الفصل الخامس || الفِينيق والكتاب

37K 3.2K 312
                                    



• أندرسون •
• مملكة الذئاب •

تشنجت عَضلاته بقوة، وأصبحَ صدره أكثَر صلابة مِن سابقه ويده اشتَدت حَول خصري أكثر، أنفاسه أصبَحت أكثر سخونه وهيَ ترتطمُ برَقبتي بِقوة مرسلةً إليّ شرارات كَهربائية قوية تَصفع بَشرتي فتنحدر وصولًا إلى آخر فَقَرة في عامودي الفقري، جعله ذلك يتشَنج بألم محبب بجانب تِلكَ الفراشات التي كَثرت بمَعدتي. 
 
دون أن أشعُر كنت قَد وَضعت يدي على كتِفه أرسم دوائر وهمية فشعرت بتشنجه أكثر، أهذا تأثيري عليه؟
 
«أجل هوَ كذلك»، لم أعي الصَوت الذي ارتَد على مسمعي إلا بَعد أن واجهتني عيناه فأدركت أنهُ من تَحدث، فأكمل: «إنّ لكِ تأثيرًا قويًّا يُبعثر كياني ويُهدم حصون الجليد داخلي، لَقد امتلكتني بكل ما بي، أصبحتِ الملاذ والملجأ لي، وشمسي التي لا تَغرب»، كَم كانَ صوتهُ العَميق جميلًا، كلماته المَعسولة ونَظرته المخدرة الهادئة جَعلتني أطوف بمشاعر لم أعلم متى ولِدت.
 
«حتى نطقكِ اسمي جعلني هائمًا بكِ وعاشقًا اسمي من بين شفتيكِ»، تائهة بنَظراتي المُخدرة نحوه، لَم أستطع إجابته، إنّ النَظر إلى عينيه نعيمي الأبدي. أجل، أعترف بذلك. ظَهرت تلكَ الابتسامة الجميلة الراضية على ثَغره فجعلت قَلبي يرفرف بسعادة، أشعُر بذاكَ الصوت داخلي كهرهرة قط مثلًا أو بالأصح ذئب!
 
لا أعلَم ما الذي يحدث بالضبط، إنّ تأثير دانيال عليّ قوي جدًا، أشعر بالانتماء إليه. بذاكَ الرابط الذي يشبه حبلًا مطاطيًّا كلما حاوَلت الابتعاد عنه يجعلني أرتد مصطدمة بهِ بقوة، كلما فَكرت أنه غريبٌ عني يزيل تلك الأفكار من تفكيري، وكأنه لا يَسمح لي بالتَفكير أنني ما زلتُ لا أعرف عنه شيئًا إلا القليل، القليل جدًا.
 
«أنا أريد أن أعرف كُل ما يدور حولي، مَن أنا؟»، سألت بِصوت متحجرش قليلًا، ومهزوز كذلك، بسَبَبه.
 
علت شفتيه ابتسامة جانبية فاستأنف كلامه عِندما لاحظ نَظرتي المشَوَشة والمَخدرة: «أحقًا مُستَعجلة لهذه الدَرجة كي تَعرفي ما يدور حولكِ؟».
 
همَس بخفوت ويده تتمرد على خدي والأخرى تحاصر خصري بِتملك شَديد، يثبت ذاته أكثر ويفرضها عليّ مع حبه، أحِب هذا.
 
جَمعت شتات نَفسي المُبَعثرة وتَحَكمت بنبرتي، ابتَعدت قليلًا عَنه فزَمجر بِغضب وأعطاني نَظرة مُخيفة، تغاضيت عنها ونظرت جانبًا بعض الوَقت.
 
سادَ الصمت لحظاتٍ قَليلة، لم يبعد عينيه عَني، أشعر بهما تَحرقانني، ولو صَحَ التَعبير -يقرأ أفكاري اللعِينة أيضًا- سأحطم وجهه الوَسيم يَومًا ما.
 
«إذًا!»، ابتسامته اللعُوبة هذه تُثبت صِحة ما فَكرت به. «أود مَعرفة كل شيء ودون استثناء، أنا قوية بما فيه الكِفاية لأتَحَمل صدَمات الحياة وأقف بِكل قُوتي على قَدميّ مخفيةً جراحي وألمي تَحت قِناع القوة، لذلك أريد مَعرفة الحَقيقة»، عَقدت حاجبيّ بِصرامة وتَحدثت بِنبرة واثِقة وصوت هادئ قوي، لقد أعجبه ما فعلت، أستطيع التِماس ذلك ونَظرة الفَخر تَعلو وَجهه، هذا يُسعدني فعلًا.
 
نعم أنا قوية وسأتَحمل كل أسرار وصَدمات تتَوالى عليّ، إن الحياة لَيست رداءً ورديّ اللون يبعَث السعادة الأبدية لي ولغَيري، إنما هي ثوبٌ مهترئٌ فيه الجميل والقَبيح، لكن إذا ركزنا فيه لوجَدناهما فيه معًا، فالحَياة فيها كأسان؛ كأس مليء بالمرارة والألَم، وكأس مليء بالسعادة والأحلام السَرمدية القَليلة.
 
بَينما أنا أفكر لَم أشعر به عندما وَقفَ وسَحبني بهدوء مِن مِعصمي فوقفت قبالته، نَظرته هادئة تحمل في طياتها الكثير مِن الكَلام والمَشاعر.
 
سألته: «إلى أين تأخذني؟»، سارَ يَسحَبني خَلفه ويتَحدث بصوتهِ العميق الذي يأسر قلبي: «إلى حَيث ستَجِدين كلَ ما تريدين مَعرفته من أسرار وحَقائق»، اكتَفيت بالهَمهمة وأنا أتبع خطواته بِهدوء، عيناي تطالعان المَنزل حَولي، بَل القَصر، إنه قصر ملَكي لا عَجب من ذلك، قَصر لعائلة ملكية حاكِمة ولأقوى عشيرة مستَذئبين وتَعيش معهم مَخلوقات أُخرى.
 
كل شيء جميل وأنيق، غلب الطابع العَصري والقَديم العَتيق على القَصر معطيًا إياه لمسة ممَيزة وكأنّه لوحة فنيّة، والألوان محصورة بين النيلي والأزرق السماوي والأزرق المائل للأبيض قليلًا، ألوان رائعة ومتناسِقة ومتناغمة.
 
ويا لصَدمتي! بَينما كُنتُ تائهةً في استطلاع القَصر لَم ألحظ أننا خرجنا إلى مكان أشدَ روعة منه، إنها غابة في قَلب غابة تحيط بالقِصر، لا أدري، إنّ الوصف مُحَيرٌ قَليلًا، لقد كانت الأشجار تُحيطنا مِن كل جانِب، هناك مناطق ظِل كبيرة وواسِعة المدى، وأمامنا تَقع بحيرة صغيرة نسبيًا وأقل ما يُقال عنها أنّها جميلة، وعلى جانِبها الآخر هناكَ مَنزل تُحيطه الأشجار. أما الجُزء الذي أمامي فكانت تجوب أرضه أسراب مِن الطيور شكلها فاتن وَرُبّما لم أرَ مثلها قبلًا.
 
كنت مندهشة من جمال المنظر لدرجة فُتح فاهي دون إدراك مني، وكانَ هوَ متكئًا على شَجرة بابتسامة هادئة، أنا أستمر في إحراج نفسي أمامه، شعرت بالإحراج وأردت النظر بَعيدًا، لكن...
 
لَفتَ نَظري ذاك الطَير غريب المَظهر بِجانبه على بُعد إنشاتٍ فَقط، إنهُ خلابٌ بطَريقة غَريبة! نظرات ذلك الطائر العملاق موجهة نحوي، يَصل حَجمه إلى مُنتصف مَعِدتي تقريبًا، لماذا أشعر بالانجذاب نحوه؟ كأن حبل نَجاتي يَشدني إليه.
 
لم أدرك أنني فعلًا بدأت السير والتَوجه نَحوه إلا عندما تغير المكان مِن حَولي تَدريجيًا، كُل شيء يَختفي كما لَو أنهُ لم يَكن موجودًا حتى هوَ اختفى!
 
«دانيال، أين رحلت؟»، همست بخفوت وأنا متَصلبة في مكاني على مقربة مسافة بسيطة مِن ذاكَ الطائر، أين اختفيت يا دانيال؟
همست بِخوف في عَقلي وأنظاري مُعلقة على ذاك الطائر الذي لا أعرف نوعه حتى، هو أيضًا نظراته الجامدة مُثبتة عَلي رَغم أنني أتوقع أنه يشتعل نارًا الآن! ريشه مزيجٌ مِن البُرتقالي والأحمر القاني، دليل على لَون النار.

أنـدِرسـون Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz