الفصل الرابع عشر

2.1K 51 2
                                    

..............................................
صباح اليوم التالي ..
دخلت صفاء المكان بخطى مترددة , تتوقع في أي لحظة أن ترى نيمار ..
لا زالت حتى هذه اللحظة لا تعرف لماذا عاملته بهذا الشكل , لقد اعتادت معه على الجنون , وعلى الصراخ حتى لكن ليس أمام العائلة , هذه قلة احترام منها ..
ندمت عليها لاحقا ..
خطواتها كانت متعبة , حتى أنها لم تتعب نفسها بالتأنق , مجرد بنطال عادي من الجينز , وكنزة باهتة اللون , لم تكن من عادتها اهمال نفسها لكن لا رغبة لها ..
جلست خلف مكتبها بعد تحية مقتضبة لزملائها لم تهتم إذا كانوا قد ردوها أم لا ..
فتحت درجها المكتبي لتضع حقيبتها اليدوية , فوجدت أحمر شفاهها ..
قطبت تتذكر كم بحثت عنه منذ فترة , لتبتسم شاردة دون أن تنتبه لنفسها ..
وعقلها يعود لذكريات لا تريد نسيانها ..
شعلة عينيه السعيدة لأنها أخرجته من جيبها , وشفتين عاشقتين مجنونتين تسرقان من ثغرها ما شاءتا من قبلات ..
( ليته يتصل .. )
همست بذلك , بأمل , عله يصفح ..
أعادت الإصبع للدرج , تعد نفسها أن تأخذه معها , والتفتت لأوراقها لترى عملها المهمل , من المؤكد سيخصم من راتبها لهذا الشهر ..
وغرقت بين أوراقها , ترغم نفسها على إنجاز كل شيء ..
حتى أحضر لها الساعي قهوتها التي طلبتها وهي تدخل .
لقد تأخر فيها كعادته ..
نظرت للساعة لتجدها تجاوزت التاسعة بقليل ..
عضت شفتها , لتميل وتسأله هامسة
*هل جاء الاستاذ نيمار ..
وعلى الفور أجابها بصوت جهوري أخجلها وابتسامة واسعة
*منذ زمن طويل , قبل الجميع ..
شكرته بلطف وصرفته ..
ومجددا نظرت للساعة , يعرف أنها ستأتي اليوم للعمل , فهو من أرسل رسالة مقتضبة يخبرها أن إجازتها انتهت ..
لم ترد عليه حينها , وبماذا سترد كانت رسالته عملية جدا وباردا جدا ..
استندت على المكتب متظاهرة بالنظر للأوراق , لتقضمن دون شعور أظافر كفها اليسرى .. متوترة لا تعلم لماذا ..
نفخت , لتنهض وتذهب للحمام , علها تختبئ به عدة لحظات ..
تغلق الباب على نفسها تسمح لأنفاسها المتهدجة أن تخرج ..
خائفة جدا من بروده ..
ربما .. ربما يجب أن تفعل شيئا , هذا البرود لا يشبه نيمار في شيء , لم يسبق أن تركها ليلة واحدة تنام دون وعد بحب أبدي ..
لكنه هذه المرة تركها ليوم وليلة !
لقد فعلها .. هل وجد غيرها !
انتفضت بقوة ليتشعث شعرها حول وجهها , وعلى الفور خرجت بخطوات سريعة , مرتجفة غاضبة , تقصد مكتبه ..
ولغيظها وجدت جميلة تجلس أمام مكتبها تعبث بهاتفها الخلوي ..
لم تنظر جميلة لها , وصفاء لم تكن تنوي أخذ إذنها للدخول , لكن ما أن همت بوضع كفها على الباب حتى قالت جميلة بهدوء وعدم مبالاة
*لقد خرج ..
ونظرت لها بابتسامة مجاملة خبيثة
*ولن يعود اليوم ..
ضيقت صفاء بعينيها وهتفت من بين أسنانها
*أين ذهب ..
سمعتها جميلة , لترد بذات البرود الذي أشعل نار صفاء
*يشعر بالصداع , ويريد الراحة , فسنخرج على الغداء اليوم ..
*ماذا !
هدرت صفاء من فورها لتقترب منها بسرعة تخبط على المكتب اللامع بكفها
*ماذا قلت بالضبط ..
اقتربت جميلة بوجهها لتقول ببطء وشفتين متلاعبتين ..
*سنخرج للغداء  ..
عضت شفتها بمكر لتسأل بميوعة
*أستطيع أن أكرر إن لم تسمعي ..
وشهقت بدلع متظاهرة أنها تذكرت ..
وابتعدت بكرسيها قليلا لتسحب ظرفا من درج مكتبها وتمده لصفاء التي كانت محمرة الوجه , تنظر لها بعدم استيعاب وشر !
شعرت في هذا اللحظة أن صفاء قادرة على قتلها بكل بساطة ..
لكنها لم تهتم , وأعطتها الظرف الذي ظلت صفاء تنظر له لعدة لحظات قبل أن تسحبه بقوة منها , لتقترب ترفع إصبعا محذرا في وجه جميلة
*ابتعدي عن نيمار ..
طقطقت جميلة بلسانها , لتزيد جنون صفاء تسأل بصوت ناعم
*وإلا ماذا ..
صرت صفاء على أسنانها وهتفت بغل
*وإلا سأقتلك بكل ضمير مرتاح ..
ضحكت جميلة ترجع رأسها للخلف وقالت شامتة
*طالما هذا الجنون في الحب ..
وجمدت ملامحها بقسوة تكمل غير عابئة , بالدموع التي تجاهد صفاء على إخفائها لتتظاهر بالقوة
*لمَ كل هذا الجنون بالتعامل حتى فقدته ..
شدت صفاء فكها حتى لا تصرخ , وحتى لا تجهش بالبكاء أمامها !
وأخذت وقتها في السيطرة على أنفاسها , لتقول ببرود يشابه برود جميلة , رغم النيران في أحشائها
*أنا لم أفقده ..
واستدارت تنوي الخروج , لتسمع ضحكة جميلة الناعمة الساخرة
*لكنت صدقت ..
وسكتت قليلا , تضمن لفت انتباه صفاء التي وقفت دون أن تنظر لها لتكمل ..
*لو أنني لم أكن أنا من وضع خاتم خطبته في هذا الظرف ..
لم تنظر صفاء لها ..
فتحت فمها بغباء , وعينيها اتسعتا بينما لا تجرؤ مجرد النظر للظرف في كفها ..
ولم ترد..
لم تكن تثق بقدرتها على الرد , فمن المستحيل أن يفعلها ..
كيف يفعلها وقد سعى خلفها طويلا بعد أن فسخا خطبتهما لأول مرة حتى أعادها له..
عادت لمكتبها مغيبة , لتأخذ حقيبتها , وتغادر دون أن ترد على أحد ..
وهل يمكنها تشعر أنها بمجرد أن تفتح شفتيها ستصرخ بأعلى صوتها قهرا ..
وفي سيارتها .. تلك التي كانت هدية نيمار لها , جلست تنظر للظرف وكأنه وحش مفترس ..
تلسمته , لتشعر حقا بملمس الحلقة فيه ..
*فعلها !
همست بضياع , وهي تفض الظرف وتشقه نصفين
*فعلها حقا !
والتي بيدها حقا , هي دبلته الفضية !
..............................
أمام القصر الضخم , ومعه تلك السيارة الفاخرة ..
هل يفعل كما قال للضابط غاضبا قبل لحظات
( جد لي حلا لأعود .. وإلا قد تروقني الحياة وستجد نفسك غارقا في مطبات يصعب عليك الخروج منها دون معلوماتي )
طبعا المعلومات التي لا يعلم عنها شيئا ..
رأى منذر يتقدم نحوه , فأدار السيارة ليصدر عنها صوتا ناعما , يناقض سرعتها الهائلة على الطريق ..
حصل على ثقة منذر , من مجرد كلمة قالها دون حساب ..
من كان ليصدق هذا , تنهد قبل أن يرسم على شفتيه ابتسامة جادة استقبل فيها منذر , الدبلوماسية هي ما يحتاجه , وكما حصل على ثقته ليعرف مسكنه ويأتمنه على السيارة التي تساوي ثروة , سيتسلل لدواخله ويعرف كل شيء ..
عل هذه المهمة البغيضة تنتهي ويعود لحياته الطبيعية ..
تلك التي لم يعشها منذ تعرف على عماد ..
قال بجدية مفرطة , عندما ركب منذر قربه يرد تحيته الخافتة المغرورة ..
*عماد حاول الاتصال بك سيد منذر ..
نظر له منذر مقطبا
*وما الذي يريده ..
لم ينظر له مهاب , يكمل طريقه نحو تلك المستودعات التي لا يعلم ما بداخله , ولكنها تبدو كخلية نحل  تعمل بصمت ..
*لا أعلم ..
*اطلبه ..
أمر منذر ببساطة , ليخرج الهاتف من جيب قميصه الأنيق , مخفيا ابتسامته المنتصرة , ليطلب الرقم ويقدم الهاتف لمنذر ..
كان حديثه خافتا رغم جلوسه قربه ..
تفصد جبين مهاب بالعرق , يجب أن يحصل على هاتفه ما أن يغلق منذر الخط , وابتهل لله ألا يفكر منذر بالنظر للشاشة ..
وإلا ستظهر له تلك الإشارة الصغيرة , التي ستعلمه أن المكالمة قد سجلت !
لقد أخفى البرنامج , ولكن تلك الإشارة لا  يمكن إخفاؤها , وعليه أن يضغط عليها ليتم حفظ التسجيل ..
وتنهد براحة , دون أن يقدر على حبس ابتسامته ما أن ناوله منذر الهاتف , ليغلق هو الخط..
وقف أمام المستودعات , وعلى الفور نزل منذر ليطلب منه البقاء مكانه ..
نقر على المقود بعصبية , ينتظر أن يدخل منذر المستودع وما أن فعل , حتى فتح هاتفه ليحفظ التسجيل ..
عندما يعود لبيته , سيسمعه على مهل وبتمعن ..
خاصة مع نبرته الخافتة جدا , هذه المكالمة هي ما يحتاج بالتأكيد ..
تمتم بانزعاج
( حسنا ربما كنت أنفع جاسوسا بعد كل شيء ! )
وارتفع حاجبه باستنكار لهذا اللقب ..
كم اشتاق لعائلته .. لو أنه فقط يتمكن من الاتصال بهم ..
ولكن ذلك غير ممكن , لن يقدر على فجعهم بأمره ولا على الكذب ...
لن ينالهم منه المزيد من الكذب والمصائب ..
يكفي ما حصل ..
وانتفض على وجه منذر الذي أصبح فجأة فوق رأسه على النافذة يميل إليه ..
بينما نظراته تحاول سبر أغواره
*ليتني أعلم بما تفكر بهذا العمق كلما ابتعدت عنك ..
وكالعادة أجابه مهاب بصدق وبما كان يفكر به
*أفكر بقتل عماد ..
ضحك منذر بصوت قوي يضرب كفا بكف
*أقسم بالله أنك مسلٍ ..
ابتسم مهاب , ابتسامة لم تصل لعينيه ليكمل منذر
*وما السبب هذه المرة ..
ضيق مهاب عينيه ودون تردد أجاب
*لأنه السبب في بعدي عن عائلتي ..
هز منذر رأسه متفهما , رغم رغبته بالضحك ليمازحه
*أخشى أن يصل الدور عليّ..
ففاجأه مهاب بالسؤال
*وهل تنوي إيذائي ..
نظر له منذر مطولا , فهذا الشاب , ليس سهلا أبدا ..
والوثوق به ربما كان خطأ ولكن التراجع أصبح غير ممكنا , خاصة مع علمه بأماكن المستودعات ..
*لا ..
أجابه باقتضاب , ليضحك مهاب هذه المرة غامزا
*إذن أنت خارج مواهبي في القتل ..
تجمد منذر للحظات , ينظر لمهاب بتركيز , لتشق ببطء شفتيه ابتسامة راحة , وقد أحس المزاح في نبرة مهاب ..
يبدو أنه يجد ذلك طريقة لإفراغ غضبه من الوضع الذي وجد نفسه فيه ..
*أنت مسل حقا..
كررها مرة ثانية , ليركب مع مهاب , الذي استعد لمشوار طويل , سيطول مكتب منذر في المدينة , ومطعمه المفضل لتناول الإفطار , وبعدها عودة للمستودعات ومنها للقصر حيث يتركه ليغادر ولا يعود إلا عند الطلب ..
وكانت تلك اللحظة من الانفراد مع نفسه هي ما يحتاجه .
ولكنه لن يسمع التسجيل في الشقة ..
ولا في السيارة .
وسيرحب تماما بوجبة شهية في المطعم القريب من الحي ..
وطلب وجبة سريعة وجلس لبعض الوقت , ونهض متذرعا بالذهاب للحمام ..
وهناك , وجد الفرصة , ليسمع التسجيل ..
كانت عينيه تتسع مع الكلمات وقد فهم تماما ما معنى أن تحترق الحدود ..
وبسرعة , كان التسجيل قد انتقل من هاتفه للضابط ..
ليمسحه من عنده , ويخرج ليتناول وجبته , بهدوء ظاهري , وذعر يختبئ بين جنبات صدره ..
مفكرا كم كان وجوده هنا ضروري حقا ..
وهو الذي استخف بقدراته وبما يمكن أن يفعله ..
وفجأة لم يعد متعجلا العودة , ولم يعد يرغب بمعرفة ما يجري في البلاد ..
بل ما يجري هنا ..
أنهى وجبته , واتصل بمنذر على الفور وبعد كلمات مقتضبة , أخبره أنه ينوي القيام بجولة في المدينة فقد مل البقاء في الشقة ..
ولم يكن يعلم أن جولته قد تمتد طويلا , بعد أن دخل أحد المحلات للألبسة بهيئة ,وخرج بأخرى , فالمال يفعل الأعاجيب وقد أغرقه منذر به .
ووجهته كانت المستودعات ..
يراقب عن بعد ما يحدث , عله يتمكن من رد شيء أو جمع معلومات أكبر .
.................
توقف مناف عن السير في الشارع , فهو لا يعرف وجهته ..
أو إلى أين يلجأ , وكلام عائشة يعيد ويكرر نفسه في رأسه ..
كل محاولاته لجعلها تتوقف عن الطلب والتفكير بالأمر باءت بالفشل ..
شد قبضته بغضب منها , وعلى الفور استدار بخطواته الهادرة , تشاجر معها منذ لحظات ولكن هي السبب , عنادها وإصرارها هو ما جعله يرفع صوته عليها ..
لم يكن عليه أن يفعل ذلك خاصة مع وضعها الصحي الحالي ..
ألا يكفيها ذلك ..
دخل البيت متجاهلا ميرا التي كانت في الصالة ليدخل من فوره لغرفتهما حيث كانت على حالها , تبكي دون صوت , ونائمة على ظهرها ..
أحست بدخوله , ولم تفتح عينيها , لن يصدق أنها نائمة فدموعها قد غسلت خديها ..
ولا بد أن أنفها الآن محمر كالعادة ..
*عائشة ..
نادى بقسوة خرجت رغم عنه , أراد أن يلطف صوته لكنه لم يقدر , كيف وهو يرغب بضربها في هذه اللحظة بسبب ما تدفعه نحو فعله ..
فتحت عينيها ببطء تنظر له , بدموع سخية
*أحقا تريدين مني الزواج ..
أومأت برأسها بنعم ولم تنطق بشيء , لا يعرف كم الأمر صعب عليها ..
أرادت أن تكرر ذات عباراتها الرنانة , لكنه رفع يده في وجهها يقول بعزم وتصميم
*إذن سأتزوج ..
تجاهل الشهقة التي ندت من شفتيها دون إرادة منها , وتجاهل متعمدا وجهها الذي نضح بالألم .. بشكل أوجع قلبه , ولكن ملامحه لم تلن وهو يكمل
*لك هذا , وفي هذا البيت ..
*ماذا !
سؤالها المصدوم , ومحاولتها النهوض بضعف بينما هو ينحني عليها ليواجه وجهها المصدوم يمنعها من النهوض
*وأنت يا عائشة , لن تحرري من هذا الزواج , حتى لو ترجيتني , لن أحررك مني , ستبقين زوجتي , حتى لو أردت الذهاب وكرهتني لن أحررك ..
كان فعليا يحذرها من مجرد التفكير بالأمر , وهي التي لم تفكر به !
ولكن مجرد موافقته على الزواج أوجعتها .. حد الموت ألما ..
اهتزت شفتيها ببكاء , ليسأل بقسوة وصوت حازم
*لآخر مرة أـسألك .. هل حقا تريدين مني الزواج ..
وكان الصمت ردها ..
أن تقنعه شيء , وأن ينفذ شيئا آخر .. ابتعد عنها قليلا , ينظر بتركيز لعينيها الباكيتين , الحائرتين ..
ووجهها المجروح من ملامحها التي تنطق بالألم ..
وابتسم .. فكما توقع , لن تقدر على المتابعة على رأيها ما أن يوافق ..
*نامي ..
همسها برقة , يعيد تمديدها على السرير ليغطيها بحنان أوجع قلبها ..
بينما داخله يردد .. كان يعلم أنها لن تقدر على مواجهة الأمر على أرض الوقع ..
لكنه أبدا لم يحسب حساب صوتها المختنق الذي صدح قائلا ما أن استدار ليخرج من الغرفة
*نعم أريدك ..
غص صوتها لتكمل بغصة
*أريدك أن تتزوج ..
توقف لا يصدق أنها قالتها .. رغم كل الألم الذي غزا قلبها قالتها ..
نظر لها بألم يوازي ألمها وهمس
*لك ذلك ..
.................
بعد أيام ..
دخل مجيد الغرفة بخطى بطيئة , يحمل التقرير بيده ..
ذاك التقرير الذي ينتظره الجميع على نار , وخاصة  ناهد ..
ينتظره مالك وناهد , وروز التي لا زالت في غرفتها في المشفى لم تخرج بعد رغم إخبار الأطباء لهم أن بإمكانها الخروج ..
ولعلمه المسبق بنتائج التحليل , اكتفى بوضعه على الطاولة الصغيرة
*إيجابي ..
نظرت له ناهد مطولا , لم تكن بحاجة للتأكيد , فهي متأكدة , وما كل ذلك إلا تحصيل حاصل ..نظراتها .. بما يصفها انتصار أو رغبة في القتل !
*إنها روان .. أخبرتكم بذلك ...
وخرجت من الغرفة كسهم النار ولم يحاول أحد إيقافها ..
نظر مالك لروز التي اتسعت عينيها لا تستوعب  , قبل أن تقفز من سريرها بسرعة وتتبع ناهد ..
أما مجيد فقد شعر أنه مكبل لا يعرف ما عليه فعله , لقد فتحت أبواب لا علم له كيف يغلقها , ناهد ستصر على أخذ روان ..
ستفتعل المشاكل , أين هو مروان عندما ريده..
*اتبع أمك وأحضرها يجب أن نتصرف بعقلانية ..
قال لمالك الذي بقي مقطبا يقرأ التحليل بتمعن ويهمس بشرود
*لم نسمع أي صراخ , لم تفتعل فضيحة بعد..
لا يعلم لما هذا الشعور الغريب الذي يكتنفه ..
ولكن كـأن الأمر مجرد وهمٍ يعجز عن تصديقه , وكيف يفعل , كقصة من عاد للحياة بعد سنوات من الموت ..
وخرج يتبعها إلى حيث ولا شك توجهت ..
ولعجبه , رأى روز تقف على مقربة منها , بينما هي تضم قبضتها على صدرها وتقف خلف الباب تعجز عن فعل شيء سوى البكاء ..
ذهب نحوها بخطوات مسرعة قبل أن يراها أحد مشيرا لروز أن تعود لغرفتها ..
ما أن رأته حتى همست بشحوب باكية
*إنها ابنة اختي .. كيف .. كيف سأخبرها !
مد ذراعيه مهونا الأمر عليها يضمها له
*اهدئي أمي وتعالي لنفكر ..
*كيف أهدأ .. كيف وأنا داخلي نار تحرقني !
نشجت على صدره كطفلة صغيرة , فسحبها برقة عائدا بها نحو الغرفة التي يجب عليهم إخلائها ..
مشيرا لعمه عليها , وفهم على الفور أنها اقتربت من الوقوع بحالة هستيرية ..
اقتربت مجيد منها , ليقول لها مهادنا ..
*دعيني أتصرف أولا , مروان قادم إليك ..
نظرت له باستسلام , تخاف من أي خطوة قادمة , وهي التي ظنت أن التقرير هو كل ما تحتاج , مخطئة كانت ..
فكم تحتاج من قوة وثبات .. وذكاء ..
لن تتمكن من التعامل مع الأمر بعقلانية ولن تقدر على استمالة قلب الفتاة بالتصرفات الحمقاء ..
لذلك أومأت لمجيد مستسلمة لقراره , وقبل أن يبتعد أمسكت كفه لتهمس مترجية
*لا تدعني أفقد ابنة أختي مرة أخرى .. أرجوك ..
نظراته الرجولية التي لم تخذل يوما رجاء أكدت لها أنها لن تتعرض للخذلان في وجوده , وعزم الخطى , متجها نحو الغرفة الأخرى ..
متجهم الوجه , متوجس مما هو قادم , من الذي يرغب بمعاداة أولئك القوم , ولكنها ابنتهم وستعود لهم , وليفعلوا ما شاءوا ..
وفي الغرفة الأخرى , كانت كالقطة الأليفة تدفه نفسها على صدر الشيخ رجب , تسرق منه الاهتمام والحنان , وكأنها فقدت كل شيء بابتعادها عنه لهذه الأيام ..
كان يضحك بخشونة يداعب شعرها المضفور بغرابة , ونظر لغالية التي كانت تبدو له قلقة وكأن هناك ما يجري لا يعرف ما هو ..
*أول مرة أرى شعرك مضفورا !
قالها مستغربا , لترد غنجة بصوتها الذي ما زال مرهقا
*غالية أصرت عليه هكذا ..
ونظرت لها وكأنها حرمتها الحياة !
تزم شفيها بدلال , لترفع عينين متسعتين ببراءة للشيخ الذي ما أن رأى نظراتها حتى ضحك بصوت عالٍ يشاكسها
*يا لك من مخادعة ..
وعلى الفور فهم ما تريده , ليمد يده , ويفك الضفيرة , لتضحك غنجة بانتصار وقد عجزت  عن إقناع غالية بفكها , وغالية تنظر له بخوف وكأنه بفك الضفيرة , يفك ترابطها مع غنجة ..
وكم تمنت أن تزجره ليتوقف عن نثر شعرها المجنون , لكنها لم تجرؤ على ذلك .
*جدي ..
همست غنجة بعيون سارحة .. خائفة رغما عنها , لتكمل قبل أن تسمع رده
*كنت خائفة جدا ..
تجمدت أصابعها على شعرها , وهي تزيد من حشر نفسها تتلمس الأمان
*خفت جدا , وتألمت جدا ..و ..
سكتت للحظة لترفع عينيها الحائرتين التين غلفتهما طبقة رقيقة من الدموع لم تنزل بعد ..
*قال أشياء كثيرة .. تخيفني .. أذكر ما حصل كحلم وأعجز عن استرداد ما قاله ..
وكأني دون أن أدري لأمنع الألم امتنعت حتى عن حفظ الذكرى !
انقبض قلب غالية وهتفت دون أن تسيطر على نفسها غير مهتمة بنظرات الشيخ المحذرة
*أي أشياء هذه يا صغيرتي , انسي ما حصل , وكأنه لم يكن .. كان مجنونا لا هم له سوى أذيتك .. انسي ..
نفخ الشيخ بإرهاق لا يعرف لمَ أصبح أمر غنجة , حملا لا قدرة له عليه !
فشد قبضتيه برفق حول جسدها هامسا متجاهلا غالية وكلامها , يحاول أن يعرف بالضبط ما الذي قاله مكسيم
*تحدثي , لا تبقي شيئا في داخلك ..
سكتت غنجة للحظات , لا تنتبه لجسد غالية الذي انتفض برفض على الكرسي , تنظر للشيخ باستنكار وكأنه يسعى ليبعدها عنها !
لكن غنجة لم تكن واعية .. عقلها اللاوعي محتفظ رغم إرهاقه ..
بأصوات حزام يحز جلدها .. برودة تجعلها تحترق بشكل آخر من الألم ..
ارتجف جسدها لذكرى لمساته القذرة على جسدها الذي عراه بكل وقاحة , وكأن لمساته لا زالت على جسدها , لأول مرة تحاول تذكر ما حدث ..
بدأ جسدها ينتفض بخوف , تعيش تلك اللحظات مجددا , ليتفصد جبينها بالعرق , والشيخ رجب يقطب مستغربا الحالة التي أصبحت عليها , تدفن نفسها فيه , وتهز رأسها .. تنتفض كذبيحة , تبعد أيد وهمية عن جسدها وتنازع طيفا غير موجود ..
*غنجة .. ما بك ..
لكنها لم تكن معهم , عقلها  مغيب تماما , غارق بالذكرى يستعيدها ويعيشها , لتصرخ بوجع صوتا ملأ المكان ..
فما كان من غالية سوى أن ركضت تبحث عن طبيب والشيخ رجب يحاول تهدئه انتفاضتها , يرقيها بما يعرف .. ولكن كيف ..
كيف يمحو من عقلها ما حصل , وقد كابرت لأيام لا تعترف بأنه حصل , تكابر وترفضه .. وتبعده قسرا عن تفكيرها ..
كان متوقعا أن تقع صريعة الذكرى عند أول محاولة للاعتراف بما حصل ..
تشعر وكأن كل ذلك يعاد , لتتعالى صرخاتها ..
دون أن تدري , موجوعة , نازفة من الصميم ..
تجذب أسماع الكل , حتى ناهد التي لم تكد ترى مجيد يفتح الباب حتى اطلق الصراخ المتألم ..
خرجوا جميعا وراءه إلى الممر , حيث رأوا طبيبين يدخلان الغرفة , ليخرج غالية والشيخ رجب منها , والصراخ مستمرا , حتى دمعت عيني روز , تتراجع للخلف بعيون متسعة , وصراخ غنجة , يذكرها بما حصل , لقد تغلبت على الذكرى ..
فعلت ذلك .. فعلت ذلك ..
وظلت تكرر لنفسها أنها تجاوزت الذكرى , تجاوزت رعبها من جسد غنجة وهو يجلد , من الثعبان الذي انطلق نحو جسدها الدامي ..
تجاوزت ذكرى الجلد على ظهرها , وتجاوزت ألم جسدها المعلق بذراعيها فقط ..
كله تجاوزته ..
ظلت تقنع نفسها بذلك , حتى خرت على ركبتيها تلتصق بالحائط , تغمض عينيها , وكله يتكرر أمامها , لتصرخ بدورها خائفة ..
والكل مستغرب مما يحصل , ومشتت بين الاثنتين ..
ركض مالك نحوها لا يفهم ما حصل معها , بينما يتمنى بكل قوته أن يقتحم تلك الغرفة ليفهم ما يجري ..
رفعها لتقف , يتبعه مجيد , وجمانة التي وصلت للتو بملابس جديدة لروز ..
يضرب خديها برقة
*روز افتحي عينيك .. روز أفيقي أنت هنا ..
*روز ..
صرخت جمانة بقلق , تركض لابنتها التي تصرخ وتبكي دون أن تفتح عينيها ..
والطبيب الذي خرج من غرفة غنجة وقف مشدوها ينظر لها , ليتجه إليها يطلب نقلها للغرفة, لتتبع بحقنة مهدئة غنجة , ليبتعد بذلك شبح الألم عنهما , بينما خرج الطبيب مقطبا يقول بجدية
*لم تتجاوزا ما حصل , عند أول قشرة لتصدع الذكريات انهارتا ..
وبحزم طلب دون أن يقف مطولا
*تحتاجان طبيبا نفسيا مختصا وساعات طويلة من العلاج ..
وفي الخارج التقت عيني ناهد بعيني غالية , لتهجم عليها بقوة نافضة عنها الخنوع , وهي ترى ما يجري , تنتقم لألم روان , وألم روز..
لكن مالك أمسكها قبل أن تفعل شيئا , يهمس لتسمعه وحدها
*أمي .. أمي .. رجاء دعي عمي يتصرف ..
ومن بعيد رأى والده يتقدم فاستعجله بإشارة , وهو يدخلها لغرفة روز بالقوة حتى لا تثير فضيحة ..
وتمكن من ذلك , ومروان يرد على نداء مجيد له , مستغربا حالة ناهد , وحالة الفوضى التي تعم المكان على ما يبدو , لكنه لم يسأل ولم يعطى فرصة للسؤال حتى , ومجيد يقول بجدية بالغة
*دعنا نحدث الكهل .. لا مزيد من المماطلة , يجب أن نعيد روان لنا , تحتاج لعلاج مكثف ..
ونظر مروان حيث يشير مجيد ليرى رجلا ضخما , متقدما في العمر يقف على مقربة من الغرفة , بينما دخلت تلم المرأة الغرفة باكية ..
رفع مجيد المغلف الذي يحمل النتيجة في كفه وسار بخطواته نحو الشيخ رجب ..
الذي ومن منظرهما علم أن ما يريدان قوله لن يعجبه .. أبدا..
بعد تحيات مقتضبة , باردة ومجاملة لأبعد حد ..
طلب منه مجيد أن يتحدثا في الحديقة الخاصة بالمشفى , فهناك أمر لا يمكن تأجيله.. ورافقهما حقا ..
حتى تلك الحديقة , ليقفا مقابلا له ينظران له بثقة وقوة , لمك رأى ذلك عن بعد ليقف مستغربا مع ديسم , ما يحصل هنا ..
خاصة واحدهما يفتح ورقة ما أمام عيني الشيخ رجب , فلم يجد نفسه سوى ينطلق راكضا نحوهم , لا يقوى على ترك الشيخ يتعرض لمواجهة ما وحده , ولا يبدو أنه يعرف عنها شيئا ..
وكان معه كل الحق بذلك ..
........... ......................
نظر الشيخ رجب للورقة التي أعطاها له مجيد بتوتر , لا يعرف ما فيها , لكن شكل الرجلين لا يعجبه , وكأنهما ..
كأنهما يحاكمانه !
فض الورقة ليقرأ ما فيها , ليصل لمك له , بينما بقي ديسم يراقب من بعيد ..
*ما الذي يجري ..
سأل لمك بحمية , والشيخ رجب يعطيه الورقة ليقرأ ما فيها ..
نظر لما كتب فيها مطولا , وكأنه علم كل شيء !
كانت غالية على حق حينما خافت منهم ! إحساسها لم يكن خاطئا ..
أعطى الورقة للشيخ رجب ليقول باقتضاب
*إنها تحليل ..
ولم يمنحه مروان فرصة ليكمل كلامه , قاطعه يقول من بين شفتيه المطبقة الغاضبة
*هذا التحليل يثبت أن تلك الفتاة , قريبتنا ..
اتسعت عيني رجب بذعر , ولمك توترت ملامحه , لا ينطق بشيء , فما يقوله  الرجل ليس سوى الحقيقة و ليس سوى ما كان الجميع يتوقعه يوما ..
*اختفت روان قبل سنوات طويلة , لم يعد لها أثر .. لكنها ظهرت فجأة .. ظهرت صبية يانعة , كبرت بعيد عن أمها التي لم تتحمل فراقها .. ووالدها غادر البلاد كلها بعد أن فقد ابنته وبعدها زوجته ..
اقترب بتهديد دون أن يمنعه مجيد , ولمك يضع نفسه بينه وبين الشيخ رجب
*لقد دمرتم حياة أسرة كاملة .. تلك الفتاة ابنتنا ..
وبعزم لا يقبل التراجع ولا المهادنة أضاف
*ونريدها ..
تململ لمك , لكنه لا يملك ما يقوله , للحظة أحس أن فقدانها والبحث عنها وما حصل مع مكسيم , كله كان أسهل من هذه اللحظة ..
ورجب على حاله لا ينطق بشيء ..
لم يرتح ديسم لمنظر الرجال , يبدو أن الأمر أخطر مما توقع ..
واقترب على الفور , يستعد للتدخل إن احتاج الأمر , وعندما وصل , سمع الرجل الأكبر يهدر بقوة
*تكلم .. كيف أخذتموها .. انطق ..
وعلى الفور دون الحاجة للذكاء , أدرك أن ما يحصل , سببه غنجة , خاصة عندما أكمل الرجل
*كيف تمكنتم من سرقتها ببساطة ..
ولم يملك إلا أن تدخل بقوة , يقف قرب لمك الذي يزفر كثور هائج من الغضب
*لم تكن سوى طفلة تائهة ..
نظر له مروان باستخفاف , لكنه أكمل بقوة مدافعا عن عشيرته
*وجدتها غالية تائهة في الشارع فأحضرتها , لم تكن تجيد النطق حتى بشكل جيد , كنا صغارا لنبدي اعتراضا على ما حدث ..
وبتحدي للرجلين
*كيف كان مصيرها لو أنها وقعت بين يدي رجل لا يرحم .. بين من يجد متعة باستعباد الاطفال ..
قصف صوت مجيد بقوة
*وكل كلامك لا يمنحكم  الحق بأخذها , مراكز الشرطة منتشرة وبحثنا عنها لسنوات حتى دون أن نفقد الأمل في أن نجدها ..
وأمسك ديسم من قميصه وكأنه على وشك ضربه ليبعده لمك على الفور
*كيف سنجدها وقد أخفيتموها .
أبعد رجب لمك وديسم عن طريقه , ليقول دون استسلام , غير مصدق للورقة
*وكيف نعلم أنها حقا ابنتكم .. غنجة كبرت عندنا , راعينا كابنتنا ولم نرفض يوما لها أي طلب .. ما الذي يثبت حقا أنها ابنتكم ...
قاطعه مجيد بقوة , ومروان يخرج صورتها
*وحماتها الثلاث ..
ورفع مروان صورتها , لتتسع عيني رجب وهو يراها ..
تراجع خطوة للخلف , تلك الطفلة ذات النظرات الثائرة , ليست سوى غنجة ..
يذكرها وكأن ما حصل كان بالأمس , بكائها الطويل , صراخها خوفا من المحيط الذي وجدت نفسها فيه , وشعرها المجنون كما هو ..
منذ طفولتها كانت متمردة , وسحرته .. ليجد نفسه دون أن يشعر يعاملها وكأنها طفلته , لم يوافق غالية على فعلتها , لكن أحب الطفلة لدرجة لا يعلمها سوى الله فلم يتمنى ابتعادها عنه ..
ليس لديه الحق ليفعل ذلك , ولم يقدر على ابعادها ..
فكانت غنجة !
لم ينطق لمك أو ديسم بشيء .. وما الذي يمكنهما قوله !
لا يمكن لسر أن يبقى مخفيا للأبد , ليتذكر لمك خوف غالية من البقاء في المدينة , دوما عارضت القدوم إليها , ودوما كانت تشكي أصدافها اللعينة التي تخبرها أنها ستفقد غنجة يوما ما , لا يعرف كيف ستتصرف حين تعلم أن ما كانت تخشاه قد وقع .. ولكنه موجود .. سيبقى موجودا ..
تنهد بقلة حيلة , ورجب يعترف بغصة ليخرج صوته مهتزا كمن فقد عزيزا
*إنها هي .. غنجة ..
*روان..
صحح له مروان , ونظراته تكاد تهدر دماءه
*إنها روان وليست غنجة ..
وبتأكيد أضاف قبل أن يتلف ليغادر
*ونريدها أن تعود لنا ..
أمسكه ديسم من ذراعه قبل أن يغادر
*انتظر يجب أن نتحدث ..
ووجه نظرة للمك فهمها على الفور , ليأخذ الشيخ رجب ويبتعد فيه عن هنا , فلا يبدو أنه بخير , وكأن ما حصل زاده هماً وعمراً !
وأشار للرجلين أن يختارا إحدى الزوايا المنعزلة ليتحدثوا
وعلى مضض رافقه مروان ومجيد , ليجلسا على أحد المقاعد المنتشرة في حديقة المشفى ..
لأول مرة ديسم , يشعر أنه في موقع الضعف , وكم يكره أن يكون ضعيفا ..
وقال بصوت ثابت , يكسوه الذنب والقلق ..
*عندما جاءت غنجة لقبيلتنا ..
وسكت للحظات لا يعرف كيف يسوق كلماته فاستعجله مجيد بنفاذ صبر ليكمل
*كنا صغارا , وتمكنا من جعلها تعتادنا , ولكن بعضنا كان يكره وجودها فقد حظيت بالشعبية , واهتمام الشيخ رجب الذي كان صارما مع الجميع إلا معها , كان من الصعب كما أذكر من أحاديث الجماعة إعادتها , فذلك سيعرض غالية للمسائلة القانونية وسيضر بقبيلتنا وما قد تتعرض له من مضايقات من الحكومة ..
قاطعه مروان بصرامة
*وما شأننا نحن وكل هذا ..
نفخ ديسم مكملا
*شأنكم , أننا أنشأناها على أفضل وجه , تعلمت , كبرت مدللة , ولديها صف من الرجال يضحي لأجلها , لقد خاطرنا بكل شيء من أجلها , وقتلنا أحد أبناء قبيلتنا لنقيها شره .. شأنكم أننا لا نسمح لأحد أن يؤذيها و دوما كانت المفضلة لدى الجميع..
ضحك مجيد بسخرية يقاطعه
*هل تريد إقناعنا أن نشأتها عندكم , أفضل من نشأتها مع عائلتها ..
نظر له ديسم ليهتف
*بل نشأتها معنا أفضل من مصير أسود لو اغتصبها أحدهم , أفضل من تقطيعها لتباع أعضائها , وأفضل لها من أم لم تعرف كيف تحافظ على ابنتها فلا تضيع منها..
انتفض مروان من مكانه هادرا
*كنا لنجدها , من لا يخطئ , كلنا في مرحلة ما نمر باختبار من الله ..
واجهه ديسم بذات القوة
*وقلة من ينجحون به .. راقبت غالية الفتاة لوقت طويل كما أخبرتنا , كانت تسعى لتعبر الشارع , ولم يخرج أحد بحثا عنها ..
*دمرت غالية تلك عائلة كاملة ..
تدخل مجيد , ليرد عليه صوت لمك ساخرا
*تلك العائلة كانت ستدمر بشكل أو آخر , طالما أنه اختبار من الله كما تزعم , فلا بد تعلم أن كل شيء يحصل لقدر .. ربما أعفى الله غنجة من الكثير بوجودها بيننا ..
اسود وجه مجيد من الغيظ ليرد بصوت بارد
*كل ذلك , لا يمنحكم العذر ..
أقر لمك بثقة
*نعم لا يمنحنا العذر , ندرك ذلك , ولكن لن نسمح لكم بتدمير غنجة أو روان أو أيا كان اسمها ..
اتسعت عيني مروان , من هذا الشاب الذي يقف مدافعا عن ابنتهم التي أخفوها دون وجه حق وبنبرة لاذعة سأل حاقدا
*وماذا بإمكانكم أن تفعلوا.؟
كتف لمك ساعديه على صدره لا ترهبه قوة الرجلين
*لا تستخف بنا , أقسم لك , نستطيع في لحظات قليلة أن نختفي ونخفيها من كل المدينة ولن تجدوا لها أثرا طوال حياتكم ..
سكت مجيد ومروان بصدمة من كلام الشاب الذي لم ترمش جفنيه , يشير لهما بالجلوس مجددا ليتحدثوا بتعقل ..
................
منذ تركه لمك وهو يقف خلف باب الغرفة , حيث تنام غنجة لا تشعر بما حولها , وغالية لا بد معها ..
متعب , وضميره مثقل , مثقل جدا ..
كان يعلم أن مسايرته لغالية خطأ سيدفع ثمنه لاحقا , لكنه لم يتوقع أن يكون الثمن موجعا لهذه الدرجة .. ليس أن يخسر تلك الطفلة ...
أغمض عينيه يتذكر شقاوتها , دموعها التي نادرا ما تنزل , فقط تستخدمهما لتحاربه بهما , لطالما كانت عينيها الدامعتين نقطة ضعفه ..
يذكر لجوئها له في كل مرة لا تحصل على ما تريد ..
تمردها على كل شيء , وكأن داخلها يرفض ما يريدونها أن تكونه ..
كم مرة تبعته حيث يذهب , ليضعها على ظهر أي خيل عائد للمضارب , كم مرة عاقب لمك ومكسيم لأجلها ..
أحرقت دمعة لم تنزل عينيه ..
كيف .. كيف ستكرههم ..
لا يحتمل مجرد الفكرة ..
دخل الغرفة , بخطى مرهقة , لتنهض غالية على الفور قلقة من منظره
*شيخ رجب ما بك ؟
لكنه لم يرد عليها , بل اتجه لغنجة ..
ليجلس قربها , يمسح على شعرها ووجها , وكأنه يودعها بصمت .. راقٍ!
*شيخ رجب !
اقتربت منه غالية بخوف , لا تعرف ما به , لم يسبق أن رأته عاطفيا لهذا الحد من قبل , أيعقل أن غنجة تعاني شيئا ما ويخشى فقدانها ..
لكنه نظر لها بحدة ..
نظرة لم ترها في عينيه من قبل ..
عادت خطوة للخلف , تشعر بعدم الراحة ..
بينما نظراته تشتد حدة ليقصف صوته فجأة
*غالية ..
ونهض بعنف لتنتفض في مكانها يرفع سبابته في وجهها
*حذرتك .. حذرتك من تبعات يوم قد يكشف فيه كل شيء , ولكن .. لكني ضعفت و وافقتك ..
*ما الذي تتكلم عنه ..
سألته بصوت مهزوز , خائفة من الغضب الظاهر في عينيه , غضب مليء بقهر حزين , وكأنه .. فقد عزيزا بحق ..
أشار لغنجة , دون أن ينظر لها , ينظر فقط في عمق عيني غالية ..
*لها عائلة ..
هزت رأسها بلا , ترفض أن تسمع حتى وهو يكمل
*عائلة , عرفت بها , وجدتها ..
وبغصة من عمق قلبه خرجت
*ويريدونها ..
هدر بصوت أعلى حينما رآها , تهز رأسها برفض ,وكأنها لا تصدقه
*يريدونها يا غالي .. يريدون ابنتهم..
واقترب منها يقول بإرهاق بدا عليه .. هو الكهل الذي لم تحنيه مصائب كثيرة ليس آخرها مكسيم وخسارته ..
*كنت تخافين منهم يا غالية ,وكأنك علمت أنهم عائلتها ..
اتسعت عينيها باستنكار , لا تصدق ولا تريد , ولا تسمع حتى ..
أصدافها الخائنة , أخبرتها أنها ستفقدها ..
حتى هي رفضت تصديق أصدافها ..
ولكنها صدقت .. تلك الأصداف التي غالبا ما تكذب مع غيرها صدقت معها ..
لم تكن واعية له ولا لنفسها , تقدمت من غنجة وتمددت قربها تضمها لجسدها وكأنها تدخلها فيها , تسكنها جلدها لو تمكنت ..
تردد بهذيان ..
*غنجة ابنتي أنا .. ليست ابنة أحدهم .. ابنتي أنا ..
ظلت ترددها وهو يراقبها بإشفاق عليهما كلاهما ..
يعرف أنها استوعبت كل كلمة قالها ..
لكنها فقط تأخذ وقتها في استيعاب ما قاله , لا يأمن جانبها فيما يتعلق بغنجة , أبدا , لذلك اتجه نحو الكرسي المجاور وجلس عليه ..
منذ هذه اللحظة لن يترك هنا حتى يعرف ما الذي سيحصل ..
وكيف ستنتهي الأمور ..
ظل يراقبها وقتا طويلا , يعرف أنها تبكي بصمت من اهتزاز جسدها ..
توقع انهيارا أكثر شدة , لكن هذا الهدوء يخيفه ..
أحنى رأسه بتعب ..
لا مزيد من الهفوات , لم يعد من عمره ما يكفي لتحمل خطأ جديد ..
لم يعد لديه القدرة على التحمل ..
بينما عيني غالية تجمدتا , والدموع فيهما جفت ..
ليتوقف اهتزاز جسدها , تضم غنجة لها أكثر وأكثر , بما لا بد قد ترك أثرا على جسدها المتألم أصلا بينما عقلها غارق بآلاف الأفكار ..
تتوعد في سرها أن لا أحد مهما كان يمكنه أن يبعد غنجة عنها ..
مهما كان وأياً كان .. غنجة ابنتها ...
نهاية الفصل الرابع عشر
........................................................

شببت غجريةOn viuen les histories. Descobreix ara