الجزء الخامس والعشرون

2.4K 302 45
                                    

جرى جاسم دون أن يحدد وجهته ، كان فقط يتتبع آثار الدماء ، حتى وجد نفسه يتجه نحو غرفة درة ..
وجدها مُلقاة على الأرض ومن حولها فريق الإسعاف يحاولون إسعافها سريعًا وهناك من يمسك بذراعها ليمنع تساقط الدماء ..
اقتربت منها وأبعدتهم عنها ثم حملتها برفق واستعنت بفريق من الأطباء المساعدين ، بحمد اللَّه تدخلنا في الوقت المناسب وتم إنقاذ درة ..
عادت مرة أخرى إلى غرفتها ، جلست بجانبها حتى فاقت ، فما إن رأتني بجوارها حتى مسكت يدي وظلت تبكي ، ربتت على كفها ومسحت على شعرها برفق وحاولت تهدئتها فاستجابت لي ولكنها لم تكف عن البكاء ..
جاسم :- أهدأي يا درة ، لم يحدث شيئًا ، أنتِ بخير
ردت درة بصوت خافت ضعيف :-
= درة :- أصبحت بخير عندما وجدتك
- وأنا الآن بجانبك ، لا تبكي
= لقد خشيت عليَّ الموت ، أليس كذلك ؟
- بالطبع
= لأنك تحبني ، صحيح !
سكت جاسم ولم يتفوه ، فقد تسرع مرةً ونطق كلمةً أجبرته على فعل لم يكن يريده ، فلن يكرر خطأه مرةً أخرى
ولكن درة عادت لتسأل ثانيةً
= جاسم ، أنت تحبني ، صحيح
- لا تتحدثين يا درة ، فأنتِ متعبة
= لا يهمني التعب بقدر ما تهمني أنتَ
- وأنا بجانبك ، فقط ارتاحي
= لقد فعلت كل ذلك من أجل أن تنطقها ، ولا تريد !!
- استرخي يا درة ، فأنتِ تحتاجين للراحة
= أنتَ راحتي
- تحتاجين النوم
= لا أحتاج سواكَ
بدأت تسترخي درة حتى دخلت في سبات عميق إثر المهدأ الذي أعطاه لها جاسم وتركها ورحل ليذهب إلي صديقه نجيب ..
وجد جاسم أن نجيب ينتظره وقد اشتد غضبه وما إن رأى جاسم حتى وجه له لكمات على هيئة كلمات ..
= نجيب :- أنت راضي عن اللي حصل ؟
- جاسم :- لا
= يبقي تحل مشاكلك خارج المستشفى
تقصد إيه يا نجيب !
= أقصد أنكَ نسيت أننا هنا في مستشفى ، وأنك دكتور ، وأن اللي حصل أن كان فيه بنت هتموت بسببك ، بسبب أنك عنيد ، بسبب أنك مش عايز تعترف أنك بتحب طيف أو حتى مش قادر تحدد إن كنت بتحبها ولا لا ، حتى لو مش بتحبها ليه قررت تظلم درة ! قولتلك درة محتاجة تتعالج بس أنت كابرت ، أنت دخلت حياة درة في وقت صعب جدًا ومحدش عرف يتعامل معاها غيرك وكانت فاقدة الثقة في كل الناس إلا أنت ، كان من الطبيعي أنها تدور عليك أول ما تبدأ تتعافى ، مكنش ينفع تفضل موجود بنفس الشكل اللي كنت موجود بيه قبل كده ، كان لازم تنسحب تدريجيًا لحد ما تختفي خالص ، لكن اللي حصل أن طيف ظهرت ، وأنتو الإتنين بتدخلوا المرضى في مشاكل ابتكرتموها عشان كل طرف يرضي كبرياءه  
- نجيب ، أنا ..
قاطعه نجيب ولازال غاضبًا :-
= أنا حذرتك يا جاسم ، حذرتك لأن اللي بينا أكبر من شراكة ، أتمنى تعود لصوابك مرة تانية
خرج جاسم ولأول مرة يشعر أنه انهزم ، ليس لأن درة حاولت الانتحار ، بل لأن صديق عمره حدثه كما لم يحدثه أحد من قبل ، على الرغم من مصداقية كلامه لكنها كانت كالطعنات ، فتولى جاسم نصيبه منها ثم صعد إلى الكافتيريا التي جمعته بطيف أول مرة واختار منضدة بعيدة ثم جلس وظل يتأمل مياه النيل الصافية ..
حتى وجد من خلفه يدًا تربت عليه فأدار رأسه ليتفاجأ بطيف ولكنها قالت برفق :-
= طيف :- هل سمحت لي أن أجلس معكَ ؟
- جاسم :- تفضلي      
= أسفةً لما حدث لدرة
- شكرًا يا طيف   
= هل الأمر له علاقة بوالدها ؟
- لا
= إن أردت أن تحكي فأنا هنا
لأول مرة يستغرب جاسم تصرف طيف ، فهو اعتاد عليها وهي مجنونة ، عنيدة ، تريد أن تنافسه ، تثبت له أنها الأفضل ، أما الآن فتحاول أن تشاركه همومه ! للأسف هو مضطر أن يتحدث معها ، ليس فقط لأنه ليس سواها بعدما رفضه نجيب لكنه يظن أنه سيجد الراحة معها .
لم يفكر جاسم فيما سيقوله ولم يرتب كلماته كما اعتاد طوال حياته ، بل قرر أن يأمر خلاياه المسئولة عن النطق أن تبدأ في العمل ثم ترك لها العنان بالكامل دون أية قيود ..
- لا أعرف كيف بدأ الموضوع بالضبط لكنه بدأ ، دعينا نتكلم في وقتنا هذا ، أنا جاسم حمدان ، الدكتور جاسم حمدان ، ميسور الحال إلى حد كبير ، أساهم بجزء كبير في هذه المشفى ، أمارس مهنتي بدقة واحترافية ، لم أفشل في علاج أية من الحالات مهما بلغت صعوبتها ، لم يستطع أحد مواجهتي سواكِ
= ولكنني لست من بدأت بذلك
- أعلم ، ولكنكِ اقتحمتي الطاولة
= لم أكن أعلم يا جاسم !!
- كان من المفترض أن تعلمي
= دعكَ من هذا ، وأكمل
- تفتعلين معي المشاكل ، ولا تستخدمي إلا سلاح العند ، وجدت نفسي في دائرة لم أكن أعلم حدودها ، وجدت كل همي أن أضايقكِ
= رأيت !! أنت من تريد مضايقتي
- أو ربما كنت أفعل ذلك لنتعامل بأكبر قدر ممكن
= عفوًا
- أحب التعامل معكِ يا طيف وإن كنتي تعانديني
= لربما تغضب درة إن سمعت ذلك الكلام
هنا صمت جاسم ونظر للمياه مرةً أخرى ثم تنهد ونظر لطيف قائلاً :-
- لا أهتم
= لكنها خطيبتك !
- أعتقد أنه أكبر خطأ قد اقترفته في حياتي
= خطأ
- نعم يا طيف ، وأعلم أنكَ تعلمين أنه خطأ
= لكنكَ تحبها !
- إن كنتي تريدين مضايقتي ، فهذا ليس وقتًا مناسبًا
= لم أكن أقصد
- تاللَّه وأنا لم أكن أقصد أيًا مما حدث
رنَّ هاتف جاسم ليتم إخباره بأن سليم يريده ليتحدث معه ، فطلبت طيف أن تأتي معه فلم يعارض ..
قبل أن تدخل طيف سأل جاسم سليم أولاً إن كان يريدها فوافق علي الفور ..
جلست طيف بجوار جاسم وجلس سليم أمامها وظل يتأملهما لدقائق قبل أن يتفوه قائلاً :-
= سليم :-  هل إذا تحدثت ، ستخرج من عقلي ؟
- جاسم :- بالطبع يا سليم ، فقط تحدث
= طيف :- من هي ؟
هنا نظر جاسم نظرةً حادة لطيف فلم يكن عليها أن تشعر سليم بأن فضولها هو من يحركها ، عليها أن تسمعه جيدًا حتى يطمئن فيقول ما بداخله وإن كان قليلاً ثم تشبع فضولها ..
رجع سليم بظهره إلى الوراء قليلاً ثم نظر إلى السقف قائلاً :-
= سليم :- تُدعى رقية ، كنت أكبرها بخمسة أعوام ، ظننت أنني وجدت معها ما لم ولن أجده مع غيرها ، قدمت لي كل سُبل العشق ، حتى وقعت في شباكها وكنت كالأسير ، كنت لا انتظر أن تطلب حتى تتحقق أمانيها ، عندما يشاهدنا أحد يحذرني منها فكنت أنهال عليه ضربًا مُبرحًا واعتذر منها كثيرًا ، ذات مرة ذهبنا سويًا إلى مقهى حينها نظرت لعينيها بتأمل ، هذه هي المرة الأولى التي لم أشعر معها بالأمان ، الغريب في الأمر أن نظراتها لم تتغير ، لربما أنا لم ألاحظ منذ البداية ..
هنا تدخل جاسم قائلاً :-
- حسنًا ، يكفي هذا القدر اليوم ، أذهب أنت لتأخذ الدواء ثم استرح
ثم رحل هو وطيف الذي عاتبته على الانسحاب فأقر لها أنه هو التوقيت المناسب ، فدموع سليم بدأت بالسقوط فإن كان تذكر أكثر من ذلك لدخل في نوبة هلع نحن في غنى عنها ، فردت هي :-
= لكنني كنت أريد معرفة الباقي
- نحن هنا لنعالج المرضى ، ليس لنسمع قصص تقضي على فراغنا
نظرت له بحدة ثم كادت أن تطلق كلماتها في وجهه لكن ممرضًا تدخل في الوقت الأنسب وأخبره أن درة قد استيقظت وتريد مقابلته ..
ذهب جاسم لدرة ليجدها مازالت منهمكة في البكاء فحاول أن يقترب منها ليهدئها
- جاسم :- لماذا تبكين يا درة !
= أنتَ لا تحبني ، صحيح ؟
- لِمَا هذه الأسئلة في ذلك التوقيت !! أنتِ متعبة
= حسنًا ، لن أسألك مرةً أخرى لأنكَ لا تريد أن تجيب ، يكفى أن جعلتكَ تخاف عليَّ
لم يعد جاسم يتقبل كلام درة المعسول ويريد أن يتخلص منه في أسرع وقت ، فهز رأسه مجبرًا لترد هي :-
= لقد فعلت ذلك من أجلكَ ، فرجاءًا كن بجانبي
- حسنًا يا درة
لم تقتنع طيف بكلام جاسم فأصرت أن تدخل لسليم حتى يكمل ما بدأه ، فدخلت غرفته دون أن يراها أحد ، ثم اقتربت من سليم لتشبع فضولها ولكن ما حدث لم يرضي أحدًا على الإطلاق ..
فما إن لمحها سليم تتسلل داخل غرفته حتى صرخ في وجهها منعتًا إياها بالخائنة هي الأخيرة ، فأيضًا رقية كانت تتعمد كسر أوامره ، ولم تكن تنصت له كما فعلت هي تمامًا ، حاولت أن تجعله يهدأ أو على الأقل يخفض من صوته حتى لا يحدث ما تخشاه ، ولكنه غضب أكثر فارتفع صوته حتى سمعت صوت جاسم من الخلف يصرخ فيها قائلاً :-
- ماذا تفعلين هنا يا طيف !!!!!!!!              

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now