الفصل الخامس عشر

2K 57 2
                                    


الفصل الخامس عشر
.................
بعد أن أكد على لمك ألا يغفل ولو لثانية عن غالية , ترك الغرفة التي تحولت لسجن بالنسبة لها , فخلال الساعات القليلة الماضية حاولت إقناعه بكل الطرق والوسائل ليهربوا , لكنه اكتفى من الهرب , يكفي السنوات الأولى من حياتها معهم قضوها بالهرب والترحال من مكان لآخر ..
دخل ديسم الغرفة عابس الوجه , ليجدها مكفهرة ..
ما أن رأته حتى هدرت بهما
*خونة .. كلكم خونة تريدون سرقة ابنتي مني ..
طالبها لمك بهدوء ضابطاً انفعاله
*غالية , هل تعتقدين حقا أنه من السهولة علينا أن تتركنا غنجة ؟
هبت على الفور ثائرة
*إذن لنهرب .. لنغادر من هنا أنا وأنتم وهي ..
هدر ديسم وقد عيل صبره من عنادها
*كفا غالية بربك كفى .. أما مللت الهرب .. عائلتها لها كل الحق بها , بأي حق ستحرمينهم منها وقد عرفناهم ... طوال السنوات الماضية كنا نعذر أنفسنا لأننا لا نعرفهم أما الآن .. أما الآن غالية فالأمر غير ممكن ..
ارتدت خطوة للخلف بعينين غارقتين بالدموع ..
تنظر لهما بعدم تصديق .. ديسم ولمك .. الطفلين الذين رعتهما بروحها , يقفان ضدها .. يساعدان في سحب روحها منها ..
ونظرت لغنجة التي لم تصحو بعد من أثر المخدر الذي يسري في عروقها , وركعت على ركبتيها عند رأسها ..
تعيد ضفر الجديلة ..
وكأنها ..
بدت كأنها تفقد صوابها ..
تنهد لمك لا يعرف ماذا عليه أن يفعل ..
بينما يراها تسكب دموعا حارا وكأنها تودع جثمانها !
تهمس بنشيج يسلب القلوب
*صغيرتي .. قولي لهم أنني أمك أنا .. لا تقولي خالتي .. تذبحني يا غجريتي .. أنت ابنتي .. ابنتي .. لمَ لا يفهمون ..
أنهت ضفر شعرها لتضعه برفق وكأنه سيكسر لو عاملته بخشونة , قرب رأسها على الوسادة للحظات , قبل أن تلفه بجنون أعلى رأسها ليحيطه كتاج أسود مجدول
*أنت أميرتي .. لطالما حلمت بك .. جامحة متمردة .. زرعت فيك الكبرة .. جعلت منك سيدة الفتيات في العشيرة .. كنت مهجة الروح ..
وغص صوتها لتغرق في دموعها تدفن وجهها بوسادة غنجة ..
نفخ ديسم يقهر , ليهمس قائلا
*لمك ..
نظر له ليهز رأسه متسائلا ما به..
فلم يبدو على ديسم أنه مرتاح أبدا , وبالفعل قال بإحباط
*كنت في مجلس المدينة ..
اتسعت عيني لمك بذعر , متسائلا بهمس غير مصدق
*هل قدم مروان بلاغا بالأمر ..
نفى ديسم على الفور
*عائلة غنجة لم تفعل شيئا , بل من أجل المهرجان ..
قطب لمك للحظة يستوعب ما يقوله ديسم , ليضرب جبينه وقد تذكر
*تبا .. نسيت كل شيء عنه !
زفر ديسم ليجلس على الكرسي القريب منه
*حسنا , مجلس المدينة لم ينس , ويريدون زيارة الموقع ورؤية ما فعلناه..
رد لمك بقنوط
*ونحن لم نفعل شيئا حتى الآن ..
فكر ديسم لعدة لحظات , ونظر بعزم للمك
*انتبه أنت للأمور هنا جيداً , وأنا سأذهب وابدأ بالعمل ..
تفاجأ لمك
*لكنك لن تقدر وحدك ..
اتسعت ابتسامة ديسم بثقة
*إذن جربني وسترى أن بإمكاني ذلك .. كما لا تنسى , وضعنا الخطوط الأولى لقيام الخيام..
ربت لمك على كتفه برجولة
*أثق بقدرتك , إذا احتجت أي شيء ..
قاطعه ديسم يستعد للمغادرة
*لا , لن أحتاج ..
ونظر نحو غالية وغنجة بنظرة ذات معنى ليفهم لمك بينما يهمس
*حاجتك هنا أهم ..
وتركه وحده ..
لينظر نحو غالية التي هدأت دموعها , لكن همسها لم يهدأ , تغني لها بخفوت شديد , أغنية قديمة اعتادت أن تغنيها وهي صغيرة ..
توقفت عنها منذ سنوات ..
ما الذي ذكرها بها !
( وقالوا الروح .. يوم انها جاتك يا الغالية ما تنرد .. قلت الروح الوليدة وفيها الروح تنرد .. شبّي بقلبي متل النار .. ما اخليك بيوم .. ولا خلي باس يصيبك ..
يوم تقولون هذي مو ولدك .. شو تدرون عن الولد .. هذي الروح ومن غيرها ما تكون .. يالغنجة الكلك سحر ..تيهي وتدللي كله بطوعك والله متل السحر ..
يالغنجة اللي ان عبست تعبس السما .. تغضب تمطر .. تضحك تصحى .. يالغنجة الفيك الروح .. فبعدك والله الروح تروح ..)
لم يملك إلا أن يشفق عليها حقا ..
تنهد من عمق قلبه ليتجه نحوها , يسحبها ليجلس ويضمها لصدره , بدت هزيلة , كبرت في العمر خلال ساعات سنوات !
همس في أذنها مواسيا
*لن نحرمك منها غالية . . إنها غجرية هل نسيتِ ؟
همست بضعف , تحشر نفسها بين ذراعيه كأنها طفلته !
*ليست غجرية .. ليست كذلك ... حتى روحها ..
ضحك لمك بخفوت يذكرها
*أنت من زرعت بها ذلك غالية , لو تركتها تنشأ بيننا بشكل طبيعي لما حصل ما حصل .. كوني صريحة غالية , أنت تشعرين بتأنيب الضمير , لذلك لم تقتلي الفتاة الحضرية في داخلها ..
لم ترد , ليؤكد مبتسما بإدراك
*أنا على حق غالية فلا تنكري ..
لم ترد ..
بل استمرت ببكائها الناعم , لينهضها ويمدد جسدها قرب جسد غنجة على السرير ممازحا
*ها هي ابنتك , من يجرؤ على قول غير ذلك .. ارتاحي قليلا ..
أغمضت عينيها بالفعل تسحب جسدها لها تضمها كما كانت طفلة صغيرة ..
لكنه لم يكن أحمقا ليأمن جانبها وبقي على حذره ..
...................................
دخل الشيخ رجب بعد أن طرق الباب إلى الغرفة , ليجد كما توقع الجميع ينتظره ..
شعر بالخجل من صنيعة يدهم للحظة ..
ولكن كيف يريدون منه ..
يريدون ..
إن كانت مجرد الفكرة تحرق قلبه , فكيف التنفيذ !
ألقى التحية بصوت ضعيف مهزوم ..يرى نظرات الاتهام في عيون الجميع , ولكنه تجاهلها بإصرار ..
رأى نظرات العجب من الحمراء التي كانت في قبضة مكسيم مع غنجة ..
ونظرات حقد كاره من امرأة تقف متحفزة وكأنها هدأت بشق الأنفس ..
وجه نظرة لجميع الحاضرين ليقول بعد نفس طويل
*نعم .. ماذا الآن ..
ليت لمك كان معه , كم يشعر أنه يحتاج روح الشباب به في هذه الاوقات تحديدا , واعترف لنفسه بخيبة ( لقد شخت يا رجب .. شخت ولم تعد حمل الخسارة ... فكيف إذا كانت الخسارة هي غنجة !)
قال مجيد هو الآخر بتنهيدة
*لا أعرف ..
حينها هبت ناهد ولم تعد تحتمل الصمت أكثر ..
*بل تعرفان .. تعرفان جيدا أن ابنة أختي يجب أن تعود لي , أن أعوضها عن كل سنوات عمرها التي عاشتها كالمتشردين ..
*ناهد ..
قصف صوت مروان , وقد استشعر تأهب الشيخ للإهانة الواضحة في كلامها ..
لكنها لم ترجع عن موقفها , تتنفس بقوة وكأنها تصارع ألف ثور ..
*كفا ..
صرخت ترفع إصبعها محذرة في وجه الجميع ..
*كفا .. لن أسكت وأريد ابنة اختي ..
وبقوة تركت المجلس حيث هب على الفور الشيخ رجب يتبعها , مع مالك ومروان ومجيد , والوجهة كانت غرفة غنجة ..
لم يقدروا على منعها , حين اقتحمت الغرفة بقوة دون إنذار ..
وقفت لثانية تنظر للمك الذي وقف متفاجئا من هذا الهجوم ..
وعلى الفور هجمت على غالية التي كانت تفتح عينيها مستغربة هذه الجلبة , فلم تكن مستعدة لسرعة ناهد التي هاجمتها على الفور تسحبها بكل قوة ..
حتى أوقعتها عن السرير تهدر بها
*ابتعدي عنها أيتها السارقة .. ابتعدي عن روان .
لم تعي غالية بعد ما يجري تحاول الوقوف بينما أسرع لمك إليها يساعدها ومالك يحاول إيقاف أمه ..
ولكن هيهات أن يوقف ثائرتها وقد تحملت الصمت كل هذا الوقت دون أن يحركوا ساكنا ...
لذلك ما أن وقفت غالية حتى نفضت كفي مالك عنها بقوة وغضب ..
لتسرع نحوها وبكل غل دفعتها صارخة
*سارقة .. سارقة ..
وباستسلام غريب , تعجب منه لمك والشيخ رجب , لم تقاوم غالية هجومها ..
والجميع يقف مدهوشا من جنون ناهد و ..
وضعف غالية الغريب الذي جعلها ترتد للخلف فاقدة الوعي فيرتطم رأسها بزاوية سرير غنجة !
لم يستوعب أحد ما حصل حتى ناهد ...
تنظر لها وأنفاسها الثائرة لم تهدأ بعد , وعينيها لا تصدقان أن ما يحيط رأس المرأة على الأرض هي بركة دماء !
حتى أبعدها لمك بقوة كادت توقعها أرضا يصرخ عاليا باسم غالية التي لا ترد ..
وبعد وقت ..
كانت ناهد ترتجف تنظر لكفيها بغير تصديق ..
أترد ابنة أختها لتنال هي جريمة قتل !
كم مضى من الوقت لتلك المرأة في الداخل ..
لمَ لا تخرج ويخبرونهم أنها حية ..
ما زالت لا تصدق , كيف هدر مروان بها يحاول سحبها من الغرفة وقد اجتمع الناس , بينما ساعد مالك على الفور لمك في حمل تلك المرأة وطلب طبيب على الفور , ليخرجوها من أمام الشيخ رجب الذي انفعل بشكل لا يصدق بينما عجز عن فعل شيء سوى الصراخ بهم ليخرجوا من الغرفة وقد دمروا هدوء حياتهم مذ دخلوها ...
بينما فتحت غنجة عينيها على الضجة للحظات قبل أن تغمضهما مرة أخرى ..
أصر مروان عليها لتبقى بالغرفة ولا تغادرها أبدا ..
ومجيد بدوره ذهب ليحل المشكلة مع أمن المشفى ..
ومالك ذهب ليقف مع لمك , ينتظر معه خروج الطبيب الذي تأخر ..
لا يعرف لمَ كل هذه الفحوصات ..
مجرد ضربة بسيطة على الرأس ما الذي من الممكن أن يحدث ..لكن ما حصل لم يكن ليتوقعه أحد ..
فقد خرج الطبيب بعد لحظات بوجه عابس غير راض ..
ليعلن بما لا يقبل الشك ...أن غالية لديها ورم في مرحلة متقدمة في المخ , وللأسف فإن الضربة أذته بشكل مباشر .. وفعلوا ما بإمكانهم فعله ..
والباقي فعل الله ..
نظر له لمك لا يستوعب كلماته ليسأل بذعر
*ماتت !
نفى الدكتور بهزة من رأسه بأسف , دون أن يعطيهم أمل بالشفاء
*السيدة كانت ستموت فجأة دون أن تعرفوا شيئا ..
هز لمك رأسه يقول بتعثر في كلماته ..
*كيف .. كيف .. هي لم تكن تعاني من شيء .. لم .. هي .. كانت بخير ..
لكنه لم يرد بشيء سوى بكلمات مقتضبة عن الضربة التي أثرت بشكل مباشر على الورم , ومثل هذه الأورام قد تبقى طويلا حتى تتعرض للخدش حينها تصبح سريعة النمو , لتأخذ الأرواح بسرعة ..
وفي حالة غالية , حتى العلاج تأخر .. تأخر جدا ..
كان مالك ينظر له بعينين متسعتين ..
لا يعرف بما ينطق , بينما انهار الشيخ رجب على الكرسي خلفه مكررا بصوت مسموع
( شخت على الصدمات يا رجب .. شخت على الفقدان ! )
لم يعرف مالك ماذا يفعل ..
مسح وجهه بكفيه ..
وغادر بصمت دون حرف ..
تاركا خلفه , شاباً بعينين دامعتين .. وشيخاً يصارع الفقدان ...
تتردد في ذهنه صرخاته ..
كيف جاؤوا ودمروا هدوء حياتهم ..
أعليهم ذنب ما حصل ..
من المخطئ .. من الجاني ..
كيف .. كيف ..
لا يفهم .. ليته يفهم .. يا ليت ..
دخل عليهم بوجهه المصفر ينظر للجميع بإشفاق وريبة ليهمس بقهر
*ستموت !

نظرت روز لصفاء التي احمرت فجأة لتنفجر بالبكاء , دون أن ينتبه أحد لحالتها ..
فهمست مقتربة منها وقد تخطت صدمتها
*صفاء اهدئي ما بك !
لكن صفاء لم تهدأ يزداد بكائها حتى تحولها نشجها نحيباً , لتهمس روز بعجب
*صفاء!
حينها لم تقاوم صفاء لتقترب منها هامسة بقهر ولم تجد من تشكي له خلال هذه الدوامة التي لا تنتهي
*فسخ نيمار خطبتنا !
وانهارت بين ذراعي روز باكية ..
والعائلة كلها معلقة مع مالك الذي ألقى عليهم الخبر ..
ليهب مجيد ومروان يذهبان للشيخ رجب ..
وجمانة ظلت مع ناهد التي كانت تنظر ليديها وكأنهما مليئتان بالدماء , تحمل ذنب تلك المرأة وهي التي جاءت لتحملها ذنبها !
كيف انقلبت الموازين ..
*كيف حصل جمانة .. كيف أنا لا أفهم ..
همست بذلك لجمانة التي لم تعرف بمَ ترد ..
فقط تنظر لها بمواساة وقد نسي الجميع أمر روان , بينما مصيبة موت تلك المرأة خيمت على رؤوسهم ..
لتقترب روز من صفاء مقطبة بعدم فهم , فهي لا تبدو طبيعية , ومن غير الممكن أن تفسخ خطبتها من نيمار , فهي تحبه بجنون مفطر في الواقع
*صفاء تكلمي جديا ..
لترفع لها وجها محمرا غارقا بالدموع , وقد شحبت وجنتيها وذبلت عينيها
تهتف بقهر وغصة خنقت كلماتها ..
*ومن قال إني لا أتكلم جديا ؟ لقد ترك خاتمه لي .. ولم يهتم حتى بالتكلم معي ..
وأمام نظرات روز المستغربة , رفعت خاتمه الفضي الضخم وقد احتفظت به في جيب سروالها ..
عبست روز بعدم اقتناع وسألت
*هل أنت متأكدة !
حينها همست بعذاب
*وهل هذا أمر أمزح به ..
ألقت روز نظرة على والدتيهما الغارقتان في أفكار لا تعرف عنها شيئا وأنزلت ساقيه لتجلس على طرف السرير مقتربة من كرسي روز , تسألها بخفوت , بينما تجد الأمر عصيا عن التصديق
*اصدقيني القول.. هل فعلت ما يزعجه ..
نضت نظرات الذنب من عيني صفاء , لتعرف روز الإجابة لوحدها , لا داعي أن تسمعها , فمع ذنب كهذا المرتسم على وجه صفاء ..
الأمر حقا يحتاج لوقفة ..
لكن منذ متى كانت روز سيدة العاقلين ؟
لذلك بعزم نظرت نحو صفاء , تضيق عينيها
*هل تحبينه ؟
نظرت لها باستغراب , مؤكدة أن لا شك بذلك ..
فما احتاجت روز سوى ذلك لتقول بثقة مفرطة دون التفكير بالعواقب ..
*اذهبي له .. اذهبي له واصرخي بحبك , كوني مجنونة ولو ليوم واحد وأعيديه لك وبعدها عودي لعقلك المزعج .. لكن لا تخسريه الآن يا صفاء ..
نظرت لها صفاء بأمل وكأنها تحتاج فقط هذه الدفعة نحو الأمام لتفعلها لتكمل روز
*أشعر أنك هذه المرة لو تأخرت ..لن ..
ولم تتركها صفاء تكمل ..
لتهب واقفة بعزم , تخبرها
*سأذهب إليه..
وخرجت من الغرفة مسرعة دون أن ترد حتى على سؤال أمها المستغرب , بينما همست روز لنفسها بسعادة
*لقد سمعت صفاء مني لأول مرة !
وكانت نشوة الفرحة تكفيها لتترك الغرفة بدورها , دون أن ترد كذلك على أمها سوى بإشارة من كفها متجهة لغرفة غنجة .. أو روان !
لم تعرف كيف ستعاملها على أساس قريبتها .. أم صديقتها .. أم ماذا بالضبط !
لكنها تحركت نحو غرفتها بشوق لصديقتها ..
فتحت الباب برهبة ..
لم يكن هناك أحد سواها .. متمددة على سريرها الأبيض بدماغ مشوش ..
ما أن رأتها حتى نادتها بضعف مبتسمة لرؤيتها
*روز .. تعالي تعالي ..
تخلت روز عن ترددها لتدخل , بلباسها المجعد , فلم تسنح لها الفرصة بعد لتبدل ثيابها ..
ونظرت لغنجة بخجل ..
كلتاهما كان الخجل يسيطر عليهما , وقد عادت ذكريات ما حصل لهما كلاهما ..
لكن يبدو أن المواجهة مع بعض لم تكن بهذا السوء أبدا ..
ابتسمت روز بقلق ..
*كيف حالك ؟
ردت غنجة بخفوت , دون أن تتخلى عن خجلها تتذكر بضبابية أن روز رأت كل ثانية من مأساتها !
*اشتقت لك ..
همست غنجة بذلك , لتتسع ابتسامة روزان متخلية عن التردد
*وأنا ..
ودون تفكير همست
*غنجة مكانك ليس بين الغجر , تعالي معنا ..
اتسعت عيني غنجة , ولكنها همست كذلك
*قلت لغالية دوماً أن نسكن في المدينة , فقد كرهت الترحال ..
عضت روز على شفتها وقد تذكرت أمر غالية , لكنها سكتت عن الأمر لتهز كتفيها
*حاولي مرة أخرى ..
وهي تتساءل في سرها , ترى كيف ستكون الأيام القادمة ..
رغم أن كل شيء , بدا واضحا إلا أن الخطوة التالية ما زالت معتمة ومجهولة وكأنها ترفض مجرد الظهور !
قالت غنجة وهي تعدل رقدتها على الفراش لترفع جذعها
*لم أكن أريد أن تكون زيارتكم ...
لكن روز قاطعتها على الفور بنظرات حازمة ..
*لا تتذكري الأمر غنجة , حصل وانتهى ..
وأضافت متذكرة
*أمامنا جامعة تحتاج أن نعود لها وحياة كاملة لنعيشها ..
شاركتها غنجة الضحكة
*أنت حقاً تمنحينني التفاؤل الذي أحتاجه ..
دقت روز على صدرها بمرح ومشاغبة
*في الخدمة دوما آنستي ..
وقطبت تزم شفتيها , لتقترب تسأل بهمس , رغم احمرار وجنتيها , لكنها لم قاوم نفسها لتسأل
*هذا الشاب .. أممم..
ارتفع حاجب غنجة , بينما روز تحمحم بلا سبب , تعدل جلستها , لتعود وتهمس متسائلة دون أن تنظر لعيني غنجة
*هذا لمك ..
وسكتت لتشجعها غنجة بذات الحاجب المرفوع , وقد غلبت لكنتها , تلك اللكنة الغريبة التي تعجب روز , متذكرة كيف نطق بها الشاب بسلاسة ويسر
*ماذا عنه ؟
*أها !
همست غنجة , لتعدل هي كذلك جلستها أكثر وتهمس كذلك دون أن تنظر لصفاء , بينما عقلها اللاوعي يعيد لها صورا لشاب يحملها , خائف عليها ..
ينظر لها بعنين قلقتين ..
شاب سمعت همسه ربما في حلمها , يقول أنها لا تشبه غالية ..
*ومالك .. ماذا عنه ؟
لم تكن إحداهما تنظر للأخرى , بينما ارتفعت الحواجب واتسعت الأعين , لتنظران في نفس الوقت لبعضهما , قبل أن تغرقا في الضحك..
وفكرة غريبة التمعت في ذهن روز ..
فكرة من شأنها أن تخفف حدة المشاكل التي لا تعرف متى ستنتهي ..
لكنها وقفت , لتقول تشبك كفيها مع بعض
*سأعود لاحقا , أـحدثك عن مالك وتحدثينني عن لمك ..
ولكنها زمت شفتيه متذكرة عبوسه الدائم وعنجهيته لتقول بتكشيرة
*رغم كونه يشكل تحديا صعبا ..
لتؤكد غنجة بضحكة ناعمة
*بل تحديا مستحيلا ..
ليرتفع حاجب روز من هذه المستهينة بقدراتها , دون أن ترد ..
لكنها حتى هي شكت في قدراتها حين تذكرت أنها في وقت من الأوقات
حاولت أن تستخدم هذه القدرات للإيقاع بمالك ولم تقدر ..
وقد ظهرت خيبتها على ملامحها لتسمع غنجة تهمس لها
*لا تقلقي .. سأساعدك لإيقاعه , فقد مللت من تحكمه , ربما تمكنت من شغله عني..
*تحكم !
نطقتها روز باستنكار
*هل تقولين لي أنه من النوع المتحكم ..
كتمت غنجة ضحكتها , لتقول كاذبة مفضوحة بضحكها
*لا إطلاقا , إنه غاية في السلاسة في التعامل ..
ولم تدك تنهي كلماتها حتى فتح المذكور الباب بغلظة , مقطب الجبين ..
مستاء كما هو واضح ..
ينظر لروز بعدائية لم يهتم بإخفائها ..
بل وجّه على الفور نظراته لغنجة المبتسمة براحة , فتمكن من كتم غيظه وقلقه فعلى الأقل لم تخبرها كما هو واضح ..
نظرت غنجة لروز تشير له بحاجبها وقد اختار الدخول للحمام لتسمع صوت المياه الجارية تدرك أنه يغسل وجهه وكأنه ينتقم منه ..
*أرأيت بنفسك !
اتوى فك روز ولم تعلق بشيء , فهو لم ينطق بحرف على الأقل , اكتفى بهذه النظرة العابسة واختفى وجسده المتوتر ملأ المكان بالطاقة السلبية على ما يبدو ..
ولوحت بيدها تخرج من الغرفة على أن تعود في وقت لاحق ...
لتترك للمك مهمة مواجهة غنجة , وقد اتفق مع رجب على ما سيقوله لها ..
وكم كانت مهمته عسيرة ..
صعبة .. مفجعة .. مؤلمة ..
............................
دقائق فقط , لتدخل روز الغرفة مرة أخرى عائدة بابتسامة جانبية باهتة , لا تعرف سببها , ليواجهها سؤال أمها الحانق
*لماذا ذهبت !
لكنها لم ترد على السؤال حين رأت العائلة مجتمعة كصورة تكررت كثيرا في الأيام الأخيرة , ووقعت عينيها على مالك , وكأنها وجدت الحل ..
لتبتسم بسعادة تنظر لناهد
*حسنا بعد كل شيء يمكنك الحصول على غنجة دون حرب !
استغرب الجميع قولها حتى مجيد نظر لها محذرا , لتكمل ترفع كتفيها ببساطة
*غنجة مهتمة به ..
وأشارت برأسها لمالك , لتتجه الاعين نحوه ..
بينما هو قطب مستغربا , دون أن يستوعب بعد ما تعنيه ..
حتى سألت ناهد غير مصدقة
*مهتمة بمالك؟ من أي ناحية بالضبط !
شدت روز قامتها بمرح سعيدة بإنجازها البسيط لتقول بلا مبالاة
*مهتمة به .. كرجل !
*لا ..
كانت هذه الـ (لا ) المستنكرة من مالك الذي هب بعينين متسعتين , يرفض ولو مجرد التفكير بالأمر , هذا ما كان ينقصه في الواقع !
ألا تكفيه فتيات عائلة نيمار والآن هذه التي لا يعرف بأي اسم يناديها ..
وانتفض , لا يسمح لنفسه حتى بمجرد طرح الفكرة بينه وبين نفسه
رافضا بما لا يقبل الشك أن يرضخ لنظرات الجميع التي التفتت نحوه بعجب , ثم بأمل وتعاطف !
ليعلن بحزم
*كفى أمي .. في كل مرة تكون هناك امرأة في العائلة يكون مالك هو الرجل الوحيد إما لإلهائها أو الحصول عليها .. لا لالا ..
أما النظرات التي حصل عليه ..
فكلها كانت تخبره بما لا يقبل النقاش ..
أنه سيوافق , سيتقرب منها وسيكسب ودها ..وطالما أنه طريقهم لعودتها للعائلة , فليستعد ليؤدي دوره كأي ابن بار ..
لكنه لم يهتم لهذه النظرات ...
ليخرج من الباب غاضبا يشتم روز في سره . لأنها ألقت هذه الكلمات الغبية بينهم ..
ليلتقي أمام الباب بلمك ..
وتبادل كلاهما النظرات ..
لينظر له لمك بتركيز يشير له برأسه ليجلسا على المقعد المقابل في الممر ..
واتجه مالك معه دون أن ينبسا ببنت شفه حتى !
يجلسان على ذات المقعد ..
نظراتهما للأمام ..
وآلاف الأفكار تعوم في بالهما ..
ولا يجدان طريقة للبوح ..
حتى كسر مالم الصمت المفروض بقوله همسا بتعاطف حقيقي
*آسف لما حصل مع غالية..
لم يرد لمك على الفور , بل تنهد بهم كبير
*إنه قدر .. نحن نؤمن بالقدر ..
لم يملك مالك إلا أن يعلق بخفوت
*كإيمانكم أن بقاء غنجة قدر !
التوت ابتسامة لمك , ولم ينظر له , لن ينكر أبداً أن هذا هو اعتقادهم ..
تلك حقيقة لن ينكرها , بل ويصر عليها ..
ليأتي الشيخ رجب مترنحاً ..
يراهما ساهمان , غير منتبهان حتى لأي شيء حولهما , وكأن هموم الكون قد خطت على وجههما وأثقلت كاهلهما ...
لكن لمك انتبه له ليقفز واقفا على الفور يمسك ذراعه ليجلسه مكانه
*لا تبدو بخير شيخي ..
قال على الفور قلقا من منظر الشيخ رجب , ليجلب انتباه مالك الذي نظر له أيضا منتبها لشحوبه الشديد وكأنه مرهق .. مرهق حد السقوط !
*هل أطلب طبيب؟
سأل على الفور يسند الكهل حتى يلتقط أنفاسه ..
ليرفض بهزة من رأسه ..
يطيل النظر لهما كلاهما ..
مقررا بما لا يقبل الشك ..
*سنغادر المدينة ..
اهتز جسد مالك بالرفض , ولكن قبل أن يعترض , انطلق صوت لمك مستنكرا
*نهرب مجددا شيخي , بأي حجة ..
هز رجب رأسه ينفي قول لمك ..
ليأخذ عدة أنفاس مرهقة ..
*بل لن نهرب أبداً ..
نظر لمك نحوه بشك , اعتقد لوهلة أنه ولا بد , بدأ بالخرف المبكر , فكلماته غير متربطة البتة حتى نطق بعد أن ارتاح للحظات ..
*غالية ستذهب معنا .. بينما أنت لطالما كانت المدينة هوسك , لا تنكر ذلك .. ابقى هنا , مع غنجة , ساعدها حتى تعود لعائلتها .. لا تهم الطريقة ..دعها تجد نفسها , فهي مثلك .. طالما تمردت ..
لم يقل مالك شيئا , كان يستمع بصمت للحوار الغير مترابط , في الواقع الغير منطقي , فما يقوله الكهل يصعب جدا تنفيذه ..
ليؤكد لمك تفكيره حين قال
*وكأن غنجة سترضى بالابتعاد عن غالية يا شيخ !
ابتسم رجب , يهز رأسه بأسف ..
*صدقني أن تبتعدا .. أفضل ألف مرة أن تكرهها ..
ونظر نحو مالك برجاء يطلب منه بعينين ..
عينيه كانتا ينطقا بآلاف الآلام الغائرة وكأنه محكوم بالموت ينتظر التنفيذ ..
*مهما حصل , لا تدعوها تكرهنا .. فقد حافظنا عليها لسنوات , أكثر مما حافظنا على أنفسنا ...
لم يتمكن مالك من الرد بشيء , وهل يملك أن يعده أي شيء ..
والحديث كله تسمعه ناهد التي كانت تقف متكئة على الجدار دون أن ينتبهوا لها ..
حتى أعلن لمك مجادلا الشيخ في قراره لأول مرة في حياته
*لن ترحل عشيرتنا يا شيخ .. لدينا مهرجان يجب أن نقيمه .. غالية من المستحيل أن أسمح بإبعادها عن غنجة , إنك بذلك تسلب روحها .. أما غنجة أو روان أو أيا كانت , ستبقى ابنتنا .. سنجد حلا لا نخسرها فيه ..
لم يبدو على الشيخ الاقتناع بكلامه , وكأن ما يقوله لمك , شيئا من الخيال لن يسهل تنفيذه وقال بقهر
*بضعة أيام فقط , مكسيم قتلناه .. غالية على فراش الموت .. وغنجة خسرناها .. هل نبقى لنحصد مزيدا من الخسارات يا لمك؟
*لن يكون هناك خسارات يا شيخي ثق بي .. أتوسل إليك ثق بي , لكن ليس من العدل أن تقهر غالية .. ليس ذنبها أنها لم تقاوم أن تحصل على أمومتها ولو على حساب غيرها .. ألا تذكر يا شيخ. . كنت طفلا ولكن أذكر كم نبذتموها , وحاولتم ثنيها , بينما الصغيرة كانت تغرس نفسها في قلوبكم حتى أصبحت شيئا مسلما به ..
أذكر ذلك جيدا يا شيخ .. أحقا يمكنك أن تبتعد عن طفلتك .. الوحيدة التي نادتك جدي!
لم يعلق الشيخ رجب بشيء , بينما نظراته حكت عشرات القصص  , تستعيد لحظة بلحظة كل كلمة قالها لمك ..
حينها لم يجد مالك نفسه سوى يقول وقد أخذته المشاعر , بينما وجد نفسه في معركة لن يخرج أحد منها رابح , وكلمات روز الغبية تتردد في ذهنه ..
أن غنجة تلك تهتم به كرجل .. تهتم به ..
لمَ لا ينهي ما يحصل ولتكن الكلمة الفاصلة له ..
يكره كثيرا أن يرى رجلا مكسورا .. تماما كما يرى الشيخ رجب أمامه ..
*روان ابنة خالتي يا شيخ ..
نظر له رجب بعجب , مستغربا السهولة التي ينطق بها اسم روان ..
ولمك كذلك نظر له بترقب ينتظر بفارغ الصبر أن يقول ما عنده ليكمل
*لن نخسر روان بسحبها من محيطها الذي نشأت فيه دفعة واحدة .. ستكرهكم , ولن تقبلنا .. وستضيع تماما ..
*ما الذي تريد الوصول له ؟
سأله لمك مستعجلا منه القول بما يفكر به ..
ليقول بثقة
*لتبقوا .. لكننا نريد غنجة قريبة منا..
*وأنا موافقة على كل ما يراه مالك صحيحا ..
خرج الصوت المهتز من ناهد التي انتهت من دور المراقبة , وتقدمت بخطى مترنحة من فرط ما مرت به في هذه الساعات الماضية من إرهاق ..
لتجد نفسها , توافق على كلام مالك ..
لا تريد أن تخسر روان باندفاعها , يكفيها أن تراها أمامها بكل خير ..
يكفيها أن وجدتها ..
حينها أشار مالك للمك كي يساعده , ونقل الشيخ رجب لغرفة غنجة يمددانه على السرير المجاور لها , بينما مالك يخبرهم بما سيفعلونه خلال الأيام القليلة القادمة ...
.................
انتظرت صفاء وقتاً طويلا , أمام بيت عائلته ...
تعلم تماما أنه بعد يوم عمل طويل يعود لبيت أهله , وقليلا ما يذهب لشقته , بيت الزوجية , كما فكرت يائسة .. لقد اختارت معه كل شيء !
أي غباء تلبسها حقاً ..
ببساطة وكالحمقاء , تركت كل شيء خلفها وذهبت , لتخسر معركتها دون  حرب حتى  , هل كانت من الغباء لتقع في نفس الخطأ مرتين !
ولكن يبدو أنها كذلك حقاً ..
نظرت للساعة وقد تعبت من الانتظار , لقد مرت نصف ساعة على موعد عودته ..
والجولة التي ذهب للقيام بها في العمل إن طالت لن تأخذ من وقته كل هذا ..
قطبت مستاءة تتساءل بغيرة ( أين ذهب كل هذا الوق )
وجلست أرضا , يعلو وجهها العبوس ..
من يراها لن يصدق أبدا أن هذه الفتاة العادية اللباس والوجه هي نفسها خطيبة نيمار المتأنقة الراقية التي لا توجد شعرة في رأسها تجرؤ على ألا تكون مكانها !
روز على حق ..
لن تخسر نيمار .. ليس وهي تحبه .. لا يمكنها التفكير بخسارته , في المرة الأولى لم تكن تحبه هذا الحد من الجنون , ومع ذلك كانت تغار عليه , لكن هذه المرة عادت الغيرة مصطحبة معها حباً أحمقاً أعمى متملكا لأبعد حد ...
نظرت للساعة مرة أخرى ..
ها قد مرت عشر دقائق أخرى ..
لم ترفع عينيها لتنظر حولها , تنتظر أن تسمع صوت سيارته ..
في الواقع هي تجلس تماما حيث يجب أن يمر ليركن سيارته !
فبذلك لن تضيعه أبدا ولن يملك فرصة للتهرب ..
وفي انتظارها لم تره ..
لم تره حيث وقف بعيداً وقد رآها ..
بداية توقف فجأة لا يصدق ما يراه , كانت تقف متململة منتظرة ..
تنظر لساعتها كل حين ..
مسح وجهه بكفيه لينظر مجددا , يتأكد أنها هي وأنه لا يتوهم ذلك ..
لذلك شك بعينيه , توقع أنه مجرد سراب ..
جرحته حقا بقدرتها على احتمال البعد يومين , وهو الذي نال منه الشوق منذ اليوم الأول , فكيف تمكنت من التحمل ..
اطفأ محرك سيارته ووقف يراقب كم من الوقت ستتحمل انتظاره , لقد احتمل يومين و فكم ستحتمل هي يا ترى ..
اتسعت عينيه حين رآها تجلس أرضا ..
ليقطب مفكرا إن كانت بخير !
فصفاء التي يعرفها من المستحيل أن تفعل ذلك في الشارع , ربما في حديقة بيتهم , حيث لا يراها أحد وتختلف تماما عمن تكون   في الخارج ..
لكن هكذا !
وفعلا لم تكن طبيعية , فها هي تمسح وجهها بكفيها بقسوة..
ليست صفاء من تعامل بشرتها بهذه الخشونة خاصة وهي ..
وهي تبكي !
حينها لعن كبرياؤه وكل شيء يتعلق به ونزل يتجه نحوها بخطوات مهلكة من الشوق والقلق ..
كم يؤلمه رؤية دموعها ..
حتى وصل لها تسبقه دقات قلبه الملتاع لدموعها ...
وأنفاسه الثائرة شوقا وحرمانا ..
كانت شهية ..
توقفت خطواته الراكضة أمامها تماما!
لتنشج ببطء وهي ترفع رأسها تنظر بدءا من الحذاء اللامع , حتى البنطال المكوي بمهارة , لتكمل نظراتها طريقها على الجسد الرجولي الذي وقف أمامها حتى التقت عينيها بعينه لتهمس ببحة
*نيمار !
لم يرد  , لتقف على الفور مرتبكة , تمسح دموعها  بكف و الأخرى تنفض ما علق ببنطالها من غبار !
ليرتفع حاجبه بغرور , مقاوما نفسه بصعوبة من ضمها لصدره , واضعا كفيه بجيوبه حتى يمنعها من مسح الدموع التي أحرقت قلبه , كما أحرقت عيونها المحمرة ..
حين لم يقل شيئا وقفت مرتبكة لا تعرف ما تبدأ به حديثها وقد ضاعت كلمات الموشح الذي قضت الوقت تفكر بقولها له حتى أبكتها الكلمات ..
وها هي الآن ببساطة تنساها , لتهمس بغباء
*لم أسمع صوت سيارتك ..
أشار برأسه إلى حيث ركن سيارته قبل لحظات , فهزت رأسها بنعم لا تعرف لماذا..
كان ينظر لها بتحدي , يقسم بالله أنه ينتظر فقط إشارة منها ..
همست بضعف جعل قلبه يرق عليها
*أيمكننا أن نتحدث ..
رأت فكه يلتوي بسخرية فأضافت متوسلة بصوت خافت
*أرجوك ..
تنهد بصوت مسموع لينظر حوله ..
ثم اتجه بعدها نحو حديقة البناء الخاصة , والتي كانت خالية تماما في  هذا الوقت ..
فأغلب سكان البناية يعتبرون هذا الوقت وقتا للغداء واستراحة الظهر ..
واختار إحدى الزوايا المنعزلة وهي تتبعه صامتة تخطط في عقلها لما ستقوله ..
حتى أنها لم تنتبه أنه التفتت لها وتوقف فجأة حتى اصطدمت به , وكادت تقع متأوهة لولا كفه القوي الذي أمسكها على الفور ..
دلكت جبينها بألم تنظر له مبتسمة من طرافة الموقف لكنه لم يبتسم , يراقب أصابعها بتدقيق مزعج ..
فأنزلت كفها , لتمد يدها في جيبها وتخرج خاتمه ..
وقالت بهذر سخيف , محاولة تخفيف الموقف وكأنه لم يكن ..
*يبدو أنك أضعته وها قد عاد ..
وبمرح مصطنع كاذب قلق كشفه على الفور حاولت سحب كفه لتعيده ..
لكنها لم تتمكن من زحزحة  كفه ولو قيد شعرة لتسمعه يقول ببرود أثار موجة صقيع في جسدها وروحها على السواء
*أهذا ما تقدرين عليه صفاء ؟ تحويل الجد لهذر !
لم تقو على النظر في عينيه , بقيت نظراتها معلقة بيده الضخمة التي لم تقدر كفها الصغيرة على تحريكها وخاتمه المعلق بين أصابع كفها الأخرى ..
وبعنف أبعد كفه عنها , لتشهق متفاجئة من عدائيته بينما يقصف صوته بخشونة
*لم أضعه صفاء .. أبدا لم أضعه وواثق أن جميلة قالت لك أني تركته لك ..
لم ترد بشيء , تشعر بنظراته تحرق رأسها المنكس ليهتز جسدها بالبكاء..
*آسفة ..
همستها مختنقة بدموعها ..
ليقاوم رغبته بضربها حقا ..
يعجز عن فهمها أهي قوية .. أم هشة ضعيفة ..
أي شخصية هي ..
لكنه همس بشر
*لن أسامحك .. قللت احترامي أمام عائلتك وكأنني طفل صغير ..
*آسفة ..
قاطعته تصرخ بقوة تضم كفها بخاتمه لصدرها باكية
*آسفة .. لا أعرف ما الذي حل بي , كنت أعرف أني مخطئة لكني تصرفت بغباء, أنا حقا آسفة ..
ضحك بسخرية , فهذا الاعتذار السريع كلفها الكثير من كرامتها وهو متأكد من ذلك , وفجأة أحس أنه تعب .. تعب حقا من كل هذا ..
ليستدير عنها هامسا بهدوء
*نحتاج بعض الوقت يا صفاء , دعينا نحصل عليه ...
ولم يكد يحرك قدمه حتى وجدها أمامه تهتف به
*أي وقت .. أي وقت هذا أنا أحبك ..
لم يبدو عليه التأثر , فأمسكت كفه بكلتا يديها تتوسله بغرابة ..
بضعف لم تشعر به من قبل وهي تجد نفسها فعلا على أبواب خسارته ..
*لا تفعل ذلك , لا تقل أنك تحتاج للوقت , أنا أخطأت , أعلم ذلك .. سامحني , لن أسمح لأي شيء أن يستفزني بغباء مرة أخرى ..
كل هذا وهو ينظر لها صامتا دون أن يقول شيئا , بينما داخله يغرد فرحا باعترافها , وكم أراد أن يريحها بحبه كذلك ..
شدت على كفه أكثر ..
تنظر له دامعة بتوسل ..
خطفت أنفاسه  وكم تمنى في هذه اللحظة أن يخطفها ويقبلها حتى تختنق ..
معها حق .. لا يحتاج للوقت , بل لقد خسر الكثير بالفعل ..
نظر لعمق عينيها يسأل بهدوء يناقض نيران جسده المستعرة
*تحبينني صفاء ..
هزت رأسها على الفور مترافقة مع تأكيدها
*نعم أحبك .. أحبك .. والله أحبك ..
أطال النظر فيها وقد رأى ابتسامة أمل في عينيها ..
وبجنون قال بقوة ..
*إذا تزوجيني ..
ضحكتها الباكية المرتاحة فرحا , توقفت على الفور عندما أكمل
*الآن .. في هذه اللحظة تعالي معي لنتزوج ..

شببت غجريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن