18

5 3 0
                                    

تدريجيا ، تعود اتصالاتك
رعشة أصابعي ، إطباق شفتي ، كل شيء يبدو ثقيلا جدا معك .
تجرّب ترويضي لكنني أنتفض ، أغرز في جلدك مخالبي و أهددك فتتراجع ناكسا رأسك . تبدو لي أحيانا في أشد الصور بؤسا في رأسي فأشمئز منك ، تبدو كمن يحاول انتظار ضعف سيده أو صديقه لينقضّ عليه ، لا أدري لماذا تقفز هته الصورة إلى ذهني كلما أزعجتني ، و مؤخرا أصبحت كثيرة الانزعاج ...
لم أعرف نفسي يوما هكذا ، منذ نعومة أظافري كنت فتاة مبتهجة ، تهوى العيش و تفيض مرحا ، لا أذكر أنني حزنت يوما لعدم حصولي على شيء أردته و لا أذكر أن تصرفات الآخرين نحوي أثّرت عليّ ، لطالما عشت حياتي محاولة الاستمتاع بكل دقيقة منها ... أتذكر دوما كتاب تود هنري "مت فارغا" ، أحارب القلق و الخوف بشتى أنواعهما حفاظا على نفسي ، صحتي ، بهجتي ... و إن طغى القلق عليّ فأنا أحفظ نصا أكرره على نفسي يجعلني أكثر هدوءا
"دع القهوة تبرد
لا ترد على الهاتف
ضع كلتا يديك في جيبك وراقب الفرص تمر أمامك
دع القلق يأخذ منك ما يأخذ
إقترب مما تخاف
رحِّب بحقيقة أنه ليس بالضرورة أن يصبح كل شيء على مايُرام
وأنك لا تمانع هذا بل تنتظر الأسوأ
لاشيء يهم ...
إبتعد عن كل الاشياء مسافة كافية
خفف من الناس
كثر من الأوراق والكتب والموسيقى
قلل كلامك
اتبع نظام الايمائات
لا تشتري مظلة للشمس أو للمطر
لا توفق بين الطقس والثياب
ولا تهتم إن كانت الألوان غير متناسقة
تأكد أن كل ما يحتمل أن يفسد قد فسد بالفعل "
يجعلني هذا النص أشعر بطمئنينة و سكينة عظمى ، ففيه خطة ملتوية و بديلة لمحاربة القلق ، بأن أرخي دفاعاتي أمامه و لا أخشاه فيتبدد فجأة كأنه لم يأتِ ! 
القلق ... القلق ... القلق ، عرفته في أشد حالاته قسوة و ضراوة عندما كنت بجانبك ، كان ينقضُّ علي بشراسة ، و الآن هو يعود نحوي ، و الهاتف يرن باسمك طول الوقت
تعود إلى ولعك ، و أعود إلى برودي ...
لا أرد عليك أياما طوالا . و تلحّ أنت لكي تلتقيني .
قد تلتقيني في محطة القطار و على هوامش الشوارع كما قد تلتقيني في الحدائق العامة و المطارات و المقاهي و المطاعم ، لا تمانع أبدا أن تلتقيني ، اتصلت بي ذات يوم على التاسعة ليلا شتاء ، قلت لك بأنني سأخرج من البيت ، سألت إلى أين ؟ قلت لك أنني سأنتظر عودة أبي من سفره في المطار ... الغريب في الأمر أنك أردت المجيء لكي تراني ، بك ولع دائم متقد لرؤيتي .
تقول أنك تحاول ألا تستذكر وجهي و أنت تسوق ، و أنت تنام و أنت تستيقظ كقط كسول ... ربما لهذا السبب لم تسألني يوما أن أبعث لم صوري ، عجِبت كيف أحببتني بهذا العمق و أنت لا تملك صورة واحدة لي ، هل كانت ذاكرتك قوية كفاية لتحتفظ بكل إنش من تفاصيلي في لقائاتنا التي أغادرها دوما مستعجلة ؟!  أنا بطبعي لا أحب إرسال صوري ، لا لعقدة أملكها و لا لمعتقد أؤمن به ، بل فقط لأنني لا أريد أن تمتلك بطاقة وجودي لتخرجني من دائرة العدم إلى وحي الوجودية و بطريقة ما كنت تعلم أنني أفكر بهته الطريقة دون أن أخبرك ، طرق تفكيري متشعبة و مختلفة لم تكن يوما تقليدية ، لكن الأمر الأكيد أنها ليست عشوائية ، أنا لا أملك العشوائية في التفكير أبدا ، تبدو الأفكار في رأسي كعقدة ضخمة من الخيوط الرقيقة المتشابكة التي يستحيل حلّها فأربط موقفا حصل في طفولتي فجأة بكلمة أقرؤها سهوا ليستنير العتم في ذهني فجأة ، و التساؤل الذي جاءني فجأة منذ أعوام مضت أبحث اليوم عن إجابته بهدوء و مثابرة ، الموقف الذي حصل معي صبيحة يوم الأحد يرتبط ارتباطا وثيقا مع ردة فعلي يوم الخميس ... أحاول دون كلل أن أفك شيفرة المصفوفة و إلم تفهم ماذا أقصد .
يبدو كل شيء في نظري متصلا و مرتبطا ارتباطا وثيقا ، هناك مقال كتبته قبل سنتين أستحضره اليوم مثلا :
اللحم الذي أكلته ، من الخروف أو الدجاج الذي طهوته ، سار إلى عضلاتي و استعار دمي طريقا ليبنيني
الهواء الذي أستنشقه فيتسلل إلى رئتاي ، تنفسه أحدهم قبلي ، بعد أن ولدته الشجرة التي تغذت من التربة ، التربة التي تحوي رفاث أجدادي و أناس ولّوا
و فاكهة الشجرة التي آكلها ، كبرت من ماء المطر ، الذي اغتسل به الأرض و من عليها . 
الرحم الذي كبرت فيه جنينا ، كبر فيه قبلي اخ و أخت لي ..
و أصل تكويني ، إتحاد جنسين ، شخصين ...
ألا تتجلى قدرة الله عظيمة و هائلة تجعل مِنّا خلقا واحدا متعددا ، من نفس واحدة ..
أصول واحدة ، متعددة من خامة واحدة تتعاقب دورتها الوجودية إلى أن يحين أمر الرحمان .
و لعله سر الشعور بالقرابة و المصاهرة بين الإنسان و الوحش ، و الأنف و الزهرة ، و العين و منظر الغروب .
أحفظ ممرا من قصيدة بوذية قديمة :

إذا ظن القاتل أنه قَتَل
و إذا ظن المقتول أنه قُتِل
فهما لا يعلمان أنني السيف لمن قَتَل
و الصدر لمن قُتِل
و أنني لمن يشك في وجودي
كل شيء حتى الشك نفسه !

أثرت في نفسي هته القصيدة يوم اطلّعت عليها لأبعد الحدود ، تعرفت عليها في كتاب يتحدث عن البوذية ، الديانة التي لا نعرف هنا عنها شيئا غير عبادة الأصنام .
يعود أصلها حسب البعض إلى نبي الله ذا الكفل ، الذي انتقل من حياة الأمراء الباذخة و المخملية إلى الرهبنة و التصوف حتى أدرك درجة الاستنارة أو بلغتنا الإسلامية المباركة : نزول الوحي
و بعد ما حدث للديانة من تشويه و تحريف و ما قاساه أتباعه و تلامذته من حرق و قتل بعد وفاة الداعية الكبير و صراع على السلطة تماما كما حذث في الديانة المسيحية  ... توارثت الأجيال في جبال التبت و قُرى الصين خاصة و آسيا عامة تبجيل هذا النبي حتى انتهى بهم الأمر لعبادته و اتخاذه صنما عوض اتباع منهجه الذي يركن إلى أن لحمة الكون و ترابطه و اتساقه متجلية لنا في أشد حالاتها عُريا لكننا فقط عاجزون عن فتح أعيننا لرؤيتها .

وعد Where stories live. Discover now