الجزء العشرون

2.7K 303 87
                                    

جاء رد والد درة بالموافقة سريعًا بل أنه أخبرني أنه في الخارج هذه الفترة ، فعلينا عمل حفل لخِطبة صغيرة مقتصر على الأصدقاء المقربين ، حتى نحدد ميعاد عقد القران فحينها سيكون أول الحاضرين ..
لم أنكر ردة فعل والد درة فمن يترك ابنته وهي في تلك الحالة طوال هذه المدة لن يعارض أبدًا أي طريقة تخلصه منها وخاصةً إن كان السبيل هو الزواج ..
أخبرت درة بما دار بيننا فظلت تقفز فرحًا كالأطفال عندما تترك لهم هاتفك ، لم يكن الأمر بإرادتك بل هو عنوة ، كما يحدث معي تمامًا الآن ..
ذهب جاسم لغرفة د. نجيب حتى يقصّ عليه ما حدث مع والد درة فانهال عليه بالسباب الراقي بعض الشيء وأخبره أنه إن لم يتخلص من هذه الورطة لألقى بحياته في الجحيم ..
لم يكن يدرك جاسم هل يقصد نجيب بالجحيم درة خصيصًا أم الزواج عامةً ..
اتَّفق جاسم مع نجيب ألا يخبرا أحدًا بالمشفى بأمر الخِطبة إطلاقًا ، فظن نجيب أنه من باب الخصوصية ، فجاسم يقدسها جدًا ولا يحب أن يقتحم خصوصيته أحد ما إن لم يسمح له بذلك ..
لكن في الحقيقة كان جاسم يفكر في شيء آخر ، فهو حتى الآن لم يقتنع بدرة اقتناعًا كاملاً فيخشى أن يخبر الجميع بقراره الذي لم يستقر عليه بعد ، فلا يستطع التراجع فيه إذا جدَّ جديد ..
همَّ جاسم ليخرج لكن نجيب أوقفه متسائلاً :-
= حتى طيف ؟
- سأخبرها أنا ..
= ولِمَا هي تحديدًا !!
- أنسيت أنني أقوم بخطبة درة لأنني تفوهت أمامها بأنها خطيبتي !!
= أم أنكَ تريد رؤية الغيرة في عينيها ؟
لم يرد جاسم وخرج من الغرفة وما إن أغلق الباب وراءه فلم يستطع أن يكتم ضحكته أكثر من ذلك فتركها تخرج بصوتٍ مسموع ..
اصطدم جاسم بدرة فسألها عن سبب تواجدها هنا فأخبرته أنها كانت تبحث عنه فغضب منها وحذرها ألا تصعد لغرفته ثانيةً فاعتذرت على الفور وأقسمت أنها لن تعاود الكرة ..
طلبت منه أن يجلسا سويًا ولكن تلك المرة في مكان غير منضدتهما ، فلم يكن من الصعب على مدير المشفى أن يخرج مع مريض ، فوافق على مضض وخرج معها وجلسا في إحدى الكافيهات المطلة على نهر النيل ..
وضعت درة يدها على يد جاسم دون أية مقدمات وابتسمت قائلةً :-
= أنا مش مصدقة أن حلمي اتحقق
- أنهي حلم يا درة ؟
= أنتَ
- هو أنا كنت حلمك ؟
= أنت دخلت حياتي في فترة صعبة أوي ، أنا كنت فاقدة الثقة حتى في نفسي ، أنت عرفت تقومني على رجليا من تاني ، خلتني أحس أني أقدر أعيش مرة تانية ، حسيت أن الدنيا لسة فيها حد كويس ..
- مش ممكن ده يكون مجرد احتياج يا درة ؟ ولو لقيتيه مع حد تاني هتغيري نظرتك ليا !
= لا يمكن ، أنا بحبك بجد يا جاسم
أدركت درة ما قالته بعفوية فسحبت يدها بسرعة بعد أن احمرَّت وجنتيها ونظرت إلى الأرض في خجل غير مصطنع فغير جاسم الموضوع سريعًا لأنه لم يشعر بأي سعادة حيال تلك الكلمة ..
- جاهزة تقومي تختاري شبكتك دلوقتي؟
= يالااااااااااااا
استقل جاسم سيارته وكانت على يمينه درة تغمرها السعادة وكأنها تحلق في السماء مع ملاكها الحارس جاسم ..
أخرج قائمة من هاتفه بها محلات مجوهرات وأعطاها لدرة لتختار إحداهما فهو لا يعلم بمثل هذه الأمور لكن أصدقائه المتزوجين يترددَّون على هذه المحلات من حين لآخر ، فتركها تختار ما يروق لها فحالته المادية تسمح أن تقتني ما تريده ..
نظرت درة نظرة سريعة فهي تعلم جيدًا أن هذه المحلات ستكون باهظة الثمن فلم تريد أن تكلف جاسم لذا أعطته القائمة وطلبت منه أن يختار بدلاً منها فاتصل بنجيب على الفور ليسأله فرشح له واحدًا وأخبره أنه سيتصل بصاحبه ويتفق معه على كل شيء فأكد جاسم عليه ألا يهتم بالسعر مطلقًا ..
أوقف السيارة ونزل منها ثم فتح الباب لدرة في مشهد رومانسي لكنه فعله من باب الذوقيات ليس أكثر فنزلت هي كالأميرات تتأهب لاختيار خاتم سيربطها بأميرها للأبد ..
دخلت درة وهي منبهرة من كم المجوهرات التي تحيط بها فرغم مستواها الاجتماعي الراقي إلا أنها لم ترى هذا الجمال من قبل ، جلست وتحدث جاسم مع صاحب المحل وأخبره أنه من طرف د. نجيب الألفي فرد الأخير أنه على علم مسبق بزيارته فأخرج له أحدث التشكيلات ووضعها أمام درة التي قالت منبهرة :-
= هو ده ألماس ؟
رد جاسم بتأفف :-
- أمال فضة ! ما تختاري يا درة ..
= بس ده هيكون غالي أوي ..
تصنَّع جاسم الابتسامة ليقول لها :-
- لا متقلقيش خالص ، اختاري بس اللي يعجبك ..
قامت درة بسحب خاتم بسيط ووضعته في إصبعها فزاد يدها رقةً ومدت يدها لجاسم لتأخذ رأيه فوافقها دون أن ينظر إليه فهمَّت هي للرحيل فاستوقفها قائلاً :-
- رايحة فين ؟
لترد هي بخجل :-
= أنا خلاص اخترت ده ..
جذبها من يدها وأوقفها أمام أطقم ألماس وأخبرها أن تختار إحداهما ، خشيت أن تكلفه أكثر من اللازم لكن موقفه كان واضحًا فقامت باختيار واحد منهم يبدو أنه أكثرهم سعرًا ..
فأخرج جاسم الفيزا الخاصة به دون أدنى اهتمام كم أخذ منها هذا الصائغ ..
استقلا السيارة فأول ما طلبته درة هو الاحتفال بهذه المناسبة فوافق على مضض لكنه أخبرها ألا تخبر أحدًا بارتباطهما فلم تسأل عن السبب وأبدت ولائم الطاعة ، فهي لا تحتاج أكثر مما حدث ، وعلى الرغم من أنها تريد اخبار الجميع أنه أصبح ملكها إلا أنها تكتفي بما حدث ..
كانت طيف في هذا الوقت تستعد لمشاركة جاسم في علاج سليم فهي تعلم أنه سيوافق على طلبها الأخير فعليها أن تكون مثالية ..
فمنذ أن علمت أن تشخيص حالة سليم هو MDD وهي تقرأ أكبر قدر من الكتب الخاص بالاكتئاب وأسبابه وطرق علاجه وقد استوقفتها جملة قالتها الكاتبة جويس ماير وهي :-
"يبدأ الاكتئاب مع خيبة الأمل، وعندما تعشش خيبة الأمل في نفوسنا فإنها تقود للإحباط"
تظن طيف أن سليم تعرض لخيبة أمل كبيرة ورائها سيدة ، ما إن قالت هذا الكلام بداخلها حتى تذكرت أمر الصفعة فتحسست وجهها ثم أكملت حديثها مع نفسها ، لم تتم معالجة هذه الخيبة بشكل صحيح فظلت موجودة داخل سليم حتى أصبح مريضًا بالاكتئاب ..
فمن منا لم يتعرض لخيبات أمل متتالية !! كل منا يتعامل مع خيبته بطريقته الخاصة ، هناك من يتجاهلها وكأنها لم تحدث من الأساس ، وهناك من يجعلها محور حياته ولا يرى غيرها فيشعر أن الحياة سوداء لا لون لها ، وهناك من يتعامل معها بحكمة يهدأ أولاً ثم يفكر فيها بهدوء ويحاول أن يجد لها حلولاً حتى إن لم تكن جذرية ..
فتُرى من كان سليم من هؤلاء ؟؟
أيضًا تذكرت مقولة العالم الشهير فرويد :-
"الضغوط النفسية تغيّر الشخص من مرح إلى كتلة من الصمت "
فكثيرًا ما لاحظت أن سليم يصمت كثيرًا ولا يتفوه إلا قليلاً وإن تفوه إنه يصرخ .. فما حجم الضغط الذي تعرضت له يا سليم حتى تصبح على هذه الحالة ؟
رنَّ هاتف جاسم وكان المتصل هو نجيب فظن جاسم أنه يريد الاطمئنان فرد سريعًا لكنه أخبره بضرورة وصوله للمشفى لأن سليم يحتاجه ، فاعتذر من درة وغيَّر مساره عائدًا إلى المشفى مؤكدًا عليها ألا تخبر أحدًا ..
وصل إلى المشفى وجرى سريعًا ليلحق بسليم فقد توقع أنه في أسوء حالاته لكن تفاجأ عندما علم أن سليم من طلبه تحديدًا ليتحدث معه !!
فطرق على باب غرفته ليأذن سليم له بالدخول وكأنه في حالة طبيعية جدًا بل هو من بدأ الحديث مع د. جاسم قائلاً :-
= أنا عارف أنك دكتور شاطر
- إيه سبب الجملة ديه ؟
= حاسس أنك هتعالجني
- يعني أنت بتعترف أنك مريض ؟
= لا
- طب محتاجني أساعدك ؟
= أيوة
- وأنا موافق ، محتاج إيه بالظبط ؟
= متحاولش تنقذني من الموت
- وأنت ليه عايز تموت ؟
= مش هقدر أواجهها
- هي مين ؟
= مش عاوز أتكلم عنها
- حاضر ، بس ساعدني أفهم
= مش كل الأوقات لازم نفهم
- معاك حق ، تحب تفهمني امتى ؟
= صدقني مش أنا اللي محتاج اتعالج ، واللَّه العظيم هي اللي مريضة
- مش هسألك هي مين لأنك رفضت ، بس ممكن تقولي مريضة بإيه ؟
= مريضة بيا ، أرجوك عالجها
شعر جاسم أنه إذا تحدث أكثر من ذلك فسوف يضغط على سليم وهو لا يريد حدوث ذلك فهدأه وأخبره أنه سيفعل له ما يريد وأمر بتشديد الحراسة على غرفته وعدم السماح له بالخروج تحت أي ظرف ..
ذهب جاسم إلى غرفة نجيب مسرعًا ليشكره عن الخدمة الجليلة التي قدمها له منذ ساعات قليلة ..
كان نجيب يكتم غيظه مما فعله جاسم لكنها حياته في نهاية الأمر وهو من له الحق في تحديد مسارها فأراد أن يحدثه عن طيف لعل يحبها بدلاً من درة فنجيب متأكد من أن درة لم تتعافى كليًا وما بداخلها هي مشاعر احتياج ليس أكثر ، أما طيف مناسبة له إن أراد الارتباط حاليًا ..
= نجيب :- فقدت جزء كبير أنت من ثروتك النهاردة ، مش كده ؟
- جاسم :- مركزتش 
= بس صاحب المحل ركز واتصل يشكرني ووصاني كمان أنك تكون زبونه
- شكرًا يا نجيب على الخدمة ديه
= كنت مبسوط أنها درة ياجاسم ؟
- أيوة
= متأكد !
- أيوة
= تمام ، ألف مبروك ياعريس
- اللَّه يبارك فيك
= بطلت تهدد طيف من امتى ؟
- من وقت ما قولتلك
= موحشكش تحس أنها خايفة منك
ضحك جاسم ثم نظر لنجيب الذي يفهم ما يدور في ذهنه جيدًا ولم يتفوه حتى أكمل نجيب كلامه ..
= عمومًا لو مكنتش مبسوط وأنت شايفها ضعيفة أدامك مكنتش احتفظت بخط مجهول المصدر وفضلت تهددها باللي عملته مع درة وأنها ممكن تخسر شغلها ، مش كده برده ياجاسم ؟
كانت طيف تمر من أمام غرفة د. نجيب الألفي لتخبره برغبتها في مشاركة د. جاسم في علاج سليم ، لكنها سمعت اسمها فوقفت تسترق السمع ، ثم وضعت يدها على فمها واتسعت عيناها ذهولاً مما سمعت ورحلت سريعًا ..
لكن لسوء حظها كانت هناك أعين تتابعها من بعد ..  

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now