5

16 5 0
                                    

يبدو الأمر كمن حبس ذكرياته فجأة فأوقف تدفق السيل العارم ، لم أعد أذكر منك شيئا ، سوى إسما أليما و شعورا قويا و غريبا بالغربة الممتزجة بالألم ، ،أتحاشى الشوارع التي قطعناها معا ، أتحاشى سماع الأغاني التي تبادلناها ، الأغاني ... و الموسيقى ... لطالما أحببتهما حبا عجيبا ، معزوفات تلائم ننوتاتها وتيرة ضخ الدم في شراييني ، أغاني كتبت كلماتها خصيصا لقلبي ... قلبي الذي قسا عليك فجأة فكرهك أشد كره ؛ و لكنني اليوم غير قادرة على سماع أغنيتك المفضلة مجددا ، غير قادرة على أن تعيد لي المقطوعة صورة يديك تمسكانني ، شعرك و أنا أداعبه ، شعيرات لحيتك النابتة على أطراف فكك ...
اليوم أعي أن لعنة الذاكرة إن كانت تكمن في التذكر فقد تكمن في النسيان كذلك ، لعنة ذاكرتي اليوم أنني نسيتك ، نسيت كما قال محمود درويش :

تنسى ، كأنَّكَ لم تَكُنْ
تُنْسَى كمصرع طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،
كحبّ عابرٍ
وكوردةٍ في الليل .... تُنْسَى

فهو النسيان أن تتذكر الماضي و لا تتذكر الحكاية ... ماض أشعر أنك كنت فيه لكنني غير قادرة على استعادة شيء من حكايتنا ، و كأنني لست أنا من عشتها ...!
فأنا يا رفيق الدرب أفقد في كل مرة فهمي للماضي و للمستقبل ، أشعر و كأن ذاكرتي تمحي الذكرى
تصيبني لعنة النسيان و كذا لعنة التذكر
أعيش اللحظة سرمدية ثم لا تبقى عندما يقفز العقرب ... تلسعني سمية التغيير .
أفقد شعوري ، أفقد ذاكرتي ، و يضربني التساؤل فجأة جليا و مدويا : هل أنا من عشت هذا الموقف ؟!
كيف خلقت الوقت يا الله ؟ و كيف تطويه و ترفعه يوم ترفع السماوات و الأرض ؟
كيف لي أن أراقبه من خارج دائرته و أستوعب دون الكثير من الجهد أن الأمر يشبه حلقات متداخلة و متتالية ؟
و كيف لي أن أتواجد في عدة أماكن في نفس الدقيقة ؟!
ألهمني فهما فالمبهم مستعص على فهمي ، و إنفلاتي من جلد الماضي و المستقبل سيفقدني الكثير  !
أعدني إلى تدرج الساعة ، أعدني إلى وسط الدائرة فقد خرجت عن حلقتها فجأة دون سابق إنذار ... ألهمني من لدنك سرا يعيد الترتيب للفوضى التي تحدث !
يتداعى الوقت حولي !
لم أسمع قط أحدا يشتكي هذا الكلام ، رغم الكتب التي قرأت و التي لا أتذكرها كثيرا ، و رغم الحوارات التي استمعت إليها و أنا لا أثق حقا إن وُجِدت فعلا داخلها ، رغم معرفتي التي لا أدري من أتيت بها ... لم أسمع يوما أحدا يقول أن الوقت حوله يتداعى !
يتداعى الماضي القريب قبل البعيد ، و يتداعى المستقبل ، وقتا و ليس مكانا !
سيصيبني الجنون إلم تعدني إلى نفسي يا الله ! فاليوم و الجِّنة تمس عقلي أستوعب نعمة السلام  ، و نعمة التذكر و نعمة التخيل  !
صغ لي كلاما يفسر الخراب الذي حل فجأة ، فسر لي ماذا حدث في وقتي ؟! هل رفعته يا الله ؟ هل حرمتني نعمة الشعور به ؟ أم أنها تضاعفت لدي  ؟! كيف لي أن أتحكم فجأة في فكري و في ذاكرتي ؟ كيف لي أن أدرك بهذا الصخب أن ما هو حقيقي هي فقط اللحظة الزائلة ! و أن ما عشته معه كان ببساطة شديدة مجرد ذكريات أشعر بالغربة و أنا أفكر فيها الآن ... شعور الحنين لا يتلصص إليّ أبدا ، لا يزورني و أنا يا حبيبي فتاة تحن إلى كل شيء ، أحن إلى شوارع لم تطئها قدماي و إلى أعين لم ترتبط بعيناي ، أحن إلى رائحة الكتب التي لم أقرئها و أحن إلى لمات العائلة التي لم أكن قد ولدت لأشارك فيها ، أحن إلى أول ضحكة و أو كلمة و أول خطوة و أول يوم في المدرسة ... أنا لم أخبر أحدا في حياتي أنني لا أزلت أذكر معلمتي في المدرسة القرآنية و التي سجلتني فيها أمي في عمر الثالثة .. لا أزال أذكر تلك المرأة ؛ كانت تعاملني بتحيز شديد لا أزال أستغرب منه إلى اليوم أنا فتاة صغيرة ضعيفة في عمر الثالثة ؟! لا احتفظ من أول سنة دراسية لي إلا بذكريات قاسية و حالكة ... سألتني فيما بعد إحدى أساتذتي في المرحلة الثانوية أي روضة أطفال ارتدت فأجبتها بأنني لم أرتد أية روضة في طفولتي ... و كانت الدهشة بادية على وجهها ، بدوت لها كفتاة تلقت تربية كلاسيكية صارمة و دقيقة لكنها لم تدر أن تنشئة الأطفال في البيت و تشبعهم بحنان العائلة هي أفضل تنشئة يمكن تقديمها لأولادنا ... أنا لم أنشئ في روضة أطفال و في نوادي صيفية ، أنا نشئت بالبيت قرب أمي و أبي ... حضور دائم و طاغ ، ارتدت المدرسة القرآنية في سن الثالثة ثم توقفت عن ذلك تحت ضغط المعلمة التي كلمتك عنها ... فلم أعد حتى سن الرابعة و كنت حينها قد غيرت الحي الذي أسكن فيه . و في سن الرابعة كونت صداقات طالت حتى سني العشرين ! يبدو الأمر كبيرا و أنا أتكلم فيه ، لكن الحقيقة هي أن العمر قصير و أن سنواته تركض بنا جموحا ...
تبدو ذكراك اليوم كسراب داكن ، أشعر بالألم كلما أرغمت نفسي على التفكير فيك . و رغم أنني لا زلت ألتقيك في بعض الأماكن إلا أن قدرتي على تجاهلك رهيبة و مهيبة ؛ عندما تصبح أنت و الآخر سواء ، عندما أعيدك إلى رف الغرباء و كأنك لم تكن ، عندما أمر بقربك و لا أشعر بك ، عندما أضع عيني بعينك و لا أراك ، عندما تحاول بكل بؤس استثارة غيرتي لكنني لا أحرك ساكنا ... حينها فقط يتملكني الرعب من جفائي ، من قسوتي ، من غلظتي .. أين قلب الأنثى داخلي ؟
" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة "
ألهمني حنان الجيم يا الله حتى أخصّب الجدب المسمى قلبي .
انغمست في حياتي بعدك بكل ما أوتيت من قوة ، لكنك أبيت إفلاتي أنت ، لا يزال هاتفي يرن في الكثير من الأمسيات برقم مجهول أدرك أنه يخفي حنينك و شوقك ، لكنني أنا و كأنني محوتك بكل بساطة و كأنني اخترتك ألا تكون .



وعد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن