الفصل التاسع عشر

2.5K 54 0
                                    

عند العد عشرة ..
انطلقت ألعاب نارية بكثافة , مصاحبة لإطلاق نار صاخب , طلقات خطاطة زينت السماء بشكل متقاطع , بينما خيمة العرض الضخمة تعج بالوافدين والحاضرين للمهرجان ..
فقد حان وقت العرض ..
كان لمك وديسم على أهبة الاستعداد , كذلك غالية التي رغم صحتها المتدهورة لم ترضى أن تفوت عرضها الأخير ربما في حياتها , ترافقها كما اعتادت مؤخرا غنجة التي لبست لأول مرة في حياتها ثوب غجر مبهرج , بعد رجاء صاخب من روز التي لبست أحد الأثواب كذلك ..
مع انطلاق الفعالية انطلق من خلف الستارة التي رفعت للعرض الشباب الواقفين على السيقان الخشبية الطويلة مع تلك الدوائر الملونة التي يديرونها باحتراف دون ارتباك , مع فرقة الزمر التي اندفعت على إثرها الراقصات بأثوابهن التقليدية ..
راقبتهن غنجة بحماس وكذلك روز ..
خاصة فاتنة التي ترقص منفردة لأول مرة دون راجية ..
كان العرض جاذبا للنظر ..
خاصة عندما تعلقت فاتنة بأحد الحبال المتدلية من الحدائد القوية الداعمة للخيمة ..
وبدأت الرقص متدلية مرتكزة على الحبل , ليقفز أحد الشباب عن سيقانه الخشبية , ليتعلق بدوره على أحد الحبال يؤدي معها رقصة غريبة خطفت لها أنفاس الوافدين , يشهقون خوفا وقلقا مع كل قفزة وحركة يقومون بها ..
همس لمك لديسم ..
*ستون فاتنة متعبة بعد هذه الرقصة كيف ستؤدي معك العرض ؟
ارتفع حاجب ديسم بثقة
*تخشى على فاتنة ! تستطيع الرقص نهارا كاملا دون أن تتعب ..
تمتم لمك
*أتمنى ذلك ..
قفزت روز متدخلة
*هل أستطيع الرقص معكم !
نظر لها لمك باستياء يزجرها
*اجلسي مكانك روز .. هذا ما ينقصني ..
زمت شفتيها غير راضية ..
لتنظر لها غنجة مستغربة عدم غضبها من رد لمك عليها , لو كانت هي , لجلجل صوتها في المكان معترضة وربما لشاركت بالرقص فقط عنادا به !
نظرت غنجة لفاتنة بتدقيق معجبة بدقة حركاتها , رغم لياقتها العالية إلا أنها لم تكن يوما لتفكر ولو بمجرد التدرب على هذه الحركات ..
ضحكت بتواطؤ مع نفسها تتذكر كم كانت كارهة للمشاركة في هذا العرض ..
وها قد نفذت منه بأعجوبة..
وطارت عينيها على الفور تبحث عن غالية لتجدها تدور حول الحاضرين ترافقها إحدى بنات القبيلة دون أن تتركها ..
همست روز بحرقة
*كم أشتهي الرقص معهن !
ارتفع حاجبي غنجة بعجب .. تشتهي الرقص !
وهي التي هربت طول عمرها من المشاركة ..
ألقت نظرة على لمك المتأهب , من خلف خيمة العرض .. المكان المخصص للمشاركين بالعرض ..
واتسعت ابتسامتها بشقاوة ..
وبمكر مدت كفها تسحب روز من يدها لتتسحب من أمام لمك وديسم  دون أن يشعرا .. متسائلة
*هل عائلتك هنا ؟
هزت روز رأسها ساخرة
*كل العائلة عزيزتي إلا صفاء و نيمار ..ضحكت غنجة متذكرة العروسين الهاربين
*ألم يظهرا بعد ؟
رفعت روز حاجبيها نافية وتلفتت حولها
*إلى أين نذهب ؟
عضت غنجة شفتها تشير لها للفتيات حولها
*انظري حولك .. الآن ستنزل فرقة راقصة فقط رقصا شرقيا محترفا كاستعداد وجذب نظر لعرض لمك مع الأسد ..
لم تفهم روز معنى ذلك لتشرح غنجة ضاحكة
*سنشارك بالرقص ..
اتسعت عيني روز برعب
*ماذا ! هل جننت , لن يسمحوا لنا ..
لكن غنجة لم تهتم تبحث بين أشياء الراقصات حتى وجدت غايتها ..
خمار مطرز بالخز يغطي الوجه ولا يظهر سوى العينين ..
أعطت أحدها لروز وساعدتها على وضعه بينما وضعت خاصتها بمهارة تتعالى ضحكاتهما المتسلية
*من قال أننا لن نرقص ..
صفقت روز بيديها متحمسة , لتخرج هاتفها الحديث تسحب غنجة قربها
*تعالي .. هذه لحظة تستحق أن نصورها ..
وقفت غنجة قربها ضاحكة بينما روز تمد يدها ملتقطة صورة تجمعهما معا  بهذا اللباس الغريب
*هل كنت تلبسين هذا دائما أثناء الرقص ؟
هزت غنجة رأسها ليهتز الخمار الغجري معها
*أنا لم يسبق لي أن رقصت في أي عرض !
أرادت غنجة أن تفهم أكثر لولا دوي التصفيق الحار الذي أعلن انتهاء فقرة فاتنة ..
فسحبتها غنجة معها متحمسة
*هيا بنا ..
لم تعترض روز , ففي الأيام الماضية كانت ترقص مع غنجة عندما تنام غالية وقد تعلمت منها الكثير من الحركات , كما أن الرقص عند الفتيات فطرة..خاصة مع الجسد الرشيق ..
ودخلن صالة العرض مع باقي الفتيات ..  وكون غنجة متمكنة من الرقص فقد تقدمت الفتيات ..
مع الفرقة الخاصة بالطبلة والمزمار ..
لم يميزها كثيرون فلمك انشغل مع ديسم في جر عربة الحيوان والتأكد من إطعامه وتقديم الشرب لها ..
لكن ما كانت غالية ولا الشيخ رجب ليتوها عن شعرها المجنون وجسدها الممشوق مع سحبة عينيها الميزة ..
ولم تخيب ظن أحد حين قامت وبجرأة لم تعرف من اين أتتها لتكشف نفسها كراقصة غجرية لأول مرة , رغم علمها أن العرض فيه الكثيرون من شباب وبنات الجامعة التي ترتادها , وخاصة رئيس الطلبة محمد الإدريسي ..
رفعت الخمار عن وجهها ترميه بعيدا ..
بينما تنحت إحدى الراقصات لها تشجعها بالتصفيق ..
وجسدها يتمايل بسحر مع النغم المتصاعد الوتيرة ..
تتحكم بجسدها وكأنه متحد مع الموسيقى الشرقية ..
لتجذب الأنظار ..
خلفها تتمايل الفتيات ومعهن روز التي تحاول قدر الإمكان مجاراتهن بالحركات ..
لكن رغما عنها لم تكن لتصل لخبرتهن ..فكانت ظاهرة للعيان جدا أنها لا تجيد الرقص باحتراف ..
سرعان ما زادت وتيرة النغم ..
وتجمعت الراقصات في نسق واحد بحركات ساحرة ..
بينما تراجعت روز رغم حماسها للخلف ترقص ضاحكة بجنون ..
فقد كانت تعيش مغامرة لن تتكرر مرة ثانية على الإطلاق ..
لم تشعر إلا بكف قوية سحبتها للخلف دون أن يلاحظ أحد غيابها حتى بينما صوت حاد غاضب يهتف بها
*ألم أقل لك ألا تشاركي بالرقص ؟ بعد قليل سندخل الأسد وآخر ما أريده صرخات مذعورة من مدللة مثلك ..
وقبل أن تستوعب ما يقوله جرها خلفه دون مبالاة بسماع كلامها حتى وصل لمالك الذي مل الوجود كمفرج عادي بل تبع لمك للداخل ليسلمها له
*ضعها مع غالية لا أريد مشاكل هنا ..
نظر مالك لعيني روز اللامعة بالدموع ..
دموع القهر كما هو واضح
*ما الذي حصل ..
وقبل أن تجيب رد لمك يهدر بغضب , يوجه لها نظرات نارية
*قلت لها ألا تشارك بالرقص ومع ذلك فعلت وهي لا تعرف شيئا عن العرض !
لم ينتبه مالك للجزء الأخير من كلامه ليسأل مقطبا
*أين غنجة ؟
أطرقت روز برأسها كمذنبة ضبطت بالجرم المشهود
*تشارك بالرقص ..
همست بها بصوت ضعيف جدا حتى أن لمك ومالك احتاجا لحظة حتى يفهمان ما تقوله !
صر لمك على أسنانه بغيظ منها هاتفا لديسم الذي اقترب منه
*تلك .. تلك ..
لم يجد الكلمة التي يصفها بها ليصرخ
*مدللة الشيخ تشارك بالرقص ! من حاولت إقناعها أشهرا بالاشتراك , تتذاكى وتشترك ..
وبخطوات هادرة تركهم مذهولين , بينما قال مالك مستاء
*لماذا يعاملها بهذه الطريقة ويغضب عليها !
وكان دور ديسم ليهز رأسه بحنق
*حفنة مجانين ! لم أعد أفهم ما يجري ..
وترك روز ومالك الذي دفع روز للخارج مشددا عليها أن تلازم أمها ليتبع خطوات لمك الهادرة ..
حتى رآه ..
كان يحرر الأسد من قيده , ليداعبه برقة مستغربة طاعة الحيوان له !
لكن عينيه اتسعتا رعبا حين رأى لمك يتجه به نحو الراقصات !
*ماذا تفعل !
قصف صوته غاضبا وهو يدرك أن هذا الحيوان سيكون متواجدا في مكان واحد مع روان ..حيوان طليق .. ضاري ..
وركض ينوي إخراجها لولا ذراعي ديسم الذي تدارك الموقف ..
يقول من بين أسنانه
*اسمع أنت وهو .. لن أسمح لكما بتخريب العرض وقد جهزت له بسرعة خيالية ..
غنجة معتادة على الحيوان هي كانت تخشى  الثعبان وقد قتلناه ..
عارضه مالك بقلق
*لكن هذا ..
قاطعه ديسم متسلحا بالصبر
*هذا أسد عجوز بالكاد يقدر على الحركات التي دربه لمك عليها وغنجة أكثر من عارفة بهذه الحركات لا تقلق عليها مع لمك , كانت تحت حمايته سنوات طويلة هل سيعجز عنها الآن ..
وبالفعل ..
شاركت غنجة بالعرض , ضاحكة .. مستمتعة ..
تفكر برد فعل الشيخ رجب على مداخلتها هذه والجميع يعلم أنها لن تشارك ..
حتى غالية .. لا بد أنها فخورة بها الآن ...
ليمضي العرض ..
ناجحا .. أسطوريا .. من حيث العروض وعدد المشاهدين .. حتى المشاركين فيه ..
كان ناجحا جدا ..
جلس الشيخ رجب قرب غالية التي لم تقدر على متابعة العرض بأكمله لتخرج من الخيمة وتجلس على مقربة منها خارجا ..
نظر لها .. حسرة .. قهر .. وحزن شديد ..
يعلم أنها لن تعيش طويلا ..
باتت النهاية قرية جدا ..
كم هو مؤلم .. أن تتوج الخسارات بالفقدان !
لن يقدر على هذا .. لا يقدر على تخيل تلك اللحظة التي يخبروه فيها أن غالية قد فارقت الحياة , ولن يقدر على تلك اللحظة التي تعلم فيها غنجة الحقيقة..
ولن يقدر على مواجهة الموت والهجران ..
لذلك سيهجر المدينة ..
لن يعود .. فما لا نعلمه.. لا يؤلم بقدر ما نعلمه ..
حتى لو كنا نتوقعه ...
أمسك كفها المجعد , الذي تركت السنون أثارها بسخاء عليه
*لقد وصلنا للنهاية غالية ..
لم ترد .. غصت بدموعها ..
تعلم تماما ما ينوي عليه , فهي ليست غبية حتى لا تفهم طريقة تفكيره ..
ضحكت من بين دموعها ..
*رقصت .. صغيرتي العنيدة شاركت بالرقص وقد رفضته لسنوات ..
ابتسم الشيخ لكلامها ..
ليغرق كل منهما في أفكاره لوقت طويل ..
حتى فجأة أجهشت غالية ببكاء مرير ..
*أحبها يا شيخ .. أحبها .. هي  ابنتي .. وجدتها في الشارع لا أكذب .. ما ذنبي إن كانت عائلتها قد غفلت عنها للحظات .. لم أقدر على تركها ..
دقت على صدرها بقوة تشكي باكية ..
*هذا القلب عشقها حد الموت .. كنت أشعر بكل نفسه تتنفسه بكل ألم وضحكة .. لم تضم يوما عندي والله يشهد أن عائلتها ما كانت لتقدم لها الحب الذي قدمته ..
وبصوت مستنزف القوى أكملت
*كيف سأقدر على تحمل اللحظة التي ستكرهني فيها يا شيخ .. هل ستنكر حبي لها وكل ما فعلته لأجلها .. هل ستكرهني كون ذنبي الوحيد أني أحببتها ..
وغرقت بالبكاء .. تترك للشيخ نفسها ليضمها مواسيا يحاول تهدئتها ..
تبكي سنوات حب واهتمام ورعاية ..
قد تمحى كلها ..
خلال لحظات فقط ..
فقط بضعة كلمات ستحرمها الحق في منح أغلى من ملكت ..كل الحب التي تملك ..
كل الحب وكل عمرها ..
................................
مرت الشحنة الأولى بسلام .. ليجن جنون مهاب الذي تلقى للتو اتصالا من الضابط يعلمه أن الشحنة تم تسلميها ..
ما معنى تم تسليمها ..
كيف حدث ذلك ..
ألم يخبرهم عنها حتى يتمكنوا من ضبطها !
هل ذهب كل عنائه في جمع المعلومات هباء دون فائدة ..
كاد يجن وهو يرى منذر يحتفل بنجاح الدفعة الأولى من التسليم ..
وجن أكثر لاضطراره على المشاركة مع منذر بهذا النصر الذي حققوه على شرطة ضبط الحدود ..
وتساءل بسخرية
( إن كانت كل المعلومات لديهم وفشلوا .. ماذا لو لم يكن لديهم أي معلومة !)
نظر له منذر مستغربا حاله , فعينيه تشعان بغضب مكتوم
*ما بك يا ولد .. حالك غريب جدا .. دائما متذمر ..
حينها هتف مهاب مغتاظا
*أريد أن أتواصل مع عائلتي ...
ارتفع حاجبي منذر
*اعتقدت أنك تجاوزت مرحلة الشوق لهم ..
هب مهاب من مكانه , ليجرع دون أن يشعر كأس الخمر الذي كان في يده دفعة واحدة
*بل الشوق لهم يزداد كل لحظة في البعد !
وبغضب من نفسه ومن الضابط الأحمق الذي يتواصل معه , صب لنفسه كأسا آخر , يجرعه من فوره ومنذر يراقبه مستاء فلأول مرة يراه بهذه الحالة ..
لم يكن يعلم أي شعور بالهزيمة والضعف يتلبسه في هذه اللحظة ..
فقد تخلص بناء على طلب من الضابط , من الشريحة التي يتواصل معه فيها بعد أن بلغهم بكل مواعيد الشحنات القادمة ..
لقد وعده .. ذاك الضابط النذل وعده أن يعيده للبلاد فور أن يتم تسليم أول شحنة ..
لكنه الآن وحده مع منذر يحتفل بنجاح التسليم ..
بدل أن يكون في طريقه لعائلته ..
هدر بالساقي الواقف خلف البار
*زد كأسي ..
وقف منذر قربه مستغربا حالته يحذره
*مهاب توقف عن الشرب ..
لكن مهاب لم يتسمع له , يريد أن يفرغ غضبه ..
كيف .. كيف سيعود لموطنه .. ويدخل تلك الحدود إن لم يقل ذاك الضابط أغن هو من أرسله في هذه المهمة البائسة
*تبا لك كم أود قتلك ..
قصف صوته غاضبا بذلك ليقطب منذر متسائلا
*من هو ..
نظر له مهاب بحقد وقد بدأت الخمرة تتلاعب بتركيزه لكنه قال
*كل شخص يلبس بذلك شرطي يمنعني من العودة لحياتي كما كانت !
تنهد منذر بقلة صبر وقد مل من شوق هذا الولد لعائلته ..
أحيانا يبدو له في قمة الرجولة ..
وأحيانا يبدو مجرد طفل صغير حاقد .. غاضب على الدوام ..
هل كان يعتقد أن هذا العالم وردي اللون ؟
نظر له بعدم رضى وهو يجترع كأسه الرابع ..
*مهاب ..
حذره بقوة , لكنه لم يرد , ليخطف الزجاجة من يد الساقي يضعها على فمه يشرب بانتقام من نفسه ربما أو من كل شيء ..
لكن لحظات فقط وجسده الغير معتاد على الشرب , سقط مكوما على الأرض دون حراك ..
التوى فك منذر بحنق ليشير لرجاله بملل
*خذوه لشقته ..
وبالفعل حملوه غائبا عن الوعي ..
لكن منذر التفت لهم فجأة طالبا بشك
*فتشوه وفتشوا شقته جيدا , أريد أن أعلم ما يفعله هذا الولد حين يكون وحده ..
وبالفعل تم ..
لكنه ابتسم براحة ورجاله يخبرونه أن ما وجدوه فقط بضعة غيارات نسائية داخلية , متذكرا تلك الليلة حين قال له أن سيقضي ليلة دامية ..
ضحك بتسلية , فلا بد أن هذا الولد شقي جدا ..
وبعد ساعات ..
نهض مهاب على صوت طرق قوي على الباب ..
أمسك رأسه بين كفيه يضغط عليه عله يهدئ صداعه لا يذكر شيئا عما حصل بالأمس , تأوه بألم بينما الطرق يزداد على الباب ..
لكنه انتظر بشك , فربما كان الطرق داخل رأسه ..
فصداعه لا يحتمل ..
لكن الطرق عاد وتعالى ليجبر نفسه على النهوض متسائلا كيف وصل لهنا ..
لا يذكر شيئا أبدا ..
ما أن فتح الباب حتى اندفع رجل ما يأمره بسرعة
*هيا استعد بسرعة لآخذك ونغادر من هنا ..
ولم يعي ما يحدث بينما الشاب يسحبه رغما عنه بما عليه من ثياب دون أي أوراق ثبوتية .. وما كاد يدفعه للسيارة حتى انفجرت الشقة لتندلع فيها النيران بينما رجلان آخران انضما لهما لتنطلق السيارة وهو منذهل لا يفهم ما يجري معه ..
وحين استعاد نفسه واستدار للجدال تلقى ضربة على مؤخرة عنقه ليفقد وعيه تماما
....................................
تتالت أيام المهرجان السبعة على أتم وجه ..
لم يسمح مالك لغنجة بعدها بالمشاركة بالرقص ..
و روز فقدت اهتمامها بعد ذهاب انبهارها الأول ..
وعند اليوم الأخير ..
كان الزحام قد بلغ أشده .. لم ينتبه أحد عدا ديسم لتلك البلبلة على الطرقات المحيطة بالخيمة .. لكن نيمار وضعه بالصورة وأن أي تدخل ستحرص القوات أن يتم بعيدا بحيث لا يؤثر عليهم .. خاصة بسبب العائد المادي الضخم الذي سيعود به المهرجان سواء على الغجر و المدينة ..
تحركت روز منتبهة لهاتفها الذي يرن .. فرغم أنها ملت المهرجان إلا أن عائلتها لم تكن لتسمح أن تأتي غنجة وحدها و يرافقها الكل كما كل مرة معتقدة أنهم معجبون بالعرض لا تعلم أنهم قادمون معها فقط للتأكد أنها لن تتوه منهم مرة ثانية ..
استغربت الرقم الغريب الذي يتصل بها ..
لم تعتد أن تتلقى مكالمات غريبة على هاتفها , لكن الرمز الدولي للرقم أثار فضولها لترد بعد برهة ..
لم تتوقع الصوت الذي قال باختصار
*روز زهر الدين ربيع ؟
اتسعت عينيها كون هذا الغريب يعرفها وهمست
*نعم ..
حينها تنهد براحة .. ليقول ببساطة
*مهاب لم يتذكر سوى رقمك ورقم المنزل لكن لا أحد يرد ..
هتفت على الفور
*مهاب أين هو .. نحو لسنا في البيت أقصد .. نحن ..
قاطعها بقلة صبر مختصرا حديثه
*لا يهم أين أنتم أردت أن تطمئنوا عليه هو بخير وستصلكم أخباره خلال بضعة أيام..
وأغلق الخط ينظر لمهاب الممدد على السرير الأبيض منذ بضعة أيام ..
لقد حرص على تواجده هنا بعيدا عن الشكوك ..
واضطر آسفا لإبقائه غائبا عن الوعي للحظات فقط تمكن من أخذ رقماً من عائلته ليتواصل معه ..
سأل الطبيب الذي يتابع حالته
*متى سيصحو تماما ؟
نظر الطبيب له باستياء ليخبره
*عليك أن تعلم أنه ما عاد بإمكاني استخدام العقاقير لأبقيه  غائبا عن الوعي أكثر من ذلك , فربما تأذت بعض الوظائف البيولوجية لديه ..
قطب الرجل ليقول مؤكدا
*لا بأس حين يصحو هذه المرة سيكون كل شيء على ما يرام و سنتمكن من التصرف ..
خرج الطبيب ينظر بعدم رضا للأثنين لكنه لا يملك سوى الطاعة ..
فالرتبة على بذلك الرجل العسكرية تجبره على السكوت ..
أجرى الرجل عدة مكالمات هاتفية تأكد فيها أن مقر الشحنات التي وصلت متفرقة قد تمت مداهمته بنجاح و القبض على المسؤولين عنه ..
من بينهم عماد و صبيانه ..
وقد تمكنوا بالتعاون مع الانتربول الدولي الوصول لمنذر ورجاله ومداهمة المستودعات الضخمة التي يملكها ..
لا ينكرون فضل هذا الشاب ..
لم يكن مدربا ليجيد التصرف , لكنه كان الخيار الوحيد لديهم تلك الفترة خاصة أنه بتصرفاته الطبيعية تمكن من الوصول بهم لكل هذه المعلومات القيمة ..
بتدمير الشقة التي كان يسكنها والكثير من الشقق المشابهة له ابتعدت الشبهات عنه , لكن بقي عليهم تنفيذ وعدهم بإعادته سالما لعائلته بعيدا عن الشبهات وإعادة سجله نظيفا كما كان خاصة وقد تم وضعه على لائحة المطلوبين لإعطائه المزيد من المصداقية لدى هؤلاء ..
بقي عليهم أن يشرحوا له ما هو عليه فعله حتى يعود لعائلته يكمل حياته بشكل طبيعي .. وفي المساء هناك ضابط مختص سيذهب ليجتمع بعائلته ليطلعهم على كل ما حصل , حتى لا تكون عودته موصومة بالعار بالنسبة له ..
على العكس عليهم أن يكونوا فخورين به ..
رغم أنه قد تم رميه في قلب الخطر إلا أنه تمكن من إثبات نفسه ..
وتمكن خلال فترة وجيزة من التعمق بهم كأنه فرد منهم والوصول لمعلومات كانت تعجزهم من قبل ..
انتبه الضابط أنه يتحرك ليرمش بعينيه متأوها ..
فاقترب منه ليكون أول شخص يراه حن يفتح عينيه ..
وما أن تمكن من رؤيته بوضوح حتى ابتسم يخبره ببساطة
*أنت نسيت كل شيء ...........
وطال الحديث بينهما , حديث كان فيه الكثير من الجدال ..
لكن القليل من الصعوبة , فلن تكون إعادة حياته الطبيعية بصعوبة تأقلمه على تلك الحياة اللاهية القذرة ..
بينما الجميع ينتظر عودته بفارغ الصبر .. حتى لو كان فاقدا للذاكرة ..
المهم أن يعود فقد طال الغياب حقا ..
وتغير كل شيء ..
........................
تنبهت غنجة أن تنفس غالية غير طبيعي ...
منذ أن عادت من المهرجان وهي تلتزم السرير لا تقوم منه , حتى أكلها غير طبيعي وكأن هناك ما يمرضها فلا تقبل الطعام ..
نادتها بصوت هامس
*غالية هل أنت بخير ..
لم ترد غالية عليها .. عبست غنجة لتقوم من مكانها اقتربت منها أكثر , لكن لم يبدو أنها تتنفس من الأساس ..
هزتها برقة ليصدر عن غالية أنين ضعيف جدا ..
ما بالها بهذا الضعف كانت تتحدث معها قبل ساعة فقط تخبرها كم تحبها ..وكم كثر تأكيدها على حبها خلال الفترة الأخيرة ..
*غالية ..
هزتها غنجة بقوة أكبر . . لكنها لم ترد ولم تفتح عينيها ..
تسارعت دقات قلبها بقلق تهزها بقوة أكبر تهتف بها
*هيا خالتي انهضي .. لن تمرضي الآن ...
لكن غالية لم تستجب لها .. رغم أن تنفسها ضعيف جدا ..
تركتها غنجة لتقفز راكضة نحو الباب لتفتحه بقوة قبل أن تبدأ الطرق بجنون على باب ناهد تناديهم برعب
*أين أنتم .. ساعدوني .. خالتي لا ترد عليّ..
لم تنتظر ليردوا بل عادت على الفور نحو الداخل إلى حيث كانت تجلس على الأريكة قرب غالية لتحاول الاتصال بلمك تخبره بما يحصل مستمرة بمناداتها بينما دخلت خلفها ناهد ..
وقفت للحظة فق تنظر لغنجة والقلق المجنون الذي تعيشه وهو تحاول أن تجعلها تستجيب لها ..
حتى دموعها التي بدأت بالانهمار غزيرة على خديها تتوسلها أن لا تتركها وحدها..
ظلت واقفة تراقبهما دون أن تقدر على دفع نفسها لفعل أي شيء ..
لهفة غنجة على تلك المرأة كانت تقتلها ..
وكونها أحست ولو للحظات أنها السبب في ما يحدث ..
تلك المرأة سرقت روان .. و ماتت أختها بسببها .. و روان تبكيها الآن !
أفاقت على نفسها وغنجة تناديها لتساعدها عل غالية تستعيد وعيها ..
نفضت رأسها من أفكارها المشتتة لتتقدم من المرأة التي أخذتها غنجة بين ذراعيها دون حراك ..
وماذا ستفعل .؟؟؟
هي تعلم .. والكل يعلم .. ينتظر هذه اللحظة ..
تناولت ناهد رغم علمها بفشل المحاولة زجاجة عطر أهدتها بنفسها لغنجة ورشت بالقرب من أنفها ..
في اللحظة التي وصل فيها لمك مع الطبيب..
لتشعر ناهد بالندم والخسة .. فرغم تأكدها أنه الموت .. على الأقل كانت لتتصل بمروان تخبره أو حتى مالك ..
لكنها لم تقدر .. إن كان على المرأة الموت فلتمت ..
يكفيها ما سببت من مشاكل في حياتها فلتمت بهدوء ..
أبعد لمك على الفور غنجة عن غالية سامحا للطبيب من الاقتراب منها
*اهدئي ..
لكنها لم تهدأ لتصرخ به بقهر
*لكنها لا ترد عليّ .. لا تفتح عينيها يا لمك .. كيف أهدأ أخبرني ..
*اهدئي ..
هدر بها . يثبتها جيدا حتى لا تعود للتشبث بجسد غالية التي بعد فحص بسيط قام به الطبيب نهض يهز رأسه بأسف ..
فغالية.. تفارق الحياة ...
وخلال وقت قصير كان البيت يعج بالوافدين ..
الشيخ رجب الذي ما أن سمع حتى انطلق مع باقي الرجال لاستلام جسدها ...
مفكرا بحزن راق ..
غالية لطالما كرهت هذه المدينة .. كانت تعلم أن الأشياء السيئة ستحدث لها هنا ..
ما أن رأته غنجة حتى انفلتت من لمك الذي أغلق الباب مغطيا وجهها ..
فغالية كمعظم الغجر .. لا هوية لها ...
مجرد جسد فارق الحياة ..
ارتمت على حضنه باكية بقهر , بينما شاركتها روز البكاء وصفاء التي وصلت قبل لحظات فقط بعد اتصال هاتفي ..
جميعهم أحاطوا بغنجة التي كانت متشبثة بلمك لكنها تخلت عنه وانفلتت منه ما أن رأت الشيخ رجب ..
مرر كفه على شعرها برقة هامسا لها
*ما بك صغيرتي .. ما كانت غالية لتحب ضعفك هذا ..
لتهتف باكية
*لكنها تركتني جدي .. تركتني ولم تنظر لي للمرة الأخيرة .. ناديتها كثيرا .. أردت أن أخبرها أني ..
واختنق صوتها بقهر ..
لتكمل بصوت أقل علوا يسمعه الشيخ وحده
*أردت أن أخبرها أني لن أكرهها أبد أبدا .. مهما حصل ..
اتسعت عيني الشيخ بعجب ..
لتدفن وجهها باكية تشد عباءته بقوة ..
تتشبث به وكأنها متمسكة بما بقي لها ..
لا يعلم إن كان فهم كلامها ..
أم أن موقفا ما قد حصل بينهما ...
لم يفهم أبدا ما تعنيه بكلامها ..
أبعدها عنه برقة بينما ديسم ولمك أخرجا الجسد الذي فارق الحياة ..
لتودعها خارجة للمرة الأخيرة ..
بينما فقدت للتو كل ما كان حياتها يوما ..
فلم تتمالك نفسها بينما ناهد تمسكها حتى لا تذهب معهم ..
ولمك .. ديسم .. الشيخ رجب .. والكثير من الرجال معهم يبتعدون ..
يبتعدون .. يتركونها خلفهم ..
صرخت بقهر
*جدي .. غالية ..
وانهارت بين ذراعي ناهد التي تركت جسدها على الفور لمالك يلتقطها ليأخذها نحو بيتهم .. بينما للتو أقفلت تماما صفحة من حياتها لتفتح صفحة أخرى ..
لن تعرف كيف ستعيشها ولا مع من ..
عقلها يرفض أن يصدق تلك اللحظة ..
خرجوا جميعا من أمامها .. لم يلتفت أحد لها ..
كأنهم يبعدونها عن حياتهم ..
*غالية ..
هذرت باسمها كثيرا ..
حتى حينما أصرت وبعناد أن تذهب لقبرها .. تلقاها رجب سامحا لدمعة غادرة لأول مرة أن  تفر من بين جفنيه ..
هو الذي لم يضعفه أي موت من قبل ... أضعفه موت غالية ..
أضعفه ضعف غنجة عليها ..
جزء من قلبه وكتلة جنون شقية أنارت حياته سنوات .. سنوات انتهت .. ولن تعد
....................................
بعد أيام ..
نظرت غنجة للمك المرتبك بتركيز ..
هناك شيء لا تفهمه في تصرفاته . . منذ أن طلبت منه أن يأخذها لتزور الشيخ رجب الذي لم يتصل بها حتى من بعد وفاة غالية ..
لم تكن بأفضل حالاتها ..
شعرها المجنون كان ملتفا في عقدة صارمة خلف رأسها ..
ووجها مرهق , ظهرت ألوان داكنة تحت عينيها من قلة النوم وكثرة التفكير ..
لم تكن بخير أبدا ..
ازدادت شحوبا ونحولا ..
قالت بضعف وقد هدها الحزن وغير كل اندفاعها لهدوء غريب عنها
*لمك .. كف عن اللف والدوران .. خذني للشيخ رجب .. اشتقت له ..
توقف لمك عن الادعاء أنه يقوم ببعض الأعمال في شقته حيث فاجأته منذ الصباح بقدومها ..
بصعوبة أقنعها أن تبقى في شقتها وألا تعود للخيام ..
ناهد ومالك حتى بذلوا الكثير من الجهد معها ..
يذكرونها بمستقبلها .. أحلامها .. كل ما أرادته يوما ..
كيف سترمي كل هذا خلف ظهرها وتغادر ؟
فاقتنعت وبقيت في الشقة الفاخرة .. وحدها ..
مع أطياف ذكريات قليلة جدا جدا ..
وصورة غالية تخرج فيما الجميع يحملها دون أن يتلفتوا لها تقتل روحها ببطء ..
كأنها تنسلخ عن جلدها ..
أعطت انتباهها للمك الذي ترك انشغاله ليقول بوجه بلا تعابير دون أن ينظر لها
*لا يوجد شيخ رجب بعد الآن غنجة ..
سكت لحظات يعطيها ظهره , متجها ليقف أمام النافذة التي تطل على ورشته
*لقد رحلت القبيلة كلها قبل يومين ..
قطبت بعدم فهم .. كأن كلماته التي قالها عصية عن الفهم ..
وسألت بعد برهة بصوت مختنق ..
*ماذا .. ماذا تقول ؟
قال بنفس الجمود
*رحلوا غنجة .. وأنا فضلت البقاء معك ..
التفت لها يحاول رسم ابتسامة باهتة على شفتيه ..
وهو الآن مثلها ..
يشعر باليتم .. والوحدة .. والهجران ..
*لدينا حياة كاملة نطمح لها هنا .. لنبنيها بهدوء ..
وأطرق برأسه وعاد ليعطيها ظهره ..
ولم يتبعها حين سمع صوت خطواتها تهب راكضة لتخرج من الشقة بأكملها تغلق الباب خلفها بقوة مصدرة ضجة كبيرة ..
تباً لليتم كم هو شعور كريه ..
تعالت شهقاتها غير مبالية ..
لا تعرف ماذا تفعل ..
هل حقا قدر الشيخ رجب على تركها خلفه .. هل فعلها ..
مسحت دموعها الغزيرة بكفها وأخرجت هاتفها وكم كرهته في هذه اللحظة ..
كم كرهت احتفاظها به ..
كم هو جميل الجهل في بعض الأحيان ..
لو أنها لم تملك فضولا نحو المدينة ..
لو لم تهتم بالتاريخ ..
لو لم تكن عنيدة لتصر على ارتياد المدرسة والجامعة ...
لو .. لو أنها فقط نفذت ما كانت تريده غالية دون أن تعارضها ..
لكن ماذا ينفعها كل هذا الآن ..
طلبت رقم الشيخ رجب تضعه على أذنها ..
وتعالى الرنين ..مرة .. بعد مرة ...بعد مرة ..
دون رد ..
نظرت للهاتف لا تصدق أنه من القسوة بحيث لا يرد عليها ..
كررت الاتصال..
لتفاجئ أن الرقم قد أغلق تماما ..
انهمرت دموعها مجددا .. لتسمع فجأة صوتا يقول لها
*والآن .. ما سبب هذه الدموع ..
رفعت رأسها لتجد مالك يقف بالقرب منها متعاطفا معها ..
لم تجد ما تقوله .. لأول مرة تكون عاجزة عن استخدام لسانها ..
ابتسم لها بتشجيع , فهمت من بين دموعها
*رحلوا .. الغجر كلهم رحلوا ولم يخبروني !
تنهد مالك يعلم تماما ما تشعر به , لكنه لا يملك إلا أن يشعر بالراحة لرحيلهم ..
*ماذا الآن؟
نظرت له بقهر لتهتف
*ألا تفهم ؟ أقول لك رحلوا .. رحلوا وتركوني هنا !
ارتفع حاجبه ليقول بجدية
*غنجة .. حقا لا أفهمك .. أنت تعلمين جيدا أن حياتكم تعتمد على الترحال , كما أنك تريدين البقاء هنا ..
نظرت له تنوي الإنكار لكنه سبقها
*لا تقولي هذا غير صحيح .. لو حقا تريدين البقاء معهم , لكنت جررت نفسك خلفهم .. حينها مرغمون سيبحثون عنك .. لكنك لا تريدين .. المدينة جزء منك لا تقدري على التخلي عنه ..
لم تنظر له وشيء من كلامه هو الحقيقة .. تعرف نفسها جيدا ..
ربما لو قالوا لها سنغادر لكانت رحلت معهم ..
لكن متأكدة أنها سترمي عليهم وبكل عنجهية ضياع فرصتها ..
ومع هذا ..
لا يجب .. لا يجب ألا يردوا عليها اتصالها ويخبروها قبل الرحيل ..
شهقت باكية بقوة واقفة مكانها .
كانت حقا بائسة في هذه اللحظة ..
اقترب مالك خطوة منها يهمس اسمها لتنظر له ..
*كفى دموعا .. كوني قوية وابدئي من جديد .. لا تنهزمي الآن ..
نظرت له بأمل ليقول بمرح
*يوما ما سيعودون .. دعيهم يفخرون بك ..
مد يده لها يدعوها لتذهب معه
*لا بد أنك كنت عند لمك؟
ترددت لحظة قبل أن تمسح دموعها كطفلة تائهة تتشبث بطوق نجاتها
*كيف عرفت أين كنت ؟
ضحك يغمزها , يسحبها لتجاريه في مشيته
*لأنه وجهتي في هذه اللحظة ..
اتسعت عينيها بفضول
*ماذا تريد من لمك !
*عمل ..
أجابها مختصرا  الكثير من الكلام ..
.................................
بعد وقت طويل ..
دخلت ناهد من باب الشقة التي تملك مفتاحها حتى تدخل لغنجة متى أرادت , تساعدها في الأعمال .. من الواضح أنها لا تجيدها ..
فهي وجدت فيها شغلا شاغلا لها بعد زواج صفاء ..
صفاء التي لا تترك نيمار لحظة واحدة ..
ضحكت تهز رأسها وقد فقدت الأمل بها .. لن تتوقف عن غيرتها مهما حصل ..
سعيدة لأنها تمكنت من جعل غنجة تعاملها كأنها جزء من حياتها ..
صحيح أنها تعذبت حتى وصلت لهذه المرحلة لكنها نجحت ..
نعم نجحت .. و أعادت غنجة لحضنها .. لحضن العائلة ..
*غنجة استيقظي ..
تململت غنجة في سريرها وقد قضت الليل تحضر لامتحانها ..
لا تصدق أن عامها الاول مر بنجاح ..
