الفصل الثانى عشر

46 4 0
                                    

الفصل الثاني عشر

"إن الطريق إلي الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس ،
فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي
واجه ، تحد ،وتغلب في نهاية المطاف على النفس....."

استيقظ عماد متحمسا ،في اعتقاده كان في استقبال يوم مختلف سينهي رحلة العذاب رحلة الالم ،سيطفا تلك النار المتاججة داخله ،كان عماد يدخر كل غضبه لتمارا ،قصد عماد البنك الذي يتعامل معه فريد ليحصل على المعلومات معتمدا على ابتسامته الساحرة وشخصيته الجذابة ،لكنه لم يوصد باب حظه السيء لذا حمل معه مبلغا معتبرا من المال ،كان عماد يرفض الرشوة مع ذلك فقد قرر استعمال كل الاساليب للوصول الى تمارا ،على اساس الغاية تبرر الوسيلة ،هو لم يؤمن بهذا المبدا يوما ،لكنه بالمقابل كان محاصرا بتلك الضرورة التى لم يملك التحرر منها ضرورة ايجاد تمارا ، لطالما امن عماد ان الحياة ستخضعنا لاختبار صعب ،اما ان نجتازه واما ان نسقط ليس في الاختبار بل امام انفسنا وامام مبادئنا ،مع ذلك مهما كنا أو حيثما كنا نعيش، فإننا نشعر في قرارة أنفسنا بأننا غير كاملين. كما لو كنا فقدنا شيئا و يجب أن نستعيده،او تركنا شيءا تحت غطاء الضرورة رغم اننا لازلنا بحاجته ، لكن معظمنا لا يتخلى عن كبريائه لاستعادته ، عماد تخلى عن احد مبادئه بقدر ما المه الامر بقدر ما وجده ضروري ،هو اراد الراحة ،اراحة نفسه من عبء الالم ،وان يستعيد حقه ،لانه كان بامس الحاجة لاستعادة نفسه ،واستعادة احترامه لها ،لذا سكنه هدف وهو في طريقه الى المصرف ان يجدها ويصل اليها حتى وان كانت في القطب الشمالي .

كانت تمارا تقرا احد الملفات عندما دخل خالد ،ابتسم وقال "صباح الخير " ردت بلا ابتسامه "صباح الخير " ،جلس خالد على الكرسي وقال "بضاعتكم ردت اليكم " ،ردت "هذا هو التصرف الطبيعي احاول ان اتصرف بطريقة طبيعية في مكان يفترض فيه ان التصرف بشكل غير طبيعي هو الطبيعي "،ضحك خالد وقال "رجاءا اريحيني من متاهاتك " ،ابتسمت تمارا وقالت " اترى في كلامي متاهات ؟ مارايك في ما قاله احد الكتاب عن الجنون " سالها "ماذا قال ؟"، ردت " في كتابه مقدمات دفاعا عن الجنون قال " نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين . وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكررة ... ومملة .
نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيبا واعتبار المجنون عاهة اجتماعية .
في حياتنا شيء يجنن. وحين لا يجن أحد فهذا يعني أن أحاسيسنا متلبدة وأن فجائعنا لا تهزنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة... ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة.
نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة ، فالجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة .. ويفرحون بالمقاييس المتاحة .. يضحكون بالمقاييس المتاحة .. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة... لذلك ينهزمون بالمقاييس كلها ولا ينتصرون أبدا.
بغتة يجن شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا و قبولنا و تثلم أحاسيسنا . يظهر لنا كم هو عالم مرفوض و مقيت و خانق .. و كم هو عالم لا معقول و لا مقبول . كم هو مفجع و مبك و كم نحن خائفون و خانعون و قابلون .
جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل في أسطورة الملك العاري ، أمر الملك العاري أن يروه مرتديا ثيابه فرأوه . و أمر أن يبدوا آراءهم في ثيابه فامتدحوه و أطنبوا ، و حين خرج إلى جماهيره فاجأه بالصراخ طفل لم يدجن بعد ( و لكنه عار ... عار تماما ) .
لو كان هذا الطفل أكبر قليلا لأتهم بالجنون . و لكن لأن فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة كانت صرخته فاضحة للملك و للحاشية و للمتملقين و للخائفين .
صرخة الطفل ، مثل جنون الفنان ، تفضح كم الناس منافقون و مراؤون و خائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير بأصبعه إليها و يعلن عنها ، فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش و دون تلوين بالمطامع و دون مكياج بالتبريرات ، و في أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار ، طفل لا يحتمل ما تعودنا على احتماله ، طفل يبكي حين يتألم و يصرخ حين يجوع و يغضب حين يهان و يجن حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان "يقي خالد صامتا لمدة ،عندما لا نجد الرد القوي فسيكون الصمت هو الاقوى الافضل فالصمت ايضا يفرض ايقاعه ،تبادل نظرات مع تمارا وهو يحاول قراءة نظراتها ثم بعد مدة قال وهو يفتح الملف الذي كان يحمله "اذن تمارا ساسالك بضع اسئلة لاتعرف على شخصيتك وحالتك النفسية " ردت "حسن انا مستعدة " قال لها " لونك المفضل " اجابت "الازرق " كتب على الورقة وهو يقول "صفي لي الكلب "ردت "وفي امين يعتمد عليه ومتوحش عند اللزوم " قال لها "صفي الفار " قالت "خبيث مزعج مقزز مخادع طفيلي جبان " قال لها "اذا جاء سارق إلى البيت ماذا ستفعلين له هل ستضربينه أم تذهبين لإخبار اهلك أم ستعطينه كل مالك؟ ردت "ساضربه الى ان يفقد الوعي " رد "واضح .....من تحبين اكثر امك ام ابيك " ردت "امي " تابع قائلا "مكانك المفضل في المنزل " ردت "المكتبة " ،توقف خالد عن طرح الاسئلة وكتب ملاحظات على ورقة ثم بعض صمت قال "تبدو شخصيتك ساحرة اللون الأزرق يدل على شخص وحيد ، متغير المشاعر ، صادق ،وصفك للكلب هو وصفك لنفسك اما الفار فانت وصفت عدوك ،اضافة الى انك عاطفية حنونة ومتهورة تحبين المطالعة وشغوفةبالمعرفة هل اصبت في تحليلي ؟" ردت "انت لم تخطا " ،قال "حسن الان الى التحليل النفسي " سالت "هل هذا ضروري ؟احب اخبارك اني ملولة وقد مللت من اسئلتك استطيع اخبارك بكل شيء بدون اسئلة " رد خالد "طبعا لا إنّ الحالة النفسية هي شيء أساسي عند كل فرد وعليه أن يعرف ما هي حالته النفسية العامة، ومتى تضطرب وكيف يعمل على تحسينها في حال تعرض لبعض المشاكل أو الضغوط وغيرها التي تجعل حالته النفسية سيئة ، وانت عليك مساعدتي لفهم حالتك النفسية" تنهدت وقال "حسن ساصبر " ،بدا خالد بطرح اسئلته على تمارا ،كانت هذه الاسئلة تختلف عن الاسئلة السابقة ،اذ كانت تحتاج للتفكير بروية قبل الاجابة ،كان خالد يحاول ان يستشف من خلال اسئلته نظرة تمارا التشاؤمية للحياة إلى أي مدى تصل، ونظرتها للتوقعات هل تكون إيجابية في العادة أم سلبية، أيضًا استدراك الأمور والتخطيط كانت اسئلة نفسية عقلية ،لذا عندما انتهى ادركت تمارا انه طبيب بارع ،كما ادرك ان حالة تمارا النفسية جيدة ،رغم مزاجيتها الا انها كانت تكيفها بطريقة ايجابية بدت له تمارا من ذلك النوع من البشر الذي يستطيع اخراج نفسه من التشاؤم بدون تدخل عوامل خارجية ،كان مقطب الجبين وهو يفكر فلم تبدو على تمارا حتى الان اعراض الفصام ،بدت له سليمة العقل والنفسية ،رفع راسه عن ملاحظاته وقال "الان اخبريني عن عائلتك وحالتك المهنية والاجتماعية "تنهدت تمارا وقالت " انا الابنة الصغرى لعائلة عادية كان لدي ام واخ واخت توفي اخي مع امي في الشتاء كنت اعيش لدى عائلة زوج اختي وعدت الى منزلي بحلول الربيع اما الحالة المهنية فانا لم اعمل منذ تخرجي الصيف الماضي " ،فكر خالد ثم سالها "والحب " ردت "الحب هو الأكثر عذوبة والأكثر مرارة" قال لها "خير لنا أن نحب فنخفق ، من أن لا نحب أبداً مع ذلك فهو ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال" ردت " ربما لكني لا اؤمن بوجوده " فكر خالد لقد علم كل شيء عن تمارا وفي نفس الوقت لم يعلم شيءا ،ذلك الوصف الذي اطلقته على الفار خبيث مزعج مقزز مخادع طفيلي جبان هو وصفها له لذلك الذي خذلها الذي تحول الى عدو بالنسبة لها،علم خالد ان تمارا تعرضت لتجربة مريرة ،شعر بالفراغ وهو يقف ويتجه للباب ،اكثر ما اراد معرفته لحظتها هو ما رفضت البوح به ،وضع يده على المقبض مفكرا ان الامنا هي نحن ،التفت لتمارا وقال "الحب الذي ينتهي ليس حباً حقيقيا فمن يحب ..يحب إلى الأبد " سالته "لما تخبرني بهذا ؟" ردت " لا اعلم لماذا اقول لك هذه الكلمات ،لكن هذا ما اؤمن به انها " وغادر ،كان منزل تمارا هو وجهته التالية كان عليه الان ان يتحول من طبيب الى تحر ليتاكد من المعلومات التى قدمتها له تمارا ، بينما بقيت تمارا بمفردها تفكر ، عادت بذاكرتها الى ايام الجامعة مع فريد ،عندما كانا يلتقيان ويتكلمان ،باتت الان تمل كلامه المقتبس ،الذي يوجهه الوجهة التى يرغب بها افكاره يخفيه خلف كلمات الاخرين ،انه من الاشخاص الذين لايسهل سبر اغوارهم ،ما يظهرون لا يقاس ابدا مع ما يخفون ،انه من ذلك النوع من الاشخاص الذي يملك قدرة فائقة على النفاق ذلك الذي لا يُدرَك خِداعُه لأنه يكذب بصدق ،علمت الان ان فريد ليس هو رجل حياتها ،من قال "عليك ان ترتبط بشخص لا تمل حديثه لانه سيرافقك طيلة حياتك " كان محقا ،ليس فريد من ترغب في سماعه لما تبقى من حياتها ، كان ما سمعته في ايامها الغابرة كاف بالنسبة لها حد التخمة ،فكرت لكن لما خفق قلبها لذا رؤيته مجددا ،تذكرت يوم سالت عماد على هذا لقد قال لها "فلنمنح الذكاء بعض القلب و لنزرع في القلب بعض الذكاء.”كيف تفعل هذا ؟ هو لم يوضح لها ذلك،فكرت هل ماكانت تشعر به وهم عاشت به واقعها فاعتقدته حقيقة ،كثيرًا ما تختلط الأمور علينا.. فلا نتمكن من التفريق بين الواقع والوهم.. ولا نستطيع أن نعرف ما هو الواقع الذي نعيشه وما هو الوهم.. فكل ما نراه حولنا وما نفعله في يومنا وليلنا.. لا ندري أيًا منهم الواقع .. وأيًا منهم هو الوهم .. فأحيانًا تتوقع أن ما تراه وتفعله أمر حقيقي ثابت تمامًا.. لا يمكن أن يكون شيء آخر سواه.. بينما يراه الآخرون من حولنا أنه مجرّد وهم اختلقناه نحن وحدنا بإرادتنا.. وعشنا معه وكأنه واقع حقيقي .. فكيف نثبت لهم العكس..؟؟ وكيف نتعرّف على واقعية ذلك الوهم الذي نراه حقيقة.. ويراه الآخرون مجرد أوهام ..؟

لاكوزانوسترا  لكاتبة مريم نجمةWhere stories live. Discover now