الجزء الحادي عشر

3.7K 359 27
                                    


كانت طيف في حالة لا يرثى لها ، هي التي ترعرعت بين أهلها كطفلة مدللة يُجلب لها كل ما تتمناه  ، كانت تمتلك جميع الصفات التي يتمناها أي شاب في فتاته المستقبلية عدا العند الذي مازال مستمرًا معها حتى الآن ، درست في أرقى المدارس حتى التحقت بكلية الطب النفسي وأبدت تفوقًا غير مسبوق حتى سافرت للخارج في منحة نظرًا لتفوقها فناقشت رسالة الماجستير وحصلت على تقدير امتياز ومن ثم عادت لمصر لتلحق بأكبر المستشفيات النفسية في مصر ، لكن بسبب عنادها هي على وشك أن تخسر وظيفة أحلامها ..
استيقظت مبكرًا وبدلَّت ملابس نومها ثم وقفت أمام مرآتها ونظرت إلى ملامحها التي باتت باهتة بعدما دخل د. جاسم حياتها ، صارت تتقبل هزائمها المتتالية دون رد أو حتى دون دفاع ! صارت أشبه بالفتاة الضعيفة التي تتحمل لكمات زوجها من أجل أولادها !! هي بالفعل تحب عملها لكن تحب ذاتها أكثر ، من ذاك الذي أقتحم حدود طيف علوان وثبت رايته أعلى قمتها ! يوجه لها صفعات على هيئة كلمات تخرج من فمه ولكنها تصيب كرامتها ، طعنات سامة صادرة من غروره تخترق تقديرها لذاتها  ..
ظلت تتساءل هل كانت مخطئة عندما فكرت في بدء الحرب معه ؟ هل حقًا هو يتخطاها تفوقًا و دهاءًا ! هل هي من وضعت نفسها في ورطة عندما أدخلت مريضةً لا ذنب لها في المشكلة بينهما ؟ هل حقًا درة ليس لها ذنبًا !! هل تعافت بطريقته الغبية ؟
أنه يخبر مرضاه بأنهم مرضى !! يسترق السمع حتى يستغلهم أشد استغلال ظنًا منه أنها طريقة العلاج المثلى ! ما يثير جنوني حقًا أنها تنجح ؟ كيف لمريض تمت مواجهته بكل مخاوفه أن يُعالج !!
انتبهت طيف لصوت المنبه ليعلن عن موعد نزولها ، فحملت حقيبتها وذهبت للمشفى ..
كان جاسم يتسامر مع د. نجيب الألفي عن الترقيات الجديدة للأطباء والممرضين حيث تتبع هذه المشفى نظامًا خاصًا بها أنها من حين لآخر تقدر مجهودات الأطباء والممرضين فتقوم بترقيتهم رمزيًا لتزداد مرتباتهم ، وكان صاحب هذه الفكرة هو د. جاسم فهو يخصص جزءًا من ثروته من أجل هذه الترقيات حتى يحصل على أقصى مجهود من فريق عمله وحتى يظل اسم المشفى كما هو ..
فبدأ د. نجيب حديثه :- طبعا أول حاجه هتقولها استبعد د . طيف عشان تحس بانتصار جديد صح ؟
ففاجأه جاسم :- كان نفسي تكون أول طبيبة يتم ترقيتها بس هتنازل عشان خاطر الدكاترة الأكبر ، بس أنت هتكرمها قدام المستشفى كلها ..
اندهش نجيب لما يسمع فهل سئم جاسم الحرب التي أبتدعها ؟
نجيب :- هي عرفت توقعك ولا إيه ؟
ضحك جاسم بصوت عالٍ :- هو أنت محسوب عليا صاحب على الفاضي ؟ مش عارف هتفهمني امتى بجد ..
نجيب :- وهو أنت فيه حد يفهمك ؟ أتفضل اشرحلي ناوي على إيه؟
جاسم :- تخيل هي مرعوبة أنها تخسر منصب طبيبة في المستشفى ما بالك لما تترقى في فترة صغيرة وتثبت نجاحها ؟ وفجأة يجي حد يهددها أنها هتخسر كل حاجة بسبب تصرف متسرع منها !!
نجيب :- جاسم هو أنت هتحبها ؟
جاسم :- ليه قولت هتحبها مش بتحبها !
نجيب :- لا متقلقش النقطة ديه أنا فاهمك فيها ، أنت لو وقعت مش هتقع بالسهولة ديه ولا بالسرعة ديه ، أنا عارف أن طيف مختلفة وأني دماغها عجباك حتى لو أنت بتنكر ده ، بس أنا بسألك بقى هل أنت ناوي تحبها ولا الموضوع كله عناد وخلاص ؟؟
لم يجْب جاسم وظل يفكر بينه وبين نفسه هل حقًا كلام نجيب صحيحًا ! هل ستستطيع طيف أن توقع شباكه ! هل هي من ستكون في نهاية المطاف ؟ ..
ما يثير دهشته حقًا أنها الفتاة الوحيدة التي جعلته يسأل هذه الأسئلة ، ثم نظر لنجيب وأعطاه ورقةً باسماء الدكاترة التي ستحصل على ترقية ثم رحل ..
وجد جاسم شريحة هاتف واقعة على الأرض فوضعها في هاتفه حتى يعلم من صاحبها ، ولكن سرعان ما أخبره الممرض أن المريض حازم شفيق يحتاجه ..
ذهب إليه فوجده يبكي كالعادة وينادي على ابنه زين  فقطع بكاؤه قائلاً :-
- د. جاسم :- ألن تساعد نفسك لتخرج من هذه الحالة ؟
= حازم :- أريد زين
- لم يشأ اللَّه أن تراه
= لكنني تمنيته وطلبته منه
- كأن بإمكانك أن تنجب غيره ويمكنك تسميته زين أيضًا ..
= بهذه السهولة ؟
- ولِمَا لا
= أكاد أجزم أنك لم تشعر بمرارة الفقد يومًا ، أتعلم أن تضع أحلامك في شخص ما ثم يرحل دون أن ينبهك ؟ تقدم له فوق استطاعتك ليفاجئك هو بأنه لن يكون موجودًا !!
-أرى أنكَ تهذي ، فكلامك غير مرتب ..
= لأنني مريضًا كما أخبرتني ..
- تصديق المشكلة يساعد في حلها
= ومن ذا الذي لن يمرض برحيل زين ..
- أنتَ لم تراه !!
= شعرت به ، لامس قلبي وهذا يكفى ، ليست كل الأوقات تحتاج إلى أشياء مادية فهناك وقت لن تساعدك المادة ستتجه للمشاعر الخفية ، ستنساق وراء ما بداخلك وإن كان يخالف الكون ..
عندما علمت بوجود زين شعرت أن اللَّه رزقني بقطعة من الجنة تعويضًا عما عانيت منه طوال سنوات حياتي ، ظننت أن القدر ضحك لي ولكنه لا يضحك سوى علينا ، يجعلك تشعر أنك ستملك الدنيا ثم بدون سابق إنذار يركلك لتسقط من حافة أحلامك ..
كنت كَـ نسـرٌ فاق قمة الجبل ثم تعرقل جناحه في اللحظة الأخيرة.
ربما لم يصلك مقصدي لكن زين لم يكن مجرد ذاك الجنين الذي سأحتضنه بيدي فيكبر يومًا بعد يوم حتى يلتحق بالمدرسة ثم الجامعة ثم يخبرني أنه يريد الزواج من تلك الشقراء التي أوقعت بشباكه ويُعاد الزمان ثانيةً وأحمل حفيدي ثم يكبر يومًا عن يوم ..
أتعلم ، ربما كان السبب في حازم نفسه ، نعم أنا ، ربما هو من حلم بأشياء لن ينْلها ، ربما ارتفعت عيني عن القدر المحدود لها ، ربما أحببت زين أكثر من اللازم لكن تاللَّه كانت ثقتي في الذي خلقني وخلقه هي الدافع ..
-لو كنت مثلما قلت فثقتك باللَّه وحدها قادرة على البدء من جديد
= يُهزم المرء مرةً واحدة فيركض طيلة حياته في محاولة بائسة للتعافي ولكنه .. لا يتعافى.
-  تتحدث هكذا لأنك مريض.
انتهى الحوار بينهما بتلك الجملة ، فطأطأ حازم رأسه مستسلمًا لكلام طبيبه ثم اختفى تحت لحافه ..
تركه جاسم وذهب ليشاهد رد فعل طيف على ترقيتها ، وجد د. نجيب الألفي يتأهب فكان من المفترض أن يجلس بجانبه جاسم لكنه جلس في صفوف الأطباء حتى لا تعلم طيف أنه مديرًا مثله مثل د. نجيب ، فهو أوصى الأطباء والممرضين الذين يتعاملون معها ألا يخبروها بذلك ..
فجلست هي أمامه وهي متوترة وإذا بد. نجيب يبدأ حديثه ممجدًا في المشفى وفي طاقم العمل ومن ثم يعلن الترقيات وهي في حالة شرود لا تنتبه حتى نُطق اسمها ، فلم تجْب ..
الدكتورة / طيف علوان ..
دكتورة / طيف
دكتورة / طيف عاصم منير علوان
دكتورة طيف موجودة ؟؟
فاقت من شرودها على صوت د. جاسم وهو يقول لها لا تنتبهين لأنك لم تتوقعين ذلك ، صحيح ؟
طيف :- عفوًا
نُودي ثانيةً دكتورة / طيف عاصم منير علوان
فأجابت :- نعم ؟
خاطبها د. نجيب وهو يلوم عليها ألا تريدي الترقية الجديدة ؟
طيف :- ترقية ماذا ؟
كان جاسم يضحك في الخلف على تصرفاتها لكنه خشي عليها من شرودها ، فما السبب وراء ذلك !! فهو لم يرسل الرسالة بعد ! كان ينتظر أن تحصل على الترقية أولاً !!!
استلمت طيف الدرع الخاص بها وحصلت على الترقية وظهرت الفرحة في عينها ولكنها سرعان ما اختفت حتى عادت لمكانها ووجدت د. جاسم يهنئها ، فسرعان ما تذكرت أمر الرسالة ..
د. جاسم :- مبروك يا طيف
طيف بتأفف :- دكتورة طيف*
جاسم بتكبر :- لقد حصلت على مثل هذه الترقيات تكرارًا ومرارًا ..
نسيت طيف أمر التهديد وتمكن منها عنادها الذي يريد تحطيم غروره فردت ببلاء :- لم أكمل شهرًا واحدًا في المشفى وحصلت على هذا التكريم ، أعتقد إن أكملت عامًا سأصبح مديرتك ..
لم يمنع نفسه من الضحك وقال لها بالطبع ، أعتقد أنها ستكون في القريب العاجل ..
شعرت هي بالإهانة فانصرفت دون وداع ..
لم يكن يقصد جاسم إهانةً ، استكمل حفل التكريم بصفته مديرًا ومن ثم دخل لغرفته وتذكر أمر الشريحة ففتح هاتفه لربما يجد رقمًا يوصله لصاحبها ..
نظر جاسم للهاتف باندهاش ، فلا يوجد سوى رقم طيف !! ولكن لا يوجد مكالمات بينهما ! لا يوجد سوى رسالة واحدة ..
دخل على الرسائل المرسلة ليقرأها وكانت المفاجأة ..
فاشتعل غضبه واشتد وتجمعت الدماء في عروقه وأقسم أن يعرف صاحب هذه الرسالة ولو كلفه ذلك عمره بأكمله ..

_ جيهان سيد ♥️🌝



من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now