الجزء الثالث عشر

3.4K 351 65
                                    

ذهبت درة إلى غرفتها تاركة ذهنها عالقًا بأشياء لا تعلم نهايتها ..
لا تدرك حقيقة مشاعرها ، أتحب حقًا أم أنه احتياج ..
ثم تساءلت أيختلف الحب عن الاحتياج ؟
هل الحب والاحتياج وجهان لعملة واحدة ؟ أم لكل منهما عملة خاصة به ..
هل لا يحتاج المحب لحبيبه ؟ ولا يحب المحتاج من يسانده !!
هل الحب مجرد جزء من الاحتياج أم العكس ؟
هل نحتاج يومًا شخًصا لا نحبه ؟
تراكمت عليها الأسئلة ولم تجد لها إجابة واضحة ، فدائمًا ما يحتاج الإنسان أشخاصًا لهدف الاحتياج فقط ، ليشعر أن بجانبه من يسانده ويدعمه ، ربما يحتاج الإنسان محيطون ليشعر فقط أنه إنسان ..
لم يتحمل سيدنا آدم -عليه السلام- الوحدة فخلق اللًّه له حواء من ضلعه ، فقد احتاج آدم وهو في الجنة فلابد من احتياج بني آدم وهم في الأرض ..
ولكن ، هل نحتاج حقًا من يسدون احتياجاتنا المؤقتة أم أننا نُلقي بأيدينا في التهلكة ؟ هل نقوم باستغلالهم دون أن نشعر ؟ نأخذ منهم ما نحتاجه ثم لا يدق قلبنا تجاههم ؟ هل نحب الأشخاص الخطأ من البداية فلا نجد منهم الاحتياج !
هل يقع شخص في حب شخص لمجرد أنه يلبي احتياجاته ؟ إذا حدث ذلك ماذا سيكون الأمر إذا اكتفى الطرف الأخر ولم يقدم ما قدمه ثانيةً ؟ هل ستنتهي هذه العلاقة !
كانت تسأل نفسها هذه الأسئلة وصورة جاسم لا تفارق ذهنها ، كانت تشعر به في كل مكان ، لم تعرف معنى الأمان إلا عندما تعافت على يده ، إن حق القول لم تتعافى كليًا لكن الفضل الأكبر يعود له بعد اللَّه ..
عندما جاءت إلى هنا كانت فاقدة للشغف ، لا تريد الحياة ، لا تشعر بشيء سوى الصدمة والخذلان ، كانت فاقدة للنطق ، يومها يتلخص في الصراخ فقط ..
حتى بدأ د. جاسم حمدان في مسيرته العلاجية مع درة ، بذل قصارى جهده حتى يجعلها تهدأ ، فقط تهدأ ..
حتى نجح بعد عدة محاولات ومن ثم بدأ يتحدث معها ، كان أسلوب د. جاسم حادًا بالنسبة للبعض فإنه يرى أن مواجهة المشكلة هي السبيل الأول والأوحد لحلها ، لا مفر منها ولا ملجأ للهروب ..
كان يتحدث عما يعانيه المريض أمامه بوضوح بل يجعل مريضه يشاركه الأمر ، كان يخبره حقيقة أمره ، أنه مريض ..
في بداية عمله كان ينتقده الكثير ولكن مستواه المادي مع صغر سنه لعب دورًا كبيرًا في تفادي هذا الأمر ، فكانت خطواته مدروسة ، لا يقبل على أمر إلا وهو حاسم النتيجة بعد إن شاء اللَّه بالطبع ..
فالتحق بمستشفى الشفاء وكانت وقتها ذات شهرة عالية وسط منافسيها فلم يكن من السهل لمبتدئ مثله الالتحاق بها رغم تفوقه المهني ، فكان يسبقه عشرات ولم تحْن الفرصة لهم لكنه توفيق اللَّه ..
كان معروفًا بالحدة والقسوة لا يلين قلبه بالاستعطاف ، يواجه المرضى بحقيقة مرضهم وعندما كثر الانتقاد لطريقته ، اقترح على مدير المشفى أن يشاركه بجزء صغير من المال كشريك واقترح عدة اقتراحات وبالفعل كان له دور في نقل المشفى إلى وضع أكثر تطورًا و رُقيًا ، حتى يسلم من أمر انتقاد طريقته العلاجية ساهم بجزء أخر ولكنه أكبر هذه المرة فتمت الموافقة ثانيةً وكثر عدد المرضى وزادت شهرة المشفى بل أصبح هناك مرضى يأتون خصيصًا لد. جاسم حمدان ..
بعد فترة قصيرة أصبح مديرًا للمشفى فلا يجرؤ أحد على الحديث معه وإلا تعرض لأشد عقاب ، لم يكن جاسم المدير الوحيد بل كان يشاركه مديرًا أخر يُدعى نجيب الألفي كان والده مديرًا أيضًا وأعطى منصبه لولده ، كانت هناك بعض الصراعات الخفية بين نجيب وجاسم في البداية ولكن نجيب أدرك أن مصلحته تكمن في كسب جاسم وليس عداءه وتحول الأمر إلى صداقة قوية دامت سنوات كثيرة ومستمرة حتى الآن ..
تعاونا سويًا حتى تصبح مستشفى الشفاء كما هي الآن ، عالج الكثير من الحالات المستعصية ، نجح في الكثير من الاختبارات ، لا يقبل كلمة من أحد تمس كرامته أو تقترب من كبرياءه ، يحطم كل من يفكر في التغلب على غروره ، رغم كل هذه الصفات السيئة لكن علمه وتفوقه ومساهمته في إدارة المشفى جعلت الجميع يخشاه ..
كانت درة لا تستجب له مما كان يثير غضبه حتى خضعت أمام قسوته ونفذت أوامره فبدأت بالحديث معه وكان ينصت لها ونعم الإنصات ، يصحح لها مفاهيمًا إذا أخطأت ، يرتب على كتفيها إذا افتقرت الأمان ..
بعدما هدأ روعها في الأيام الأولى خصص لها منضدة في الكافتيريا العلوى وكانوا يتسامران كثيرًا ، أسهمت هذه الجلسة في سرعة شفاء درة ، فكانت المنضدة بعيدة عن الأجواء التي تشعرها بأنها مازالت تتلقى العلاج ، كلما كانت تستجيب له كلما تحسنت حالتها ، رأت أن الأمر يتحول معها إلى اتجاه أخر فهي تخشى أن تذهب مشاعرها لمن لا يقدرها وعلى الجهة الأخرى لم يشعر جاسم بأي شيء فهو لا يرى إلا أنه يقوم بعمله على أكمل وجه ، ثم أنه تخلى عن فكرة الارتباط منذ عدة سنوات ، فمن ستقبل بتلك الشخصية وهذه هي شخصيته ولن يغيرها فلا داعي لخوض التجربة طالما ستنتهي بالفشل ..
كانت طيف مازالت تشعر بالقلق إثر الرسائل التي تصل إليها في الفترة الأخيرة ، تعلم أنها تسرعت في أمر درة لكنها تخشى الاعتراف الآن ، فهي غير مستعدة لخسارة وظيفتها خصيصًا بعد ترقيتها ، يكفى أنها خسرت جولات عدة أمام ذاك المتعجرف ..
فكرت في تبني أحد الحالات الصعبة وتقوم بمعالجتها فحينها ستتمسك بها المشفى ولكن سرعان ما طردت الفكرة من ذهنها لأنه إذا كان من يرسل لها الرسائل يريد حقًا إيذائها فلن يسمح لها بمعالجة مريضة أخرى وسيقوم بإبلاغ د. جاسم حمدان ..
ثم جاءت فكرة ذهبية إلى ذهنها فسرعان ما ذهبت لجاسم حتى تغتنمها ..
- جاسم :- د. طيف علوان بنفسها في مكتبي ؟
ابتسمت طيف بهدوء ثم نظرت له في حياء شديد متصنع قائلة :-
= ممكن أقعد ؟
استغرب جاسم من طريقة طيف المسالمة ، فلم تكن تلك الطريقة التي تجذبه إليها !! فما الفرق الآن إذن بينها وبين غيرها ؟
- تفضلي
= هو أنت ليه عمرك ما كلمتني عن نفسك ؟
- مش فاهم ، واكلمك عن نفسي ليه أصلاً !!
= مش إحنا زمايل ؟
- لا
شعرت طيف بالحرج وكادت أن ترحل إلا أن أوقفها جاسم بكلامه :-
- أقصد أننا مش صحاب ، قصدي يعني متكلمناش قبل كده كصحاب
= عشان أنت حطتني في موضع من البداية وأجبرتني عليه
جاسم باستنكار :-
- هو أنا اللي قعدت على التربيزة ومردتش أقوم وكمان رمتني باللي كان في الكوباية اللي أدامي ؟
= مكنتش أعرف أنها خاصة بجلسات درة
- وأنتي عرفتي منين ؟
= ها ؟
ضحك جاسم ثم أكمل حديثه :-
- واضح أن بقى ليكي عيون في المستشفى ، بالسرعة ديه ياطيف !!
= أنا عمري ما كنت هقصد أذية مريضة
- متأكدة من كلامك ده !!
شعرت طيف بالقلق حيال جملته الأخيرة فأعادت الحوار مرةً أخرى إلى المنضدة :-
= أنت لو كنت فهمتني كنت قمت ومشيت ..
- أنتي عارفة عقوبة اللي أنتي عملتيه وقتها ده إيه !!
= أنا أسفة
اندهش جاسم لما يسمعه ، هل حقًا طيف تعتذر ! طيف التي كادت أن تودي بحياة درة بسبب عنادها ؟ طيف التي ألقت عليَّ مشروبها في أول مقابلة ؟ طيف التي ردت على الرسالة التحذيرية بلا مبالاة !! طيف التي دائمًا ما توجه كلماتها الفظاظة لي !!
هناك أمر عليَّ اكتشافه ، لم يسبق وخانني ظني في أحد ، ولا أعتقد أنه سيفعل تلك المرة ، طيف تخبئ شيئًا أو تنوي على فعل شيء وتلجأ لتلك الحيلة ولن أجعلها تنْل شرف المحاولة حتى ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now