو مصر على رأيه ..
مصر أكثر من أي وقت مضى ..
بينما هي أنهت وصلة بكائها لخسارتها ذاك الشيء الذي لم تعتده بعد , لكنه يعتبر خسارة لها , هل بدأت تفقد سحرها ؟
ما بالهم لم تعد تؤثر بهم ..
كم تأثير هذه المدينة سيء على الجميع , ليتهم أقاموا مدينة أخرى ..
شهقت بقهر , تعود أدراجها نحو الخيمة الواسع لتدخل مباشرة مكان نومها وتندس به , حزينة ..
متظاهرة بالنوم , ما أن دخلت غالية المكان ..
سمعت صوتها
_ غنجة هل نمت ؟
لكنها لم ترد فاعتقدت أنها نائمة لتتركها بسلام وتندس قربها مفتقدة الأيام الخوالي وبالفعل اندست غنجة في أحضانها تطلب أمانا من خوف ربض على قلبها لا تعرف له سببا ..
أحست غالية بحاجتها تلك فضمتها بصمت .. دون كلام ..
فهي ابنة روحها ..
غنجة ابنتها رغما عن الكل حتى لو نادتها خالتي ..
ربتها لتكون ابنتها ..
.........................
نفخت ميرا بملل بينما تحاول النوم , متجاهلة الأصوات في الخارج , ما يحدث لا يعنيها .. كما كل يوم تكرر لنفسها ذلك ..
بينما يصلها صوت شجار أخوها مناف مع زوجته عائشة ..
الأمر المعتاد كل مساء , متى لم يتشاجرا ؟
لكن ما لم تتوقعه هو أن يفتح باب غرفتها بقوة بينما مناف يدخل كثور هائج متجه نحوها ..
حبست أنفاسها لا تعرف سبب هذا الهجوم , فانكمشت على نفسها تنظر لعائشة التي انحنت كتفيها ألما ويأسا , وأثار صفعة واضحة على وجهها ..
لحظات فقط وهدر بها مناف
_ هل بدأ دوامك في المعهد؟
أومأت برأسها أن نعم , لا تجرؤ النطق ولم تجد صوتها من الأساس ..
فاقترب منها حتى قبض على وجهها بقوة جعلتها تصرخ متألمة بينما يأمرها بصلف
_ إياك والتأخر دقيقة أو الخروج قبل دقيقة هل فهمت ؟
هزت رأسها بنعم , بينما عائشة من خلفها تنظر لها باعتذار ..
ليس بيدها حيلة .
لكن ذلك لم يهمها بقدر ما كان همها أن يتركها بسلام في هذه اللحظة ..
لكنه لم يرحمها ليؤكد بشراسة
_ إياك أن ألمح على وجهك أي مواد تجميل , أو أن أرى عليك لباسا مبتذلا , عملك لا يعني تحررك ولم أسمح به إلا عملا بوصية أمي رحمها الله ..
وتركها بقوة أحست بها أنه صفعها ..
بينما قلبها ينبض بجنون ... خوفا ...
وهو يخرج يتركها خلفه دافعا زوجته أمامه بقوة ..
مضت على خير !
هذا ما فكرت فيه ..
الحمد لله أنه مضى على خير ..
وهل كان ؟....
تنحت عائشة بخوف عن طريقه بينما صفق الباب خلفه , ووقفت بارتباك لا تعلم ما الذي عليها فعله , هل تدخل لميرا تواسيها , أم تتبعه علها تهدئ غضبه ..
وحتى التفكير أعفيت منه بينما علا صوت صارخا ب ... حبيبتي !
هزت رأسها بتعب , فلم تعد تحتمل هذا العذاب والتقلب المزاجي بين لحظة وأخرى , ولكونها لا تملك حق الاعتراض ..
دخلت الغرفة بتوجس , لتجده يسرح شعره أمام المرآة بفرشاتها ..
يبتسم له وكأنه لم يكن يصرخ بجنون قبل لحظات فقط ..
وفهمت دون كلام ما الذي يريده , فتخلصت من مشبك شعرها , تتقدم نحو الكرسي المدور لتجلس أمام المرآة بعد أن ترك لها المجال .
ليبدأ بتسريح شعرها ..
طال الصمت ..
لم ينطقا ..
لكنه أخيرا تنهد بتعب فسألته عاتبة بخفوت
_ ما سبب كل هذا مناف ؟
تجاهل النظر لعينيها في المرآة .. ليس لوقت طويل , ليتخلى عن الفرشاة ماسحا وجهه بكفيه .. معترفا
_ أخاف عليها حد الجنون .. حد الجنون يا عائشة !
ابتسمت مواسية , وأمالت وجهها فتحرك شعرها يميل معها مصدرا حفيفا ناعما جعله ينظر له
_ لما كل هذا الخوف ؟ أنت من ربيتها ..
شعرت بالكرسي يتحرك نحو السرير لتشهق , فيما كانت يده تسحبها ببساطة مع الكرسي وكأن لا وزن لها !
وما أن أصبحت قربه ظهرها له , حتى دفن وجهه وكفيه بين أمواج شعرها المتموج ذي الرائحة الذكية
_ أنا لا أخاف منها ومما قد تفعله ..
همس بذلك , ليسكت للحظة قبل أن يضيف
_ أخاف عليها ..
وبخفوت أجش , منتش من لمسات يده وأنفاسه على عنقه
_ يجب أن تثق بها , ألا تخيفها بخوفك ..
زفر نفسا قويا بقهر
_ أحاول ذلك ولكن ..
أدارت جسدها له , لتحيط وجهه بكفيها مستغلة الهدوء الذي هو فيه
_ لكنك تغضب وتصرخ علينا أنا وهي على السواء بسرعة ...
أغمض عينيه , يستلذ بأنفاسها على وجهه
_ آسف , ليس بيدي ..
لمس اعتذاره شغاف قلبها , لتبتسم بمودة
_ حاول .. من أجلنا ..
لم يرد ..
فقط فتح عينيه ليطالع عينيها , مقتربا ببطء , دون أن تبتعد ..
حتى لامس شفتيها بشفتيه , وحينها , غاب الغضب ..
انتهى بلمح البصر بينما ملأ الشغف المكان , مغيرا حبيبات الهواء من الصقيع الغاضب ..
لنار متفجرة كبركان ..
........................
دخل شاب ثلاثيني قوي البنية على مجلس الشيخ رجب ..
بقي معه للحظات , يتحدثان بهمس دون أن يسمع أي من حولهما الحديث , حتى مكسيم قطب بانزعاج منه ..
لكنه سكت منتظرا أن يعرف ما هي خلاصة كل هذا الحديث السري ..
فابتسم الشيخ رجب له بعد أن أنهى حديثه ..
أيا كان ما أخبره به هذا الرجل , لقد أسعده ..
وحقا كان ..
فالخبرين كانا من الأهمية لديه بمكان ..
الأول : اطمئنانه كون لمك قد أوصل غنجة للجامعة والتزمت بالداخل دون أن تخرج أي أنها بالفعل تنوي الالتزام , يعرفها جيدا ..
لو أرادت الفرار والتسكع لفعلتها حالا حتى لو وضع حولها عشرات الرجال لمنعها, والخبر الثاني أن الورشة التي يعمل فيها لمك كما أخبره محترمة وذات دخل ..
وإن كان يعرف لمك حقا , فستكون تلك الورشة له عما قريب ..
والمهمة الخاصة التي كان خبرها خاصا جدا فقد كانت موافقة المدينة على مهرجاناتهم لكسب العيش ...
_ ألا يمكنك مشاركة الأخبار يا عمي ؟
نظر الشيخ رجب لمكسيم ابن أخيه الذي يتكلم بغلظة ليرد بفتور
_ لا زال الوقت باكرا حتى تعرف ..
( لا يثق بي )
فكر مكسيم بذلك بينما التوت شفتيه باستياء واضح ..
لكنه أخفاه بعد ثوان فقط مبتسما بتكشيرة , بينما عقله يمرح ويسرح بعيدا ..
إنه ينتقم منهم ببطء .. وسينتقم بنار تحرقهم ..
.......................
كانت مطيعة ملتزمة بالصمت على عكس عادتها ..
لكنها وكما يبدو واضحا تخفي الثورة داخلها وبقوة ..
حسنا .. هذا جيد ..
من الواضح أنه تمكن ولو قليلا .. لن يكون مغرورا ليعتقد أنه أثر بالكثير , ربما مجرد ذرات على جموحها ... وهذا يعتبر تقدما ملحوظا ..
لذلك ابتسم بينما يقف بسيارته الضخمة الزراعية الطراز أمام باب الجامعة الضخم , ففتحت الباب لتنزل دون أن تنطق بشيء سوى همسة واحدة بالشكر بالكاد التقطتها , لذلك وقبل أن تنزل ناداها بجدية ..
فالتفتت له مستغربة من كلامه بعد أن التزم الصمت طوال الطريق ..
ودون أي كلمة , وضع الهاتف بيدها مع كل أدواته قائلا بلهجة صارمة
_ أبقه معك .. لكن والله لو عدت للتباهي بأي شيء تملكينه دون باقي البنات سيكون حسابك معي عسيرا ..
ابتلعت ريقها بصعوبة , لطالما كان لمك جلفا معها , منيعا ضدها , لكنها الآن تستشعر قسوته في كل حرف ينطقه معها ...
فسألته بصوت مهزوز ليس من طبعها !
_ بأي حق يا لمك .. بأي حق أصبحت تملك سلطة على حياتي !
ابتسم بقسوة ليجيب ببأس
_ بحق البنات يا غنجة , بحق البنات اللواتي عشت على حسابهن عمرا , لذلك حان الوقت لدفع الثمن على ما فات ..
عضت شفتها دون أن تأخذ الهاتف لتسأل ببرود
_ على ماذا تنوي ؟
أطلق ضحكة صغيرة مدركا لمدى مجهودها في الهدوء
_ لا تخافي يا مدللة الشيخ , لست قاسيا كما تريدين أن أكون , كل ما في الأمر أني أنوي تعليمك كيفية الاعتماد على النفس .
رفعت رأسها باعتداد وثقة
_ أنا أعتمد على نفسي دائما ..
سحب يدها ليضع فيها الهاتف الذي لم تبادر لأخذه رغم لهفتها التي قرأها في عينيها له متكلما بالحقيقة التي جعلتها تطرق
_ أنت كنت دوما عالة على الجميع فلا تخدعي نفسك ..
رفعت رأسها بحدة بينما ظهرت النار في عينيها وحاولت جاهدة أن تجد ردا غاضبا ترميه في وجهه .. لكنها لم تجد ..
ففضلت الصمت لترمي الهاتف بحقيبتها وفتحت الباب لتنزل بكبرياء بينما لاحقت عينيه ملابسها ..
وليست ملابسها فقط ما لاحقته عينيه ...
بل أعين الجميع , فتيات وشباب ..
وهي تدخل مرفوعة الرأس , بغرور وتكبر ..
تضرب الأرض بأقدامها دون أن تهتز ..
نعم إنها هي , هل ينكر . . مدللة الشيخ والجميع , والتي سيعمل جاهدا على تقليم مخالبها التي تنشرها في وجه الجميع كقطة شرسة , ربما حان الوقت ليبطل سحر الدموع !..
نهاية الفصل الثاني

شببت غجريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن