الجزء السادس والعشرون

2.5K 311 56
                                    

ظنت طيف أن جاسم سوف يجذبها من يدها ويقوم بصفعها على وجهها ، لأول مرة تشعر أنها تخشاه ، لكنه فعل عكس ذلك تمامًا ..
فما إن أدارت وجهها إليه ورأى دموعها حتى تجرد من صراخه وهرع إلى سليم وظل يطمئنه ثم أعطاه مهدئًا جعله يغطو في سبات عميق ، فحمله جاسم بمساعدة طاقم التمريض ووضعه على السرير ثم ذهب لطيف وطلب منها في هدوء أن تخرج ..
لازالت طيف تشعر أن هذا الهدوء الذي يسبق عاصفة جاسم ، وقف أمامها ثم قال :-
- جاسم :- أيمكننا أن نتحدث قليلاً !؟ 
لم ترد طيف بل أومأت برأسها ..
صعدا لأعلى ثم جلسا على منضدة معزولة عن الزحام ثم طلب لها ليمونًا بالنعناع وطلب منها أن تهدأ أولاً ثم بدأ حديثه بعتاب :-
- جاسم :- لقد أخبرتك ألا تقتربي من سليم وأنتِ بمفردك !
= طيف :- لم أكن أقصد
- أعلم يا طيف ، لكنه مريض ، من الممكن أن يفكر في الانتحار ثانيةً
= نعم
- تعلمين ، لم يسبق لأي حالة في هذه المشفى أن لم تُشفى
= أعلم
- هذا يعني أنكِ لن تفعلي شيئًا بدوني ثانيةً !!
كانت تودّ أن تقول نعم لكنها تذكرت ذلك القسم الذي أقسمته أكثر من مرة أن تنتقم من جاسم ، فمهما رأت منه الآن لن تنسى ما فعله بها مُسبقًا ، فهو تسبب في سقوط دموعها وهذا شيء لا يغفر لديها ..
قطع جاسم حديثها مع نفسها قائلاً :-
- طيف ، أليس كذلك !؟
حينها لم تكن قادرة على التفكير ، ماذا عن الانتقام ، القسم ، دموعها ، ما فعله بها !! ولكن سرعان ما جاءتها الإجابة فهي تستطيع أن تنتقم دون أن تجرحه ، عليها تولي حالة سليم وعليه أن يُشفى بفضلها هي ، حينها ستكون حققت ذاتها وأثبتت للجميع وأولهم جاسم أنها تستحق الالتحاق بهذه المشفى ، فنظرت لجاسم ثم قالت :-
= حسنًا أعطي لي الأذن بمعالجة سليم
- بمفردك يا طيف !!
= إن أردت مشاركتي فلا بأس
- لن تستطيعي علاجه بمفردك
= فلنتشارك إذن
- موافق
كان هذا الحديث بمثابة معاهدة سلام بين طيف وجاسم ، فسيتخلى جاسم عن مضايقته لها وستتخلى هي عن عنادها بشرط أن تعالج سليم بمجهودها ، فهي أُرغمت على الموافقة أن يشاركها لكنها تعلم جيدًا كيف ستجعل سليم لا يثق إلا بها ..
صعد جاسم إلى درة ليطمئن على حالتها فوجدها أفضل من أمس لكنها فاجأته بسؤالها عن طيف !!
= درة :- هل طيف بخير !
- جاسم :- نعم لماذا !
= هل تثق بها ؟
- أي ثقة تقصدين !
= لقد سمعتها ذات مرة وهي تسترق السمع بينك وبين دكتور نجيب
- ماذا تقولين يا درة !!
= أقسم لكَ
لم تكن تنوي درة أن تخبر جاسم لكنها شعرت بمدى تطور علاقته مع طيف خاصة الفترة المقبلة فأرادت أن تدخل الشك قلبه حتى لا يثق فيها بسهولة ، ومن الجهة الأخرى طرد جاسم هذه الأفكار لأنه يعلم جيدًا أن درة تحبه وتغير عليه فستحاول تشويه صورة أي أنثى تحاول الاقتراب مني ..
مرت الأيام سريعًا حتى تعافت درة ، أما عن سليم فتارةً يستجيب لهم وتارةً لا ، وبدأت طيف في خطتها وجعلت سليم يلين معها ويخبرها بما لا يخبر جاسم به ، ربما كان يراها مكان حبيبته !!
ذات يوم دخلت طيف على سليم فوجدته يخفي دموعه عنها فجلست بجواره وجلست تربت على كتفه فمال على كتفها ثم انهمر في البكاء ..
لم تستطع طيف أن توقفه أو حتى أن تبتعد عنه فهي تقدر ما به الآن ، فظلت تربت على كتفه فقط دون أن تتفوه بكلمة ..
