الفصل الخامس والثلاثون والأخير

4.3K 426 245
                                    


لم تفهم طيف غرض سليم، فقالت عفوًا !!
فأجابها صراحةً :- أنتِ حلمي يا طيف.
لقد تخطيت كل صعاب المرحلة السابقة من أجلك أنتِ فقط، لقد تعافيت حتى أحظى بكِ.
لم تكن طيف بحاجة لسماع أكثر من ذلك فجرت مسرعةً على غرفة جاسم، ناسيةً أمر انفصالهما، فقد اعتادت إن وقعت في مشكلة أن تهرع إليه وتحتمي به، وهذا ما فعلته دون تفكير ..
اندهش جاسم لحالها وسألها عما بها؟، لم ترد، ظلت تتأمل ملامحه، فتاه هو في سحر عينيها واقترب منها ثم همس :- ألم يحْن الوقت ؟
فاقت من غيبوبتها وفهمت طيف أنه يقصد أمر عودتهما مرة أخرى فقالت :- فقط إذا سمحت لي بالتقاط صورة سويًا.
رفع جاسم حاجبه الأيسر إثر تعجبه ثم سألها عما قالت، فكررت ما قالته منذ ثوانٍ ..
أمسك جاسم هاتفه ثم رفع يديه ليلتقطا صورةً لكنها رفضت على الفور، وطلبت أن يقوم أحد بالتقاطها لهما !!
أبى غرور د. جاسم أن يطلب مثل هذا الطلب من إحدى العاملين عنده، فجذب طيف وذهبا إلى غرفة دكتور نجيب وطلب منه أن يلبي غرابة طيف المزعومة !
فعلها نجيب بهاتف طيف، فأخذت هاتفها ورحلت دون كلام !!
نظر جاسم لنجيب ثم قال :- عندها 3/4 ضايع والله العظيم.
اعتادت طيف طوال فترة انفصالها عن جاسم أن تلتقط صورًا لها، فكانت في كل صورة تصير أسوء من سابقتها، كانت ملامحها باهتة تختفي تحت ستار الحزن وكانت عيناها تملؤها الدموع ..
نظرت لصورتها بجانب جاسم وكأنها تبدلت بشخص آخر، شخص مليء بالحيوية والسعادة، لن تنسى أبدًا لمعة عينيها وهي بجواره، ظلت تتأمل ملامحها بجواره، كيف أصبحت كالطفلة التي حصلت على دميتها بعد بكاء متواصل ..
في الوقت ذاته كان يحاول سليم أن يصل لطيف لكن دون جدوى، فهو يريد مقابلتها شخصيًا وهذا لن يحدث إلا إذا دخلت هي لغرفته ..
قررت أن تخبر جاسم بموافقتها على العودة ولكن هذه المرة ليست للخطبة بل لعقد قرانهما وعليه أن يخبر الجميع بذلك، فهما لم يعدا بحاجة لفهم بعضهما البعض، كما أنها تتمنى أن تجتمع بحبيبها وترافقه طوال ساعات يومه في أقرب وقت ..
لم تفكر طيف بما قاله لها سليم وكأنها لم تسمعه، ففرحتها بعودة جاسم طغت على مثل هذه الأشياء التي ليست لها قيمة عندها، فأخبرت جاسم بشرطها الوحيد فوافق قبل أن تكمل كلامها، فمنذ أن رآها وقد شعر بشعور غريب لم يجده مع غيرها، بدأ الأمر بعراك مفتعل ثم عناد وغيرة حتى انتهى الأمر بأن كل منهما لا يستطيع الاستغناء عن الآخر وهذا ما لا يمكنهما إنكاره ..
بدت الأجواء سعيدة، جاسم وطيف يجهزان لعقد قرانهما، يتسامران قليلاً لأنهما منهمكين في التجهيزات، تبحث هي عن فستانها، يؤكد عليها جاسم ألا يثير غيرته وإلا كلفها الأمر العديد من أعضائها التي ستُفقد، يتفقان على الطعام والشراب، تنبه طيف عليه أن يرتدي قميصًا يتماشى مع درجة طلاء أظافرها !
لم يتخيل جاسم قط أن يهتم بتلك التفاهات، لكنه مع طيف فعل كل ما هو كان مستحيلاً بالنسبة له ..
لم يتبقَ سوى أيام قليلة تفصل بين جاسم وطيف حتى يصبح زوجها رسميًا، فذهب للمشفى حتى يلبي رغبتها ويخبر الجميع بأمر ارتباطهما ..
وقد قرر أيضًا سليم أن يخبر جاسم بحقيقة مشاعره تجاه طيف طالما هي لا تعطيه فرصةً حتى يعبر لها عما بداخله ..
وصل جاسم المشفى وأخبر كل من يقابله أمامه ويقابل ذلك بفرحة عارمة، بل هناك إحدى الممرضات ظلت تزغرد تعبيرًا عن فرحتها بدكتور جاسم، حتى وصل لغرفة سليم، لم ينتظر أن يرحب به بل أول ما تلاقت عينه بأعين سليم قاله له :- عليكَ الخروج لشراء بذلة حتى تحضر عقد قراني على طيف.
لم ينطق سليم ولم يتفوه بأي كلمة وظل يتأمل ملامح جاسم كأنه يسأل ذاته عما يتميز به هذا المخلوق عنه حتى تفضله طيف ؟ ماذا رأت منه ! هل المشكلة في طيف ! أم أن سليم لا يصلح للارتباط ؟
ألهت فرحة جاسم تركيزه على تصرف سليم، فقد أخبره ودعاه للحضور ثم رحل مسرعًا حتى يخبر باقي طاقم العمل، حيث لم يكن المرضى من ضمن المدعوين لكنه استثنى سليم حتى يشاركه فرحته ظنًا منه أن ذلك سوف يساعده ..
بعدما أخبر جاسم الجميع، أنهكه التعب ففضل أن يذهب إلى منزله حتى يستريح قليلاً ..
ما كاد جاسم أن يحتفل مع طيف بقرب موعد عقد قرانهم، حتى أبلغه فريق التمريض الساعة الثالثة فجرًا بأن عليه الحضور في الحال وقد سمع بعض الصرخات المكتومة ..
فُزع جاسم وذهب مسرعًا إلى المشفى فوجد إحدى الممرضات مغشيًا عليها ومُلقاة على الأرض، فثنى على ركبتيه حتى يسعفها لكن أحد زملائه أشار إليه على غرفة سليم، نظر إلى الأرض فوجد دماءًا على الأرض، ارتعشت أطرافه واهتزت قدمه ولكنه أصر على المضي، فتح باب الغرفة وكأنه بابًا من أبواب الجحيم، فقد وجد سليم مُلقى على الأرض، ناهيك عن الدماء المتناثرة في كل جدار لتضفي للون الجدار البني بعض التغيير، قد انفصلت أطراف أصابعه عن يده وكذلك أظافر قدمه حتى أن جزءًا من لسانه قد بُتر، تقيأ جاسم على الفور وسقط مغشيًا عليه ..
هاتف نجيب طيف لتحضر على الفور، فما كان لها إلا أن تنهار وتبكي بشدة، فهذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذه البشاعة، فهي واقفة أمام جثة سليم وإن صح القول أشلاء سليم، يحاوطها رجال الشرطة من كل جانب، جاسم في حالة حرجة، لا تفهم ما يحدث حولها لكنها تجاهد لكي تبقى بجانب جاسم.
اقتربت إحدى الممرضات من د. نجيب وهمست له في أذنه أنها وجدت ورقة بجوار سليم فأخذتها وخبأتها قبل أن تأتي الشرطة، فأخذها منها على الفور، فهي آخر ما تبقَ من سليم ..
"خسرت حلمي للمرة الثانية، أو الثالثة، أو ربما التاسعة، لا أعلم بالضبط لكن ما أعلمه أنها المرة الأخيرة، ما أبشع أن يضع الإنسان جميع خططه المستقبلية في شخص لا يملك سطوةً على قلبه، ستتزوج طيف، ستتزوج من أعطتني أملاً في الحياة، ستتزوج بمن وجدته مناسبًا، لم تكن مناسبًا يا سليم لأي شخص، لابد من الانتقام منكَ، لابد من الانتقام من أطراف أصابعك التي كانت تكتب لها أشعارًا، لابد من الانتقام من أظافر قدمك التي كنت تأقلمها من أجلها، لابد من بتر لسانك الذي قال لها كلامًا معسولاً، لابد من الموت بأبشع طريقة"
لم يصدق نجيب ما قرأ، فهل كانت طيف هي السبب في انتحار سليم؟ هل كان يحبها بينما كانت تقدم قلبها لجاسم؟ قرر أن يخفي هذه الورقة عنها وعن رجال الشرطة ..
لقد كان جاسم على حق، لم يتعافى سليم من أجل ذاته، لقد أوهم نفسه بشيء لم يلمس أساساته على أرض الواقع، هذا الخطأ الذي نقع فيه دومًا، نخطىء ثم ننتظر نتيجة مرضية لهذا الخطأ وهذا لن يحدث ..
لو وثق سليم في جاسم وسمع كلامه لم تكن تلك نهايته ..
ساعدت علاقات نجيب في أن يُخفى الأمر تمامًا عن أعين الصحافة، وسُجلت كحالة انتحار لمريض يعاني من الاكتئاب وفُقدت السيطرة عليه، ولولا تدخل دكتور نجيب الألفي لصارت الأمور أسوأ بكثير ..
كانت طيف لا تهتم بكل هذه الأمور، فهي تريد أن يفيق جاسم من غيبوبته ويعود لعافيته، وأخبرت نجيب أنها على أتم استعداد لتفعل أي شيء حتى يحدث ذلك، مهما كلفها الأمر ..
اتفقت طيف مع نجيب على خطة صغيرة لكي تساعد جاسم في أن يستعيد قواه مرة أخرى، فكان نجيب يمتلك بيتًا بالقرب من المشفى ولكنه لا يستخدمه فقرر أن يجعله في أقرب شكل للمشفى وأن تقوم طيف بجلب أشخاص كأنهم مرضى وتلقنهم بما سيقولون حتى يستيقظ جاسم فيجد حياته الطبيعة وما إن نقترب من التعافي نوضح له الحقيقة شيئًا فشيء ..
بالفعل تمت الاستعدادات وتحول المنزل إلى مشفى خاص وقامت طيف بتجهيز كل شيء كأنه أقرب للواقع ..
لم يفْق جاسم من نوبته هذه إلا بعد أسبوعًا كاملاً، قضاه نجيب في حل المشكلة حتى لا تُمس سمعة المشفى، تارةً يهدأ من صراخ والدة سليم، تارةً ينهي الإجراءات القانونية، حتى تم الأمر بسلام، فقد تقبلت عائلة سليم ما كتبه اللَّه عليهم، واقتنعت الشرطة بآراء نجيب كطبيب مهني، ويعود الفضل الأكبر لعلاقاته الواسعة ..
عندما أستيقظ جاسم لم يلاحظ شيئًا غريبًا بل كان كل شيء على ما يرام ! استقبله مدير المشفى د. نجيب الألفي واطمأن بنفسه على حالته وأخبره أنه أرهق نفسه كثيرًا الفترة الأخيرة وأن عليه الاستمتاع بإجازته ..
وجد جاسم تغييرًا في ألوان المشفى التي أعتاد عليها لكنه لم يعلق، أخذ إجازة لمدة أسبوع واحد فقط لم يهاتف فيه طيف! وهي أيضًا لم تحاول فقد كانت منهمكة في تجهيز خطتها، ثم عاد إلى المشفى ليتعامل معها بنفس المعاملة الأولى التي يطغى عليها العناد والتكبر والتعجرف !
قررت طيف أن تجلب خمسة مرضى ولقنتهم بما عليهم قوله أمام جاسم بالضبط فكانت تتعامل معه بطريقته، هي تعلم جيدًا كيف يعالج مرضاه فكانت مريضة الغرفة الأولى المزعومة تعاني من التجارب الفاشلة، ومريضة الغرفة الثانية تعاني من التعجرف والأسلوب الحاد، أما مريض الغرفة الثالثة فهو ضحية الوسواس القهري، مريضة الغرفة الرابعة ترفض كونها فعلاً بل هي رد فعل فقط لأفعال الجميع، مريضة الغرفة الخامسة كانت تتعرض للرفض في فترات عديدة من حياتها مما أثر على شخصيتها بالسلب.
كانت طيف تختار صفاتٍ لا يكاد جاسم يخلو من خصال منها، وكانت تقصد أن تعرف طريقته في حل هذه النقاط حتى تتبعها معه فيما بعد إن زاد الأمر عن حده، لقد كانت تُدخل مواقف حقيقة حتى يقترب من الحقيقة أكثر ..
كان جاسم يتحسن بشكل واضح وكانت ثقة طيف كطبيبة تزداد بشكل ملحوظ، فظلت تتأمل جاسم وشخصيته وتحركاته حتى تذكرت عراكًا قد دار بينهما انتهى بجملةً لن تنساها قط ألا وهي :-
= طيف :- أسئمت الطواف ؟
- جاسم :- أقسم لكَ لم ولن يحدث ولو سقط عجازي مُعلنًا نهاية المطاف..
جاء اليوم الأخير ليقابل جاسم مريضة الغرفة السادسة وقد كانت طيف بذاتها بعد أن جرت عدة تغييرات في شكلها وملامحها، قررت أن تخبره بما حدث لجاسم بطريقة غير مباشرة، تأثر جاسم في البداية وكاد أن ينهار لكنها عالجت الأمر بشكل سريع، ولكن كانت المفاجأة ..
بعدما أنهت طيف تلك المسرحية ضحك جاسم بشدة، فاندهشت لردة فعله! فما إن أخبرها أنه يعلم كل شيء من البداية، ويعلم بأمر خطتها الساذجة ..
- جاسم :- ألم تدرسين طب نفسي من قبل؟
= طيف :- عفوًا !
- أي مرض ذاك الذي كنتِ تظنين أنه أصابني ؟
= لا أعلم، لكنك كنت لست على ما يرام
- بالطبع، لكنك لم تخبريني، أي مرض كنتِ تظنين لكي تقومي بإعادة ما حدث بطريقة ساذجة، بل وتتعمدين ذكر مواقف خاصة لا يعلمها سوانا؟
= لِمَا تفعل ذلك يا جاسم؟
- ألم تضعي شرطًا حتى نعود؟
= نعم ولكنها مجرد صورة!
- لم تكن كذلك، فإن كانت مجرد صورة لِمَا قررتِ العودة بعدها؟
لم ترد طيف إثر دهشتها من جاسم وأفعاله الغريبة ! فأكمل هو قائلاً :-
- كان عليَّ أن أكتشف ماذا ستفعلين عندما يقع زوجك في مشكلة، هل تظنين أنك ستتزوجين من لاعب كرة سلة؟ يخشى حالات الانتحار! أنا فقط صُدمت لأنني بذلت مجهودًا في علاج سليم ورأيت بعيني أنه تعافى بالفعل، كما أن منظر الدماء وأشلاؤه لم يكن بالسهل عليَ خاصة أنه لي مكانه خاصة، -رحمه اللَّه وغفر له وأدخله فسيح جناته-
التزمت طيف الصمت لأنها إن تكلمت لن تتفوه بل ستصفع جاسم على وجهه، لقد فعلت ذلك كله من أجله، هل كانت حمقاء لهذا الحد ! أم أنها حقًا لا تقوى على الانتصار عليه ، هل عليها الاعتراف بهزيمتها أمامه؟ أم أن حبها وقلقها عليه هو من قاد الموقف دون أن تستخدم عقلها؟
= تودّ أن تضيف انتصارًا آخر في معاركك، أليس كذلك ؟
- نعم، لقد حصلت على انتصار بالفعل، أنتِ، أنتِ يا طيف.
كادت طيف أن تصرخ فأي درجة من المرض النفسي وصل لها هذا الشخص حتى يصير وكأنه شيزوفيرينا متحركة على الأرض ! كيف يغير أسلوبه بهذه السرعة ! هل هي الحمقاء أم هو المجنون !
شعرت طيف بالخزي حيال ما وصلت له، فجاسم محق أي مرض ظنت أنه أصيب به حتى تعيد عليه الأحداث مرة أخرى، هل كانت تنتظر الفرصة التي ستثبت فيها لجاسم أنه يعاني من المرض النفسي؟ هل أغفلها حبها عما درسته طوال السنين الماضية؟ هكذا يصبح الأمر عندما يقترب من الأشخاص التي نحبها، فعندما وجدت حبيبها في مأزق لم تستخدم عقلها بل هرعت وراء أهوائها، على الرغم من أنه كان من الممكن أن يكون قد أصيب بصدمةً بالفعل وكان تصرفها سيكلفهما الكثير، كما يفعل الأهل معنا تمامًا أو الأشخاص المقربين يعطون نفسهم حب التصرف ظنًا منهم أنه الأصلح لنا دون النظر لاحتياجاتنا الفعلية، دون الاهتمام هل تصرفهم ذاك سيؤثر بالإيجاب أم السلب، يريدون إثبات نظريات خُلقت في عقلهم هم فقط دون النظري لعقلية من يجاورهم، هؤلاء من يؤذوننا بحجة حبهم.
لم تأخذ طيف وقتًا طويلاً حتى تفكر، فقد أنهكتنا الدروب وسئمت العيش وحيدة وبغضت افتعال العراك مع من يعشقه قلبها، فكلانا يخطىء لكنها الحياة ..
على أية حال فهي تعي جيدًا أن جميعنا مرضى نفسيين بدرجات متفاوتة، فستكمل حياتها مع هذا المريض النفسي لأنها لم تعرف للأمان طريقًا إلا معه ..

تمت بحمداللَّه
_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now