لحظات و انتظار

2.3K 227 69
                                    

دخلت الى بيتٍ خشبي قديم يتقطر الماء من سقفه و اثاثه اثري مهترئ و هو بعيدٌ نوعاً ما عن الناس ، بيت صغير فقير ، ما زال بإمكاني رؤية بيوت القاطنين هنا من فوق التل ..
فقال سليم ممتثلاً عند الباب دون الدخول : هنا تقطن طليقتي و بناتي ، سأترككي هنا و لا تقلقي بشأن الاولاد فهم معي ..
تراجع عدة خطوات ثم التفت الي : المحاكمة غداً مساءاً ، هل تريدين استعجالها ؟؟
نظرت اليه دون رد او اجابة ..

فتنهد كلانا في الوقت ذاته مستمرين بتبادل تلك النظرات الغريبة ..
فانا لا اعرف فيما افكر ! آبالزوج او الجن او أهلي او او او ..
و هو قلقٌ علي فوجهي المصفر من الشحوب و عيني المحمرة قليلاً اربكته ..
ثم اتبعها بتنهيدةٍ تحكي مدى اشتياقه لصوتها الذي سأله : آهذه هي ؟؟
اومأ لها : انها هي ، جميلة صحيح ؟؟
نظرت الي بغباءٍ و مازحتني بسخافتها : ابني رجلٌ راشد لكن عقله و قلبه سيحب جميلة مثلك ، يحب اللعب و يشاهد افلام الكرتون و ..
فقاطعها : انها متزوجة !!
بتلعثم : ا.. ا.. ، تفضلي هذا المطبخ و ذاك الحمام ، لا تخجلي من تناول الطعام ، البيت بيتك ..
سليم بتنهيدةٍ متعبة : سأستعجل المحاكمة ، المساء او العصر ، امم العصر سأحاول اعدك ..
ثم ذهب ..

تأملت تلك السيارة ذات المظهر السبعيني البنية القديمة و بتلك الخدوش التي حكت عن فقر يلازم حياة هذا المحقق المسكين ، تأملتها تمضي بضجيج محركها السقيم الساعل بالغاز الاسود ، تأملت كيف كانت تشق طريقها بين العشب الاخضر على ذلك الطريق الحصوي ..

لم اشعر بالوهن بعد في جسمي فمضيت الى احدى الارائك و اتكأت عليها ..
ليتني استطيع التوقف عن التفكير في تلك الليالي الراعدة ، او عن دميةٍ تلبس ما البسه ، لعل علي قطع تيار الكهرباء عن دماغي لارتاح من تذكر لون الرسالة ، و مسكنه في القبو ، يا ليت ..

يقال بأن المرء يعاني في حياته على قدر اخطائه ، فهل هذا القول صحيح ؟ و ان كان فما الذنب الذي اقترفته ؟؟
ما زلت لا افهم كيف تملك ذاكرتي القدرة على اعادة احداثٍ قديمة ، كيف رمتني بذلك الممر المظلم ؟ كيف جعلتني اتذكر جلوسي قرب ذاك الصندوق ؟؟
مهلاً !!

تلفت يمنةً و يسرة ثم تلمست تلك الصناديق فشعرت بها !!! انا حقاً في الممر !!
فأمسكت الصندوق بعجلٍ و حاولت فتحة و لكن ..
كنا ثلاث في الممر !!
انا ..
من في الصندوق ..
و ..
طيفٌ رصاصي ينظر الي !!
طيف !!
ما هذه التسمية يا ميس ؟؟!
الاطياف لا تستطيع لمسك ، هل هذا يستطيع ؟؟

كان يحني رأسه الى كتفه و يحملق بي ، عجباً !! كيف عرفت بأنه يتمعن بي و هو لا يملك عينين ؟؟؟
بل لا يملك وجهاً !!
انا بقعر الممر و هو يقف قريباً من مخرجه ، المسافة بيننا عظيمة ، لكن .. لكن ..

- ميسون !!
فتحت عيني دون فزع ، اكتفيت بالشهيق المذعور ، كنت استلقي على الاريكة و الطعام على الطاولة و السيدة بوجه القلق تنظر الي ..
من ذاك ؟؟ ماذا يريد مني ؟؟
- ميسون ، ما خطبك ؟؟
فجلست بصمت محاولةً استيعاب و جمع افكاري و تكوين صورة تفسر ما ذاك الشيء ؟؟
- ميسون ، هل انتي بخير ؟؟
فنظرت اليها بنظراتٍ تحوي الكثير ، ثم مضيت الى النافذة ، توقفت امامها ناظرةً الى الخارج ..
- ميسون ؟؟ -
و اقتربت مني مربتةً على كتفي : هل انتي بخير ؟؟
فجوة الصمت التي تبعت سؤالها زادت من ملامح القلق التي اعتلت وجهها ، فاكتفت بالسؤال :
الا تشعرين بالجوع ؟؟
و تلى سؤالها فجوة اخرى من الصمت ..
عندها تركتني و الى داخل تلك الغرف مضت ..

كم من الوقت وقفت هناك ؟ لا ادري ، لكني اذكر تلون السماء بالاحمر و البنفسجية ، اذكر هروب الشمس من سمائنا المتلبدة بالغيوم ، اظنها تبحث عن سماءٍ لا تسترها بسواد غيومها ، هربت عندما استشعرت تقدم جيوش القمر النجمية ، و اختبأت خلف حزام الاقق الضيق ، و اخذت وشاحها الازرق معها لتفرش النجوم سجادها الاسود و تجلس عليه تلف القمر من كل الجهات ، اتراه يحكي لها قصةً قبل المنام ؟؟ ام اعتادت النجوم على البوح له بما فعلوه خلال هذا اليوم ؟؟

صرير الباب اخرجني من تأملاتي الفلكية و منادات سليم اعادتني لعالمي الواقعي : زوجك ارسل هذه الحقيبة معي ، عليك ان تتجهزي سنذهب الى المحاكمة ، اخيراً ستعودين الى حيث تنتمين ..
" لربما الافضل ان تقول : اخيراً ستعرفين ما تجهلين " محادثةً بها نفسي ..

فحملتها و بعد عشرون دقيقة عدت اليه مستعدة ، و معه ركبت السيارة و الى الموعد العظيم و صلنا ، ثم نزلنا بقرب مبناً عظيم بلوحته المعلنة عن ماهيته ( الجمعية الوطنية لحقوق الانسان ) ..
- انا اعمل هنا ، اليس مكاناً كبيراً ؟؟
بدا سعيداً بعمله حقاً ، و تأكدت من ذلك حين قال : شعور جميل ان تساعد من حولك ..
ثم دخلنا ..

كان المكان مكتظ بالعاملين و العملاء ، و ملفاتٌ و اوراق بيدي هذا و ذاك ، الكثير على مقاعد الانتظار و الاكثر في حركة و شغل ، انه مكانٌ كبيرٌ فعلاً ..
لكننا سرنا حتى وصلنا الى اماكن خاصة ، لا يسير بها اي شخص ، المكان خالٍ نوعاً ما ..
- انتظريني هنا ..
فجلست على الكرسي الذي اشار عليه ، انتظر ماذا بعد ..

كانت مجرد دقائق قليلة لأسمع صوته الملائكي : آآه ميسون !!
رفعت رأسي فأبصرته و بقربه رجلٌ غريب ، تقدم مني و جلس بقربي قائلاً : اتيتي !! ..
كان سعيداً برؤيتي و لكن سعادته تبددت عندما رأى الشحوب بوجهي و تلك الهالات السوداء حول عيني و الكدمات تلون بشرتي ..
فنظر الي بانبهارٍ و حزن : ما الذي .. ؟؟؟؟

يا الهي ، لا احبذ رؤية العبوس يشوه هذه الملامح الساحرة ، فقلت له : ابتسم ..
لم يبتسم ، بل مد يده الى بطني و اخذ يتلمسه ليزيد من تكسرات حاجبيه : لماذا لا تأكلين الطعام يا ميس ؟؟
فنهض و احضر لي علبة ماءٍ اشتراها ، فتحها و تركها في راحة يدي ، و ظل ينتظر اللحظة التي قربها الى فمي ، و حين طال انتظاره رفعها بنفسه لي و الصقها بشفتي قائلاً : هيا اشربي !!
للاسف انزلتها منزلةً رأسي ايضاً ، انا لا اشعر بالعطش او بالجوع ، اغلقتها و احكمت اغلاقها و تركتها جانباً ..

- ميسون !!
قالها بحزنٍ اسره ، فأمسك رأسي و على كتفه أسنده متسائلاً : لماذا لا تأكلين ؟؟
احتجت لتغيير ما يفكر به : لماذا انت هنا ؟؟
- عندي قضية و احاول حلها ..
- هل النتائج و الادلة تقف بصفك ؟؟
- اجل ، انا الرابح لا تقلقي بشأن القضية ..
- هل الامر متعلقٌ بزوجتك ؟؟
فرفع رأسي ضاحكاً : استخدامك لضمير الغائب ظريف فعلاً ، اسلوبك مميزٌ حقاً ..

اردت سؤاله عما يقصد لولم يناديه الرجل و يأمره بالدخول ، و حضور سليم بعلبة ماءٍ اخرى اثار عاطفتي ، فهو الآخر سألني ان اشرب ماءاً على الاقل ، للاسف اجبته بالمثل ..
و بعد نصف ساعة اعلن المنادي عن بداية المحاكمة ، امرنا بالدخول الى تلك الصالة ..

ها انا ذا سأعرفك يا زوجي العزيز ، سأقتلك حتماً ، اقترب الموعد فاستعد يا مجهول ..

من صقيع الخوف تُروى حكايةWhere stories live. Discover now