الفصل الثاني والخمسون

45.8K 1.2K 74
                                    


بعض الأشياء لا تظهر قيمتها سوى بعد أن تفقدها، أو لا تشعر بجمالها إلا من بعد أن ترى القبح في الأشياء الأخرى؛ حينما تنجلي العين من كل الشوائب التي أمامها، وقتها فقط ترى الصورة كاملة وتشعر بالجمال الحقيقي.

أصوات متواترة وصخب لا تعلم وجهته يطرق أسماعها بخفة، مع ثقل شديد برأسها التي كانت تحركها يمينًا ويسارًا بصعوبة، حتى انكشف النور أمامها مع فتح عينيها لترى صور رسوم كرتونية بألوان زاهية غريبة عنها وعن لون جدران غرفتها المعروفة، قلبت عينيها قليلًا في طريق استعادته لوعيها لتفاجأ بزوجين من الوجوه الصغيرة يحدقان إليها ببرائة فقال أحدهم:
-دي فتحت عنيها يا عمر .
ورد الاخر:
- وبتبصلنا كمان وشايفانا، انا هروح اقول لماما .
تفوه بها الصغير الاَخر ثم اختفى من جوارها ليظل الوجه الاَخر بملامح انثوية صغيرة وجميلة وضفيرتين على جانبي وجهها تتطلع إليها دون كلل أو ملل.
تأوهت من صداع رأسها التي كانت تجاهد لرفعها، لتزداك دهشتها زداد كلما عاد إليها وعيها جيدًا، عن هوية الأطفال وشكل الرسوم الكرتونية والألوان الوردية التي ملأت الأنحاء حولها حتى خرج صوتها اَخيرًا مخاطبة الصغيرة:
- إنت مين؟
هتفت الطفلة مشيرة بحماس صدر مع صوتها:
- أنا روان.
- روان مين؟
رددت خلفها الأسم بعدم استيعاب بملامح متجعدة وهي تحاول النهوض مع اَلام رأسها المتزايدة بقوة، تعصر عقلها إن كانت بحلم أو بشئ اَخر اَخر لاتتذكره.
- صباح الفل، إنت صحيتي يا قمر.
صدر الصوت من مدخل الغرفة لهذه المرأة الثلاثنية ذات الملامح هادئة ونظارة طبية تغطي عينيها، ترتدي ببجامة بيتية مريحة على قدها الرشيق، لفتت نظر غادة التي تأملتها من الأعلى للأسفل حتى سألتها باستغراب وقد تمكنت من الاعتدال بجذعها على الفراش بألأستناد على ذراعيها:
- إنت مين وانا إيه اللي جابني هنا؟
تبسمت لها المرأة بحرج قبل أن تتناول صغيرتها لترفعها من جوارها وتصرفها بأمر:
- اطلعي انت يا روان واندهي خالك من الأوضة التاتية.
عبس وجه الطفلة وهمت بالاعتراض، فحدجتها والدتها والدتها بنظرة محذرة متابعة بقولها:
- اسمعي الكلام ولو لقتيه نايم صحيه وبعدها تروحي تلعبي مع اخوكي في أوضته ومتعتبيش هنا غيرنا لما اندهلك، اخلصي يالا .
دبت الطفلة بقدميها على الأرض زامة شفتيها بغضب طفولي محبب قبل أن تستدير مذعنة لأمر الوالدة .
عقب انصرافها هتفت غادة على المرأة التي جلست بجوارها مكان الطفلة:
- انتوا مين؟ وانا إيه اللي جابني عندكم هنا، هو في إيه بالظبط؟
عادت لوجه المرأة ابتسامتها التي زادها الاضطراب هذه المرة قبل أن ترد:
- طب قبل كل شئ انا حابة اعرفك على نفسي الأول، انا الدكتورة سما استشاري امراض الباطنة، وجوزي يبقى هشام منصور مهندس إنشاءات في الخليج، والأطفال اللي شوفتيهم من شويه دول، يبقوا أولادي، عمر وروان اللي خرجتها انا حالا من أوضتها وانتِ نايمة دلوقتي على سريرها .
- إيه؟
تفوهت بها لتعتدل مستقيمة وقد هبت بها القوة متناسية اَلام رأسها:
- انتي بتقولي إيه؟ انا مش فاهمة حاجة، جاوبيني على طول ومن غير لف ولا دوران، انا إيه اللي جابني هنا؟
- أنا .
قالها خشنة بصوته الغليظ ليُجفلها منتفضة وشهقت بارتياعٍ ازداد مع رؤيتها لملامح وجهه المتجهمة وهو يتقدم بخطواته لداخل الغرفة باتجاهها فصاحت صارخة:
- إنت اللي جبتني هنا؟ يا نهارك اسود هو انت عملت فيا إيه بالظبط؟ دا انا هاوديك في داهية.
تدخلت المرأة تخاطبها:
- توديه في داهية ليه بس يا بنتي بعد الشر؟ دا هو اللي انقذك ونجاكي .
التفت إليها غادة برأسها بنظرة خاطفة قبل أن ترتد على الفور على إثر صيحته:
- اخرجي برا دلوقتِ يا خلود وسيبينا لوحدنا .
- تخرج فين؟
هتفت بها غادة تتشبث بالمرأة التي نهضت على الفور، فتابع إمام مشددًا
- قولت اخرجي برا يا خلوا واسمعي الكلام.
همت غادة بالرد باعتراض اَخر ابتعلته على الفور مع هذه النظرة المخيفة التي حدجها بها، فقالت خلود فور تحركها نحو باب الغرفة، طب انا هروح كمان احضر لكم الفطار .
تابع خروج شقيقته ثم التف برأسه نحو غادة التي تراجعت تتكوم على نفسها حتى اَخر التخت تنظر إليه، والرعب ينضح من عينيها، زفر من أنفه مطولا ، ليصك على فكه بقوة تكاد أن تهشمه وبداخله المشاعر متناحرة ما بين إشفاقه عليها وهذه الهيئة المرتعبة لها الاَن كالطفلة صغيرة خائفة من عقاب والدها بعد فعلها للخطأ، تثير بداخله رغبة الحماية والصفح عنها حتى تتعقل وتعرف الصواب وتفعله، ثم هذة الرغبة الأخرى والتي تحثه على عقابها بتكســ ير رأسها اليابس ثم إعادة برمجته من جديد ، ولكن هذا بأي صفة؟
على خاطره الاَخير استفاق يزفر أنفه أنفاس حارقة قبل أن يصل إليها ليجلس على التخت المقابل مبادرًا بالحديث:
- طبعًا إنتِ مخك هيشت منك ونفسك تعرفي إيه اللي جابك هنا؟ بس يا حلوة بقى قبل ما اجاوبك عايزك كدة تعصري دماغك وتقوليلي اَخر مرة تفتكريها كنت فين بالظبط؟ يعني في بيتكم ولا في الشغل ولا في خروجة مع صاحباتك؟
رغم احتقانها من مرواغته لها في الرد على السؤال، وهذا القلق الذي يكاد أن يصيب رأسها بالشلل الفكري لعدم الفهم، ولكنها حاولت التماسك والتركيز علّها تعرف من نفسها ولا تحتاج لتفسيره، صمتت تسعيد التذكر لتأتي صورة مرفت فورًا أمامها وانضمامها معها بالسيارة ، ثم الذهاب للمنزلهم ولقاء ماهر ومشاجرتها معه ثم.......
رفعت رأسها إليه بعد تفكير عميق وقالت بتردد:
- انا كنت عند واحدة صاحبتي ومش فاكرة حاجة تاني.
الحمقاء تجيبه باقتضاب وبعبارة مبهمة وكأنه لا يعرف؟
اقترب برأسه منها يقول كازًا على أسنانه بغيظ:
- يعني مش فاكرة اسم صاحبتك الست ميرفت كمان ولا فاكرة قعدتك مع اخوها الأصفر والعصير اللي شرببتيه قبل ما تروحي عن الدنيا وتعملي دماغ، ولا في حاجة تاني وتاهت عني؟
توسعت عينيها بدهشة لمعرفته بكل هذه الأمور ولكن مهلُا لقد ذكر لها عن العصير، ارتجفت بداخلها تعاود التفكير بتركيز، لترى ثمة صورة واحدة تذكرها بما حدث بعد ارتشافها هذا العصير ولكن بلا فائدة، فهمست سائلة وكأنها تحدث نفسها:
- هو انت ليه بتقول كدة؟ هو العصير كان فيه حاجة ؟
اشتد احتداد نظراته إليها يطحن على أسنانه بداخل فمه،  حتى ارتفعت سبابته أمام وجهها بتهديد اثار فزعها لترتد للخلف قبل أن يجيبها:
- قسما بالله يا غادة، لولا بس اني فاهمك كويس  وعارف إن مشكلتك بس في دماغك اللي عايزة تتنضف من الوسخ اللي عليها، أو لو كان عندي شك ولو واحد في المية بس في أخلاقك، ما كنت ابدا هخاطر بنفسي ولا اجيبك من هناك.
- تجيبني من هناك!
تفوهت بها بتشتت وعدم فهم، ليقوم بإخراج هاتفه ووضعه أمامها معقبًا:
- عايزك تفتحي الفيديو ده وتتفرجي على نفسك كويس بقى عشان تشوفي الهانم اللي دخلتك بيتها كانت عايزة منك إيه هي واخوها؟ وياريت كمان تسألني نفسك، هي الست دي غرضها إيه كل في عمايلها معاكِ دي؟
بصق كلماته ونهض على الفور ذاهبًا من أمامها، فتناولت هي الهاتف بيدٍ مرتعشة لترى ما يتحدث عنه.

نعيمي وجحيمهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن