الفصل الثالث

3.4K 56 2
                                    

الفصل الثالث
انتبهت كل حواسها .. انتفضت على الأصح هو التعبير الصحيح ..
فهي لا تملك رفاهية الانتباه .. فقط الانتفاض .. ألما ..
كانت خطواته المقتربة تثير في قلبها الرعب .. مرتعبة هي نعم .. لأبعد حد , بعد ما حصل بالأمس لا تأتمن ردة فعله ...
ابتعدت لأقصى المكان , تأخذ ما استطاعت من الأنفاس .. تختزن لو أمكن , فمن وقع خطواته البطيئة بدأت تعتقد أنه ينوي سرقة أنفاسها ..
وبالفعل كان هذا ما ينتويه ..
حين رأت ما بيده , هتفت بجزع .. وبصوت لم تجرؤ على رفعه
_ أرجوك لا .. توقف عن فعل ذلك بي وما ذنبي أنا ..
لم يرد .. يبتسم بشر مظهرا صف أسنانه ..
_ ذنبك أن قلت نعم ..
شهقت بالبكاء تستعطفه , رغم عدم جدوى ذلك ولكنها لا تمل التجربة علها تنجح ..
ليتها تنجح ..
لكنها فشلت ..
ومتى نجحت ؟ .. حين رأته يتقدم أكثر وبيده السوط , كم كرهت الجياد .. لم تحبهم يوما , لم تتمكن يوما من ركوبهم . وها هو يعتبرها جواده الخاص ويتفرغ لترويضها ..
رفع السوط عاليا فصرخت تخفي وجهها مترجية
_ أرجوك لا ..
هبط السوط بصوته المرعب لكنه لم يحط على ظهرها كما توقعت .. بل قربها بينما قصف صوته كالرعد يجفلها
_ كنت تعرفين ؟
_ أقسم لك لم أكن أعرف .. لا أحد يعرف ..
التوت شفتيه بقرف منها بينما انحنى بجزعه ليصبح على مستواها ...
حيث كانت على الأرض أمامه تضم جسدها مخفية رأسها بيديها تاركة ظهرها أمامه وبغل مد يديه ليشق الثوب عن ظهره بينما بالكاد صدر عنها شبه صرخة كتمتها خوفا ..
أحس بنبضات قلبها تزداد جنونا وخوفا , مترقبة فسال بتسلية
_ خائفة ؟
ابتلعت ريقها الجاف وكأن حلقها نمت فيه آلاف الأشواك وعجزت عن النطق فهزت رأسها بنعم , مستمرة بالبكاء ..
أحست بإصبعه يسير ببطء على طول عمودها الفقري , متأملا الآثار التي انمحت عنه مخلفة خطوطا ناعمة جدا ...
فقال بأسف
_ لوحاتي لم تعد تبقى لمدة طويلة , هل تفعلين شيئا لتختفي ..
عادت لتهز رأسها بلا ..
ل يرضيه الجواب بينما هوى بكفه على ظهرها لتنتفض وتكتم صرختها بكفها ..
فربت على ظهرها بقوة قائلا باستحسان
_ هذا جيد , حفظت درسك .. لا أصوات , وإلا سيكون رد فعلي سيئا جدا ..
ونهض واقفا بقوة .. فحاولت ولو لمرة أخيرة
_ أرجوك .. ما ذنبي لتفعل ذلك بي ..
رفعت وجهها المليء بالدموع له ..
بدت .. مثيرة للشفقة , لكنه فقط يعجز عن تركها بسلام , يحتاج أن يؤذيها ..
وعليها أن تحتمل , هي زوجته لكي تحتمل , كان عليها توقع ذلك حين قبلت الزواج به , كان بإمكانها الرفض , فأي شيطان دفعها لقول نعم ..
لتحتمل شياطينه ..
حتى هذه اللحظة لا يصدق أنه تزوجها .. هي راميا , تزوجها بكل بساطة ..
لقد طلب غنجة لطالما أرادها زوجة له , تثيره لأبعد حد ..
عاد ليجثو قربها , يقبض على وجهها المجهد بقبضته كلها , حتى كاد يكسر وجنتيها يقول بقسوة , لم تعد تؤلمها نفسيا كما يأمل فقد اعتادت الذل معه حتى ألفته ولم يعد يؤذيها ..
_ لا أعرف لما عليّ الاكتفاء بك ؟ أو الرضا بكونهم اختاروك لي .. باردة , ضعيفة , تشبهين الصبيان .. ..
ربت على خدها المرفوع له بإصبعين .. إصبعين أوجعا خدها المتورم من قبضته أساسا ..
_ إذا اعتقني لوجه الله رجاء .. حبا بالله اعتقني ..
شد شفتيها حتى أطبق فمها متسائلا بغضب
_ أي أفكار غبية واتتك حين قبلت عرضهم بالزواج ؟ ما الذي كنت تريدينه بالضبط..
ترك فمها ليسمع الرد , ولكن الخوف لعب لعبته وعجزت عن النطق ..
لينهض مجددا بعصبية يرفع سوطه عاليا قبل أن ينهال به على جسدها بينما هي بدأت تحتمي ما استطاعت من ضرباته ..
تعطيه ظهرها .. على الأقل تقدر على إخفاء آثاره , أما وجهها فكيف ..
يريد منها الرد ؟ وهل تجرؤ على ذلك !
كيف وافقت إذا كانت هي نفسها لا زالت لا تصدق , لقد جاء والدها يخبرها باختصار أن المجلس رشحها لتكون زوجة مكسيم ..
وهي تستحق ما يجري لها الآن ..
تستحق لخذلانها لمك ..
طعنته في ظهره وتزوجت سواه , فقط لأنها تخاف والدها ولم تجرؤ على قول لا..
وبكل صفاقة ذهبت له تطلب منه أن يوافق على زواجها ..
حتى الآن بعد الزواج لا زالت تحتقر نفسها لتلك الخطوة القذرة منها كما تحسها الآن ..
حتى أنها أعطته ذكرى ..
ذكرى خيانتها وهو لا يزال يحتفظ بها لا تبارح عنقه أبدا لم يحصل أن صادفته بدونها , وكأنه يريد دوما أن يتذكر خيانتها لعهوده ..
يريد أن يذكرها بوضاعتها ...
_ آآآآآآآآآآآه ..
صرخت حين لم تعد قادرة على الاحتمال , لتسقط أرضا تضم جسدها المرضوض المتألم ..
حينها .. حينها فقط اكتفى ورمى السوط من يده قربها , وانحنى حتى جلس قرب وجهها , يبعد شعرها عن وجهها المتعرق الباكي .. شعرة شعرة . ..
على شفتيه ابتسامة قاسية , يمرر ظهر كفه على صفحة خديها ..
ساخرا من دموعها
_ ألم تملي البكاء بعد ؟
وبقسوة دفعها حتى نامت على بطنها , دون أن تقاوم .. فقط حاولت أن توقف بكائها!
اقشعر جلدها من كفه الخشن , يمر بلذة على جروحها الوليدة , وأحست به يميل عليها ..
حتى حطت شفتيه على كتفها يقبلها بهدوء ..
وكفه الأخرى عادت لشعرها تملسه ببطء , بينما عينيه شردتا بالبعيد ..
وكأنه رغم حركاته لا يشعر بها قربه ..
_ ما الذي دفعك في طريقي ؟
سأل وهو شارد الذهن , لا يسمع حتى نشيجها الخافت ..
لا تملك الرد , بينما عقلها يسألها مرارا ..
( لما لا تصاب بالإغماء حين يبدأ )
أليست تلك عادة الفتيات أن يغمى عليهن عند الألم ؟ فلم هي استثناء ؟
ألذلك وضعها القدر في طريقه , لأنها قادرة على التحمل أكثر من سواها ؟
لكنها تعبت بحق ..
توقفت يديه عن الحركة , فتجرأت على الزحف قليلا بعيدا عنه .. محاولة الوقوف بضعف .. تطالعها عينيه القاسيتين , وابتسامته الملتوية ..
وبغرور ناداها
_ راميا تعالي إلي ..
لم تكن قد خطت خطوتين بعيدا عنه , تنوي الذهاب والرثاء على نفسها والتعامل مع آلامها وظهرها المنكوب .. بعد حفلة السوط عليه ..
تبا لها ..
شتمت نفسها بحقد هل حقا اعتادت السوط حتى لم يعد يؤذيها نفسيا ..
لقد بدأت تتعامل مع الأمر باعتياد ..
هل ستعتاده طوال عمرها ؟
استدارت له ببرود , منكسة الرأس
_ أرجوك دعني أذهب ..
ازدادت نظرته قسوة بينما شدد على الأحرف
_ تعالي إلي ..
وببطء .. تقدمت نحوه .. تعرف تماما الآتي ..وستحتمل كما اعتادت ..
اعتادت .. اعتادت ..
ظلت تلك الكلمة تتردد في عقلها طويلا بينما جثت أمامه على ركبتيها تاركة له جسدها الذي رغم ألمه لم يشفع عنده ..
لينهل منه .. ما تبقى من الحياة , مستمتعا بآهاتها حتى لو كانت ألما ..
ليزيدها هادرا
_ تألمي .. وأخبريني ما الذي أوجعك أكثر ..لأسلطه عليها لاحقا ..
وكانت تخبره ... بألم وخنوع ..
.........................
سمعت صوتا من مكان ما ينادي على طلاب السنة الدراسية الأولى , أي سنتها هي , تبعت مصدر الصوت لحيث تجمع عدد ليس بقليل من الطلاب , فوقفت مثلهم , تسمع صوتا رخيما يطالبهم بالهدوء متسائلا إن كان قد تمكن من جمع أكبر عدد ممكن منهم ..
وبعد أن هدأ الجمع وهي تنتظر ما الذي سيحصل ..
سمعت الصوت ذاته يعرف عن نفسه ..
رئيس الطلبة , في عامه الأخير , وقد خصص هذه الأيام وقته لمساعدة الطلاب المتوافدون جددا ..
منهم من انفض بعد كلامه .. ومنهم اقترب منه وكانت هي بينهم , بالتأكيد لن تسمح لخبرته أن تذهب بعيدا عنها , هي بحاجة لكل مساعدة قد تجدها هنا , ولن توفر فرصة للطلب ..
وبالتأكيد لن تفشل وتعطي لمك فرصة للتقليل من شأنها ..
استمعت لأسئلة الجدد مثلها , وتلقفت بامتنان الإجابات كلها , منها ما سارعت لتسجيله خوفا من نسيانه ومنه ما كان بسيطا تمكنت من حفظه متأكدة من عدم نسيانه ..
وما أن بدأ العدد يقل أكثر .. حتى سمعت الصوت يسألها
_ أنت جديدة هنا يا آنسة ؟
تلبسها الخجل ! الشيء النادر الحدوث طبعا ..
فهزت رأسها بالإيجاب , غير مرتاحة لنظراته التي مسحت ثيابها بعدم رضا على ما يبدو ..
لكنه عرف عن نفس باختصار
_ محمد الإدريسي .. هل أنهيت تسجيلك ؟
عضت شفتها لتخرج ملفها تناوله له
_ بقي فقط القليل ..
تناوله منها عابسا , ينظر للأوراق ليشير لها _ تعالي معي .. هذه الأوراق يجب أن تكون منتهية منذ وقت ..
وتبعته بقلب خائف من كلماته هل يعقل أنها ستخسر تسجيلها , أحس بقلقها من عينيها فطمئنها دون أن يبتسم
_ لا تقلقي أمور روتينية فقط دقائق وننهيها ..
هزت رأسها مبتسمة بامتنان له
_ شكرا لك ..
وبالفعل خلال نصف ساعة كان كل شيء قد انتهى , وأكملا تعارفهما على بعض ..
_ تبدين مرتبكة , استرخي ..
جلست معه على طاولة جانبية في مقهى الجامعة , وبعد أن ألقت نظرة على محتويات حقيبتها من المال طلبت لنفسها القهوة .. الشيء الوحيد الذي عرفت ما هو على القائمة التي بيدها , بينما طلبنا مشروبا قطبت لاسمه لكنها لم تهتم ..
واعيا تماما للهجتها المحببة الغريبة .. والدافئة ...
لم تنظر حولها ولم تهتم كان كل اهتمامها مركزا على الورقة التي قدمها لها , والتي بها الجدول الأساسي لحصصها ..
_ أنا مسترخية ومتحمسة جدا ..
تناول عصيره المفضل من خليط الفواكه , متمنيا
_ الوافدون دائما متحمسون أتمنى أن تظلي على هذا الحماس ..
_ سأبقى ..
أكدت بعزم جعل حاجبه يرتفع بينما رشفت من قهوتها الساخنة من فورها ..
غير متأثرة من الحرارة كما بدا له بل بدت مستلذة بالنار !
_ إذا أنت من الغجر ..