رفع رأسه لأعلى ثم نظر لها قائلاً :-
" لقد اشتقت لها ، لا أعلم لِمَا لا ترحل من داخلي كما رحلت من عالمي ، لقد تعرضت للخيانة منها بعدما تصديت لأمي ، أخبرتني أمي أنها لا تناسبني وعندما سألتها عن السبب قالت ثمة شعور بداخلي ، لم أهتم لشعور أمي وتقدمت لخطبتها حتى هاجرتني والدتي ولكنني كابرت وأقسمت ألا أكمل حياتي مع سواها ، قمت بخطبتها رغمًا عن أمي ، لأكتشف بعد ذلك أنها لم تحبني قط ، هي فقط أحبت ما كنت أقدمه لها ، كانت تحتاج أن تشبع ما تفتقده ليس إلا ، ولأنني أعطيتها قلبي رأيت كل أشياء الدنيا لا تضاهي حياتي معها ، كنت أقدم لها كل ولائم الطاعة وأقابل هذا بعند وتكبر ، جميع من حولي كان يقسم لي أنها لا تبادلني المشاعر لكنني كنت أرى حبي في عينها ، أعتقد أنني الوحيد الذي رأى ذلك الخداع ، كانت تطلب الكثير من المال وكنت أصغى لأوامرها ، كنت أسمع أمي تدعو اللَّه أن يخلصني منها فكنت أبغض أمي أكثر وأحيانًا أعنفها ، وعندما علمت ما وجدت بجانبي سوى أمي ، لذلك أردت التخلص مني ، ليس لأنني لا أستطع العيش بدونها فحسب ، بل لأن نفسي قامت بإيذائي ، قامت باختيار أسوء مخلوقة على وجه الأرض ووثقت فيها ، لا أريد أن أثق في أي سيدة مرةً أخرى ، فأنتن خليفات إبليس على الأرض "
لم تعقب طيف على كلامه فقد علمت من جاسم مؤخرًا أن تعطي المريض مساحته الخاصة حتى وإن أخطأ ، عندما يتعافى سيدرك كل صحيح ..
قام سليم وتجول في الغرفة وهو يكمل حديثه :-
" رغم كل ذلك اشتاق إليها ، لربما الأمان الزائف الذي شعرته معها ، كنت أراها دقيقةً فيضطرب قلبي لأعوام ، كانت كالشمس ، استمد من ضوئها حتى أنير عتمة قمري الداخلي ،كانت دائمًا ما تفوز بإصلاح ما تُلف بداخلي ، كانت المحاولة ياء بالنسبة لي "
هنا تدخلت طيف قائلةً :-
= أشعر أنكَ أيضًا كنت تشبع احتياجًا ما ، أظن أنك أوهمت نفسك بحبها ، بينما تمدح فيها تصدر منك كلمات تذمها ولا تشعر ، فهي لم تبادلكَ الحب ، لم تساندك، كما أنك أخبرتني أنها قامت بخيانتك !!
- هل لكِ تجربة حب سابقة ؟
= لا
- لماذا ؟
= لم أجد من يستحق قلبي
- وإن وجدتيه ، هل ستصوني قلبه ؟
= بالطبع
كانت درة ترغب في إعلان خطبتهما لكن جاسم يرفض ولا تريد أن تفتعل معه مشكلة ، ففي الفترة الأخيرة هو يفتعل مشكلات لا حصر لها وهي تتفادها بكل ما أوتيت من قوة ، فهي لن تجعل جاسم يفلت من قبضة يديها بعد أن ألبسها هذه الدبلة حتى وإن كانت بغير إرادته ..
أما نجيب فكان منهمكًا في إدارة المشفى ، ورغم انشغاله لم يتخلَ عن صديقه جاسم ، فكان دائمًا ما يقدم له النصائح ، سعيدًا بما وصل إليه الأمر بينه وبين طيف ، مؤكدًا عليه في كل مرة ألا يخبر أحدًا بأمر خطبته لدرة وأن يتخلص من هذه الخِطبة في أسرع وقت ، وبدأ جاسم أن ينصاغ للأمر ..
فبدأ يهمل درة ، وللحق هو لم يبدأ فهو يهملها منذ أن أُجبر على خطبتها ،  لا يجيب على مكالماتها ، لم يعد يجلس معها على منضدتهما ، لم يعد يجلس معها في الأساس ، كلامها المبالغ فيه تجاهه يشعره بالضيق ، حتى أنه لم يعد قادرًا على مساعدتها في أن تتخلص من الاحتياج ..
دخل جاسم بمفرده لسليم بعد أن سأل طيف فأخبرته أنها كانت عنده بالأمس فيمكنه الدخول بدونها ، فدخل ليجده بحالة جيدة إلى حد ما فسأله :-
- جاسم :- أرى أنك بحالة جيدة اليوم ، أليس كذلك ؟
= من المفترض !
- ليس هناك شيء مفروضًا عليك ، فما تشعر به أخبرني إياه دون تردد
= لم أقصد ذلك ، أقصد أنه من المفترض أن أكون بحالة جيدة بعدما تحدثت مع طيف
شعر جاسم بالغيرة تجاه هذه الكلمات لكنه لا يملك الحق في الرد ، ولو أنه أراد أن يلكم هذه الوجه الوسيم حتى يدميه ، اصطنع جاسم الابتسامة ثم رد عليه قائلاً :-
- نعم ، فدكتورة طيف تعلم قواعد مهنتها جيدًا ، فلا تفعل شيئًا سوى ما درسته في الكتب
وكأن جاسم أراد أن يبلغ سليم أنه مجرد حالة مريضة عند طيف وأنها لا تعامله معاملة خاصةً ، هي فقط تمارس مهنتها التي أشرف عليها ..
فرد سليم :-
= أعلم أنك أمهر منها ، لكنها جيدة
- هل هناك ما تخبرني به اليوم ؟
= نعم
- حسنًا ، أسمعك جيدًا
= ذات يوم كنا نتحدث سويًا ، وأخبرتها بنقاط ضعفي ، فردت بوجه ملائكي أنها بجواري وستساعدني لأتخطى أي مشكلة
- جيد وماذا بعد ؟
= عندما قصّصت عليها أول مشكلة أمر بها في الوقت الحالي ، أخبرتني أنني إن لم أجد لها حلاً ستتركني ..
- هل تركتها لهذا السبب ؟
= لا لقد أوجدت حلاً من أجلها ، فلم أكن أتخيل حياتي بدونها ، حينها حدثتني والدتي التي أعطتني خاتمها لكي أبيعه وأخرج من المأزق الحالي أن هذه الفتاة لن تساندني ، فأنا لم أطلب منها سوى الدعم النفسي لكنها وجدته أكثر مما استحق
- وماذا كان رأيك في حديث والدتك !!
= كنت أراها تبالغ ، فكيف ستساندني رقية وهي لا تمتلك المال ، وإن كانت تمتلكه فليس لي حقًا لأطالبها به ..
- لكنك قلت أنك تحتاج الدعم النفسي
= لا عليكَ
أدرك جاسم أن عقل سليم لازال متمسكًا بصورة رقية الحسنة ، ربما لم يقوى بعد على تقبل الحقيقة ، فآثر جاسم إنهاء الحديث حتى هنا وطمأن سليم وهدأه ثم تركه ورحل ليجلس مع صديقته المقربة الجديدة وهي طيف ..
= طيف :- هل أنت على ما يرام ؟
اندهش جاسم من سؤال طيف ، فهي التي كانت تتمنى رؤيته بحال سيء تسأله اليوم إن كان به شيئًا !! ، اغتنم الفرصة ورد سريعًا :-
- جاسم :- لقد كنت مع سليم وأخبرني بعدة أشياء
= ما هي ؟
- دعينا منه ، ماذا سيكون رد فعلك إن أخبرك أحدهم بنقاط ضعفه ؟
= إن كان مريضًا سـأ...
قاطعها جاسم سريعًا قبل أن تكمل حديثها قائلاً :-
- ليس مريضًا ، شخص قريب منك
ما كادت أن تجيب حتى رنَّ هاتف جاسم فنظر ليرى المتصل فإذا بها درة فقام بإغلاق الهاتف ثم طلب من طيف أن تكمل ..
= لن أجعله يعلم أنها نقاط ضعف
- كيف ؟
= سنعالجها سويًا حتى يشعر أنه انتصر عليها ، فلم تكن ولم تعد نقاط ضعف إذن ..
وكأنها الإجابة التي أراد سماعها ، فجاسم مثله مثل أي شخص يحمل نقاط ضعف ونقاط قوة ولكنه يفضل أن يظهر بمظهر القوي دائمًا ، فلديه عزلة يمكنه الانهيار فيها كما يشاء ..
- ماذا عن نقاط ضعفك ؟
= هل تريد استغلالها !
- ولِمَا !
= ولِمَا لا تستغلها ؟
- لا احتاجها يا طيف ، فإن أردت مضايقتك فعلت ذلك بدون مساعدات
= تودّ أن تعود الحرب ثانيةً ، أليس كذلك ؟
- لا ، تاللَّه لا أريدها ، هكذا أفضل
= بالفعل ، هكذا أفضل
هل تريد أنتَ أن تخبرني عن نقطة من نقاط ضعفك ؟
- ستكونين جديرة بالثقة يا طيف ، صحيح ؟
= أقسم لكَ
- لم تكن حياتي كما هي ظاهرة للجميع يا طيف ، لقد عانيت كثيرًا ، أكثر مما يمكنني قصّه ، أعلم أنك لم تحبين التعامل معي مسبقًا ، لكنني أكره العند ، وأنتِ تمارسينه بجدارة ، فكان عليّ أن أحاربك بسلاح أقوى من سلاحك ..
ما كاد يكمل كلماته حتى وجد درة تأتي من بعيد وتبحث عنه بعينيها ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now