9- "ماضي"

6.7K 356 60
                                    

من لم يذُقْ غُصَصَ التفرّقِ لم يمتْ
الموتُ رمحٌ والفراقُ سِنانُهُ

ابن نباتة السعدي.

___________

الماضي لن يتغير ولن يعود، وهكذا الذكريات لن تُمحى بمرور الزمان، ولن يبقى منهما سوى نتائجٌ سيئة نغصّت حياة البعض، من ظنّ أنه انتصر، كان يضع هزيمته أمام من ليس له يدٍ في كل هذا.

تقف في مكانٍ يعمّه الحلاك من كل جانب، أصواتٌ خافتة تهمس في أذنيها بقوة، تحاول صم أذنيها بكلتا يديها، الأصوات تخترق طبلتها وتؤلمها، هناك عيون يشع منها الشرر تحاصرها من كل صوب.

ليس فقط الخوف هو من سيطر على كيانها في هذه اللحظة، بل الرعب أيضًا تمكّن منها وباتت رؤيتها ضبابية، وضحكات ساخرة، غليظة ترتفع أكثر.

هنا ولم تستطع الصمود أكثر، وأمرت حلقها أن يدوي بأعلى صوتٍ لديه، خرجت عدة صرخات منها متتالية، وفتحت مقلتيها التي استعبرت، ليقع بصرها أولًا على أنس الذي يُجاورها، ويحاوط كفيه بكفيها ويحتضنهما، وعلامات القلق والخوف تشع من  بُنيتيه على هيئتها هذه، فقد سمع صوت صراخها ليأتي هو ووالدته، وسارة التي كانت معها وتراها وهي تصرخ حتى فاقت بالنهاية.

نظرت لأنس وهي تطلب منه الأمان بعينيها، فلسانها مازال معقودًا لم ينفك، فهم هو نظراتها وطمئنها وهو يقترب منها أكثر ومازال يحتضنُ كفيها ويضغط عليها بحنو، وينظر بداخل عيونها ويقول بصدق باثًا إياها الأمان:
- متخافيش يا رقية أنا جنبك أهو، دا مجرد كابوس مش أكتر.

تدفقت المياه من مقلتيها في صمت وهي تبادله امساك يديه وتقول بترجي وخوف مما رأته في نومها وكلمات خرجت مبعثرة دلالة على عدم اتزان حديثها بعد:
- متسبنيش يا أنس، خليك جمبي متسبنيش لوحدي.
- أنا جمبك أهو ومش هسيبك أبدًا، ولكنا معاكِ، إنتِ مش لوحدك يا رقية صدقيني، عايزك تهدي بس.

كانت كلماته هادئة مطمئنة تربت على قلبها، تخبرها بأنها ليست لوحدها، وأن هذا ليس إلا كابوس سيء لن يتحقق.

جذبها لأحضانه وهو يمسد على شعرها وكأنها طفلته، وهي لم تمانع هذا بل سكنت بين ثناياه، فكانت بحاجة لمن يحتويها وينتشلها مما هي فيه، ظلا على هذا الحال لفترة ليست طويلة، حتى غفت وشعر بثقلها على كتفيه، اعتدل من جلسته وأراح بجسدها على الفراش وقام بوضع الغطاء عليها، وأوصى شقيقته عليها إن حدث شيء أخر.

تحرك للخارج برفقة والدته بعد أن اطمأنوا عليها، دلف لغرفته واستلقى على فراشه وهو ينظر للسقف يطالع الفراغ، ويتذكر ملامحها البسيطة التي لا تتحلى بالجمال الأخاذ، ولكن هناك ما يجذبه تجاهها ولا يعلم ماهيته، خوفها هذا الذي يتفاقم كل يوم، وأحلامها التي تتكرر كل يوم بسوء، هي بحاجة لمن يبقى بجانبها دومًا، يمنحها الحب والأمان كجرعةٍ يومية تحتاجها بشدة، وهو لن يبخل بهذا، ما حرم منه سيحاول بقدر الإمكان أن يمنحه لها على كفوفٍ من الراحة، فهناك شيء بداخله يطالبه بأن يفعل هذا دون سببٍ واضح.

تَصالَحتُ مَعَ الحَياةِ لِأَجلَك. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن