الفصل السادس عشر

565 5 1
                                    


....

-" هذا لا يجعلُ منك مزارعًا...ولا قرويا"
ضحكَ عامر وصوتُ فدوى الساخط يصله...بينما هو يُساعد أحد أصدقاءه الجدد في ري حقوله...!
-" المرء لا يُدركُ كم اشتاق لزعيقكِ إلا عندما يسمعهُ مجددا"
رفع وجهه بينما يرفعُ الفأس على كتفه غير مهتم بالماء والطين الذي يتقطر على ملابسه...حيثُ تقفُ على الطريق المعبدة بينما هو في الأسفل...لتتراءى له كما رآها أول مرةٍ على فرسها...كفارسٍ أنهت للتو ترويض أحد الخيول البرية بسهولة يحسدها عليها الرجال...كانت تبدو بشموخ "ديهيا" الملكة الأمازيغية التي حكمت مملكتها بيدٍ من حديد...وبعنفوان "تينهينان" التي روضت الرجال كما روضت الخيول.

ضربت بخمارها على وجهها تُخفي الاحمرار الذي غزا بشرتها السمراء من تغزله الصريحِ بها الذي لم تعهده يومًا من رجلٍ...رغم انه يُثير حنقها لأنه بسهولة كان يتخلى عن بدلته ليلبس جلباب القروي ويندمجَ بينهم وكأنه واحد منهم...بالكاد تراه وكل يومٍ عند أحدهم يدعوه للغذاء الذي يُصبح عشاءً ثم مبيت.

كما تكره بروده تُجاهها...وكيف يتصرفُ بعفوية أمام "تِفاوت" التي لا تفهم ما الذي ما زالت تفعله في القرية...أليست هي التي تعشقُ صخب المدينة وألوانها؟

تنفست تُحاولُ أن تُسيطر على أفكارها التي تقودها للتفكير به...طريقته في التحدث وهدوءه المقيت...كل شيءٍ به مختلف!
حركت رموشها وكأنها تُحاول أن تخرج من منطقةٍ سجنت بها نفسها طويلا حتى لم نسيت كيف يكون نورها الشمس دفئها...!
منذ تزوجت "هشام" الذي اعتقدته فارس أحلامها...أحبته حبًّا ورديا بعيدًا عن الواقعية...كانت تحلم بكيف ستكون حياتها معه، فكرت بأول ليلةٍ كيف ستكون وهي بين أحضانه...كيف ستكون لياليهما مُلتهبة...لتتحول لليالي باردة بالكاد تسد جوعها إليه...إلى اهتمامه!
كيف ستتدلعُ عليه وهو يُطعمُها بنفسه...والتي عرفت فيما بعد أن اللقمة تكون لذيذة بغيابه أكثر من حضوره.
حتى أن خيالها الخصب أخذها لليلة التي سوف تُخبره بأنها حامل...كيف سيرفعُها عاليا ضاحكا...خططت لكل تفصيلة من ذلك اليوم كما كل يومٍ بجواره.
لم يستقبل حملها كيفما حلمت...ولم يرفعها وضجت الغرفة بضحكاتهما!

الواقعُ كان باهتا عن خيالها...عن أحلامها...عن الرجل الذي ظنت انها تعشقه.
لتعرف أن في سن الخامسة والعشرين...لم تكن تُحقق أحلامها...بل فقط كانت تهربُ عن لقبٍ كريهٍ تحملهُ الفتاة سنوات قليلة بعد بلوغها واكتمالها.

"عانس"...كلمةٌ بشعة هربت منها لتسقط في عالمٍ أكثر بشاعة...أكثر آلام...وأكثر جرمًا وهو ينخر روحها كالأسيد!
-" سترتاحين من رؤيتي بعد الاحتفال...سأغادر القرية بصفةٍ نهائية..."
وصلتها عبارته...لتهدأ دقاتها الصاخبة فجأة وهي تقول باستنكار تُحاول أن تدعي البرود:
-" وماذا عن طلاقي الذي لم يتم بعد ؟؟"
أجابها وهو يعود خطوتين للوراء في ذلك المنحدر باتجاه الجدول الذي تمر منها المياه مُتدفقةً بسرعة...ويرفعُ فأسه يهوي على جانبه ليسمح للمياه أن تمر للحقل:
-" صديقٌ لي سيتكفلُ بالموضوع...وبعثتُ له بكل أوراقكِ...الأمر مُعقد جدا، اقوال زوجك عن كونه مخمورا وكان تحت التهديد عندما طلقك قلبت القضية لصالحه، ونظرا لحالته فالأمر عزز موقفه "
فتحت فمها لتعترض لا تُريد شخصا آخر أن يتكفل بملفها...لا تُريد أن يعرف خزيها شخصٌ آخر، لا تُريدُ أن تُعيدَ مأساتها على اسماع الآخر، ترُيده هو أن يقفَ بجانبها، أن يُخلصها من ورطةٍ مشت اليها بكامل ارادتها...اقتربت منه بخزيٍ مما تنوي الاعتراف به...سيكون الشخص الأول الذي تهمسُ له بالسر...لا أحد حتى والدتها لا تعرف، لم تتجرأ يوما أن تنطق بها بعيدا عن خلدها...والآن قد جاءت الفرصة:
-" ماذا عن الطلاق لأسبابٍ أخرى...أنا لم أكن اريدُ أن أتحدث عن الأمر، لكنه يجبرني" نظراته ازدادت اهتماما عندما لاحظ الخزي على ملامحها، ابعدت نظراتها عنه لتهمس " ماذا عن طلب الطلاق لعجزه الجنسي..."
فغر عامر فاهه وهو يُحدق أكثر في الدماء المُحتقنة في وجنتيها من الخزي، لم تهرب بعيونها هذه المرة، وقوف شاحنة بجانبها فجأة...قاطع تواصلهما ويدٌ تمتد لتضرب أسفل ظهرها بينما تعالت ضحكات هشام الذي تُطل رأسه قريبا جدا منها...شهقة صدرت منها لتسمعه يقول بتفكه:
-" زوجتي العزيزة...هل تعتقدين أن أمر الشرطة بعدم التعرض لكِ سيردعني عنكِ...؟؟"
تراجعت للخلف لكن جسد "عامر" منعها من التراجع أكثر نحو المنحدر...والذي ظهر بملامحٍ غاضبة وهو يقتربُ من الشاحنة والفأس بيده.
-" ما الذي تبحثُ عنه يا هذا؟"
قال بغضبٍ بينما يحجبُ فدوى بجسده دون أن يتماس معها...ابتسامة جانبية رسمها هشام في وجهه وهو يميل يبحثُ عنها في حركة تحقيرٍ لعامر:
-" هل هذا جروكِ الجديد...يا ترى هل ملَّ منك الشيخ ليُقدمكِ لكلابه؟"
الطبع البارد تحول لجبال جليدٍ منصهرة لتغدو طوفانا هادرًا غاضبًا وهو يقتربُ منه ليُمسكَ بتلابيبه حتى كادت حافة زُجاج النافذة الذي لم يُنزل كُليًا يخترق صدره...وهو يُقربه أكثر إليه...ليلمح شيئًا مُريباَ في نظراته الحمراء وأنفاسه الكريهة ليقول بهدوءٍ مهدد:
-" سأخبركَ بشيء يا صغير...لا تلعب مع من هو أكبر منك...فربما لا تعرفني، لكنني لا أهددُ من فراغ!"
-" هو لا يقصد...يا سيد المُحامي"
قاطعه زميله الذي يقود الشاحنة والذي تعرف على المُحامي الذي ذاع سيته في القرية...الشيخ يستعين بأكبر المحامين الدوليين ليُطلقَ ابنة عمه من زوجها المُعاق...
لم ينظر عامر باتجاه الصوت بل كانت عيونه ما زالت تُحدقُ في ملامح هشام...وكأنه يتحداه أن يتفوه بكلمة في حضرته…كان غبيا وهو لا يتعرف على المحامي الذي سمع به...رغم ملابسه القروية لكن الأرستقراطية في ملامحه تُظهر أنه ليس من القرية:
-" اهدأ يا صديقي...أنا لم أقصدكَ بالطبع!"
قال وهو يمسكُ بيدي عامر الذي قست أكثر حوله وهو يُجيبه:
-" عندما يخص الأمر فد..." استطرد بسرعة بارتباك" موكلتي فالأمر يخصني أيضًا"
أفلته عامر...لكنه لن يُخطئ الارتباك الذي ظهر كما اختفى فجأة في ملامحه الباردة الأرستقراطية...تراجع لمقعده وهو يُعدلُ من ملابسه ليقول له بثقة هذه المرة:
-" أتشوق جدا أن أرى كيف ستتعامل معك..." ليستطرد وهو يُحدقُ بها بعدما تنحى قليلا عامر لتنظر إليه بفضول وصدمة من تصرف عامر "لأنني تفننتُ جدا في جعلها تعفُ كل الرجال...هي لم تعد أنثى...لأنني قتلتُ كل ذرة أنوثة فيها...لتُصبح مجرد جسدٍ بشع...في روح أكثر بشاعة"

جرح وشم الروح! ملاك علي.Where stories live. Discover now