الجزء الثالث والثلاثون

2.4K 316 18
                                    

في الوقت ذاته كانت تفكر طيف في علاقتها مع جاسم ، هل هي في المسار الصحيح ! أم أنها تتوهم ذلك !! لم تكن طيف تخشى العلاقات حتى خاضتها، حينها افتقرت الأمان فأصبحت تتلاشاها حتى تعرقلت في جاسم فباتت تسير وراء أوامر فؤادها دون الرجوع للعقل ..
قررت أن تطلق العنان لعقلها ولو لمرةً واحدةً في علاقتها مع جاسم، فإن نظرنا للماديات فهو على قدر عالٍ منها، أما المستوى الاجتماعي فهو واجهة مشرفة بشهادة الجميع، يعيش بمفرده، لديه مسكن مستقل يصلح جيدًا للزواج، يعلم جيدًا كيف يتحمل مسئوليته ومسئولية من بجواره، والأهم من ذلك وذاك أنها لم تشعر بالأمان طيلة حياتها إلا بجواره، هذا ما اكتشفته طيف مؤخرًا وصدقت عليه ..
ولكن هل هذه الصفات كافية لاختيار شريك الحياة !! هل العقل وحده كافٍ ؟ بالطبع لا، تعتقدون أنني سأقول أن للقلب رأي هام ! بالطبع لا أيضًا، عندما نتعرقل في شريك حياتنا لا نخضع لمبادئنا التي كنا نردّدها أعوامًا، بل نجدنا نسير وراء أهواءٍ لم تكن من خصالنا يومًا ولم نطرق لها خاطر وكنا نعتقد أنها لن تطرق لنا بابًا، نعيش أعمارنا تحت خدعة فتى أحلامنا التي تتراوح صفاته بين الكمال والصفات السامية والمقاييس الدقيقة ثم نكتشف أن من اخترناه بكامل إرادتنا لا يملك أية منهما !! والمدهش حقًا أننا نصل لقمة الإقتناع بذلك الشخص، كأنه سلبَ قلبك دون أدنى مجهود، كأنه مسخرًا لذلك ..
لذلك رفضت طيف فكرة أنها ستنظر لغير جاسم وإن كان يتخطاه صفاتٍ، فالأفضل لا يفوز في كل الأوقات،  لأن لفظ الأفضل هو نسبي في الأصل، فأنت من تحدد الأفضل بالنسبة لكَ، وعليكَ ألا تتأثر بوجهات نظر من حولك في اختيار شريك حياتك، فمن الممكن أن تنصت لخبراتهم ولكن ليس بالضروري أن تنفذ نصائحهم، فبنسبة ضئيلة جدًا ستتماشى أفكارهم مع أفكارك، عليك أن تتقصى مرة واثنين وستة وستون ولكن في النهاية أرجع القرار لكَ، لكَ وحدك لأنك من ستتحمل مسئوليته بالكامل ..
حينها تذكرت طيف جزءًا من قصيدة "لا تصالح" للشاعر "أمل دنقل" والتي يقول فيها :-

أترى حين أفقأ عينيك  ..  ثم أثبت جوهرتين مكانهما 
                        هل ترى ؟ 
                  هي أشياء لا تشترى

على الرغم من أن غرض القصيدة الأساسي لا يتطابق مع ما يدور في ذهن طيف الآن لكن بطريقة ما ربطتهما طيف، فعلى الرغم من أن الجواهر من الأشياء النفيسة لكنها لا تجدي في كل الأحوال فإن بدلتها يومًا بما هو أدنى من قيمتها المالية -بالنسبة لكَ- فستصير كفيفًا !!
هكذا الأمر بالضبط، ما يراه غيرك غاليًا وثمينًا قد يسبب لكَ ضررًا لن تُشفى منه ..
فربما يجد البعض جاسم متعجرفًا ولا يجيد التعامل مع الآخرين لكنه يتعامل مع طيف برقة ولين بشكل ملحوظ وهذا يكفي بالنسبة لها ..
لكن لسوء حظها فقد أمسكت هاتفها قبل أن تخلد إلى النوم وظلت تقلب في بعض مواقع التواصل الاجتماعي وتقرأ كل ما يقع أمامها .. 
استيقظ جاسم مبكرًا ثم ذهب إلى المشفى وكان يريد الاطمئنان على حالة سليم، فما إن وصل حتى طرق باب غرفة سليم فوجده جالسًا ينظر للباب كأنه يعلم بوجوده وينتظره ..
- د. جاسم :- كيف حالك الآن ؟
= سليم :- لا أعلم ولكنني أبدو جيدًا !
- تبدو !
= نعم
- وما الذي يجعلك غير ذلك ؟
= أفتقر الثقة في اختياراتي
- أتفتقرها لأنك أخطأت مرةً في اختيار !!
= لم تكن مرةً، بل مرات، عندما أخطأت وأنا في مراهقتي، وعندما أخفيت عن أمي مصائبي مع أصدقائي، وعندما اتجهت للمخدرات يومًا، وعندما تعافيت منها أيضًا ..
- أخطأت لأنك تعافيت من التعاطي ؟
= نعم، لربما كنت في حال أفضل الآن، ناهيك عن اختياري لرقية وعندما تجاهلت سماعي للآخرين ، لم أعد أثق في قراري، لابد أن يدعمه أحدًا !
- قد يكون الآخرين أصابوا تلك المرة لكن ليس بالضروري في كل المرات.
= ماذا تقصد ؟
- أقصد أنه ربما كان رأي الجميع في رقية صحيحًا لكن هذا لا يعني أن جميع آرائهم في جميع المواضيع صحيحة.
= هل وضحت لي بطريقة أسهل ؟
- لا يوجد إنسان على وجه الأرض لم يخطئ من قبل -إلا من رحم ربي- ، فأصل نزول جنس آدم على الأرض هي الخطيئة، فلو لم يخطئ آدم ما نزل الأرض وللَّه الحكمة الأعلى بالطبع، حتى بعدما استقر على سطح الأرض بدأت أول جريمة في تاريخ البشرية وهي قتل الأخ لأخيه، فلا جرم أن نخطئ عن سوء جهل أو عن ضعف إيمان ولكن الجرم حقًا ألا نفيق سريعًا ونستغفر ونتوب توبةً صالحة بعزم، وأن نتعلم من أخطائنا وألا نكررها على قدر الإمكان ..
فعليك أولاً أن تثق بنفسك وبقرارك وعليك أن تدعم قرارك حتى وإن عارضه من حولك طالما لا تضر غيرك به فإن نجحت فسوف تنسب كل الفضل لكَ وحدك وإن لم يكن ستعيد تفكيرًا في خططك وستطورها قدر الإمكان ..
ثم نظر جاسم لسليم قائلاً :- عليك أن تحب ذاتك أكثر من ذلك يا سليم، أغلب المشكلات التي تواجه الإنسان وُجدت لأنه لا يحب ذاته أو لا يعرف كيف يحبها أو لا يهتم من الأساس إن كان يحبها أم لا، فاللَّه -سبحانه وتعالى- كرم جنس آدم وفضلهم على كثير من المخلوقات، فأنت يا سليم عندما تحب شخصًا تحاول بكل الطرق أن تنْل رضاه، فلِمَا لا يكون ذلك شعورك حيال ذاتك ! لِمَا لا تخشى عليها الحزن ؟ لِمَا لا تطورها وتعطيها حقها ! لِمَا لا تلوم نفسك على إهمالها لذاتها؟ لِمَا لا تكافئها ! ألف لِمَا يا سليم لو فعلنا جزءًا منها لباتت حياتنا أفضل ..
وقف جاسم ثم نظر لسليم وألقى عليه جملةً أخيرة قبل أن ينصرف :-
ثق في اختيارك يا سليم، أدرك الأمر جيدًا ثم أدرس جوانبه بما يناسبك ويناسب طبيعتك، ثم توكل على اللَّه وأشرع فيما وصلت له ..
كأن سليم كان ينتظر هذا الكلام من أي شخص وكأنها إشارةً لِمَا يشغل باله الفترة الماضية، فقرر أن ينصت لكلام جاسم ويشرع فيما هو متردد فيه ..
خرج جاسم من غرفة سليم ليصطدم بطيف تمر من أمامه فنظر لها نظرةً حادة لم تفهم سببها ولكنه سحبها من يدها هامسًا :- تعالي معايا
تعجبت طيف من أسلوب جاسم فلأول مرة بعدما أعلن لها عن حبه يعاملها بتلك الطريقة الجافة، ذهبت معه إلى المكتب ورغم أنها خطوات قصيرة لكنها باتت أميال بالنسبة لها فجاءتها كل مخاوفها، ودارت العديد من الأسئلة في ذهنها، هل عاد جاسم لتعجرفه ؟ هل ستتلقى صفعةً على وجهها الآن؟ هل انتهت الفترة اللطيفة بينهما ؟ هل كانت مخطئة عندما أحبته !!
لم تكمل جملتها حتى أفاقها صوت فتح باب غرفة جاسم فدخلت أولاً ثم دخل خلفها وقفل الباب، اقترب منها ثم قال لها في حزم :-
جاسم :- هو إيه اللي أنتي كنتي بتعمليه ده ؟
طيف :- كنت بعمل إيه يعني !! 
زادت حدة جاسم في الكلام وارتفعت نبرة صوته قائلاً :-
كنتي واقفة تضحكي وتهزري بمد الإيد مع الممرضين، ده طبيعي ؟
تعثرت كلمات طيف ولم تعرف بماذا ترد ولكنها أصرت أن تكمل هذه المعركة فقالت :-
= حتى لو ، أنا حرة
كاد جاسم أن ينفجر وأن يضع أحشائها مكان هذه الزهور القاطنة أعلى المكتب لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة وهدأ تمامًا مخرجًا نفسًا عاليًا ثم جلبها من يدها برفق وأجلسها على الكرسي ثم جلس على الكرسي المقابل لها وتحدث لها برفق :-
- هو أنتي فعلاً شايفة أنك حرة ؟
لم يكْد أن يكمل جملته حتى قاطعته طيف بحدة قائلةً :-
= أيوة 
أطلق زفيرًا آخر محاولاً السيطرة على أعصابه، فقال لها ثانيةً :-
- تمام أنتي عاوزة توصليلي أنك حرة وأني مليش الحق أرفض صح ؟
لم تستطع طيف السيطرة على أعصابها فهي لا تسمح أن يتحكم بها أحد ولن تسمح بذلك فهي لها مطلق الحرية في اتباع أساليب حياتها كما يروق لها، حتى وإن أخطأت منذ دقائق فالأمر يعود لها بالكامل، فأصرت على موقفها حتى لا تعطي جاسم رخصةً للتعليق الدائم على تصرفاتها فهذا ما قرأته ليلة أمس، فقد قرأت عن تجربة فتاة كانت تسمح لحبيبها أن يتدخل في كل شئون حياتها حتى انتهى الأمر بالانفصال،  فخشيت أن تخوض طيف التجربة ذاتها فقررت أن تضع حدًا من البداية ، لكنها كانت مخطئة ..
فقامت ثم قالت في عزم :-
= بالظبط كده
فهز جاسم رأسه متفهمًا ثم عاد ليجلس على كرسي مكتبه وهو لا يتلفظ بأي كلمة فقط يضغط على يده ويطرق بها على طرف المكتب، فخرجت طيف ذاهبة إلى منزلها دون مقدمات ..
ما إن علم أنها خرجت من المشفى حتى هاتفها لكي يطمئن عليها لكنها لم ترد وقامت بإغلاق الهاتف، مما زاد الطين بلة،  فأنكر جاسم هذا الفعل فهما لم يعدا صغارًا على هذه التصرفات، فهو لم يصدر منه أي تصرف قاسٍ بل تعامل مع الأمر بحكمة وهذا عكس طبيعته !
أرسل لها رسالةً وكتب فيها :-
"لم أكن ولن أكون ذلك الشخص الذي تودينه الآن، فإن لم يكن لديكِ استعدادًا للمناقشة، فلن أكون مناسبًا لكِ"

_ جيهان سيد ❤️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now