لم يقْل سليم أكثر من ذلك وتحولت حالته من الصراخ العالي إلى الهدوء المستمر والشرود ..
ذهب جاسم لغرفته ونسي أمر درة الجالسة بالأعلى أو بالأدق تناساها ثم أمسك بهاتفه ونظر إلى شاشته يتأمل رقم هاتف والدها ..
يريد أن يضغط بإصبعه على زر الاتصال لكنه لا يجرؤ ..
أتى برقم طيف وظل ينظر إليه ولا يعلم سبب ما يفعله ، فقط ينظر إليه كأنه يتأمل كل رقم فيه على حدة ..
سأل نفسه هل هو متأكد من الارتباط بدرة ؟ لا ينكر أنها فتاة حسنة المظهر ممشوقة القوام ، تعرضت لصدمة كبرى حتى أتيت أنا وفرضت نفسي على حياتها لتستوعب حقيقة مرضها حتى تعافت منه بشكل ملحوظ في فترة قياسية ، تجيد التعامل معي ولا أحد يستطيع إنكار ذلك ، تعي جيدًا الأوقات التي يجب عليها التحدث ومتى يلزم عليها الصمت ، دائمًا ما تتصرف بحكمة ، أكره الغيرة والتحكم ولم أرى منها شبيه لذلك ، تخلت عن أهم صفات المرأة المصرية الأصيلة وهي النكد ، وأهم من هذا كله أنها تقدر جيدًا مجهوداتي الشخصية والمهنية ..
أشعر أن تلك الصفات مثالية جدًا لشخص يرغب في الزواج والاستقرار لكن ليست لدكتور جاسم حمدان ، فأنا عشت عمري كاملاً أبحث عن تلك التي ستخطفني بلا مجهود ! كنت أنتظر أن أشعر بشيء في داخلي يحثني أنها هي ..
للحق لم أشعر بذلك مع درة ..
حينها تذكرت جملة قالها سيجموند فرويد وهي :-
"إنه لتدريب جيد أن يكون المرء صادقًا تمامًا مع نفسه" ..
لكن عذرًا يا فرويد فربما يتربى المرء على تقاليد لا يستطع الإفلات منها ، فأول شيء تعلمته أن الرجل إذا نطق كلمةً وتراجع فيها عليه أن يعيد مفاهيمه عن كلمة رجل ثانيةً ..
قد أكون قاسيًا بعض الشيء حتى على نفسي لكنها الأصول ياعزيزي ..
سمع طرقات على الباب فأذن للطارق بالدخول فإذا بها درة تصطنع الفخر به :-
= تعرف يا جاسم قصدي يا دكتور جاسم أنا كل يوم بفتخر بيك أكتر ، عارفة أنها حاجة بسيطة بالنسبالك أن الضجة اللي كان عاملها سليم تقدر تحلها بسهولة بس مبسوطة بس برده فخورة بيك أوي
- جاسم ، قولي جاسم يا درة
= بصراحة بحب أقول دكتور جاسم ، بحس بفخر أكتر
لأول مرة لم يحب جاسم محاولات درة لإرضاء غروره ، فبدأ يشعر أنها تبذل جهدًا لإثبات ذلك لكنه ابتسم ..
أستأذن جاسم من درة ليطمئن على حالة حازم فطالما تابعه أصبح بخير لكن إن أهمله يعود لحالته تدريجيًا ..
أطرق الباب ثلاث طرقات فسمح له حازم بالدخول وإذا به يمسك مصحفًا في يده ويتلو منه فابتسم جاسم تلقائيًا لهذا المشهد الرائع وسأل حازم عن حاله ؟
= حازم :- أريد أن أصبح بخير حتى أخرج من هنا ..
- جيد جدًا ، أنها لمحاولة رائعة ، وأنا هنا لأساعدك ..
= أريد أن أشكرك وأعتذر لكَ
- على ماذا ؟
= أعتذر لكَ عندما كنت أكابر في مرضي ، عندما أعتقدت أن المرض النفسي يقود للجنون ، عندما ظننت أنني صرت مجنونًا بمجيئي لهنا ، أود أن أشكرك على حسن تصرفك معي وعلى الحكمة التي استخدمتها معي ، أريد أن أنجب ولدًا ليصير مثلك ..
- شكرًا يا حازم ، في البداية لم تكن تعي معنى أن يعترف المريض بداءه فهي أولى خطوات العلاج ، ليس منا من هو سوي نفسي ، جميعنا تعرض لصدمات وتراكمات عدة ، منا من عاصر الخيانة وأخر الكذب وأخر الفراق ، جميعهم يلتقون عند نقطة الصدمة ، إن تخلصت منها بطريقة صحيحة سيصبح الفرق واضح ، لن تُعافى تمامًا لكنك ستخطو خطوةً كبيرة تجاه الأفضل ، ستشعر بقليل من الاضطراب إذا ذُكر الموضوع أمامك لكنك كنت ستتعرض للانهيار إن لم تتخطى صدمته ..
= أحاول أن أكون على قدر من الحكمة ، فأنا اشتاقت لزينة وأريد أن أرى طفلي منها ..
- إذا صرت هكذا الفترة المقبلة سيكون في أقرب وقت إن شاء الله
= هل لي بسؤال ؟
- حسنًا
= لِمَا لم ترتبط حتى الآن ؟ هل العيش بمفردك ليس قاسيًا !!
- بلى ، أعيش مع ذاتي وليس وحيدًا
= عفوًا
- أراكَ بخير في أقرب وقت يا حازم ، إلى اللقاء ..
ودعه جاسم دون أن يجب على سؤاله ، خشي أن تكون إشارة من اللَّه ! أو ربما علامةً ليعيد حساباته ، هل درة ستشغل الفراغ أم تزيده ثقًلا !!
اصطدم بطيف في وجهه فسلم عليها ودعاها إلى مكتبه فصعدت معه وطلب لهما قهوة ..
- جاسم :- عاملة إيه دلوقتي ؟
= قصدك عشان القلم يعني ! لا متقلقش أثر إيده راح بس الأثر النفسي لسة
- هو ينفع دكتورة نفسية تقول كده برده ؟
= هو عيب لما الدكتور النفسي يعاني من مرض نفسي !!
- أنتي شكلك مؤمنة بمثل باب النجار مخلع
= هو أنت عمرك ما تعبت نفسيًا !
- أكيد ، بس متعرضتش لمرض نفسي
= مين قالك ؟
- أنتي ناسية أنا شغال إيه ولا إيه يادكتورة طيف ؟
= أصل أحنا في الكلية قالولنا أن المريض النفسي مش بيكون عارف أنه مريض ، هو أنت محضرتش المحاضرة ديه ؟
نجحت طيف في استفزازه لكنه لن يجعلها تنْل ذلك الشعور فرد ببرود :-
- يمكن أنتي مقتنعة بالكلام ده عشان عانيتي من مرض نفسي قبل كده !
= حتى لو ! إيه المشكلة ؟
- مفيش أي مشكلة ، أنا موجود في أي وقت وأقدر أساعدك ومجانًا كمان ..
نظرت طيف على يمين يده فوجدت كتابًا كُتب على غلافه
Man's Search for Meaning
فسألته :-
= فيكتور فرانكل ، مش كده ؟
- أيوة ، قرأتيه ؟
= من زمان جدًا ، إيه رأيك فيه لحد دلوقتي ؟
- لطيف
= بس ؟
- فكرته لطيفة ، محدش يقدر ينكر تأثير الحرب النازية سواء المادي أو المعنوي خصوصًا على اللي كانوا في المعسكرات وقتها ، فهو بينقل التجربة بشكل لطيف ..
= تعرف أن فرانكل بيفكرني بيك
- ازاي ؟
= زي أنه كان بيرفض تجنب المعاناة وشايف أننا لازم نختار طريقة نتعامل معاها بيها ، زيك كده
- زيي ؟
= أيوة ، مش أنت برده بتفضل تقول للمرضى أنهم مرضى ؟
- ديه حقيقة
= طب ممكن أعرف رأي حضرتك في مرض سليم ؟
- اكتئاب
= أها عارفة ، خدتها في المحاضرة اللي بعد محاضرة إنكار المرض ، أقصد قدرت تربط اللي عمله معايا بحاجة ملموسة ؟
- أخر حاجة قالهالي أنه شايف أنه مش في مكانه الصح ، وأن هي اللي المفروض تكون هنا
= هي مين ؟
- مش عارف ، هو بيقول عليها الملعونة !
= ملعونة !! تفتكر حاجة ليها علاقة بالسحر ؟؟
ضحك جاسم بشدة ثم نظر لطيف وأوقف ضحكته وقال بلجهة بها استهزاء :-
- لا طبعا سحر إيه ! شكلك مكنتيش بتحضري كل المحاضرات ، هو تقريبًا أتعرض لصدمة كبيرة بسبب واحدة ولما شافك عقله أوهمه أنها أنتي فعمل كده ، يمكن أنتي شبهها ! أو صوتك قريب منها ، يمكن اسمك ، أنا متأكد أن ليكي علاقة لأنه قابل سيدات كتير في المستشفى ومعملش كده !
= بس مفيش واحدة أتكلمت معاه غيري !
- وارد ، بس متقلقيش أكيد هيكون كويس
= أنا عاوزة أشارك في علاجه معاك
- طيف ، أنا عمر ماحد شاركني في شغلي
= بس أنا ممكن يكون عندي الحل ، متنساش أنه استجابلي !
- أسف يا طيف
= أنا عارفة أن غرورك رافض ، لكن لو سمحت تحلى بأخلاق الطبيب وأجعل مصلحة المريض فوق أي شيء ، فقط فكر في الأمر ..
- حسنًا سأفعل ، لكن لا تنسي أنه تم خصم يوم كامل من راتبك جراء كلمة غرورك ..
كان جاسم يفكر أن يستعين بطيف منذ أن صفعها سليم لكن غروره كما ذكرت أبى أن يطلب منها ذلك ولكونه محترفًا في قراءة أفكار الأشخاص كان يعلم أنها ستأتي وتطلب منه ذلك وسيستجيب في النهاية لكن بعد أن يجعلها تشعر أنه مرغمًا عليها ، كما يعي جيدًا أنها ستثأر لما فعله بها في المرات السابقة ..
عاد جاسم بتفكيره لدرة وماذا يجب عليه فعله فأغمض عينه ووضع يده على رأسه لمدة عشر دقائق ، ثم بعدها قرر في أسف شديد أن يفعل ما تربى عليه فأخرج هاتفه وأتى برقم هاتف والد درة وضغط على زر الاتصال فرد الطرف الأخر :-
= السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أنا دكتور جاسم حمدان ، أعي أنك تعرفني جيدًا ، لا تقلق لا أتصل بخصوص مرض درة فقد تعافت بشكل شبه كامل ، لكنني أتقدم لخطبتها وأنتظر موافقتك .._ جيهان سيد ♥️🌝
أنت تقرأ
من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.
Adventureرواية تدور أحداثها في إحدى المصحات النفسية ، تبدأ بمجموعة غرف ليس لها علاقة ببعض لكنها تحمل في طياتها لغز الرواية ، تناقش عدة أمراض نفسية متداولة هذه الأيام كالوسواس القهري والتردد والتكبر والاحتياج وجلد الذات وأهمهم مرض الـ MDD بطريقة روائية وكيفية...