الجزء السابع

8.4K 516 67
                                    

غرفة واسعة مترامية الأركان ، الظلام يعمّ أرجائها يخيم الحزن على أجوائها، تشبه الشخص الذي ربط روحه بإنسان آخر فسلبها ورحل بعيدًا ، أي حق يعطي الأخير أن يحيا سعيدًا وهو سارق !!
الغرفة مثل هذا الشخص تمامًا ، كانت يومًا ذات روح ولكن سُلبت .. كانت هذه الغرفة تشهد على أعظم قصص الحب التي كتبها القدر وأنهاها هو أيضًا ، لا أعلم إن كانت أنتهت حقًا أم لا لكنها على الأقل تفككت .. صارت كالضباب .. 
هذا الجدار الأيمن كان يشكو صيحات المرح الدائم ولقد تشقق أيضًا أثر صفعة مَحْت كل المرح ، أما هذه الألوان المتناثرة والبصمات هنا وهناك فكانت ضريبة سعادة دامت لسنوات ..
مثلما أخذت هذه الغرفة من عمري مثلما أعطتني عمرًا لم أكن سأجده لولاه ..
هو ، هو فقط من جعلني أشعر أن لعمري قيمة ، أنه هناك من أستيقظ لأجله ، كنت قبله لا أعلم لِما أنتظر الدقيقة القادمة ! لكن بعدما قابلته ما تمنيت من الله قدر دقيقة إضافية بجواره ..
حينما قابلته كنت كفلسطيني رأى أولاده تحت الأنقاض فظن أن القضية اِنتهت لكنه جاءني كقدسٍ ليؤكد لي أن هناك من يستحق المجازفة مرةً أخرى بل آلاف المرات ..
تحولت من أب عاجز لفارس واجهته الأقصى لن يعود إلا والقدس ملكه ، وهذه كانت علاقتنا باختصار كنت أتحمل مالا يتحمله بشر من أجل أن يكون ملكي .. وحتى الآن لم يكن ..
عندما قابلته لم يكن لدي ما أقدمه إليه لكنه بطريقه ما حولني إلى شخص معطاء ، لا أعلم كيف استطاع تحويل كم القسوة التي باتت بداخلي سنوات إلى قدر من الحنان لا يخرج إلا معه وبه ، على الرغم من أن نهاية الأمر لم تكن منصفة لكنها حتمية -على الأقل بالنسبة له- ، لقد كان ونعم الرجال كان لا ينطق إلا ما سيفعله حتى في فراقنا فقال لي لن أكمل معكِ الحياة وها هو قد فعل ، لا أعلم ماذا فعل بي حتى أحبه كل هذا الحب ولكن ما أعلمه أنه يستحق ..
برغم قسوته يستحق .. برغم تعجرفه يستحق .. برغم ما فعله وما يفعله يستحق .. فهو يستحق قلبي وأنا أستحقه.
لم أكن من هواة قراءة الأشعار أو القصائد أو حتى كلام الحب المغزول لكن بفضله صرت أخطو دواوين ..
لقد تشابهت بداية قصتنا بنهايتها فكنت أجلس في الكافيتريا الخاصة بنا وكنت أدون بعض الملاحظات وعلى المنضدة مشروبي المفضل داخل الكوب الخاص بي ، وإذا بشخص فجأة يقتحم طاولتي بحجة أنه أعتاد الجلوس هنا !! فما كان لي إلا أن أصيح بوجهه ولكن ما أن التقت أعيننا حتى عمَّ الصمت لثوانٍ معدودة ، ثم استجمعت قواي ثانيةً وطلبت منه الرحيل فقال لي بنبرة حادة هل تجرأ فمك أن يخرج تلك الكلمات لي !! أنت هنا مجرد إمرأة تعمل هنا من أجل المرضى وفقط ، لا تتجولي ثانيةً إلا بإذني ، كانت هذه كلماته الأخيرة قبل أن يتذوق شاربه نكهة مشروبي المفضلة ، لم يتفوه بكلمات كثيرة فقد كانت نظراته الحادة هي سيدة الموقف ثم تركني وأنا أكمل صرخاتي العالية بأنه هو من عليه معرفة بعض آداب التعامل مع الآخرين وإن كانوا مرضى على حد قوله مع أن لا يوجد مريض هنا غيره ..
وكذلك أيضا كُتبت نهايتنا بنظراته الحادة وكلماته الضئيلة التي ترهق القلب أيامًا و شهورًا بل سنوات..
بعدما تركني ورحل كان جميع من في الكافتيريا ينظر إليه ويتمتم من تلك التي تجرأت أن تتحدث معه كذلك بل استغربوا أكثر لصمته !! فقلت في داخلي هل كل ما فعله كان صمتًا بالنسبة لهم ، هل هو متعجرف بتلك الكم ، هل هذه طباعه ؟ هل يعامل ذويه كذلك !!
لم أكتفي بذلك وخطوت وراءه بخطوات مسرعة حتى انهال عليه ببعض الكلمات القاسية وسط مراقبة الجميع ولكن ما إن التف إليّ حتى خذلتني حنجرتي وكان الصمت هو سيد الموقف ، لم يتفوه بكلمة لكنه أمسك بمعصمي بغلظةً حتى طُبعت أصابع يده عليّ ، لم أستطع المقاومة لقد استسلمت لقبضته ، هذه هي المرة الأولى التي انهزم فيها أمام أحدهما ، لقد شعرت بالخزي ..
لم أنْم هذه الليلة ، كلما مرت دقيقة أقف أمام مرآتي وأتأمل ملامحي القاسية كيف لها أن تلْن أمامه ؟  كنت أتحسس معصمي وتتساقط دموعي ، لا أعلم كيف تجرأ وفعل ذلك بي ، كيف لي أن أصمت ! لِمَا لم أصفع وجهه ؟ لم تكن من عاداتي الهزيمة ! ولكنه فعل ..
كنت أنوي عدم الذهاب لهذا المكان مجددًا لكن شيئًا خفيًا بداخلي حثني على الذهاب ، لا أعلم أتحدي هو أم شيء أخر لا أعلمه ، لكن صوتًا بداخلي يخبرني من ذاك الذي تتركي حلمك بسببه !!
وفي اليوم التالي جئت مبكرًا لأصطدم به عند دفتر الحضور،  كان يرتدي بنطالاً لونه أسود وأيضًا قميصًا أسود وقد اخترق تلك السواد حزامًا جملي يعبر عن أناقة صاحبه ..
لم تخطف تلك الأناقة نظراتي كما فعلت عيناه كأنه لم يحدث شيئًا بالبارحة ، كانت ملامحه تشبهه ، حادة ولكن لا تستطيع أن تمنع نفسك عن التمعن فيها ، كانت عيناه تشير عن كم الذكاء المخبأ داخل تلك الشخصية ، تلك الهالات السوداء أسفلها تشير عن الساعات التي أمضاها في قراءة الكتب ، هيئته تخبرك بأنه منظم ، بعض الخصلات البيضاء التي تخللت شعيراته تكشف عن كونه عالمًا في مجاله ، كنا نتبادل النظرات الحادة حتى جاء صوتًا من الخلف يجبرنا أن د.نجيب الألفي يريدنا وحالاً ..
كانت الغرفة منمِّقمة تشير إلى روْنق قاطنها تلونت جدرانها باللون الرصاصي الخافت بينما في جوانب كل جدار صفان من اللون الأبيض وزُينت أطراف السقف ببعض النجوم الزرقاء الصغيرة ، د. نجيب هو صاحب تلك الغرفة وتجاعيد ملامحه تعطيه أكثر من خمسين عامًا وعلى الرغم من أنفه الكبيرة بعض الشيء لكنه لم يفقد جاذبيته فعينيه أقرب للون الأسود وأحتل الشيب شعره ، كان يرتدي بدلةً زرقاء مُهنْدمة ومن أسفلها قميصًا أبيض ، قطع تأملي صوتًا عاليًا أجشًا يصدر منه مخاطبًا إياي :-
- د. نجيب :- أرجو توضيحًا عما بدر منكِ في الأمس !
= لم أفعل شيئًا بل هو مـن...
قاطعني بنبرة أشد حدة :-
- لقد سألتكِ عما فعلتيه !
= لقد كنت جالسة ولم أوجهه له كلمةً ، هو من جاء إليّ وطلب مني استبدال الطاولة وعندما رفضت نعتني وجه لي الإهانات التي لا أتقبلها أبدًا ..
- ثم ماذا ؟
= ثم فقط ! لقد نال عقابه وانتهى الأمر.
- أرى أنكِ ناضجة بالكم الكافي حتى تفرقين بين استجواب مدير مدرسة الابتدائية وبين تحقيق رسمي من جهة عملك ، لقد سكبتي مشروبًا ساخنًا على وجهه ، ما ردك على ذلك ؟
= نعم فعلت ، لكنه من اضطرني لفعل ذلك  ..
هنا أعلن هو عن حضوره وتقدم خطوتين للإمام ، فاقتحمت رائحته أنفي ، كانت خطواته ثابتة وواثقة وقال لـ د. نجيب أنه تنازل عن حقه وسيكتفي بلفت نظري هذه المرة ..
هنا صرخت في وجهه قائلة :- أأنت من سامحت في حقك !! من تظن نفسك ! ، ثم كشفت عن معصمي ووضعته أمام وجهه ، وماذا عن آثار أصابعك ؟ ماذا عن هذا !!
شعرت بالإنتصار في عينيه وكأنه فعل ذلك حتى يتأكد من أنه ظفر بمعركة أمس فندمت عما فعلت ، ليتني ما أظهرت له أنني انهزمت ..
تدخل د. نجيب مرةً ثانية ولكن هذه المرة بهدوء أكثر كأنه الآخر كان ينتظر أن هذا الشخص يتنازل عن حقه ! وقام بالحديث وتوجيه بعض تقاليد المشفى وقواعدها لكلانا ثم طلب مني الرحيل ..
نظر د. نجيب إليه نظرات مندهشة وقال له :-
- هل حقًا ما حدث أمامي منذ ثواني أم أنني أتوهم ؟
= ماذا تقصد ؟
- طالما أن تاهت عيناك في الأفق كذلك فأنت تعلم جيدًا ما قصدته ، ماذا تختلف عن غيرها ؟
= لا أعلم ، ولكن شيئًا ما يميزها ..
- لولا معرفتي بما حدث البارحة لكنت صدقتك !
= لولا ما حدث البارحة لكنت كذبت ما بداخلي ..
- وما هو ما بداخلك ؟
= أقسم لكَ أني لا أعلمه ولكن شيئًا ما يشعر بالسعادة التي باتت أيامًا لا أعلم لها طريق ..
= إن لم أكن أعرفك قبل أن يشيب ذلك الشعر لظننتكَ تبالغ ، هل من يتحدث حقًا هو ذاك المدير المتعجرف الذي يقاسمني تلك المشفى ويستغل سلطته حتى لا ينتقد أحد عصبيته المفرطة ؟
- وأنا أيضًا أتعجب من الأمر ، أشعر أنني لا أطيق نطق هذا الكلام المعسول لكنه صدقًا نابع من داخلي ..
نظر لي د. نجيب بطرف عينيه وقال ضاحكًا :-
= لو دام الأمر هكذا لجعلتها شريكتنا الثالثة
- ربما في القريب تصير شريكة حقًا
= ولكن إن كان الأمر هكذا ، لما تتعامل معها بجفاف في البداية ؟
- إن تغير ما بداخلي يا نجيب لم ولن تتغير طباع وهيئة د. جاسم حمدان أبدًا ..

_ جيهان سيد ❤️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now