الجزء السابع عشر

2.6K 303 74
                                    

جرى جاسم مسرعًا وراءه ليلحق به لكن الأخر كان سريعًا بالقدر الكافي ، فحينما وصل وجد سليم واقفًا أمام سور الكافتيريا يتأمل نهر النيل ، فحاول أن يقترب منه ببطء لكن الأخر وضع قدمه اليمنى على السور وهمَّ ليقف عليه ..
ارتفع الأدرنالين لدى جاسم ولدى جميع المحيطين الذي يصرخون فصرخ جاسم فيهم ليصمتوا ، أطلق زفيرًا ثم تنهد وقال لسليم في هدوء ، سليم .. سليم ، لم نكمل حديثنا بعد .. سليم
ولكن سليم لا يستجب ولا يلتفت ، حاول أن يقترب جاسم منه لكنه يخشى ردة فعله فنادى عليه ثانيةً ، سليم .. سليم ماذا تريد وسأجلبه لكَ حالاً ..
ليست هناك أي إجابة من الطرف الأخر ..
شاور جاسم لإحدى الممرضات أن تتصل بفريق الإنقاذ إن كان بإمكانهم إيجاد حل للموقف ..
رفع سليم قدمه اليسرى عن السور وأخرجها فارتعش جسد جاسم وتمنى من اللَّه ألا يحدث ما توقعه ..
أعاد سليم قدمه مرةً أخرى فتنفس جاسم ثم رفع الأول رأسه إلى السماء وظل يتأملها ورفع يديه الإثنين وأغمض عينه ومال بجسده قليلاً خارج السور ..
علم جاسم أنها النهاية ، فكثيرًا ما رأى هذا المشهد في أفلام عديدة وأيضًا قرأه في كتب علم النفس عن الأشخاص المقبلين على الانتحار وينتهي بجسد مُلقى على الأرض قد فارقته الروح وصعدت لخالقها ..
أغمض جاسم عينه وأعطى سليم ظهره وقبل أن يضع يده على أذنه ، سمع صوت طيف وهي تصرخ :- سليم !! ماذا تفعل ؟؟؟؟؟؟
التفت الجميع لصوتها حتى سليم نفسه ، تلاقت أعينهما والصمت هو سيد الموقف ..
فجأة نزل سليم من السور واتجه لطيف كالمسحور حتى وقف أمامها ..
كان جاسم يتأمل الموقف دون أن يتفوه بحرف بينما قاموا الممرضين بالوقوف أمام السور خشية أن يعاود سليم ما فعله وقاموا بإحاطته لكنه لا يبالي بل ينظر لطيف ..
ثم رفع يده وصفع وجه طيف صفعةً سمع صددها كل من بالمشفى  ..
حينها أمسك فريق التمريض بسليم وأعطوه مخدرًا فما هي إلا ثوانٍ وغاط في سبات عميق ..
أحمر وجه طيف وظلت تبكي بحرقة فهذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها للضرب ! نظر جاسم لها فوجد أصابع سليم مازالت مطبوعة على وجهها مع دموع منهمرة من عينيها كأن فرعًا جديدًا من فروع النيل قد أُستحدث ، فشعر لها بالحرج وأعتذر منها بشدة أمام الجميع الذي كان من بينهم درة ..
كانت درة تنوي أن ترفع صوتها وتصرخ في وجه طيف وتترك بصماتها في الخد الأخر لكنها ليست بهذا الغباء ، فهي تعلم أنها إن همَّت لفعل ذلك لألقاها جاسم مكان سليم فالتزمت الصمت ، ستتحدث حينما تحين لها الفرصة ..
أخذ جاسم طيف والذي لم يكن ينتبه لوجود درة ونزلا سويًا ، أدخلها غرفتها وطلب لها كوبًا من الليمون وظل يتوسل إليها حتى تهدأ وتكف عن البكاء لكنها تستزيد ..
- د. جاسم :- أنا أسف يا طيف ، أنتي عارفة هو مش واعي ، أهدي طيب ، أنا أسف
لم تنتبه طيف حتى للأسف الذي لم تعتْده من جاسم فاستمرت في البكاء ..
- طب ممكن تهدي عشان خاطري
جاء الليمون فأمسكه بيده ووضعه أمامها
- طب أشربي طيب
مدت طيف يدها وارتشفت منه ..
- طب ما أنتي شطورة أهوه وشربتيه بسرعة وهو ساقع
لم تمنع طيف نفسها من الابتسامة فردت بوهن :-
= شكرًا يا دكتور جاسم
- أنا بجد أسف يا طيف على اللي حصل ، بس أنتي عارفة
= أنا عمر ما حد ضربني
- أنا أسف
= أنا مقدرة الموقف ومقدرة جدًا اللي حضرتك عملته معايا ، أنا بقيت كويسة ، بس بصفتك مديري بقى ممكن أروح
ضحك جاسم ثم قال لها :-
- طبعا اتفضلي ، ولو مش عاوزة تيجي بكره مفيش مشكلة ..
كانت درة تتابع الموقف من فتحة الباب الذي لم يهتم جاسم بإغلاقه والنيران تشتعل بداخلها ..
خرج جاسم ودخل غرفته والأفكار تتصارع في ذهنه ، فلم تكن المرة الأولى التي يفكر فيها مريض الـ MDD في الانتحار لكنه خطأ جاسم منذ البداية لأنه لم يتعامل مع سليم بحرص شديد ولم يتأهب لأي محاولة انتحار ، لأول مرة في حياته يتأثر عمله بمشاكله الشخصية ، فقد تعرض لكثير من الضغوطات والمشاكل ولم يحدث مرة أن تختلط الأمور ببعضها ..
لربما لأن الأمر هذه المرة يرتبط بمصيره ، فقد تعلم أن الرجل إذا تفوه بكلمة عليه أن ينفذها وإن لم يفعل فلا يستحق لقب رجل ، فإن لم يكن يعي معنى الكلمات التي تخرج من فهمه فعليه أن يعيد مفاهيمه مرة أخرى ، هذا ما تربى عليه وهذا هو مبدأه في الحياة الذي لن يغيره ..
أيًا يكن فقد حدث وقال على درة خطيبته ولابد أن يلتزم بهذه الكلمة خاصةً أن درة لم تفاتحه في الموضوع منذ وقتها ولم تتطفل على مقابلته ، هو يعلم أنها تفهم شخصيته جيدًا وتجيد التعامل معها لكن هذا ليس كافيًا للزواج !!
لم يهرب يومًا لكنه يفعل اليوم مع درة ولا يعلم لمتى ..
ما حدث اليوم ليس بالهين خصوصًا أن د نجيب الألفي لم ولن يتحدث معه ، سيتركه لذاته ..
انتقل بفكره لطيف فهذه هي المرة الأولى التي يشعر بها بالذنب تجاهها ، حتى الآن لا يستطيع تصنيف طيف في حياته ، طبيبة حديثة متفوقة تعمل في المشفى ، بدأ الأمر بعراك صغير أو حرب مفتعلة كما يسميها نجيب ثم أخذ العناد حيزًا لا بأس به بيننا ، تريد أن تثبت أنني على خطأ بالرغم من أن لديها العديد من الفرص لتثبت أنها على صواب لكنها لا تركز إلا على أخطائي فتتخطى إنجازاتها ..
لا أنكر أنني كنت استمتع بمضايقتها لكنني اليوم أشفقت لما حدث لها ..
ليس لها ذنبًا فأنا المخطئ وأعترف بذلك وأعتقد أنها المرة الأولي التي أعتذر فيها لطيف أو لسيدة في العموم ..
لابد أن أتخذ قرارًا فيما سأقبل عليه ، لابد أن اتقرب من سليم في أقصى سرعة حتى أعلم ما السبب فيما وصل له ، لِمَا يريد إنهاء حياته ، ولِمَا صفع طيف !! ما السر وراء ألا ينصت إلا لصوتها ! أعلم أن الأمر ليس له علاقة بها شخصيًا لكنها ربما ذكرته بفتاة قد أبذل جهدًا حتى ينساها ..
خرج من غرفته فوجد درة أمامه تحتسي كوبًا من القهوة فسألها عن تواجدها هنا ؟
فقامت درة باستغلال ذكائها ، فهي ليست مراهقة عندما تجد حبيبها يغازل أخرى تصرخ في وجهه وتنهال عليه ضربًا ثم تقوم بعمل بلوك من جميع وسائل التواصل الاجتماعي كما أوصتها الإعلامية رضوى الشربيني ..
ردت درة :-
= قلقت عليكَ ، لقد رأيت ما حدث مع سليم ، شعرت أنك ستشعر بالذنب فوددت أن أكون بجانبك وإن كنت سأنتظرك من وراء الباب ..
- شكرًا يا درة ، لا تقلقي أنا بخير
= لكنني فخورة بكَ
- لماذا ؟
= لما فعلته مع طيف
- لا أفهم ؟
= لقد تصرفت كما يجب أن يتصرف د. جاسم حمدان ، فأنت تعلم ما كانت تشعر هي به ، لقد تسبب لها سليم بالحرج وكان على دكتور جاسم أن يصلح الموقف وأصلحه كما يجب أن يكون ..
لم يستطع جاسم أن يمنع فرحته من الظهور ، فدائمًا ما تفوز درة بكسب غروره لكنه شعر أن الغيرة تعلن حضورها أيضًا ، لو لم يكن تفوه بما قاله أمام طيف لحاسبها على هذه الغيرة حتى إن لم تظهرها له لكنه هو من أعطاها ذلك الحق فعليه أن يتحمل ما فعل ..
وجه نظره إلى اللاشيء ثم تأمل ملامحها جيدًا ، حاول أن يبتسم لكنه فشل ..
نظر جاسم لدرة وتمنى لو كان بإمكانه قول شيء أخر لكنه قال بأسف شديد :- تحبي تنزلي تختاري شبكتك امتى ؟؟

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now