لكن الثاني يبدو أنه متعثر قليلا .. متى جاء مهاب ليأخذ روز من عندها ؟ في أي ساعة .. غطت رأسها تريد أن تنام قليلا بعد ....
*هيا غنجة .. تعالي افطري قبل أن تذهبي للامتحان , مالك سيوصلك ..
رمت غنجة الغطاء عنها تتذكر ذاك الأخ الذي التقته أخيرا ..
أخو روز .. مهاب ..
لم يكن كما وصفته  روز ..
يبدو أن الجميع استغرب منه فقد كانت موجودة حينما عاد فجأة لهم في البيت ..
بدا وكأنه أحد أبطال الأفلام الخرافية ..
ضحكت لتسمعها ناهد متسائلة
*ما بك اليوم يا فتاة ..
لكن غنجة لم ترد ..
بل تذكرت ما فعله مالك حين نظرت بانبهار لمهاب .. قائلة فقط ببساطة أنه يبدو شديد الجاذبية .. تنظر لروز التي قفزت تتعلق بعنقه كقردة كما تصفها ناهد دائما ..
عودته كانت فعلا ما تحتاجه العائلة لتخرج من الجو الذي عاشوه لفترة من الزمن ..
تمكن من خلق جو غير ما اعتادوا ..
لكنه مسكين .. فقد جزء من ذاكرته .. ذلك لا يهم طالما انه عاد ..
ما يهم هو مالك الذي نظر لها عابسا يهمس بغضب
*ماذا قلت عزيزتي أتحفيني ..
نظرت له مستغربة ..
*لم أقل شيئا ..
عينيها التي اتسعت ببراءة كاذبة لم تغريه ليصدقها ليقول بجمود
*احتفظي برأيك لنفسك مرة ثانية ... خاصة فيما يتعلق بالرجال ..
ولم يسمح لها حتى بالتباسط معه بالحديث ..
وهي لم تكن متحمسة ..
فتحت ناهد الباب ضاحكة , منذ سمعت ضحكتها وهي تضحك معها حتى دون أن تعلم السبب , لتجدها تجلس على حافة السرير ..
تضحك بمرح وتنظر لنفسها في المرأة ..
كم ازدادت جمالا !
بشكل أوجع قلب ناهد ..
كانت زهرة تتفتح بينهم لتصبح قمة في الإشراق
*ما الذي يضحكك ..
نظرت لها غنجة لتتمطى بكسل
*صباح الخير خالتي ..
رقص قلب ناهد لتلك الكلمة التي لم تبذل جهدا كبيرا لتجعل غنجة تقولها ..
فقط تمنت لو أن بإمكانها أن تناديها روان !
لكن يكفيها الآن على الأقل أنها عادت لهم .. وبينهم ..
*صباح النور يا كسولة . لا أعلم كيف كنت لتذهبي للجامعة لو لم أكن المنبه الخاص بك !
ضحكت غنجة ترجع رأسها للخلف
*ما كنت  لأذهب كما أظن ..
ضحكت ناهد معها وهي تتجه لتفتح النوافذ
*هيا استعدي امتحانك بقي عليه وقت قليل , يجب أن تنطلقي ..
نهضت غنجة بالفعل تقفز بنشاط
*دقائق فقط أنعش نفسي وأستعد ..
أعطتها ناهد ابتسامة ساحرة , لتعبس تسحب هاتفها ترد على الاتصال متظاهرة بالغضب
*أنت يا فتاة بعد زواجك لم نعد نراك .. لن أسمح لك بأي أعذار تعالي اليوم لنقضي السهرة معا ..
وصلتها ضحكة صفاء وصوتها الهامس تطلب من نيمار أن يبتعد عنها   لتسمع صوت نيمار المازح
*سنحضر حماتي لا تقلقي ..
ضحكت ناهد تغلق الخط تهمس محمرة
*قليلا الأدب ..
وخرجت من الغرفة لتترك لغنجة الخصوصية في ارتداء ثيابها ...
وبعد دقائق معدودة ..
انطلقت غنجة مسرعة على الدرج بعد اتصال مالك الثالث بها ليستعجلها ..
نظر لها بعدم رضا تجاهلته عنادا وليس اقتناعا ..
حيته بهمس وجلست قربه لينطلق على الفور رافضا النظر لها ..
فهذه المرة العاشرة ربما التي يطلب فيها أن تنتبه لنوعية ثيابها ..
لكن لا حياة لمن تنادي ..
*كيف حالك ؟
سألته بغيظ .. فقد كان كثور عنيد يرفض النظر لها وقد علمت أنه يعاقبها لأنها لم تفعل ما يريده ..
*بخير .
كلمة يتيمة دون نظرة حتى ..
ليهتف بحنق
*لما تأخرتِ .. لدي عمل يجب اللحاق به ..
ارتفع حاجبها ببرود لتجيب
*لا تدعني اعطلك ..
*فقط اصمتي ..
قالها بفظاظة ليزيد من السرعة حتى أوصلها للجامعة دون أن يزيد كلمة واحدة ..
نظرت له قبل أن تنزل ..
كان عابسا .. مستاء .. ينظر لها بتركيز ليقول بجفاء
*سأعود حالما تتصلي بي ..
وما أن نزلت من السيارة حتى انطلق مبتعدا .. لتجد روز تنتظرها قرب الباب
التوت شفتيهما معا لتقول روز بملل دون حتى أن تلقي تحية الصباح
*لا تقولي جدال كل يوم !
تدلت كتفي غنجة تومئ برأسها مؤكدة ..
فما كان من روز إلا أن هزت رأسها يائسة تستعجلها لتدخلا القاعة قبل ان تعج بالطلاب ..
.................تنهد لمك براحة حين رأى مالك وقد وصل أخيرا ..
كانت فكرة مالك أن يوسعا العمل من مجرد ورشة للتصليح إلى شبه معرض لتأجير السيارات ..
بداية لم يتحمس لمك للفكرة فقد كان يرغب أن يكون مستقلا ..
لكن بعد ما رآه من صعوبة العيش في المدينة ومع إلحاح مالك وافق , ليدخل معهم مهاب كطرف ثالث ..
كل منهم كان مسؤولا عن مهمة ما في تسيير هذا المعرض ..
لكن لمك لم يتخلى عن قسمه الخاص بالورشة , بينما حصل مهاب بسهولة على ترخيص من مجلس المدينة للتوسع وبناء ملحق بالورشة ..
ضخم بواجهات زجاجية يتناسب مع فكرة مالك عن المعرض ..
رغم حبه للتدريس إلا أن العمل في المعاهد الخاصة ليس دائما ..
ويحتاج في مرحلة ما أن يؤسس عمله الخاص ..
وبما أن الأمر أكثر صعوبة لوحده .. لم يجد أمامه سوى لمك ..
على الأقل هو مثله يعافر ليثبت نفسه ويؤسس عملا ناجحا ..
*من الجيد أن وصلت يا رجل ! خشيت أن تتركني وحدني معهم !
هتف لمك بذلك ..
فقد كانا على موعد مع أحد تاجرين , بشأن استقدام دفعة من السيارات والتعامل معهما بشكل دائم .. ولم يكن لمك ليجيد التصرف ..
لذلك وصول مالك في الوقت المناسب قبل وصولهم أراحه من الأعماق..
*أنت أكثر من يعلم سبب تأخري ..
همس مالك من بين أسنانه , ليضحك لمك بمرح
*أنت السبب قلت لك , غنجة لا تحتاج الدلال المفرط , بل بعض الحزم وإلا ستقضي عمرك متأخرا !
نظر له مالك بطرف عينيه , ولم يرد , فقد كان على حق ..
ناداه لمك ليخبره أنه سيخرج لبعض الوقت بعد ساعتين , لذلك عليه ألا يترك المكان..
اتسعت عيني مالك
*لكن يجب أن أذهب لأعيد غنجة ..
طوح لمك بكفه رافضا النقاش
*اطلب منها أن تأتي لهنا .. لن أسمح لكما بتفويت فرصتي اليوم ..
لم يبقى ليسمع المزيد من جدال مالك , بل اتجه لورشته عبر الباب الخلفي للمعرض وبدأ عمله مع بعض الصبية الموجودين عله ينهي ما بين يديه قبل أن يحين الوقت..
من كان ليصدق أن قلبه سيسقط صريع فتاة طالما اعتبرها مزعجة !
ولكن للقلب رأي آخر ..
رأي يجعله يقفز من مكانه وهو يراها تتقدم نحوه ..
ابتسم راضيا من كل قلبه ..
فقد فعلت حقا ما طلبه منها ..تخلت عن لباسها الضيق والقصير والمبالغ به ..
وجاءت اليوم ببنطال طويل .. على الموضة طبعا كما تحب ..
لكنه يستر ساقيها وإن كان لا يخفي جمال انسيابهما ..
وكنزة واسعة بنصف كم تلاءمت مع لون شعرها الناري ..
*وفيت بوعدي ..
قالت بمرح ما أن وصلت له لتدور حول نفسها تريه ثيابها ..
وأمالت رأسها بدلال
*أظن أنني أستحق مكافئة لطاعتي ..
ضحك لمك مدعيا الصدمة
*طاعتك ! من يسمعك لن يصدق كم مرة جف حلقي و أنا أطلب هذا الطلب ..
قطبت و اقتربت لتركب خلفه على الدراجة النارية , و قد تألق خاتمه في إصبعها فقد كان واضحا منذ البداية ..
صحيح أنه لم يقع في حبها في أول الأمر ..
حين رآها منجذبة له . كانت فرصة جيدة يستغلها , ليبقى إلى جانب غنجة ..
عائلتها عارضت في البداية .. خاصة بالنسبة لأصله الغجري ..
لكنهم لانوا بعد وقت حين رأوا إصرارها و بعد دخول مهاب معه في العمل كشريك..
فما كان منه إلا أن وضع خاتمه في إصبعها ..
قبل أن يتراجعوا .. وحتى يسكت ألسنة الناس في كل مرة يأتي ليأخذها من الجامعة...
لم تكن تختلف عن غنجة في الطباع إلا أنها أسهل منها بكثير ..
يسهل إقناعها بأمر أو ثنيها عنه ..
على عكس تلك التي تتشبث برأيها كتيس أحمق ..
*لا تكن حقودا ...
قالت ذلك بلطف و هي خلفه ..
*تمسكي ..
همس بدوره لتلتصق به ..
الدراجة النارية هي أجمل ما حصا له في المدينة , خاصة حين يكون مع روز .. ففي لحظات قليلة فقط تتشبث به و كأنه كل أمانها في العالم ..
*لمك ..
هتفت باسمه ضاحكة ..
ليرد يجبر نفسه بصعوبة ألا يتلفت لها ..
*قلب لمك ..
ضحكت بقوة
*لم أتوقعك رومانسيا يوما .. أنت رجل خشن الطباع كيف تصدر عنك كلمات رقيقة!
ضحك بدوره معترفا
*لا أعرف حقا .. لا بد أنك ساحرة ..
رقصت حاجبيها بغرور تلتصق به ..
*إلى أين نذهب ...
ضحك بخشونة ليقر مرة أخرى
*لا أعلم .. المهم أن أكون معك ..
و بالفعل قضيا وقتا طويلا يجوبان الشوارع .. تناولا وجبة سريعة من أحد المحلات .. ضحكا .. تحدثا طويلا ..
و هي تنظر له لا تصدق أنها حقا وصلت له ..
هذا الجلف الطباع , المستبد كما تقول غنجة عنه , تمكنت هي من جعله يقع في هواها .. نظرت لصدره حيث تلك السلاسل الكثيرة التي لم يتخلى عنها ..
كما أنه لم يتخلى عن طريقته في اللباس ..
يظهر صدره العريض متباهيا به .. كما قالت له مرة ..
( و كأنك الوحيد الذي يمتلك صدرا تتباهى به ! )
ضحكت بمرح فقد قال لها في أحد المرات أنها مزعجة كعلقة في الحلق !
لكن ذلك كله لا يهم المهم أنها في النهاية تمكنت منه بمساعدة غنجة , فلم تترك مناسبة تسمع بها أنها ستذهب لترى لمك أو يأتي لها إلا وتواجدت ..
حتى في تنظيف شقته حين انتهى من كل التعديلات التي أجراها ..
ذهبت معها وساعدتهما ..
مبدية إعجابا مضحكا بكل ما تراه .. ليس لأنها مميزة ..إنما كونها من اختياره..
حتى سقط أخيرا ..
وقال لها مرة بغضب على ما كانت تلبسه هي وغنجة فقد اشترتا يومها ذات الملابس كي تكونان متشابهتين ..
لينفجر غاضبا بهما .. غنجة كعادتها وقد تحررت من قيد مجلس القبيلة لم تهتم وتركته يرغي ويزبد غضبا ..
أما هي فقد أطرقت رأسها بإحساس بالذنب لتتلقى كلماته العصبية ..
والتي انتهت بقوله
*وفي كل مكان أذهب أجدك في وجهي .. ماذا بعد .. إن كنت تريدين القرب مني اكبري !
يومها نظرت له بعيون متسعة تسأله
*ألست كبيرة بما يكفي ..
حينها تبرعت غنجة بالإجابة عنها
*لا يقصد هذا النوع من الكبر عزيزتي .. ببساطة يخبرك أنك يجب أن تكوني كما يريد ..
وبملل نظرت لهما لتقول
*أنت تقاوم التقرب منها وهي ملتصقة بي من أجلك .. لأجل الله كفّا عن التغابي و ارحماني ..
كانت الصدمة من نصيبهما معا ..
لينظرا نحو بعض بارتباك قبل أن يذهب كل منهما في طريق تاركان غنجة وحدها تنظر لهما ببله ..
لكنها أيام فقط ..
ابتعدت هي خجلة من كلمات غنجة الصريحة , لم تجرؤ على جعله يلمحها حتى ..
ليقدم من تلقاء نفسه على التقرب والاتصال بها ..
بحجة الاطمئنان إن كانت بخير!
توالت الاتصالات .. اللقاءات . .. الطلبات ..
حتى قرر أنه لا يريد أن يؤجل المواجهة مع عائلتها طويلا ..
فإن كانت ستندلع النيران بالرفض فليشعلها باكرا حتى يتمكن من السيطرة عليها .. وفعلا كان الرفض الذي قاومته روز بشراسة لم يتوقعها من فتاة مدللة مثلها ...
تمسكت به وكأنها تعشقه منذ سنوات !
كانت مضحكة بالنسبة له ..
لكنها أعجبته أكثر وأكثر ..
حتى دخل مهاب في المعادلة , واشترك معه ومالك بالعمل واستلم القسم المتعلق بالحسابات فلا لمك يحبه ولا مالك كان مبديا حماسا له ..
وفي بداية الطريق كان من الصعب عليهما أن يعتمدا على أحد لا يثقا به فجاء مهاب بالنسبة لهما إنقاذ من السماء ..حينها عائلته وبعد تعمقه مع لمك تغيرت وجهة نظرهم ..
ليسرع على الفور يقيدها به و بخاتمه كما يقول ..
.......................
نظرت غنجة للمك المرتبك , بعد محاولتها الفاشلة للاتصال بالشيخ رجب ..
طلب منها أن ترافقه في زيارة لمكان التخييم ..
للحظة تخيلت أن القبيلة لا زالت هنا , وأنها ستعود لتجد الشيخ رجب ينتظرها ..
تركته يجلس حيث كانت الحظائر يوما ..
وسارت في المكان الخالي ..
لا شيء .. لا شيء أبدا يدل على أن حياة كاملة كانت هنا قبل أسابيع قليلة ..
ابتلعت ريقها بغصة ..
تتذكر كنج .. كلبها المدلل وكيف وجدته ..
ضمت جسدها تسير ببطء شاردة في المكان الخالي ..
هنا كانت غالية تنتظرها كل يوم .. على هذه البقعة كانت خيمتهم ..
عضت شفتها تقاوم الدموع التي تهددها ..
لكنها لم تعد تبكي .. لن تبكي ..
رفعت رأسها للسماء .. ضحكت بحزن ..
تتذكر أول مرة وصلوا لهنا و نصبوا الخيام .. ملاحقة مكسيم لها ..
اعتراض لمك على خروجها المتكرر وحدها لأطراف المكان لتراقب المدينة ..
لكنه دائما .. دائما كان متواجدا من حيث لا تدري ليساعدها ..
*غنجة ..
ناداها لمك بلطف لتنتبه له ..
ومجددا وجدت نفسها عند صخرتها القديمة ..
وكأنه المكان الوحيد الذي يجيد لمك قطع خلوتها فيه ..
همست باختناق
*هنا وجدت كنج مقتولا ..
على الفور قاطعها لمك ..
*غنجة .. غنجة لا تتذكري أرجوك.. فقط تذكري ما أفرحك في هذا المكان ..
ولم يقاوم حين رأى دموعها تنزل بسخاء ليضمها على صدره متعاطفا معها ..
هامسا باختناق هو الآخر وقد كان كالعادة الشخص الوحيد الذي عليه التعامل مع مشاكلها .. حزنها .. فرحها .. وحقيقتها الآن ..
*هناك أمر يجب أن تعلميه ..
رفعت رأسها عن صدره , لكن قبل أن يقول شيئا سألته مستغربة رغم حزنها
*السلسلة ..
قاطعها مبتسما بمرارة
*تخلصت منها غنجة .. كانت مرحلة وانتهت ..
ونظر لها بتدقيق هامسا
*هناك دائما مرحة في حياتنا , تفاصيلها لا تكون بإرادتنا .. لكن بإرادتنا فقط نتمكن من جعلها خلفنا .. لنمضي قدما نحو الأفضل ..
وبنبرة ذات معنى أكمل
*يجب أن لا نندم على أي فترة في حياتنا .. بعضها حقا قد يكون مجرد كذبة ..
ابتعدت عنه خطوة .. متخلية عن دعمه تنظر له بعيون باكية ..
تعلم .. تعلم أن ما سيقوله الآن لن يعجبها ..
وتذكرت .. كلمحة البصر ليلة المهرجان ..
حين خرجت تبحث عن غالية وقد اختفت فجأة لتجدها خارجا مع الشيخ رجب ..
سمعت ما قالته ..
سمعتها وهي تقول باكية
(هذا القلب عشقها حد الموت .. كنت أشعر بكل نفسه تتنفسه بكل ألم وضحكة .. لم تضَم يوما عندي والله يشهد أن عائلتها ما كانت لتقدم لها الحب الذي قدمته )
حك لمك رأسه وكانه يجد صعوبة في الحديث .. لتحثه رغم ان لا فضول لها على الإطلاق لتعرف ما يريد قوله
*أخبرني ..
ازدرد لعابة بقوة لتهتز تفاحة آدم تراقبها , لتعرف أنه يجد صعوبة في الحديث
*غنجة ..
ابتعدت خطوة إضافية تهمس بضعف غريب
*أنا اعرف اسمي جيدا يا لمك ..
أطرق برأسه ليقول مشجعا نفسه
*لا .. لا تعرفينه يا غنجة ..
قطبت تنظر له بغرابة
*ما الذي تعنيه ؟
لم يجرؤ على النظر في عينها .. ليقول بسرعة مفرغا ما في جعبته من كلام وقد تعب من المراوغة
*أنت لست غجرية غنجة .. اسمك .. اسمك هو روان .. عائلتك .. هي .. ناهد خالتك .. تعرفت عليك .. أجرينا الكثير من الفحوصات وتأكدنا ..غالية أحضرتك لنا طفلة صغيرة .. كنا جميعا صغارا .. ..
نظر لها وعينيه تلمعان بذكريات قديمة
*كنت طفلة صاخبة .. مدللة .. كثيرة الطلبات صعبة الإرضاء ..
غص وهو يراها تنظر له بجمود ..ليكمل متذكرا
*كنت الوحيد الذي شعرت بصعوبة في تقبل دلعك ودلالك .. حتى اسمك اعترضت عليه ..
ضحك بمرارة ليقر معترفا لها
*لطالما كرهت تلك اللازمة التي رافقتك طوال سنواتك معنا ( إنها غنجة .. لأنها غنجة ) كانت تلك الكلمات تستفزني جدا , وكم أردت كسر تلك اللازمة وأردت تغييرك .. دمجك حقا في عالمنا .. لكن القدر له كلام آخر دائما .. وعدت لأصلك .. كأن داخلك طوال الوقت كان يعرف أنك سترجعين لعائلتك وحياتك الحقيقية ..
كانت تنظر له بعيون متسعة .. دامعة .. دون أن تنطق بحرف ..
أدارت ظهرها له ..
لتجيل نظرها في المكان ..
تفكر في كلمة قالها ..
ذكرياتها تمر في خيالها بسرعة ..
طفولتها الشقية .. الشيخ رجب ولحاقها له في كل مكان ..
الخيل الذي تعودته طفلة ..
شجاراتها مع أطفال سنها .. تمردها على لباس الغجر وجنونها ..
كل ذلك تتذكره ..
تذكرت أول خلاف حقيقي لهم عندما طلبوا منها في سن الرابعة عشر أن تتدرب على العروض لأنها ستشارك في المهرجان ..
كانت مدينة أخرى . يومها رفضت بقوة وصرخت وبكت وقاتلت حتى تضاربت بالأيدي مع مكسيم , ليخرج الشيخ رجب منهيا الخلاف بقوله أنها لن تشارك
تذكرت حينما سأله لمك بغضب
*ولما ستعفيها من المشاركة ونحن يجب أن نشارك ..
لحظتها أجاب الشيخ رجب منهيا الجدل غير سامح بكلمة إضافية
*لأنها غنجة ..
لأنها غنجة ..
همست بصعوبة للمك
*أعد كل شيء للنسيان لمك ..
التفتت له باكية
*دعني لما عرفته طوال عمري .. أنتم كنتم عائلتي .. كانت غالية تتعذب كل يوم تخاف هذه اللحظة .. كانت تبكي كل يوم تنظر لي بحسرة وكأنها تشتاقني ..
وجدي .. جدي رحل لأنه لم يقدر على مواجهتي..
قاطعها لمك مصححا
*لم يقدر على خسارتك غنجة .. الشيخ رجب خشي أن تكرهيه ..
*أيا كان ..
هتفت به صارخة بقهر
*أيا كان .. لكنه تخلى عنها وهو يعلم أنهم عائلتي ..
وبضعف أضافت تركض ترمي نفسها على صدره
*أنتم عائلتي لمك .. لا أقدر أن أكون ابنة لأحد غيركم .. سأنتظر ..
سأبقى أنتظر أن يعود جدي لأخبره كم أحبه..
ضمها بقوة لتهمس
*قلت لغالية في قبرها ..
ما كنت طفلة غيرها يوما .. ولن أكرهها .. لا اقدر ..
لا أقدر على الهرب ..
أسامحها والله , ولكني مجروحة ..
لا أجد قدرة على الخروج منكم و لا أجد القدرة على الدخول بينهم ..
رفعت وجهها له تكمل بنشيج حزين
*يكفيني من نفسي ما أنا عليه الآن .. كله كان حقيقة وسأحرص على أن يكون القادم حقيقة ..
..............................
نهاية الفصل

شببت غجريةWhere stories live. Discover now