احتدت نظراتها لتقطب حاجبيها متسائلة بتحفز
_ هل تسأل بقصد الإهانة ..
نفخ بملل يعدل جلسته موضحا
_ بل أكمل تعارفنا يا آنسة ..
عادت لتسترخي مع ابتسامة جذابة مجددا
_ نعم من الغجر .. لقد وافق مجلس المدينة على بقائنا هنا .. سنقيم عدة مهرجانات في المدينة ..
مال رأسه مستفهما
_ مهرجانات رقص ؟
فأيدته بفخر
_ رقص وغناء , وكل شيء ترفيهي يخطر في بالك , لدينا سيرك متنقل , وبعض الحيوانات ..
_ حقا !
سال متعجبا لتضحك منه
_ نعم لدينا أسد ضخم لكنه عجوز للصراحة , وثعبان ضخم وهو من اختصاص مكسيم .. والأسد يتعامل معه لمك كما أتعامل مع كلبي كنج ..
ضحكت من حاجبيه المرتفعين عجبا
_ لا تقلق فالثعبان تم التخلص من أنيابه السامة ... كان ذلك فكرة جدي ..
تساءل بدافع الفضول
_ ورمي الخناجر أليس ضمن عروضكم ..
_ بالطبع ...
أكدت له بينما تقرأ الورقة أمامها غير منتبهة لملامح وجهه الحذرة المتسائلة إن كان عليه البقاء أم الفرار هربا من هنا !
_ لكن الخناجر تحتاج لمختص خبير بها لذلك هي من اختصاص ديسم ..
فقال متفاجئا
_ اسمه ديسم !
قطبت مفكرة للحظات
_ منذ أن عرفته وهم ينادونه ديسم ربما لم يكن اسمه ..
_ اسمك مميز ..
علق بذلك بعد فترة صمت , خاصة صمتها عن أمجاد قبيلتها ومكان تواجدهم .
لم يبدو عليها أنها سمعته بالأصل بينما لا زالت غارقة في الأوراق التي منحها لها , فحاول شد انتباهها له
_ إن احتجت أي شيء ما عليك سوى طلبه مني .. وعلى كل حال فأنت بت تعرفين مكتبي وحيث من الممكن أن أكون ..
ونهض ينوي المغادرة متوقعا على الأقل أن تناديه لتطلب منه رقم هاتفه , ولعجبه ودعته بكلمة بسيطة غير مهتمة لمغادرته ..
أراد أن يلتفت لها ليسألها إن كانت تريد رقمه ولكن كبرياؤه لم يسمح له ليبتعد مفكرا في نفسه ( ما لذي تفكر به ؟ ثعابين وأسود والله أعلم أقل خطأ قد تكون حياتي السبب )
_ لو سمحت .. لو سمحت ..
وتوقف منتبها لفتاة تقترب منه بحذر .. فابتسمت ما أن أصبحت في مداه ..
_ السلام عليكم ..
صوتها ناعم جدا ! هذا ما فكر به وهو يرد السلام , مستغربا تحيتها به رغم كونها غير محجبة من الأصل ..
_ بم أخدمك ؟
أخذت نفسا عميقا , قبل أن تسحب ملفها تقدمه له
_ لدي نقص في التسجيل لا أعرف ما هو ولا أعرف ما عليّ فعله . .. وابن عمي غير متفرغ لي وأخي كالعادة لم يجب !
ابتسم رغما عنه , لكنه أخفى ابتسامته بسرعة من هذه الفتاة يبدو أن الخجل ذهب لحاله بسرعة ..
فتح ملفها يدقق بالأوراق الموجودة فيه ليعلق بعد لحظة
_ لا تقلقي أغلب الحالات التي مرت معي تشبه حالتك ..
وبالفعل خلال وقت قصير كان قد أنهى كل شيء , يعطيها ملفها يلوح لها مودعا , عائدا لعمله ...
وبعد أن ألقت نظرة أخيرة على ما يجب عليها فعله لهذا اليوم ..
كلمت لمك وأخبرته على الوقت الذي ستخرج فيه من هنا ..
وعليه خلال ساعات قليلة كانت منهكة القوى ... يفتك الصداع برأسها ..
فليست معتادة على الساعات الطويلة من الصمت والهدوء وتلقي المعلومات ..
خاصة وأن الدروس هنا تختلف عن دروس الثانوية التي قدمتها السنة الماضية رغم تأخرها بضعة سنوات ..
ما أن لمحت سيارته الضخمة حتى أسرعت الخطى نحوه , لديهما ما يقارب الساعة من الوقت قبل أن يصلا ..
جلست على المقعد قربه ملقية التحية بتعب تتكلم بخفوت
_ فقط دعني أرتاح للحظات لمك ..
لم يرد عليها ..
انطلق بسيارته مبتعدا عن المكان ,, تاركا لها النوم لتنعم به ..
متوقفا للحظة قرب إحدى الصيدليات محضرا أقراصا للصداع , متأكدا أنه سيرافقها في الفترة الأولى حتى تعتاد عليه ..
ليس بهذا السوء ليتركها تتألم رغم كل قراراته ..
لكنها تبقى منهم .. ولن يسمح حتى لشوكة غبية أن تؤذيها ..
ودار بسيارته حول الشارع العام متخذا الطريق الفرعي المؤدي للأرض الواسعة التي يدفعون للبلدية ضريبة عليها ..
لكنه يأمل أن يحسنوا الدخل من المهرجانات وألا سيكون عليهم ترك المكان متابعين مصدر رزقهم ..
_ أووووووووووف ..
تأفف بتعب من هذا الهم الذي قبع على صدره ..
.............................
_ هل لي أن اعرف لما ترافقها في كل خطوة ؟
كان هذا السؤال الغاضب من مكسيم . ..
الذي ما زال منتظرا منذ وقت طويل , ينتظر عودتهما , أغمضت غنجة عينيها بملل منه , هذا ما كان ينقصها , أن يتدخل مكسيم بحياتها !
وما الذي يعنيه من يرافقها وإلى أين !
_ وما شأنك أنت ؟ لا تدخل بحياتي هل فهمت ..
ردت عليه بثورة ترفع أصبعها محذرة في وجهه ..
بينما هب لمك من مقعده بعد أن أطفأ محرك سيارته , متجها نحوها لينزل إصبعها , يرسل لها نظرات محذرة , قبل أن يطلب منها بحزم أن تغادر من هنا ..
نظرت له بغضب ولكنها لم تجرؤ على إثارة غضبه , مضطرة على تنفيذ ما يريد ..
وكم تكره هي ذلك .. كم تكره أن تحتاج أحدهم لدرجة أن تمتثل لأوامره فما بالها لو كان هذا الشخص هو لمك !
صفر مكسيم بإعجاب وهي تبتعد ليصفق بيديه للمك الذي كان ينظر له بقرف واضح ... وكره عميق..
_ كم هذا مؤثر ! لمك العظيم يسيطر على المتمردة المغناج !
كلامه الساخر المستفز , الذي يقصد به إثارة لمك , كان خانقا .. ثقيلا على قلب لمك لكنه ابتسم .. بل كشر على الأغلب
_ لا شأن لك بما يجري , ابق بعيدا وحسب ..
لكنه لم يكن مستعدا لذلك .. لا يريد .. يكاد يموت من الغيظ بينما يرى أوقاتهما معا تزداد ليهدر ضاحكا باستهزاء
_ هل تخاف أن أتدخل وآخذها منك ؟
التوت شفتي لمك لكنه لم يلتفت له
_ وهل تقدر ؟
سأله بعدم اكتراث , يعلم تماما كما يعلم الجميع برفضها له ... وحتى أمام المجلس رفضت وبإصرار وأقامت الدنيا يومها .. حتى انتهى قرار المجلس بتزويجه راميا..
يبدو أن رفضها له لا يزال له ذات التأثير المدمر عليه ..
فها هو قد صرخ بأعلى صوته ..
_ ستندم ذات يوم .. أقسم لك أن أجعلها تندم حتى على يوم مولدها .
التفت له لمك بتحفز .. عينيه تشتعلان تحذيرا صامتا .. ليقترب خطوتين هادرتين قابضا على قميصه المفتوح
_ تجرأ وقل كلاما كهذا مجددا .. ولن أكون مسئولا أبدا عن تصرفي صدقني ..
ودفعه باشمئزاز بعيدا عنه ليتعثر عدة خطوات قبل أن يسيطر على توازنه , عينيه مركزتان على ظهر لمك ...
يلهث بصوت مسموع ..
يبتسم بقسوة .. بينما النار تزداد ضراوة في صدره ..
مصدرا أعظم الأيمان ... سيذيقها المرار ... وهذا الحامي لن يكون موجودا ليرد عنها انتقامه ...
ليس هو من يقال له لا .. وأمام المجلس ..
ليس هو ..
مسح فمه بظاهر كفه ليدير ظهره متجها لأقفاص الحيوانات في الخلف , حيث يقبع ثعبانه الضخم ..
اقترب منه ليلقي له من السلة قربه طعامه ..يسأله بهمس
_ جائع ؟
رمى قطعة ثانية أقل حجما ..
_ وستجوع كثيرا .. أحضر لك وليمة .. ضخمة .. جدا ....
وغادر بينما الثعبان محتجا على القلة ...
...................
...................
منذ أن تركتهما وهي تحترق على نار تريد أن تعرف ما الذي يجري ..
آخر ما ينقصها أن يتدخل مكسيم في هذا المرحلة من حياتها ..
اللعنة على ذلك , يجب أن تثبت قدميها على بر آمن , لن تبقى على قلقها طوال الأيام القادمة , يجب القيام بشيء ..
تجاهلت نداء غالية لها لتناول الطعام بل بادرتها
_ هل جدي في مجلسه ؟
لم ترد غالية بينما رفعت فستانها الواسع وثبتته بعقدة على خصرها
_ تعالي كلي , خرجت دون طعام وعدت ولم تطلب شيئا لتأكليه ..
نفخت غنجة بسأم تعرف أنها لن تنجو من تسلط غالية على الطعام فجلست بهدوء على الأرض أمامها تتناول منها صحنها لتأكل بضعة لقيمات لم ترضي غالية لكنها أسكتتها لتسأل من جديد عن مكان الشيخ رجب ..
لم ترتح غالية لمنظرها القلق... فسألتها ..
_ من باب التغيير أخبريني ما بك ..
تنهدت بحنق تضع صحنها أرضا
_ إنه مكسيم , لن يرتاح حتى يحرمني جامعتي , يصر على التدخل في كل شؤوني؟
استفزت حواس غالية التي سألت
_ أي شؤون يا فتاة ؟
وباستياء .. قصت عليها ما حصل معها حتى اللحظة التي طلب فيها لمك المغادرة..
هزت غالية رأسها دون أن تعلق بشيء ..
إلا أن نظرة عينيها الحازمة أدخلت السرور لقلب غنجة , فأدركت ولا شك أنها كسبت غالية مهما فعل مكسيم وذلك يعني كسب الشيخ رجب وما بقي ؟؟ فقط بضعة دموع وليحترق مكسيم بغيظه طول عمره ..
.................
أزعجه صوت الضجيج في الخارج حتى بدا عاجزا عن التركيز في الدروس التي يحضرها للغد ..
فأدرك ولا بد أن نيمار ولا بد قادم , فصفاء لا تبدأ حملة الترتيب والاهتمام بكل شيء إلا حينما يكون نيمار قادم لهنا ..
وبالفعل دقائق فقط مرت قبل أن تفتح الباب
_مالك هلا فرغت نفسك بعد قليل ؟ نيمار سيأتي ووالدي كعادته غارق في مكتبه وأريدك أن تجالسه قبل العشاء .
ابتسم لها بطيب خاطر
_ بالطبع فقط أنهي ما بيدي وأستعد ..
أرسلت له قبلة هوائية لتغلق الباب شاكرة , بينما تنادي بعلو صوتها لأمها أنها ستذهب لتستعد .. وهذا يعني نصف ساعة طالما أنها مستعجلة وجدا على ما يبدو !
تعالى رنين هاتفه مجددا فأغلق الخط بملل ..
ربما كان مخطئا في التدخل بما يتعلق بروز ؟
لكنه لم يفعل ذلك حبا بها كما فهمت من الأمر , بل فعله خوفا عليها لأنها ابنة عمه
وها هو يحاول جاهدا جعلها تفهم الفرق بين الاهتمام والحب .
دون أمل كما يبدو ..
فكر مبتسما ( ربما حين تخرج صفاء من غرفتها بسرعة جاهزة ستتوقف روز عن الغباء باعتقادها أنه يحبها !)
ولعجبه بدا أن الاثنتين بعيدتا التحقيق فضحك بتسلية حقا منهما ..
وترك ما بيده مودعا التركيز ربما حتى انتهاء زيارة نيمار ..
لقد بات زواج صفاء أقرب ..
كل يوم أقرب ..
نهض متوجها نحو الحمام الملحق بغرفته لينعش جسده المنهك من الجلوس لمدة طويلة ..
مختارا ملابس أنيقة تناسب العشاء فصفاء لن تسامحه لو قرر الخروج بشكل عادي أو كما تسميه هي ( غير لائق )
أنهى استعداده وتصفيف شعره , ليخرج من الغرفة يقابل أمه التي كانت كالنحلة تنتقل من مكان لمكان متأكدة من ترتيب السفرة فعلق
_ إنها رائعة يا أمي , كفي عن القلق ..
ابتسمت له ,لتقترب وتعدل له من قميصه مداعبة خده بحب
_ لا أملك ألا أقلق أنت تعرف صفاء وهوسها وكما أن نيمار يحضر معه ضيفا كذلك ..
قطب متسائلا
_ لم تخبرني صفاء عن وجود ضيف ..
أخرج هاتفه من جيبه متابعا
_ ربما يجب أن نطلب من أبي الحضور ..
منعته من استخدام الهاتف
_ والدك فعلا على وشك الوصول , كما أن ضيف نيمار قريبة له وليس رجلا ..
ارتفع حاجبه بعجب لمجرد ذكر اسم نيمار وبجانبه شيء مؤنث , وأخته صفاء لم تشعل النيران بعد ! فعلا هذا يوم مشهود !
وكأن أمه قرأت ما يدور في رأسه فهمست بعد أن ألقت نظرة سريعة على باب غرفة ابنتها
_ صفاء قاب قوسين من الانفجار , اعتمد عليك في جمع الأشلاء ..
عض شفته ليمنع ضحكته
_ وكيف سأجمع الأشلاء أمي ؟
_ الأمر بسيط ... ركز على الفتاة ...
ارتفع حاجبيه عجبا من كلام أمه ..
ودون أن يجد فرصة لإبداء استيائه كان صوت الجرس ينذر بوصول الضيوف , لتهب صفاء من غرفتها بكامل أناقتها كأميرة , ترفل بثوبها العاجي , وشعرها المسدول بأناقة على جانب كتفها لتطلب منه
_ مالك افتح أنت الباب ..
وما أن خطى خطوة حتى كانت تركض له لترش عليه من عطر نيمار الذي أحضرته له كهدية , وعلى ما يبدو .. أصبح هدية لمالك ..
فلم يعترض , إنما تقبل الأمر دون نقاش , ليفتح الباب مرحبا بـ نيمار والساحرة التي معه ! !
ستجن صفاء ما أن تراها ..
كانت أول فكرة خطرت له , وهو يبتسم لهما يدعوهما للدخول ..
وبالفعل ...
ضربت رائحة عطرها النفاذة أنفه , ليجعده بانزعاج مقاوما العطس بأعجوبة , معدلا فكرته الأولى , هي مجرد ساحرة إلا ربع , فقد سرق هذا العطر الموجع للرأس نصف السحر ..
وعليه هو العبد المسكين أن يهتم بها قبل أن تشعل صفاء النيران بها , وللحظ السيئ ربما كان عطرها يساعد على الاشتعال ..
( يا سلام )
همس لنفسه بقنوط ولم ينتبه إلا على صوت أمه تناديه
_ تعال يا مالك لما تقف عندك ..
لعن غبائه , الذي جعله يقف كالمعتوه عند الباب , ولم ينقذه من الإحراج إلا وصول والده , ليبدو وكأنه كان ينتظره , ولم يرد أن يغلق الباب في وجهه ...
فرحب به ليدخل معه يستقبلا الضيوف كما يجب ويستمتعان بالعشاء ..
رغم الذرات السلبية الخارج من صفاء .. والمبتسمة بتعاطف معها من نيمار ..
مر العشاء وكأنه ساحة حرب نظرات ..
مما جعله يفكر أن هذه الغيرة الزائدة من قبل صفاء ستؤثر على صحتها حقا !
خاصة مع ابتسامتها المجاملة بامتياز ..
حسنا لو كان هو مكان الفتاة لغادر محتفظا بكرامته ..
أخفى ضحكته بيده متظاهرا الانشغال بالطعام , خاصة بعد حديث سوق الأعمال الذي دخل به والده مع نيمار , ومع صفاء التي شاركت بالقدر الذي تعرف منه ..
بينما انشغلت أمه بتدليل الجميع وملأ صحونهم الفارغة ..
_ أختك جميلة و نيمار محظوظ بها ..
وصله صوتها المبحوح بلكنته الغريبة , فالتفت لها بعد أن تجاهل وجودها هنا ..
ليبتسم مجاملا ..
لم تكن نوعه المفضل ... شبيهة بروز لكنها شقراء , أما من حيث اللباس ..
حسنا روز أفضل منها قليلا لكنهما متشابهتان به ..
تمتم بالشكر متمنيا لها المثل فيما بعد ..
فهزت كتفها الظاهر بعدم اكتراث
_ لا . . لن أفكر بالزواج أبدا ..
صفر بخفوت يهز رأسه يوافقها
_ نعم أنت محقة , لا تكوني كباقي الفتيات وتفكرين بالزواج .
نظرت له بسرعة وقد اهتزت حدقتي عينيها وكأن جوابه لم يعجبها لكنها تماسكت بسرعة جعلته يبتسم لنفسه متسائلا وهل قالت أمه اهتم بالضيفة من فراغ ؟
_ وهل هناك من يستحقني ؟
سألته بغرور ليرد مجاريا إياها بالحديث وقد مال نحوها وارتسمت على ملامحه التسلية .. والمكر ..
متعمدا تأملها من رأسها حتى قدميها , دون خجل , فقد كانت تعرض كل شيء والتظاهر بالخجل سيكون ... مهزلة ..
_ خسارة فيك أي رجل في الكون ..
قالها بهمس أجش بعد أن أنهى جولة عينيه عليها من شعرها الأشقر المرفوع بطريقة طبيعية جعلته يبدو مميزا وعينيها الواسعة السوداء ورموشها الكثيفة الأمر المتعارض مع شقارها .. فلم يتمالك أن يسأل بفضول
_ شعرك أشقر بالطبيعة أم صباغ ؟
أحست بالحرج حقا .. لكنها أجابت بثقة .
_ بل طبيعي , لكني أفتقر للعيون الملونة ..
أعجبه احمرار خديها فقد بدا الأمر ممتعا لتبعد عينيها عنه متلاعبة بطعامها
_ لم تسألني عن اسمي ..
تأوه مالك بخفوت ليقول هامسا بعبث
_ إنه إهمال بالغ مني ... ما اسمك جميلتي ؟
لم تقاوم أن تبتسم ... ورغما عنه .. أعجبته ابتسامتها الناعمة وقد ظهرت غمازة صغيرة على خدها زادتها سحرا
_ جميلة ..
أكد قائلا
_ أنت تعرفين أنك جميلة ..
عضت شفتها لغزله الصريح , لتصحح له
_ أقصد أن اسمي هو جميلة ..
اتسعت عينيه دهشة , ينظر لها محاولا استيعاب اسمها , حاول وضع اسم استعراضي لها .. فاجأته حقا ..
مد يده يصافحها متجاهلا استغراب من حوله
_ وأنا مالك ...
صافحته مبتسمة .. ليدخلا بحديث مطول يتعرفان فيه على بعضهما ..
وأخيرا !
همستها صفاء صمتا دون صوت وقد تمكنت من التنهد راحة وأخيرا ..
والتفتت نحو نيمار الغارق في الحديث مع والدها .. والآن في هذه اللحظة لم يعجبها انشغاله !
فلم تتمالك نفسها وقاطعت حديثه معه ..
وقال بصوت مسموع
_ انظر يبدو أن قريبتك وأخي سيتفقان ..
لم يغفل نيمار عن محاولتها , وما تلمح له , وتسعى له حتى ..
والأمر جعله يشعر بالضيق ..
فابتسم مجاملا لها ليقترب هامسا قرب أذنها
_ صفاء .. هلا توقفت عن هذه الحركات ؟
ارتبكت وحارت عما ترد , ليثبت عينيها بعينيها متكلما بحزم أزعجها
_ تلك الغيرة ..
وسكت قليلا يأخذ نفسا عميقا يزفره على بطء , وقد غضب حقا من تصرفها هذا ليقول محاولا قدر الإمكان تمالك أعصابه
_ صفاء .. فقط لا داعي لهذه الغيرة ! أنا أحبك أنت , ألا يكفيك هذا ؟
_ أنا ..

شببت غجريةWhere stories live. Discover now