الفصل الثالث عشر

2K 43 1
                                    

الفصل الثالث عشر
................................
دخلت غالية لحظات , لتتفاجأ بوجود ناهد في الغرفة , تنظر لغنجة بغرابة , نظرات لم تعجبها , وبدورها نظرت لها ناهد ذات النظرات ..
عدائية , حادة , كارهة , وكأن ناراً من النظرات شبّت بينهما ..
قالت ناهد بلهجة باردة
*غنجة لا تشبهك , غريب !
ضيقت غالية عينيها واقتربت من سرير تلك النائمة لتجلس قربها تجيب بذات البرود
*إنها ابنة أختي وليست ابنتي .. ليس من الضروري أن تشبهني ..
ارتفع حاجب ناهد , ولم تبتعد عن غنجة , أمسكت خصلة من شعر غنجة , بحنان , فما كان من غالية إلا أن اقتربت بحدة لتسحب الخصلة من يدها
*لا تزعجي صغيرتي ..
زمت ناهد شفتيها , لتنظر لغالية بتركيز ..
وسألت بلهجة مبهمة
*كم عمرها ؟
قطبت وانتظرت قليلا ترد ..
*في السادسة والعشرين ..
هزت رأسها ناهد , وعادت لتعبث بذات الخصلة قائلة بلا مبالاة ..
*مالك يزيدها عامين لا أكثر ..
التفتت لها غالية بحدة , لتعود وتسحب الخصلة من كفها
*وما شأنها وشأن مالك ذاك , لقد انتهى كل شيء , هيا اتركي صغيرتي مرتاحة ..
التوت شفتي ناهد بابتسامة , وبالفعل تركت غنجة , لكن قلبها يضطرم بنار لا تعرف كيف تطفئها , وأشبعت عينيها نظرا منها , لتخرج من الغرفة دون أن تقول حرفاً واحداً ..
فيما ربتت غالية شعر غنجة المتناثر دون سبب , لتقول بغصة
*هل تتألمين صغيرتي ؟
ولكن خلال لحظة , فتح الباب لتطل ناهد برأسها متسائلة بعجب بريء
*لمَ لا يملك أحد منكم ذات زمرة دم غنجة !
ارتبكت غالية للحظات , لكنها قطبت مستاءة
*وما شأنك أنت تسألين كثيراً !
ضحكت ناهد ساخرة برقة
*مجرد فضول ..
وتركتها مجددا , لتقطب غالية أكثر وهي ترى ملاءة السرير متجعدة , فدقت على صدرها شاهقة
*هل تتألمين , أنت كثيرة الحركة اليوم ..
جلست قرب رأسها تمسح عليه برقة ..
لتدمع عينيها , غير قادرة على مجرد التفكير بما عانته ..
*أذاك ذاك المجنون .. صغيرتي .. افتحي عينيك وقولي أنك بخير ..
ازدادت دموعها . .. لتقترب تقبل وجهها الناعم بحرقة ..
*تحركي .. أفيقي صغيرتي .. يكفيك غياباً عني , لم أعد قادرة على احتمال سكونك ..
مسحت وجهها بكفيها , ووقفت قربها تبعد الغطاء , وتضع من أنبوب المرهم على كفها , لتدهن بها القروح على جلدها متحسرة على نعومته التي غطتها الخطوط الحمراء ..
وهمست بحرقة وحقد
*ليتهم أحضروه لي .. ليتهم فعلوا , لكنت حززت جسده بالسكين صغيرتي , لكنت جعلته يبكي دماء عن كل دمعة نزلت من عينيكِ الجميلتين ..
طالت لمستها على إحدى الضربات على بطنها , كانت متقرحة بشكل مخيف , بشكل جعلها تبدو وكأنها تلقت على ذات المكان عشرات الضربات ..
تلمستها برقة شديدة , لتنحني تقبل التقرح بشفتيها ..
*ليته على جلدي ..
همست بها , لتنهار على ركبتيها قرب السرير صارخة بقهر
*آه عليك صغيرتي .. ليت آلامك كلها وشمت على جسدي ..
وغرقت في بكائها , تكرر هامسة بإرهاق
*ابنتي أنت .. صغيرتي .. كيف تهت عني ليفعل بك كل ذلك .. كيف يا ابنة قلبي .. أول يوم تبتعدين فيه عني يكون أسوأ يوم في حياتك .. لن تبتعدي مجددا عن عيني .. سأدخلك داخل هذا الصدر ولن تخرجي منه ..
انتفضت من هلوستها الحزينة على همسة جافة
*غالية..
كانت الهمسة مرهقة .. جافة .. متألمة ..
مجرد همسة دون أن تفتح عينيها , تلمست وجهها بحب تتأكد أن الهمسة خرجت
*قلب غالية وروحها وعيونها .. قولي يا مهجة القلب .. تحدثي لا تسكتي ..
*ماء ..
همست بضعف حتى بالكاد فهمت غالية ما تقوله , لتهب وتحضر الزجاجة تفتح غطائها تقربها من شفتيها بحرص
*على مهلك صغيرتي .. على مهلك ..
أنّت غنجة بألم , فأغمضت غالية عينيها كي لا تنزل دمعتها ..
*اشربي صغيرتي ..
لكنها بضع قطرات فقط , ابتلعتها بصعوبة لتعود للنوم بفعل العقاقير التي لا تتركها متيقظة لوقت طويل ..
أنهت غالية مسح القروح بالمادة اللزجة التي تمنع عنها الجراثيم وتعجل بالشفاء , تبرطم باستياء
*لو تركوني أضع عليها تلك الأوراق التي تعذبت ساعة في تحضيرها لكانت الآن كل هذه الجروح قد اختفت ..
وغطتها , لتقبل جبينها
*نامي صغيرتي .. فهمستك كانت كالدواء لقلبي حتى لو كانت جافة .. كالموسيقا نزلت على أذني ..
وتركتها وخرجت من الغرفة إلى الغرفة الثانية حيث يقبع لمك مستاء من وضعه وذراعه المضمدة بسبب جرحه الخطر لتخبره أن غنجة أفاقت للحظات وعادت للنوم ..
وبدوره لم يطق صبراً , يشعر بالذنب نحوها , رغم أن لا يد له فيما حصل , لكن مجرد كلمة مكسيم
(تأخرت هذه المرة)
جعلته يشعر بالضعف , لأول مرة يجد نفسه غير قادر على احتواء أمر يتعلق بها , فهي غنجة ..
ابتسم ساخرا من نفسه وقد عاد لتكرار ما سعى لتغييره
(إنها غنجة ! )
قاوم كدماته , وجر خطاه نحو غرفتها , انتظر حتى سمع صوت غالية تطلب الدخول , ليطل عليها ..
ذهبت نحوه قلقة عليه
*ما الذي أتى بك !
لم يرد حالا بينما عينيه تجولان على غنجة , لقد جمعت غالية شعرها بضفيرة , تستريح جانب رأسها
*كيف حالها ..
ابتسمت له تساعده للجلوس على كرسي قريب
*لقد أفاقت للحظات فقط وعادت للنوم ..
*ستكون بخير ..
قالها يطمئن فيها نفسه أكثر منها ..
بادرته ما أن ارتاح في مجلسه , تعضعض شفتيها بقهر
*اسمع يا لمك , لا يجب أن نبقى هنا , لا تعجبني نظرات تلك العائلة لصغيرتي .. أخاف عليها منهم ..
استغرب لمك حديثها ليخبرها
*لكننا لا نستطيع إخراجها قبل أن نطمئن عليها ...
قطبت مستاءة
*إنها بخير , وسأعتني بها ..
هز كتفيه بحيرة , لا يملك جوابا لها
*يجب أن نسأل الشيخ رجب ..
انحنت كتفيها بكآبة معترفة
*إنه يرفض خروجها قبل أن تسترد وعيها بالكامل ..
ثم استدركت متسائلة
*كيف أنهيتم الأمر مع الشرطة ..
تنهد بعمق , ليخرجه ببطء , رغم عدم رضاه عن الأمر
*لقد تصرف أحدهم ..لا أذكر اسمه ..
لكن شفتيه التوت بابتسامة ساخرة
*من حسن حظنا أن بعضنا لا يهتم بامتلاك هوية تثبت شخصيته ..
نظرت نحو غنجة , مطولا .. بحسرة .. لتهمس بصوت سمعه
*كم ندمت لأنني أعطيتها هوية ..
كان يريد أن يضيف (هوية ليست هويتها )
لكنه رفض جرح غالية , وفي هذا الوقت تحديدا ، متذكراً كلام ديسم .. كانوا صغاراً لن يسألهم أحدهم عن رأيهم إطلاقاً .. لكن حتى هذا التبرير لا يريحه ..
في تلك اللحظة طرق ديسم الباب ليدخل , بدوره كان عابساً , ونظر مطولاً نحو الممر قبل أن يخطو داخلاً الغرفة , لم يرتح لمك لحاله , لكنه لم يسأل شيئاً أمام غالية ...
إنما انتظر حتى اطمأن عن أحوال غنجة , وأخذ لمك خارج الغرفة , لافتاً نظره للتجمع الغريب الموجود في الغرفة المخصصة للفتاة التي تسمى روز ..
لم يعط لمك الأمر أهمية
*ربما معارفهم !
لكن ديسم هز رأسه بلا ..
وضيق عينيه ينظر بتركيز للمك الذي عرف من نظرته أنه هناك سر خلف الأمر , وعندما لم يحمله فضوله أكثر , قال ممازحا
*هيا ديسم هات ما عندك , ليس لي قبل بالأحاجي ..
أدخله ديسم الغرفة , وما أن أغلق الباب حتى قال
*لقد سمعت اسم غنجة يا لمك .. لست مرتاحاً لما يحصل ..
ارتفع حاجب لمك
*إذن ؟ ما معنى هذا ؟
جلس ديسم على الكرسي , واضعا كوعيه على ركبتيه , يستند بتعب
*الأيام الماضية كانت مرهقة .. كيف حال جرحك ..
تأفف لمك متذكرا , ليبرر نفسه
*لقد غدرني .. لا أعرف كيف تمكن مني ..
ونظر نحو ديسم متذكرا ما حدث ليقول بحدة
*ماذا حصل مع ذلك الهمجي ..
حينها, مسح ديسم وجهه بكفيه , ليعترف
*قتلته ..
اتسعت عيني لمك , غير مصدق ..
*أحقاً فعلت ذلك ؟
عبس ديسم , ليكتف ذراعيه العضليتين على صدره الضخم
*وهل كنت تتوقع مني أن أتركه حياً بعد ما حصل !
لوى لمك شفتيه
*لا على الأقل , توقعت أن تنتظرني لنفعل ذلك معا ..
رد عليه بمكر
*وهل كنت تتوقع أن أخلف كلمة الشيخ رجب ..
ابتسما بتواطؤ ليقول لمك ضاحكا
*لن يجن أحد من الشيخ رجب إلا غالية .. أنا متأكد أنها تتمنى أن تلحقه بمكسيم لأنه لا يسمح لها بعلاج غنجة على طريقتها ..
ضحك معه ديسم على ذلك , يعرفان مدى كره غالية لعلاج الأطباء ..
.............................
استغرب الجميع إصرار ناهد على بقاء روز في المشفى رغم عدم حاجتها لذلك , بل والمثير للحيرة , طلبها من الجميع الاجتماع في غرفة روز , وخلال ساعة على الأكثر كان الجميع موجودا , حتى نيمار حضر , ليراها هناك , محمرة الوجه وعينين ذابلتين , شعرها الذي اعتاده مصففا منسدلا على كتفيها كان مرفوعا على رأسها بإهمال , كانت مرهقة وتتجاهله عمداً بقوة ..
تصاعد غضب غريب مجنون في داخله يتساءل إلى متى هذه الحالة !
اتجه نحوها , ليقف قربها دون أن ينظر لها مباشرة أو حتى ينطق بحرف ..
والكل ينظر نحو ناهد التي كانت تقطع الغرفة جيئة و ذهابا مفكرة بعمق , وما أن دخل مروان حتى هتفت تنظر له بقوة تقول دون مقدمات
*غنجة تلك ليست سوى روان !
كانت نظرات الجميع بين عدم التصديق , والشفقة على حالها , والاستهجان ..
نظر مروان لها برقة واقترب ينوي احتوائها دون جرحها
*ما بك ناهد , غنجة لها عائلتها ..
ابتعدت عنه قبل أن يصل لها , توجه نظراتها للجميع وخاصة مجيد تذكره
*كنت تحب روان جدا ولا بد تذكر علاماتها المميزة ..
رقت عيني مجيد لذكرى تلك الطفلة ذات الشعر الأسود المجنون دائما وأكد
*نعم أذكر ..
ونظرت نحو جمانة
*أتذكرين عدد المرات التي تشاحنت فيها مع أختي أمامك , نهرج عن أي بنتينا أجمل ؟
أومأت جمانة برأسها لا تفهم ما علاقة كل ذلك بما صرحت به قبل لحظات ..
ولم تنتظر أكثر لتفجر خبرها , الذي جعل الجميع ينتفض في مكانه حتى صفاء اتسعت عينيها لا تصدق
*غنجة تحمل ذات علامات روان .. عنقود العنب على عنقها .. سمكة أسفل ظهرها , وتلك التي لا نعلم ما هي على فخذها ..
لم يرق لها ذهول النظرات التي ناظرتها بشك لتصرخ بحنق بأعلى صوتها غير آبهة
*لقد كنت في غرفتها ورأيتها , الوحمات الثلاث موجودة , وقد زاد حجمها .. إنها روان ..
قفز مالك عن مقعده يهتف
*رباه هل أنت متأكدة أمي !
*بالطبع متأكد يا ولد .. ويجب أن نقطع الشك باليقين ..
زجرته بقوة , بينما نظراتها اتجهت نحو صفاء , التي ارتجفت لا تعلم ما الذي تفكر به أمها , لكنها التزمت الصمت هي وروز معا , حين صرحت بأمرها متجاهلة الجميع , فمهما تعاطفوا لا أحد يشعر بحرقة قلبها ولا بالنار المضطرمة في صدرها , لقد تسبب اختفاء روان بموت أختها ولن تسامح من كان السبب بذلك .. ستسرد تلك الفتاة يجب فقط أن تتأكد ..
*اذهبا لغرفة روان , أريد شعرة من رأسها ..
تمتمت روز بهمس
*اسمها غنجة خالتي ..
*روان ..
هتفت بقوة تؤكد عليها
*لا تناديها مجددا أمامي باسم غنجة أتفهمين ..
ابتلعت ريقها بقلق مما قد يحدث , أيعقل أن تكون حقا تلك روان !
ثم استدركت ناهد بعصبية موجهة حديثها لروز , بين الجميع منذهل بالقوة التي خرجت فجأة من خلف الرقة التي كانت تتغنى بها ناهد
*ألم تقولي ذات يوم أنها تبدو كالنسخة الكبيرة من روان ؟
هزت روز رأسها لتوافقها صفاء
*نعم كان ذلك عندما قررنا الرحلة ..
قاطعت ناهد هذرها , وأمرت مالك بقوة
*اذهب للبيت واحضر صورة روان ..
وبالفعل انطلق مسرعا , يريد أن ينتهي كل شيء ويتأكد حقا , هل روان التي اختفت , لتبدأ مأساة العائلة ستظهر مرة أخرى !
ضم مجيد قبضته بقوة مدمدما
*عليا إيجاد هائل ..
لكن مروان , قال بتوتر
*لن نجده ..
نظرت له ناهد بحيرة , مستغربة من جمانة التي التزمت الصمت ليس ذلك من طباعها
ليوضح مروان بقلة حيلة
*هائل غادر البلاد منذ سنوات , لم يغادر المدينة فحسب , ولم أتمكن من معرفة وجهته , وبعد فترة لم أهتم بالمعرفة ..
جلست ناهد على طرف السرير بعجز , قبل أن تنطق صفاء متذكرة
*ماما .. أنت تملكين مفتاح بيت خالتي ..
استغرب نيمار , واقترب من صفاء , مبتسما لها
*ذاكرتك جيدة صفصف ..
لكنها لم تنظر , بل تجاهلته متعمدة مثيرة انتباه الجميع بحركتها تلك
*لقد كان آخر مرة في غرفتك أتذكرين , ذهبنا في عيد ميلادها التاسع , لا زالت أذكر ذلك ومن يومها لم نذهب مرة أخرى ..
شهقت ناهد جزلة
*نعم .. نعم ..
ثم نهضت متجهة نحو مروان
*هيا بنا ..
ونظرت نحو مجيد برجاء
*أنت ستتدبر أمر تحليل DNA
أكد لها بعزم لذلك , لتغادر مع مروان , بينما جمانة , رغ ذهولها نظرت لروز وصفاء
*هيا اذهبن لرؤية روان ..
حتى جمانة , لم تعد تناديها غنجة , فحذر مجيد
*انتبهوا .. لا تذكر الاسم أمامهم وتصرفوا بتلقائية ..
وخرجتا بالفعل , ليبقى نيمار وحده غاضبا ..
ضم قبضته بقوة , قبل أن يخرج بخطوات هادرة من الغرفة , دون  أن يرد على نداء أحد ..
وبداخله يتوعد صفاء بالويل , ليس هو ..
ليس نيمار من يعامل بهذه الطريقة الوقحة حتى منها .. صفائه ..
لن يسمح لها ليس بعد الآن , لقد مل تصرفاتها الصبيانية حقا ..
حان وقت درس بسيط , درس سيلقنها إياه بمفرده ...
ولتحتمل تلك الحمراء الحمقاء , وتتعلم معنى أن تثق به , وتثق بحبه ..
(أقسم أن أجرك نحو الجنون صفاء .. أقسم على ذلك )
هدر به , بينما ينطلق بسيارته مبتعدا عن المكان , مقررا عدم العودة , وعدم الاتصال ..
سيبدأ من حيث كان يجب أن يبدأ قبل سنوات ..
وبابتسامة تهكم أعلن
( حان وقت العقاب )
وبدورها أحست أنها بالغت برد فعلها أمام عائلتها , لقد قللت من شأنه أمام الجميع ,
لم تكن بعقلها مع روز التي تمكنت من سحب عدة شعرات من شعر غنجة الخدرة بالأصل , فلم تشعر بها , وحدها غالية من تعجلت انصرافهما , وكأنها تطردهما فعليا
*صغيرتي متعبة تحتاج للراحة ..
وبالفعل جرت روز صفاء خلفها , منتصرة ..
.....................
وقف مهاب على مقربة من مكان وقوف منذر مع أحد رجاله , يتكلمان بخفوت شديد , حاول بشدة تبين ما يقولانه ولكن عبثاً , ولو اقترب أكثر من ذلك سيفتضح نفسه , وسيعرف منذر أنه يسعى لسماع كلامه , منذ أيام حصل على هاتف خاص به , لكنه حتى الآن لم يتواصل مع أحد من عائلته , حقيقة يخشى ذلك , انتقل من ذلك القبو الذي نام فيه ليلة وحيدة , إلى شقة خاصة فيه ..
لم يعرف أين يسكن منذر , وذلك ما لم يعجب الضابط , خاصة بعد تمكنه من التواصل معه , وجد الشريحة , موضوعة بحرص في جيوب أحد البنطلونات , لذلك اتصل على الفور يخبرهم كل ما توصل إليه من معلومات ..
وكلها .. لم تكن ذات قيمة !
ولكن هذا الحوار الخافت الذي ابتعد منذر عنه ليجريه , يخفي خلفه لغز ..
وصلته قهقهة من الرجل الآخر مميزا بضعة كلمات
*سيكون ذلك احتلالاً ..
قطب وتلك الكلمة لا يعرف كيف يفسرها , فأي احتلال هذا ..
ترى , كيف ستتقبل عائلته عودته لو عاد !
يستحق هذا النفي الإجباري الذي وجد نفسه فيه , يستحقه وبقوة ..
نفخ بتعب وقد نسي الرجلان وما يتكلمان فيه , لتعبث أصابعه بشعره مبتعدا عنهما بضجر ..
هروبه المخزي من العائلة .. يؤلمه من الصميم , لكنه كان مضطراً !
حقا كان كذلك , لقد ورط شقيقته في أمر قد يودي بها والأسوأ أنها ورطت صديقتها , كان من الممكن للأمر أن يكون أكثر سوءا , لو لم يتصل مباشرة بالضابط خاصة مع تلك القائمة الضخمة من الأسئلة التي أراد إجابات عنها ..
فكان أن استعان بأحد معارفه ليأتي له بشريحة اتصال جديدة , وكانت بالفعل ..
والضابط المسؤول ساومه بكل بساطة ..
يستطيع إخفاء كل أثر لقدوم تلك الفتاة لعنده يوماً , وتبرئة ساحته هو كذلك , في مقابل أن يساعدهم في الوصول للرأس الكبيرة , وهذا ما حصل بعدها ..
عاد للتواصل مع عماد , متظاهرا بأنه بحاجة للمال والعمل ..
وتوسله بغباء لكي يقبل ..
وهذا بالفعل ما كان يريده عماد , لقد جرّ مهاب إلى حيث يريد , فهو يعرفه جيداً ..
يجيد الصمت , يجيد الاختفاء .. يجيد الدفاع حينما يريد ..
أهم شيء بالنسبة له كان الاختباء .. لقد اختبأ منه هو شخصياً..
فكان أن أغراه إلى بالسفر لمنذر , بداية ارتبك ولم يعرف ما الذي يفعله ..
ولكن الضابط حينما أخبره , دون تلكؤ أمره أن يجهز أموره ويفعل فقط ما يقولونه له ..
واستغرب حينما طلب منه عماد التسلل له فجراً ..
ولكنه فعل مع بعض الثياب كما طلب منه تماما , وضعها في حقيبة صغيرة , متلقيا رسالة من الضابط أن شريحة اتصال دولي , ستكون مرمية أمام بيتهم على الطريق , فراقب الطريق بحذر وما أن لمحها حتى انحنى , لكنه لم يحسب حسابا لخروج أحد المتلصصين ومحاولته سرقته , صحيح أنها كانت محاولة فاشلة , ولكنه قاوم بقوة , ليسمع همسة الرجل المعتدي والذي تظاهر آخر أنه يفتش حقيبته بحث عن شيء ما ..
*سنخبئ الشريحة ..
ولم يتسنى له الإكمال حينما وصل عماد مع رجاله , ليهربوا ..
كان الضابط حذقا ليعلم أنهم لن يتركوه دون مراقبة ولو التقط الشريحة لكشفوه على الفور .
وكانت تلك نقطة لصالحه بالنسبة لعماد الذي عرض مساعدته على الفور وجمع حاجيات مهاب , بينما الأخير يعدل ثيابه ..
وثم بين لحظة وأخرى وجد نفسه في سيارة متجهة لخارج البلاد !
دون أي علم بالوجهة , أو حتى الكيفية ..
لقد كان فعليا يهرب من البلاد !
كان يعلم أنه ورط نفسه في شيء أكبر منه , لكنه على الأكثر توقع أن يتم القبض عليه بين أحد الجماعات , لكن هذا ... كان أمرا آخر ..
والأسوأ ..
هو أنهم رفعوا بحقه مذكرة قبض ما أن يعود , لكونه غادر البلاد بطريقة غير شرعية ..
وعائلته تعلم ذلك .. وتجهل الحقيقة ..
*بماذا تفكر ..
أخرجه صوت منذر من أفكاره ليشتم سره , لقد نسي سبب وجوده هنا وغرق في أفكاره الخاصة ,حتى الرجل الآخر اختفى ..
*أفكر ..
أجاب باقتضاب شديد , ليسأل بلهجة المساعد الحريص على سيده
*هل ترغب أن نغادر سيد منذر؟
وسخر من نفسه سراً . أي مساعد هذ الذي يوصله سيده لشقته الصغيرة , ويذهب هو لبيته حيث لا يعلم
*هل يمكنني أن أعلم بمَ تفكر ..
كشر مهاب , وضيق عينيه , ليقطب منذر بتركيز , منتظرا رد مهاب العنيف
*أفكر , بذلك الذي رفع اسمي على الحدود..
استغرب منذر وسأل باستهجان
*وماذا سيفيدك اسمه ؟
شخر مهاب بقسوة , وعينيه على عيني منذر دون أن تحيدا
*لأقتله ..
انتفض منذر من القسوة الغير مفهومة التي أطلت من عيني مهاب الوديع , لكنه أخفاها بسرعة , يرجع رأسه للخلف مقهقها بصوت مجلجل في المكان الخالي ..
ليربت على كتف مهاب مهونا الأمر
*ليس هو من يجب عليك أن تفكر بقتله ..
بقي مهاب على عينيه الضيقتين , مبتسما لنفسه , لا بد أنه أحرز تقدما في نفس منذر هذا ..
اقترب منه منذر ليهمس بخطورة أمام وجهه
*عليك أن تقتل الحدود ذاتها ..
لم يفهم مهاب عليه , وقد ظهر ذلك جليا على ملامحه ..
لذلك اكتفى منذر أن اتجه نحو سيارته , يتركه يتخبط في حل الأحجيات ..
كانتا اثنتين حتى الآن ..
الأولى .. احتلال ..
والثانية قتل الحدود ..
ما يحدث أكبر من مجرد تهريب شحنة ممنوعات .. أكبر من ذلك بكثير ..
*هل ستبقى عندك يا ولد ..
انتبه لمنذر الذي أصبح في سيارته , يستريح على المقعد بجوار السائق ..
فهب مهاب بسرعة يأخذ مكانه خلف لمقود , بينما ينطق منذر بصوت حازن خشن
*قد أنت وأنا سأرشدك على الطريق .. احفظها جيدا ..
وبالفعل أرشده للطريق الطويل , والتي تصل .. قصره !
هذا ما كان عليه بيت الرجل حقاً قصر ضخم ..
ترجل منذر من السيارة وحده دون أن يسمح لمهاب بالنزول
*اترك السيارة معك .. وعندما أطلبك .. أريدك قربي على الفور ..
أومأ مهاب بطاعة , ليراقب للحظة منذر , يتجه نحو مدخل قصره ببذلته الأنيقة , وعصاه العاجية التي لا يحتاجها , لكنه يحملها بغرور متباهياً بها ..
ثم قاد السيارة عائدا لشقته الصغيرة , وتلك الأحجية لا زالت تزعجه ..
لم يعد للشقة حالا , بل وقف قرب أحد المطاعم البسيطة , ودخل ليطلب وجبة له , فالجوع يكاد يثير جنونه , ويحوله لكائن عصبي ..
*اللعنة ..
شتم بصوت خفيض , لطالما كان هادئ الطباع , لكنه ومنذ وصل أصبح عدائيا , نزقاً سريع الغضب , وكأنه تطبع بطباعهم !
طلب وجبته , وجلس على طاولة منفردة , غير منتبه للنظرات المستغربة له , كان عابسا حتى التقى حاجباه وفمه مجرد خط مستقيم وذقنه مجعدة من الغضب , حتى ثيابه الأنيقة وطوله الفارع ..
بدا متوحشا ذا هيبة .. وهو لا يدرك شخصيته الجديدة بعد !
.........................
وصلت ناهد  بيت أختها المهجور منذ سنوات ..
البيت الذي يهجره أهله يبدو وحيداً وكأنه يبكي ..
لا تزال أشباح أطياف تمر به ..
كان مالك صغيرا حينها , لكن السنوات التي تلت ما زالت في ذاكرتها , جعلتها تحافظ على كل ما تملك بحرص خشية الفقدان .. ما تعرفه أن الفقدان مؤلم ..
أختها فقدت روان , زوج أختها فقد الاثنتين , وهي فقدت الجميع .. وكأن له معهم اتفاق سري بالتزامن.
أبعدت أشباح الماضي عنها ودخلت البيت , لها وجهة معينة , غرفة نوم أختها , حيث ولا بد ما زالت أثارهم , فقد حافظت على خصوصية هذه الغرفة تحديداً , لم تكن تتوقع أن تدخلها يوما وهي على أمل عودة احدهم .. سار مروان خلفها ولم ينطق بشيء , يعلم ما تفكر به في هذه اللحظة , جزء منه يتوقع أن ما تقوله ليس سوى تمسك بسراب ماض لا حاضر له , وجزء آخر يتمنى أن يكون حقيقة , فعلها حينها تعوض شيئا ما فقدته , وتعود لها بهجتها تلك التي غادرتها , وتقف لها غصة في كل فرحة ..
ليرى الدموع تغشى عينيها ..
صورة أختها مع هائل وروان ..
اقترب منها يضمها من الخلف مواسيا
*لا بأس ناهد , خذي ما تريدينه لنغادر ..
لامست صورة أختها بشوق لتشهق بالدموع
*اشتقت لها .. جدا ..
*اهدئي .. اهدئي ..
أخذها على صدره لتبكي برقة , شوق سنوات حاولت الصبر عليه , كيف خسرتها فجأة , لا زالت لا تصدق كيف خطفها الموت .. لم تتحمل ..
همست بقهر
*لو كانت تلك ابنة أختي .. لن أسامحها يا مروان .. لن أسامح تلك المرأة ..
عقد حاجبيه يعدها بقوة
*كلنا لن نسامحهم لو كان ما تقولينه صحيحاً..
ابتعدت عنه تهتف بقوة رغم دموعها
*إنها هي .. هي ..
سحبت الصورة ترفعها في وجهه تطلب منه
*انظر لها جيدا , ركز بوجه روان ركز جيدا .. وعندما تراها ستعرف أنها هي , حتى الشعر المجنون ..
تركت الصورة واندفعت تبحث في الغرفة , عن أدوات أختها وزوجها , فهي لم تفرط بشيء , عاش هائل بضعة أشهر هنا في البيت لوحده ولا بد أن أثاره لا زالت ..
لكن مشط الشعر كان نظيفا جداً..
زفرت بيأس ومروان يراقبها , تتنقل بجنون من مكان لمكان , تبحث على الأرض , على أغطية السرير لا بد أنها ستجد أثراً , يجب أن تجد ..
تركت الغرفة تحت عينيه المراقبة واتجهت نحو الحمام حيث صرخت براحة
*وأخيراً!
تبعها على الفور , ليجدها تقصد بضعة شعيرات لا زالت عالقة في شفرة احمام ..
اقترب منها بقرف ليسحبها بسرعة مقطبا
*لا هذا جنون .. إنه مقرف ..
لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بالقرف وغيره لتهتف به متوسلة
*كفا مروان إنها بضعة شعرات فقط ..
لكنه ترك الشفرة ليسحبها خلفه معترضا بقوة
*قد تكون مليئة بالأمراض والجراثيم .. ابحثي في مكان آخر ..
شدت قدميها على الأرض تحاول إيقافه متوسلة بعيون اتسعت برجاء سلب قلبه
*أرجوك يا مروان .. أرجوك ..
نظر لها بريبة , ليزفر يائسا ..
وتركها بغرفة النوم , ليعود للحمام , نظر للشفرة التي رماها بقرف يتمتم مكشرا
*كم أنت مقرف يا هائل .. على آخر هذا الزمن أعبث بشعيراتك الحليقة المقرفة !
لكنه مجبرا , سحب منديلا من جيبه , لينفض الشفرة عليه , حتى كاد يتقيأ مما يفعله ..
ولفه بحرص ليضعه بجيبه , رافضا مجرد فكرة أن تلمس زوجته شعيرات هائل الحليقة منذ سنوات والمتهالكة أصلا !
نظرت له برجاء
*هل أحضرتها ..
أجاب بغير رضا , يدفعها بكفه ليخرجا من بيت الذكريات هذا ..
*أجل هيا لنغادر ..
وبالفعل خرجت معه , وفي داخلها أمل يتراقص , وعلى الطريق أعلنت بعزم
*سأزوج مالك لروان ..
اتسعت عينيه وهو يقود ولم يرد عليها , بل مد كفه يتلمس جبينها متمتما
*هل أصبت بحرارة مفاجئة حبيبتي !
قطبت مستاءة منه لتنهره
*كفى يا مروان أنا متأكدة أنها روان .. كم هي فرصة أن يتواجد بنتين بذات الوحمات !
تنهد بتعب , متسائلا ذات سؤالها
(ما هي إمكانية حدوث ذلك ! )
تساءل بسره  ولكنها كأنها قرأت أفكاره لتجيبه بفم مزمزم
*لا تفكر كثيرا .. فهي معدومة .. زمن المعجزات ولّى ..
وبالفعل زمن المعجزات ولّى ..
أخذ مجيد المنديل من مروان والشعيرات الطويلة من روز وانطلق مغادرا ..
ليصل مالك مع صور روان القديمة كلها ..
لكن ناهد طلبت منه الانتظار , فلن تدخل على تلك المرأة دون أن يكون بيدها ما يدينها ..
خاصة وأن روان لا زالت غير واعية لما يحدث بعد كل ما تعرضت له ..
نظر مالك لهم بحيرة
كيف يمكنهم الانتظار ..
خرج من الغرفة ليقف بالممر , حينها رأى لمك يدخل الغرفة , فما كان منه إلا أن تبعه ..
وقف على الباب عله يسمع شيئا .. لكن الصمت هو ما لاقاه ..
طرق بخفة ليدخل بعدها ..
استغرب لمك دخوله , ومجرد وجوده في هذه الغرفة ..
لكن مالك اقترب مبتسما بدبلوماسية
*كيف حالك لمك ..
ونظر لغنجة النائمة , لم يرها جيدا حين حملها , كان همه أن ينقذها من ثعبان ضخم مجنون ومن جراح ثائره , تنزف دمائها الحارة
*كيف حالها ..
واقترب أكثر رغم نظرات غالية الغير مرتاحة , لكن لمك الذي كان ممتنا له , لمساعدتهم في أكثر وقت حرج , خاصة وأنهم من أسرعوا بغنجة إلى هنا لمساعدتها
*بخير .. شكرا لك ..
واقترب منه يقصد إخراجه من الغرفة خاصة بعد أن قالت غالية بفظاظة
*صغيرتي نائمة لا تثيرا ضجة ..
استغرب لمك عدائيتها , لكن مالك تجاهلها ليقترب أكثر منها , ينظر لوجهها بتدقيق ..
انزعج لمك من تطفله , وتململ في وقفته ...
التوت زاوية فك مالك بسخرية من حمايتها له ..
ونظر لها بتدقيق , في عمق عينيها الكارهتين لوجوده , وهمس بنفس همسة أمه
*لا تشبهك !
وكما ردت على أمه ردت عليه
*هي ابنة أختي .. ليس من الضرورة أن تشبهني ..
هز رأسه متمنيا شفائها , وابتسم للمك المستغرب ليخرج من الغرفة ..
هز لمك رأسه بعدم فهم , يستمع لكلام غالية الممتعض
*يا لأهل المدينة وتفكيرهم المتخلف ..
كتم لمك ضحكته , فلعلمه أن أهل المدينة يعتبرونهم هم المتخلفين ! لو سمعوا كلام غالية , لغرقوا في الضحك حقا , لكنه استغرب أكثر عدائيتها فسألها
*غالية , لماذا لا تحبينهم ؟
وبغضب أجابت
*لولا وجودهم لما تأذت صغيرتي ..
لكن لمك استهجن قولها
*غالية , ما فعله مكسيم ..
قاطعته صارخة
*لا تذكر اسمه أمامي ..
عبس , ليبعد الذكرى عنه مكملا
*ما حدث , قد حدث قبل وصولهم .. ولكنها بقت على رأيها المتحجر
*وجودهم كان نحس..
وبملل ذكرها
*غالية هل عليّ أن أعيد للمرة الألف أنهم هم من أنذوها وأسعفوها , قبل ابنتهم حتى !
وما زالت تلك الحقيقة تزعجها , رغم أنها الحقيقة..
وصلتهما همسة ناعمة
*وستكررها كثيرا ..
نظرا لها على الفور , كانت مبتسمة بضعف تتابعه حديثهما ..
منذ أن بدأا النقاش عما حصل ..
*هل أنت بخير ..
سارعت غالية تطمئن
*هل تتألمين ..
هزت غنجة رأسها بلا , فمع كل المهدئات والمسكنات التي كانت تأخذها , لم تعد تشعر بالألم , جرد وخزات فقط , شيء يمكنها التعامل معه ..
لم تكن تسمع ما يقولانه لمك وغالية ..
تتوالى على رأسها الذكريات .. كل ما حصل , لمسات مكسيم الدنيئة التي طالت جسدها ..
جلداته النارية , همساته الوقحة , ونصل سكينه الحاد ..
وروز .. تلك التي لا ذنب لها ..
قطبت لتسأل رغم ضعفها
*كيف حال روز .. هل هي بخير ..
طمأنها لمك على الفور متذكرا الفتاة ذات الشعر الأحمر
*بخير لا تقلقي ..
ابتسمت ممتنة , تنظر لغالية تطلب منها
*كيف سأراها .. يجب أن اعتذر منها ..
امتعضت غالية  , و دمدمت غاضبة
*ولم الاعتذار .. لم يحصل لها شيء كالقردة , لا أعرف سبب بقائها في المشفى !
ابتسمت غنجة , لتئن متألمة , فخرج لمك , يطلب من الطبيب الحضور , عله يطمئن على صحتها بعد أن صحت جيدا والحمد لله , ولم ينس أن يمر على الغرفة الثانية ليخبرهم أن غنجة تطلب رؤية روز
كان هما وذهب .. فهي لا زالت بخير , قوية كعادتها وما حصل لن يكسرها ..
ليست غنجة من يكسرها محنة مرت بها ..
......................
*هل جننت !
سألت ميرا بعدم تصديق , فيما عائشة يبدو على وجهها كل الجدية , لتهمس باستخفاف
*لا أعلم سبب مفاجئتك من الأمر !
استنكرت ميرا ما تسمعه , فمن غير الممكن أن تصدق برغبة امرأة أن تزوج زوجها , مجرد الفكرة ..
مجرد الفكرة مزعجة فما بالك بالتنفيذ!
*لا أعتقد أن بإمكاني أن أقترح هذا على مازن ..
نظرت لها عائشة بحاجب مرفوع
*يا سلام , وبدأنا نغار ..
احمرت ميرا من الملاحظة وبررت بارتباك
*لا أقصد شيئا ..
ضحكت عائشة من خجلها
*من حقك أن تحبي مازن لا تخجلي من غيرتك عليه ..
قفزت ميرا في مكانها وقد تمسكت بكلمة عائشة
*أجل .. هذا ما أتحدث عنه , وماذا عن غيرتك أنت !
ابتسمت عائشة بحزن لتهمس
*ومن قال إني لا أغار !
اتسعت عيني ميرا وهي تعجز عن استيعاب الفكرة التي تريد عائشة الوصول لها , وهزت رأسها يائسة لتنهي الحديث
*لا أعلم زوجك وأنت أدرى به !
تنهدت عائشة , نهضت بحذر , دون أن تسمح لميرا بمساعدتها , رغم صعوبة الأمر , لكنها تكره هذا الإحساس بالعجز والضعف , ودخلت غرفتها ببطء , واعية لنظرات ميرا التي تراقبها ..
لم لا يفهمها أحد !
الحياة ليست يوما ولا يومين , ميرا ستتزوج قريبا , وستبقى وحدها مع مناف , قد تمر سنوات وسنوات , كيف سيمضي هذا العمر وحدهما , لما تحرمه من طفل من صلبه ..
لتدعه يتزوج , فلا تحمل ذنب حرمانه طوال عمرها , سيشتاق لطفل , تعلم حتما أنه  سيشتاق , فقد كان سعيدا بحملها أكثر منها نفسها , كانت ترى نظراته لبطنها المسطح , قلقه من أدنى حركة , كم ستكون أنانية لو حرمته .. أنانية ولن تحب نفسها ..
ليتزوج ..
وقفت امام المرآة تنظر لنفسها .. لبطنها الخاوي , تبتسم بمرارة , ليتزوج امرأة كاملة , يشعر بدفئها ..
أغمضت عينيها تحبس الدموع , لن تضعف أمام رفضه ولن تستمتع لكلام ميرا , ولا لكلام أي أحد ..
ستزوجه امرأة تعيش معهما , وستنجب له أطفالا وتربيهم معها , وستطلب منهم أن ينادوها ماما ..
لما عليها أن تحرم من هذا الاسم !
أيا كانت من سيتزوجها مناف لن يظلمها , ولن ينساها , وأطفال ستربيهم لن يتركوها عندما تكبر وتشيخ , سيكون لهما سند , هل حقا مناف لا يريد أن يجد قربه سندا عندما يتقدم به العمر ..
نظرت لعينيها بعمق..
كم سيمر قبل أن يندم ؟ عام .. عامان .. ثلاثة .. إلى متى سيبقى على رفضه ..
لم توجع قلبها بعد أعوام بقراره الزواج , لتدفن هذا الألم باكرا ..
هذا ما يجب أن تفكر به ..
ورغما عنها نزلت دمعتها , فيما هي غارقة في أفكارها , فلم تنتبه لمناف الذي كان يقف على الباب يراقبها , يعلم أين تأخذها أفكارها .. وكم يكرهها حين تفكر بهذه الجدية ..
تخيفه جديتها في هذا الأمر .. خاصة وهي على حق !
ولكن كيف .. كيف سيجرحها بهذا الشكل ألا يكفي فقدانها لطفلها ..
اقترب ببطء حتى وقف خلفها , وضمها برفق يسحبها على صدره , ينظر لوجهها عبر المرآة , وكفه الضخم يمسح بطنها بحنان
*هل تشعرين بألم ..
ابتسمت له غصة لتهز رأسها نافية , فهمس يقبل أذنها
*إذن لما الدموع ..
تنهدت , ليشعر بتنهداتها تخرج من عمق صدرها حارة موجوعة .. ليهمس بخشونة شجية
*قولي ما بك .. ألقي همومك علي ..
رسمت ابتسامة على شفتيها , ونظرت في عمق عينيه لتقول بعزم
*تزوج ..
انتفض , وتوقفت كفه عن الحركة ..
فيما قاوم بشدة أن يديرها نحوه , خشي عليها من غضبه في هذه اللحظة
*عائشة ..
استدارت ببطء لتواجهه , يتغضن وجهها ألما فرق قلبه لها , ليحملها بخفة مراعيا عدم ايذائها , ثم وضعها على السرير , ليجلس قربها ملاصقا لها
*أحقا تطلبين .. أحقا تريدين لامرأة أخرى أن تشاركني معك ..
ابتلعت غصتها , وأومأت رأسها ..
اتسعت فتحتي أنفه غضبا مكتوما , ليزمجر يريد النهوض
*نامي عائشة .. أنت لست طبيعية ..
لكنها نادته بضعف
*مناف ..
وقف لكنه لم ينظر لها , لتهمس باكية رغما عنها
*أنا أحبك ..
التفت لها بعجز ..
*وأنا أحبك..
لكن .. لكنه لا يفكر أن يترك سريرها يوما ليشارك أخرى ليالي من حقها هي ..
كم هو مؤلم أن تكون رغبتك شيئا , وأن يفرض الواقع شيئا آخر ..
*نامي وارتاحي ..
تمددت بضعف , تقاوم ألمها وتراعي جرحها , وهو يراقبها خائفا , يخشى أن تؤذي نفسها , لكنها تمددت بنجاح , ولم يقاوم نفسه , ليعود ويتمدد قربها , مقربا رأسها من صدره
*نامي , علّ النوم يأخذ أفكارك المجنونة .
وأغمضت عينيها ..تؤكد لنفسها .. أن أفكارها أبدا ليست مجنونة ..
......................
كانت تشعر بشيء غير طبيعي , روز كانت متوترة في زيارتها السريعة , تلك التي كانت معها ترمقها بنظرات غريبة وكأنها كائن غريب ..
آه ..
تأوهت دون صوت , فكل جسدها يؤلمها , متى يحين موعد المسكنات , تنتظرها لترتاح قليلا ..
*خالتي ..
كانت غالية قربها , ترمي أصدافها , وتعود تجمعها مجددا بغضب ..
فمازحتها بضعف
*ما بالك تنتقمين من الأصداف ..
لكن غالية زفرت غاضبة , أحجارها الخائنة .. لم تعد تطاوعها , ترى فيها إشارات لا تحبها , عادت ورمتها من جديد , وغنجة تراقبها باهتمام , فعلى ما يبدو أن الشخص الذي ترمي غالية الأصداف لأجله يعنيها أمره .. وابتسمت في سرها مفكرة أنها ربما تحسب للطبيب الذي يعالجها ..
لكن هذه المرة بعثرت غالية الأصداف بهياج , تهتف بها
*أصداف خائنة ..
*ما بك خالتي ؟
سألتي مستغربة حالتها , لتنظر لها غالية بشوق وكأنها لم ترها منذ أعوام , وهبت مقتربة منها بسرعة , لتضم رأسها ذا الضفيرة لصدرها تسألها بقلق
*هل سيأتي يوم وتكرهين فيه غالية وتبتعدين عنها ؟
ضحكت غنجة من سؤالها لترد ببساطة
*أنت كل شيء بالنسبة لي خالتي لما قد أبتعد عنك يوما ..
أطرقت غالية برأسها , وهمست بضعف , قلقة متوترة
*إن علمت يوما أني قد أخطأت بحقك .. هل ستبتعدين؟
استغربت غنجة حالها , فليست غالية من تتوتر هكذا دون سبب , لطالما كانت واثقة قوية , لا تهتم لشيء, واليوم لا تعجبها حالها أبداً
*غالية ما بك ..
ضمتها أكثر حتى كادت تختنق لتهمس بحرقة
*غالية تخشى فراقك ..
لم ترد غنجة , فيبدو أن غالية تمر بإحدى حالاتها العاطفية التي طالما عانت منها وهي طفلة , الحماية الزائدة , الأمومة الخانقة , وهمست تهون على نفسها سرا
(هوني عليكِ غنجة , حالاتها تلك لا تستمر طويلا! )
فسرعان ما تترك لها الحرية , تخبرها أنها لا  تريد حجزها ولا حرمانها من أي شيء !
كمية هائلة من التناقضات هي غالية , لكن ذلك كله رغما عنها ..
أصدافها اللعينة , في كل مرة ترميها , تحذرها من القادم , تحمل إشارات سيئة , لا تعرف ماهيتها , ولا تريحها , وكله متعلق بها , غنجة .. ابنة قلبها كما تقول ..
بل ابنتها , أخذت بيدها وأخذتها معها وسهرت عليها ليلة بليلة حتى شبّت وأصبحت ما هي عليه الآن ..
أبعدتها عن صدرها , تمسك وجهها بين كفيها تتأملها ..
*كم أحبك حد الجنون !
قالتها لغنجة التي ابتسمت بسعادة لترد عليها بحبور
*وأنا أحبك حد الجنون غالية ..
ثم سألت باستدراك
*أين جدي , لم أره ..
أجابت غالية , تشعر بوخزة من كلمة جدي
*سيأتي غدا لزيارتك ..
زمت غنجة شفتيها , وأجبرت نفسها على نسيان ما حصل , تعد نفسها أنه لن يؤثر عليها , مجرد محنة قاسية ومرت , ولن تتكرر , من المؤكد لن تتكرر ..
وقطبت تصلها صوت تنهدات غالية , فحالها لا تعجبها .. هناك شيء ما يؤرقها لا تعرفه ما هو ..
لكن طالما غالية معها , ستجعل من القادم أجمل ..
أم لا !
.............................................

شببت غجريةWhere stories live. Discover now