الفصل الثامن و الاربعون

142 15 12
                                    

القلاع الحصينة لا تسقط الا من الداخل..
( ادهم شرقاوي، كتاب نبأ يقين )

يسير فواز بمحاذاة الساحل مطرقا رأسه يفكر بكلام سعاد، يملئ نفسه و وجهه الضيق..
_ لن نشغل انفسنا الآن بالانجاب وتربية الأولاد، هنالك أمور اهم علينا الاهتمام بها..
.. تتكلم بهدوء وجدية بينما تدلك ظهره بنعومة.. رفع نفسه بذراعيه و ادار رأسه إليها يطالعها بدهشة.. همهم بصوت اجش بعد أن انسلخ من شعور الاسترخاء الذي تشرنق فيه خلال جلسة التدليك الاسبوعية التي خصصتها له زوجته المراعية، بحاجبين معقودين وعيون خاملة..
_ وهل هنالك اهم من أن نكون أسرة ؟!
.. ردت بنفس الهدوء مع ابتسامة ودودة وهي تدفعه بلطف ليعود لوضعه السابق متسطح على بطنه..
_ سنفعل، لكن لاحقا.. الآن علينا التركيز و التطلع امامنا من اجل العمل..
.. ثم مالت إليه تهمس بجانب اذنه قبل أن تمرمغ وجهها برقة بين فراغ رقبته وكتفه تتنشق عبير لحيته الكثة..
_ وأيضا، لاتفرغ لتدليل حبيبي..
.. بدلع و مكر تقصدته لتأثر عليه و تقنعه.. فهم الأمر هو و رد ببعض الخيبة وقد فارقته الراحة..
_ حسنا.. على الرغم من عدم اقتناعي التام بالامر لكن، لك ما تريدين سعادتي، سنأجل موضوع الإنجاب..

توقف مكانه وتلاشى ضيقه حينما تفاجئ من حال مطعم السمك الذي اعتاد هو ونديم ارتياده في السابق، شبه مهدم و متروك، أصبحت ألوانه الزرقاء التي تحاكي البحر باهتة، متكسرة دكاته الخشبية المحيطة بالبناء المهلهل.. استمع لصوت تحطيب قادم من الجهة الخلفية للمطعم، و انتبه حين رفع رأسه لتصاعد دخان من مدخنته.. سار الى هناك ببطئ يحركه الفضول و الدهشة، ليقابل شابا صغيرا مألوف الوجه.. تهللت اسارير الشاب ما ان لمح فواز، تقدم منه يحييه بغبطة فاجئت الأخير..
_ اهلا بك اخي فواز، انا هشام هل تتذكرني، ابن صابر صاحب المطعم..
.. رفع فواز حاجبيه وقد تذكر ذلك الطفل الصغير الذي كان يلهو دائما بمسدس خشبي أمام الشاطئ و يحفر الكثير من الثكنات العسكرية في الرمال..
_ ماهذا يارجل، كبرت و اشتد عودك، ماشاءالله..
.. مد يده مصافحا للشاب الذي تحرج من رد المصافحة بسبب اتساخ يديه.. شعر فواز الطيب بذلك فألتقط كفه بينما يسأله عن أبيه ولماذا حال المكان بهذا الشكل.. رد بتأثر على وابل الأسئلة..
_ لقد توفي ابي قبل عامين، و منذ ذلك الحين وحال المكان متجه للردائة.. بداء الزبائن بالتناقص تدريجيا لأنهم فقدوا الطاهي، لتبقى والدتي تعد ما يمكنها من وجبات المحار و الروبيان المسلوق، وانا ايضا افعل ما بسوعي لمساعدتها، لكن هذا ايضا لم يجلب لنا الزبائن.. وكما ترى..
.. وهو يشير للبناء الخشبي المتهالك.. تابع..
_ ما نجنيه لا يكفي للدهان حتى، وهذا ايضا ما دفع بالباقي من روادنا للرحيل، ومنهم من انشغل بحياته، كما فعلت انت و اخي نديم..
.. تأثر فواز جدا و اكثر ما احزنه هو خبر وفاة العم صابر صديق والده، ذلك الرجل الطيب الكريم، من كان يقدم وجبات مجانية لذيذة للكثير من المتسولين أو من لا يحمل معه ما يكفي حق الطعام من نقود.. كم قضى وقتا من طفولته و صباه هو ونديم هنا، في هذا المكان.. رفع يده يربت على كتف هشام، يقول بحزن حقيقي..
_ اعتذر منك يا صديقي، لقد خذلناكم بتقصيرنا.. البقاء لله، حزنت جدا من أجل العم صابر..
.. تنهد وهو يكمل بعزيمة..
_ اسمع، سنتعاون معا لنجدد المكان.. لدي الكثير من المعارف و الاصدقاء، سأتصل بهم وادعوهم الي هنا، و سنقيم حفلا مسائيا لجذب المزيد منهم و لاعطاء الأجواء بعض الحركة ايضا.. تعد انت و السيدة والدتك ما يمكنكم من اطعمة بحرية لذيذة كنتم تشتهرون بها، مؤكد عمي صابر علمك بعضا من وصفاته..
.. هز الآخر رأسه بنعم بحماس تلتمع عينيه المتوسعة غير مصدق ما يسمع.. اكمل فواز..
_ و انا سأقوم بالعزف على كيتاري لنضيف رونقا ناعما و لطيفا للجلسة البحرية الهادئة.. و ما هو اجمل من البحر و السماء بقمر مكتمل مع طعامكم اللذيذ و الحاني الرومانسية !
.. بأبتسامة واسعة ختم كلامه.. تنهد الشاب و أدار عينيه الى البناء الخشبي.. تكلم فواز وقد فهم نظرته المحتارة..
_ المكان رائع، وأجمل ما فيه بساطته.. يحتاج فقط إلى دهان و تجديد الطاولات و الكراسي، و ليبقى كل شيء على حاله، فتلك هي ميزته.. مطعم خشبي صغير بسيط، بطله بحرية مميزة..
.. تسائل بخجل..
_ لكن.. حتى هذا.. مكلف جدا بالنسبه لي.. فأنا لا املك..
.. قاطعه فواز بضحك و مشاكسة..
_ ومن طلب منك فلسا يا صديقي.. انه رد دين لوالدك الغالي كان في رقبتي، ياما اطعمني انا و صديقي نديم حينما كنا مشردين ! فصلنا من المدرسة الداخلية لعام كامل، آوانا هو و قدم لنا الطعام مجانا طوال تلك الفترة، فنحن لم نجرأ على أخبار اهلنا بما حدث معنا و ما اقترفناه و ادى لفصلنا !! ابوك رجل لن يتكرر يا عزيزي، رحمة الله عليه..
.. شكره الشاب بحبور و ادمعت عيناه البندقية.. اردف سريعا مرتبكا من فرط سعادته..
_ انه مطعمكم اصلا، انه مكانكم انت واخي نديم.. دائما كنت اسمع امي و ابي يقولان هذا، حتى انا.. لا يمكنني أن انسى حينما دافعتم عن اختي بحياتكم و انقذتموها من اؤلئلك السكارى اللذين حاولوا الاعتداء عليها.. لم اكن اتجاوز الرابعة من العمر حين حدث ذلك، لكنني أتذكره كأنه البارحة.. شكرا اخي، شكرا.. سأذهب لاخبر امي، ستطير فرحا لهذا الخبر..
.. ركض الشاب بسرعة ليبشر والدته تاركا فواز وقد كست عينيه العسلية دموعا من ما آثارته فيه ذكرى بعيدة من زوبعة حنين الى تلك الأيام.. الى صديق لا يعادل هدايا الأرض و السماء، رفيق فداه بنفسه، و وهبه قطعة من جسده.. في ذلك الوقت بالذات قرر أن يختار خليله و افترق عن عائلته من أجله.. فقد صار يوازي أقرب أقرباء الدم، أن لم يكن اعز..

حكاية حياة.. الجزء الأول من سلسلة ( لنا في الحياة.. حياة ) Tahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon