الجزء الثامن

5.3K 453 46
                                    

بعدما خرجت من مكتب د. نجيب والغيظ يأكل أحشائي ، رأيت الجميع يتلاشاني كأن من سيقترب مني سيناله عقاب ذاك المعتوه ، أنظارهم تحيط بي وما إن التقت عيني بأحدهما زاغت عينه بعيدًا كالذي يهرب من جريمة محتومة !
كنت أتساءل من يكون ليخشاه الناس بتلك الطريقة ؟ من يظن نفسه حتى يبث الرعب في من حوله ، قد بدأت الحرب بيننا ، حرب لن أقبل بالهزيمة فيها أبدًا ..
جلست على مكتبي وقلبت في التقارير الموضوعة أمامي في عجلة ولا أفكر إلا فيما تتطلبه تلك الحرب مني ..
لم تكن تلك المرة الأولى التي أخوض فيها حربًا وأحقق فيها نصرًا حاسمًا لكن تلك المرة أشعر بشيء غريب ، كأن شيئًا بداخلي يحثني على الإستسلام ، أنا التي لم أعرف للهزيمة طريقًا أنجذب لرفع راياتي البيضاء ..
لا أعلم إن كان هؤلاء الذين يخشونه على حق لأنهم يعلمون ماهيته أم أنه يمتلك سحرًا خفيًا يخيف من يقترب منه !!
مهما يكن فلن أجعله ينْل شرف الإنتصار أبدًا ..
أكملت قراءة التقارير ثم اخترت مريض الغرفة C 610 لأباشر عملي ، وقد مررت على بعض الغرف القريبة وكان كل شيء على ما يرام حتى سمعت صراخًا في الأسفل ..
نزلت مسرعة لأجد فتاة في مقتبل العمر تصرخ بهستيريا وترتمي أرضًا ولا تتفوه بشيء سوى صرخات متتالية تعلن عن حنجرة قد أنهكها البكاء ..
لم أشعر بشيء إلا ويدي تضمها لأحتضنها بين ذراعي وكنت أربت على شعرها بلين ولكنها لم تهدأ ، فلجأنا للعنف حتى تدخل غرفتها وتأخد جرعتها المهدئة وبالفعل غطت في سبات عميق ..
أمسكت بالتقرير الخاص بها وقرأت عن حالتها أكثر وبينما أنا أتمعن في القراءة سمعت صوتًا من الخلف يهمس هذه الحالة تحتاج د. جاسم وبشدة ، فلقد رأيت عندما غاب عنها يومًا واحدًا حدث لها ذلك ..
اشتعل رأسي نارًا ، ألا يوجد غيره هنا ؟ التفت لصاحب هذا الصوت وقلت له وقد نالت نظرات التحدي مني لأخبره أن من وقتنا هذا وهذه الحالة أصبحت لي وعليّ علاجها بأقصى سرعة ..
أندهش كلاهما صاحب الصوت والذي يسمعه وسألني ثانيةً لعل أذناه أخطأت ، فكررت ما قلته سأقوم بعلاج هذه الحالة وستُشفى في أقرب وقت ..
همس لي بخوف ولكنها حالة د. جاسم فارتفع صوتي ثانيةً ولكنك قلت أنه تركها دون رعاية ..
فارتعش قليلاً وتلعثمت كلماته وقال بخوف :- لا .. لم .. لم أقل ذلك .. لقد قلت أنها عندما تغيبت عنه يومًا صار لها ذلك ..
نظرت في عينيه بتحدي وقلت له :- من الآن هذه الحالة لي ، من فضلك باشر عملك وأنقل لي كل ما يخصها على مكتبي الآن ..
عدت إلى مكتبي ووَدِدْتُ لو التقيت بالمدعو جاسم ذاك لأصفعه على وجهه مئة صفعةً حتى ينكسر غروره المفرط ، هل لا يوجد طبيب غيره ! هل ذاك الممرض المعتوه أيضًا يشك في قدراتي المهنية ! ألا يعلم من أكون ؟ ألم يرى كم الشهادات التي حصلت عليها من الخارج ، لقد جئت هذه المشفى بمجهودي وتفوقي لن أقبل تلك الطريقة المهينة أبدًا ، سأثبت لهم من أكون وستُشفى هذه الحالة في أقرب وقت وسيتعجبون مما وصلت أنا من علم في هذا السن ، ربما يطلب مني ذلك الذي يُدعى جاسم كورس تقوية. 
جاء الممرض ووضع الأوراق أمامي بتردد ثم انصرف دون كلام ، لم أكترث له ولخوفه المبالغ فيه وأمسكت بالتقارير الخاصة بها ، جميعها تحمل جملة تحت إشراف د. جاسم حمدان ، هذه الحالة تُدعى درة وكانت تعاني من اضطرابات في الشخصية نتيجة عدم الثقة في المجاورين ..
فقد سمعت أبيها وهو يهاتف صديقتها المقربة ويخبرها بأن عليها أن تودي بحياة الجنين .. جنينهم.
فجن جنونها وصارت تصرخ في وجهه عن أي جنين تتحدث ، كيف فعلتما ذلك ، أنا لا أصدق ..
فقام الأب بجلبها لهذه المشفى لمكانتها المرموقة وشهرتها الواسعة وترك الكثير من المال على ألا يفصح أحدًا عن هويته .. وبالفعل لم يذكر له أي دلالة في التقارير.
حسب التقارير أنها كانت في أسوأ حالاتها في أيامها الأولى حتى بدأ معها د. جاسم حمدان خطته الفريدة فبدأت حالتها تتحسن شيئًا فشيئًا ومؤخرًا بدأت تتقبل الأمر الواقع بعدما علمت بطريقة ما أن والدها وصديقتها كانت تجمعهم علاقة زواج ولم يكن قد حان الوقت لإخبارها بذلك لأنهم تفاجئوا بأمر الطفل ..
قلت لنفسي هل هذه الحالة التي تحديت نفسي من أجلها !! إنها في المشارف الأخيره وكادت أن تخرج في أقرب وقت وللأسف كان الفضل في ذلك لد. جاسم حمدان ..
لم يتقبل عقلي أن أخسر جولة ثانية في نفس التوقيت ونحن على أعقاب الحرب فما كان لي إلا أن أنفذ ما ورد في خاطري الآن ..
                             _____________

في جانب آخر د. جاسم يضرب كفًا على كف ويصرخ في وجه ممرضينه .. هي السبب في ذلك ، إن طال الأمر هؤلاء المساكين فلن أتهاون ..
تظن أنهم دُمى يمكنها اللعب بهم لتحقيق رفاهيتها وشعورها بلذة الإنتصار ، لقد تهاونت في المرة الأولى لكونها لا تعرف لكنها للمرة الثانية تظن أنها تستطيع إخضاع أي شيء تحت سيطرتها لتتلذذ فقط ..
وبينما هو يصرخ ألقى بعينه إلى إحدى الكاميرات فإذا بها تتسلل وتدخل الغرفة B2 في خفية وتتلفت يمينًا ويسارًا خشية أن يراها أحد ..
تمعن في النظر إليها فرآها تدخل الغرفة خلسةً وتقترب من درة وتضع في يدها ورقة مطوية ثم تخرج سريعًا كأنه لم يحدث شيئًا ..
صرخت في الممرض الذي أمامي ليسرع ويجلب لي هذه الورقة دون أن يلمحه أحد ، بالفعل تسلل هو الآخر وذهب بخفة قدم وبخفة يد أيضًا أختلس الورقة ووضعها على مكتبي ورحل ..
بعدما أمرت الجميع بالرحيل جلست على المكتب في هدوء وأنا أستعد لقراءة ما بداخل هذه الورقة فمددت يدي وفتحتها وتأملت حروفها .. ما جذب انتباهي أنها كتبت "من علمك" أعتقد أن بحجم علمها كان يليق بها أن تكتب من أخبرك ولكن لا علينا .. أعجبتني خطتها الفاشلة وسأكملها.
أخذت الورقة وذهبت لد. نجيب ووضعتها أمامه دون كلام ، أخذها ومن ثم سألني لمن هذه الورقة ؟ قلت له تريد معاندتي في مرضاي ..
ألم أقل لكَ أنها تشبهني ، هي من هواة التحدي والعناد وأنا أيضًا مثلها ..
تعرضت درة اليوم لنوبةً لأنني لم أتمكن من مقابلتها بالأمس حيث أنكَ تعلم السبب فجاءت هي وأمرت الممرض بأن يجلب لها تقارير درة ، يا لغبائها أتظن أن من سلطاته أن يفعل أمرًا كذلك دون أن أسمح له؟
سمحت له وأخبرته ألا يخبرها بذلك حتى أرى ماذا تنوي فعله ، فالساذجة بعدما تأكدت أن درة في آخر مراحل الشفاء ظنت أن بإمكانها فعل شيء مثير يزيد من خبراتها كطبيبة فكتبت هذه الحروف المبعثرة لتضعها في يد درة حتى تقرأها عندما تستيقظ وتبدأ هي رحلة علاج من البداية ..
بدأ الغضب يعلو وجه د. نجيب ونظر لد. جاسم مخاطبًا إياه في حدة :- أذهب إليها الآن وأخبرها أنها مرفودة.
هدأ د. جاسم من غضب د. نجيب وأخبره أنه سيتولى الأمر وسيجعلها تذوق طعم الهزيمة المُر ولن يحدث للمرضى أي شيء فهم أمانة في رقابنا ولكن أرجوكِ لا تخبر أحد بما حدث وخصوصًا هي واتركني أتصرف مع الأمر وأعلم أنك تثق بي ..
أنصت د. نجيب لكلام د. جاسم وأطمئن قليلاً فهو يعرف مدى ذكائه وخبرته ولكن ذلك لم يقضي على قلقه بالكامل ..
قطع تفكير د. نجيب صوت د. جاسم وهو يطلب منه أن يطَّلع مرةً ثانية على ملفها ، فقدمه له د. نجيب فأخذه هو والورقة وذهب بهما إلى مكتبه ..
فتح الورقة الأولى ليرى صورتها الهادئة ذات العيون التي تشبه عيون المها فتأملها قليلاً ثم قرأ بياناتها بتمعن ..
الاسم :- طيف عاصم منير علوان ، السن :- 26 ، حصلت على درجة الماجستير بتقدير امتياز لرسالة بعنوان "العناد وتأثيره على الشخصية المهنية" من كلية الطب النفسي بجامعة القاهرة عام 2019 ، حضرت العديد من المناظرات النفسية بالخارج وشاركت في بعضها ، عزباء.
هذه هي المعلومات التي حفظتها في ذهني ومن ثم قرأت الباقي بهدوء حتى أجمع أي شيء يوضح شخصيتها ..
طيف .. تُدعى طيف .. أرجو ألا تكون قد نالت نصيبها من هذا الاسم ..
فتحت ورقتها المطوية مرةً أخرى وقرأتها بصوت مسموع "من علمك أن والدك كان متزوج من صديقتك ، لو كان ذلك لِمَا أراد منها أن تتخلص من الجنين؟ " ، وهذه المرة ضحكت رغمًا عني ، فهل من كتبت هذه الكلمات هي من حصلت على ماجستير لرسالة تحمل عنوانًا "العناد وتأثيره على الشخصية المهنية" و بتقدير امتياز !!
جلبت ورقةً تشبه ورقتها وكتبت فيها يومًا سعيدًا يا درة ، لقد أشرقت الشمس عندما فُتحت عيناكِ ..
نظرت إلى المرآة وقلت في تحدي سأكمل ما بدأتيه يا طيف ..
سأجعلك تعاصرين هزيمةً لم تخطر على بالك يومًا ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now