الفصل التاسع

606 26 8
                                    

9

#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل التاسع"
(ذبح بالحياة)
(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك.. وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك.. وأعوذ بك منك.. لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.)
في المساء .. تجاوز بدر الباب الداخليّ للفيلا ثم سار نحو الدّرج .. وقبل أن يصعد درجة واحدة استوقفه صوت نجلاء قائلة:
_ "رايح فين يا بدر؟"
تنهّد بتعب بعدما فشل مخطّطه في إمكانيّة الانعزال بالغرفة دون أن يزعجه أحد .. فاستدار ببطء قبل أن ينظر إلى نجلاء قائلا:
_ "طالع أوضتي."
نطقت نجلاء بجديّة:
_ "تعالى اتغدّا معانا."
أجابها بصوت رخيم:
_ "اتغدّيت يا أمي برّة."
وهمّ ليلتفّ ولكن عادت بإثنائه قائلة برجاء:
_ "أبوك وعمّك هيفرحوا أوي لو جيت للسفرة .. تعالى عشان خاطري."
مطّ شفتيه بضيق يحاول إخفاءه قبل أن يقول مستسلما:
_ "حاضر."
وغيّر عزمه إلى الناحية الأخرى حيث أتى إلى غرفة الطعام بينما عادت نجلاء إلى المطبخ والسعادة تضجّ بعروقها بعدما أحرزت هدفا بإشراك بدر للطعام من جديد .. طرق بدر باب الغرفة المفتوح متبعا ذلك بقوله:
_ "مساء الخير."
تهلّلت أسارير الموجودين وبالأخص يونس الذي هبّ عن مكانه واقفا بينما يقول بسرور:
_ "مساء الفل يا بدر."
ثم أشار إلى مقعد نجلاء على يمينه قائلا باشتياق:
_ "تعالى .. أقعد جنبي."
اقترب بدر حتى جلس بجانب والده تاركا الفرصة لهذا الوالد ليتأمّل بملامح ابنه المتهدّلة .. خلف ابتساماته الزائفة يكمن ألم كبير .. معاناة يتكلّف بإخفائها لئلّا ينال شفقة الموجودين .. جسور كوالده يأبى أن يرى بؤسه أحد .. قطع شرود يونس صوت نيروز التي هتفت بعدم تصديق:
_ "مش معقول! .. حضرة الرائد هنا؟!"
التفّ بدر برقبته نصف دورة كي يرى نيروز قادمة بصحبة فهد والسرور يكلّل وجوههم فقام مضطرا برسم ابتسامة واسعة بينما يقول مرحّبا:
_ "عاملين إيه يا اولاد العم."
قال فهد بينما يحتلّ مجلسه:
_ "الحمد لله لسّة راجعين من المرافعة."
ضيّق بدر حدقتَيْه بعدم فهم بينما يقول بجديّة:
_ "مرافعة إيه؟"
أجابته نيروز بحماس:
_ "مرافعة وتين في قضيّة التهريب."
اتّسعت عينا بدر بقوّة بينما يقول بذهول تخالجه الحدّة:
_ "هي كانت النهاردة؟!"
عضّت على شفتها مؤنّبة نفسها على ما اقترفته من خطأ فادح .. فقد حضروا أول مرافعة لصديقته المقرّبة دون إخباره بذلك .. تكلّمت نيروز بتلعثم:
_ "أ أيوة."
حاد ببصره نحو فهد الذي هرب بنظراته بينما يقول بدر بشيء من الصرامة:
_ "وما قلتليش ليه يا فهد؟"
رفع بصره كي يواجه نظرات ابن عمه العاصفة ليقول مبرّرا:
_ "لإنك من الشغل للبيت ومن البيت للشغل .. ماعرفتش اكلمك خالص .. وبعدين خفت احسن المرافعة تنتهي بحاجة تزعّلك .. عشان كدة قلت بلاش."
زفر بدر بحنق بينما يتمتم:
_ "أكيد هتزعل مني عشان ماحضرتش."
رفعت نيروز أحد حاجبيها بينما تتفرّس بمعالم بدر التي بات التوتر جليّا بها فسألت بنبرة ثاقبة:
_ "هي مين دي؟"
التفت إليها سريعا في حين انعقد لسانه عن الإجابة وقد وجد أنه سيوضع بموقف محرج إذا أجاب بمصداقية عن هذا السؤال الذي أطلقته نيروز والذي يفيد بوضوح كونه يقدّر وتين أكثر من نفسه ويوليها اهتماما يفوق معاناته .. تناول شهيقا طويلا في حين يفكر بكذبة مثاليّة لإنقاذ الموقف ودون اتّفاق مسبق أنقذه والده متسائلا:
_ "المهم المرافعة انتهت بإيه؟"
التفتت إليه نيروز متناسية حديثها مع بدر حيث أجابت عمها بحماس:
_ "وتين كانت طلقة عرفت من أول مرافعة تجيب حكم الإعدام."
أسرع بدر يهتف بسعادة غير مصدّقا:
_ "بجد؟!"
أجابته مؤكّدة:
_ "آه والله العظيم."
تكلم رياض بإعجاب:
_ "ما شاء الله عليها وتين .. زيّ رياض وهو صغير."
تحدّث فهد بنفس الإعجاب:
_ "بنت طموحة جدا يا عمي."
وقبل أن يتوجّه كامل الاهتمام إلى الإنجاز الذي صنعته وتين اليوم .. دلف حسين منهيا دائرة النقاش قائلا:
_ "السلام عليكم."
شعور رائع يختلج المرء حين يستطيع إحراز النّجاح في أحد أهدافه ويرى الفرحة ملتمعة بعيون والدَيْه وأقاربه .. فكانت وتين التي استطاعت أن تحتلّ مكانا لنفسها في الوسط القانونيّ في بداية الطريق .. فحقّقت بسنّ صغيرة ما لم يستطع آلاف المحامون الوصول إليه .. الآن المحامية الشابّة وتين صارت تحت محطّ أنظار الجميع خصوصا بعد لقائها بالعديد من الجرائد .. ولأجل الاحتفال بالانتصار خصّص تامر يوما شاغرا لزيارة المنزل مع والدته .. السيّدة المسنّة التي تنتمي لجذورها الصعيديّة الجامدة مهما بعدت عن الجنوب .. فعروقها لا تزال تنبض باسم العادات والتقاليد .. شربت من كأس الماء ثم وضعته أمامها والتفتت إلى وتين قائلة:
_ "مبروك يا وتين يا بتّي."
ابتلعت وتين حبّات الأرز من بين أسنانها ثم نطقت بامتنان:
_ "الله يبارك فيكي يا طنط."
نظر تامر صوب خطيبته قائلا ببشاشة:
_ "ماما كانت مستعجلة جدا عشان تشوفك وتبارك لك بنفسها."
زمّت شفتها باستنكار بينما تقول باستهزاء خفيّ:
_ "إيوه طبعا .. هو اني ليا غيرها دي بجت زيّ بتّيّ."
اتّسعت ابتسامة وتين بينما تزيح خصلة من شعرها إلى الخلف ولم تفهم مقصد والدة تامر الساخرة .. فأكملت متسائلة بخشونة:
_ "وعلى كدة هتعرفي تشتغلي بعد الجواز؟"
التفتت إليها ثم قالت إيجابا:
_ "أيوة طبعا .. الموضوع سهل جدا."
ثم أكملت جيهان عنها بثقة:
_ "بنتي هتعرف توفّق بين الاتنين يا حاجّة .. ماتخافيش."
واسترسل تامر يقول مؤيّدا:
_ "لولا إني واثق في وتين كان مستحيل أحبّذ فكرة الشغل .. بس هي أدّها."
صمتت والدته على مضض ولم تجد مجالا آخر تتسلّل منه إلى أن تعود هذه المدلّلة عن فكرة العمل هذه وتتفرّغ لرعاية زوجها والأطفال فيما بعد .. في حين تكلّم رياض مغيّرا مجرى الحديث:
_ "عرفت صحيح خبر الحظر الإجباري الفترة اللي جايّة؟"
أجابه تامر بإيماءة من رأسه أتبعها بقوله:
_ "آه طبعا عرفت ووقّفت كل مجموعات الدروس."
ثم استطرد يقول بإحباط:
_ "باين هنعدي على أيام صعبة جدا!"
ربت رياض على كتف تامر بمؤازرة بينما يقول مطمئنا:
_ "معلش كله عشان أمان الناس .. الفيروس بقى بيتنقل من أقل حاجة .. وفي أتم نشاطه دلوقتي .. إن شاء الله يكون في الحظر خير وأعداد الإصابة تقلّ."
نطق البقيّة بابتهال:
_ "آمين."
_ "إن شاء الله دي آخر محاضرة لإن الحظر هيبدأ من بكرة."
نطق بها حمزة بعدما أنهى الجزء الخاص بمحاضرة اليوم .. ثم اكمل بجديّة:
_ "خدوا بالكم من نفسكم وحاولوا ما تخرجوش إلا للضرورة مع الاحتياطات."
تحدث أحدهم بحزن:
_ "ربنا يستر يا دكتور."
ثم استطرد يقول مودّعا:
_ "أشوف وشكم على خير."
ووقف جميع الطلّاب وتتابعوا صفّا لمصافحة الأستاذ الذي سيرونه بعد أسبوعَيْن كما قال القرار الجمهوريّ .. وكانت آخرهم رغد التي فضّلت المكوث قليلا حتى ما عاد سواهما .. الحزن والوجوم مكتسيان ملامحها برعونة .. فمن جهة تخلّفت عن وعدها بالقدوم باكرا كما اتّفقا كي تنهل من نبع خبرته وإحساسه القويّ برسم الكلمات ومن جهة أخرى أتى الحظر لإبعادها أكثر عن هدفها بالتعلّم منه .. أفاقت من شرودها مع صوت حمزة مبتسما دون تكليف:
_ "سلام يا آنسة رغد .. وابقى خدي بالك من الكمامة بعد كدة .. الموضوع طلع جد مش زيّ ما كان كله فاكر."
ابتسمت بخفّة بينما تقول:
_ "إن شاء الله يا دكتور."
ثم استطردت تقول باعتذار بدا بين ثنايا تردّدها:
_ "كنت ناوية آجي بدري عن معادي النهاردة .. لكن في الكلية أخروا معانا بسبب إنه آخر يوم قبل الحظر."
أجابها باختصار:
_ "ربنا يوفقك."
ثم جلس على المكتب كي يدوّن بعض الكلمات بينما انسحبت رغد إلى الخارج بعدما وجدت انتهاء الكلام عند هذا الحدّ .. فلم يظهر الغضب بمعالمه بسبب تخلّفها عن موعدها .. ولكن جاءت نبرته باردة كالجليد وهو ما أثار الحيرة بنفسها .. السيّد غامض لن يتراجع عن إقحامها بدوّامة التفكير بشخصيّته المركّبة بمزيج من الانفعالات الغير مفهوم.. وسيشكل السيّد غامض علامة استفهام بعقلها لن يكون كشفها سهلا..
ومرّت الأيام منذ إصدار قرار الحظر ولا زال الوضع كما هو عليه .. فلم يتراجع الخطر بل ظلّت نسبة الإصابات في تزايد مستمر .. ولم يقلّ نشاط الفيروس حتى مع أخذ المواطنين بالاحتياطات .. بل أكمل عمله في التكاثر والانتقال بين الأجساد .. حتى وصل الأمر إلى جعل الهيئة الحاكمة تفكر جديّا بزيادة الحذر .. فسيتم إغلاق المطاعم والمقاهي وإيقاف المباريات والمناسبات وكل ما يدفع البشر إلى الاجتماع .. وبالتأكيد هذا أدّى إلى تعاسة حلّت بالشعب المصري وغيره من بقيّة البلدان ولكن ما العمل؟ لابد من القيام بذلك كي تنحسر أعداد الإصابة وتعود الحياة إلى استقرارها من جديد..
وقف رياض عن مجلسه بينما يرمق عدد المحامين الجالسين حول الطاولة الكبيرة أمامه.. حيث هو الاجتماع الأخير قبل إغلاق المكتب تباعا لأمر الحظر.. قال خاتما حديثه:
_ "أنا سيبت المكتب على أساس القضايا اللي في إديكم تخلص.. لكن الإجراءات تجبرني أوقف كل حاجة عشان سلامتكم.. أشوف وشكم بخير"
تمتم أحد المحامين بجانبه:
_ "ربنا يعديها على خير."
وأردف أحدهم بكلمة أخرى للحديث عن الوضع الراهن والتخلخل الذي سيحلّ بحياتهم الاقتصادية.. بينما كانت تستمع وتين في صمت حتى شعرت بهزّة أثارتها رنّة هاتفها.. طالعت شاشة الهاتف لتجد رقما غريبا يزيّن شاشته فوقفت عن مكانها واستأذنت والدها للخروج فأذن لها.. وما هي إلا دقائق حتى عادت مسرعة والقلق باديا على وجهها.. نظر إليها رياض بتعجب بينما أسرعت تقول:
_ "بابا أنا همشي دلوقتي."
التمع القلق بعينيه ونبرته حيث ينطق:
_ "ليه إيه اللي حصل؟!"
حاولت مزج الطمأنينة بصوتها حيث قالت بثبات ظاهريّ:
_ "أصل صاحبتي اتسرقت شنطتها واتصلت عليا من رقم غريب عشان الحقها عند المترو .. هوصّلها واسبقك عالبيت."
زفر بخفوت ثم أردف بجديّة:
_ "تمام .. خلي بالك من نفسك."
قالت بينما تلتفّ إلى الجهة الأخرى:
_ "حاضر يا بابا."
_ "آااااااااااااااه!"
صراخ مدوٍ صمّ الجدران من قوّته انبعث من حنجرة صابر الذي كان يضم جسده إلى الأرض بينما يحتوي بطنه بذراعيه.. حيث شعر بألم شديد اجتاح بطنه فور الانتهاء من وجبة الطعام.. استمرّ في الصراخ حتى استيقظ العنبر كله على صوت استغاثاته لانتهاء الألم.. أسرع زميله إلى القضبان مستنجدا:
_ "يا جماعة الحقونـــا.. الراجل هيمــــوت.. تعالوا الحقوه بسرعة."
ثم عاد يجثو على ركبتيْه بجانب جسد صابر ليجده بدأ بإفراغ الدماء من جوفه ليصبح وجهه ملطّخا بحمرة الدم.. نطق زميله بينما يربت على كتفه بهلع:
_ "مالك يا صابر؟!"
نطق صابر من بين آهاته بتألّم:
_ "وجع شديد هيموتني .. آه يا بطني.. آااااه!"
وحضر الضابط بصحبة العساكر والطبيب إلى الزنزانة ليبدأ بفحصه.. فكان العرق يتفصّد من جسده برعونة بينما يتباطأ نبضه تنازليّا حتى هدأ صراخه وعمّ السكون للحظات.. ليترك الطبيب رسغه فيقع أرضا تحت نظرات الموجودين بينما يعود الطبيب ببصره إلى الضابط قائلا بأسف:
_ "للأسف مات بحالة تسمّم."
أراح قدما على أخرى بينما يجلس على الكرسيّ الجلديّ بأريحيّة.. فتجرّع من الكأس بين أنامله ثم قهقه بضحكة شريرة ملء فيه.. فقال من بين أسنانه بانتصار:
_ "كدة بقى نص شغلي خلص .. خلصت من شوكة كانت هتموتني .. وناقص بقى شوكة احتمال تموّتني."
دلف رياض بشقّتة ثم أغلق الباب خلفه.. سار قليلا حتى وضع حقيبته السوداء على سطح السفرة ليجد ريم تجلس أمام التلفاز تستمع إلى أحد برامجه .. فتقدّم منها قائلا:
_ "مساء الخير."
ما أن التفتت عليه حتى وقفت عن مكانها قائلة بابتسامة:
_ "مساء النور يا بابا."
أتاه صوت جيهان التي قدمت من المطبخ متسائلة:
_ "إيه ده هي وتين ما جاتش معاك؟!"
عقد حاجبيه بعدم فهم بينما يقول مستنكرا:
_ "هو كل ده وتين ما جاتش؟"
اقتربت منه ريم بينما تقول بنبرة يتخلّلها القلق:
_ "لا إحنا فاكرينها جاية معاك يا بابا!"
بارت جيهان بسؤاله بعدم فهم:
_ "هو انت سيبتها ليه؟"
أجابها بتلقائيّة:
_ "دي خرجت عشان صاحبتها اتسرقت.. وقالت لي هتسبقني عالبيت.. بس مستغرب لسة ماوصلتش والساعة 7 دلوقتي!!"
أسرعت ريم تخفّف من حدّة الأجواء قائلة بمرح:
_ "ممكن تكون أكلت مع صاحبتها فــ مطعم .. ما أنا عارفاها!"
شعرت جيهان بانقباض أصاب فؤادها حتى ما عادت تسمع صوتا سوى ضجيجه المخيف بالخفقات فقالت بنبرة خائفة:
_ "رن عليها يا رياض !"
أجابها بامتثال الأمر حيث أخرج هاتفه ثم ضغط عدّة مرات وانتظر قليلا ليعود ببصره الحادّ إلى جيهان قائلا:
_ "تليفونها مغلق!"
في مكان آخر يبعد عن المدينة بساعتَيْن.. مبنى تحت الإنشاء يبعد عن مساكن البشر.. توجد وتين التي أفاقت من غفوتها أخيرا لتجد نفسها على كرسيّ معصوبة العينين لا تستطيع الرؤية فأحسّت بالوثاق حول يديها وقدميها فأيقنت تماما ماهيّة وجودها هنا، أخذت تحاول التملّص من الأغلال هاتفة بفزع:
_ "طلعوني من هنـــــــــا! .. سيبوني .. إنتو عايزين مني إيـــه؟!"
أتاها صوت رجولي ينطق صاحبه بخشونة:
_ "بس اكتمي يا بت."
لم ترجع عن إصرارها بل عادت تهتف بخوف:
_ "إنتو مين وجايبينّي هنا ليه؟!"
أتاها صوت آخر يختلف عن سابقه بزيادة جفائه بينما يتكلم بثقة:
_ "إحنا مين مش هقولك .. جايبينك ليه بس مسألة تصفية حساب."
أخذت وجيب قلبها يعلو ويهبط بينما تقول بارتياع:
_ "تصفية إيه؟!"
أجابها مع تقدّمه بخطوات هادئة بصوت بارد تعلوه السماجة:
_ "محاميّة زي القمر شجاعة عرفت تعمل شغلها على أكمل وجه .. بس ما خدتش بالها انها كانت بتحفر قبرها بإديها."
شهقة عالية الصوت انبعثت من حنجرتها أتبعتها بقولها بصوت متقطّع:
_ "أنا أنا مــ ماعملتش حــ حاجة."
صاح بشراسة بينما يرمقها بعينين حارقتَيْن:
_ "لا عملتي يا وتين .. عملتي غلطة كبيرة هتدفعي تمنها دلوقتي."
ثم أشار إلى رجاله بالانسحاب وبدأ بفكِّ وثاقها.. قبل ان تجد السبيل لإزاحة الشريط القماشيّ عن عينيها استعدادا للهرب أسرع بالقبض على رسغها وألقاها لترتطم بالأرض ويتمرّغ وجهها بثرى الأرض.. صرخت بقوّة متوسّلة:
_ "أبوس إيدك سيبني .. أرجـــوك."
انقضّ عليها كالمفترس مع فريسته العالقة بالمصيدة ثم نطق من بين أسنانه بنزق:
_ "هو انتي فاكرة انك تتكلمي براحتك وبثقة جامدة بتقولي هتمسكي اللي زيّ صابر وأنا زي المغفل هسيبك!!"
أخذت تحاول التملّص من قبضاته ناطقة:
_ "أرجوك سيبني."
لم يرقّ قلبه لتوسلاتها الضارية بل أكمل يقول بوعيد:
_ "هخليكي ما تجرؤيش تخرجي من البيت حتى!"
لم تسهم توسّلاتها إلا استمتاعا ببكائها فأكمل بما يقوم ذابحا إياها على قيد الحياة، سارقا أغلى ما تملك، ثائرا بغير حق، مرضيا لكبريائه اللعين على حساب مستقبلها، كما جعلته الكحول أصمّا عن سماع صرخاتها المتتالية:
_ "لاااااا."
وعلا صراخها المدوي بالأرجاء دون منقذ أو مغيث.. ولم تهتزّ شعرة لدى أشباه الرجال بالخارج.. بل يصنعون من تلك الصرخات سيمفونية ممتعة.. انعدمت الرحمة من القلوب واجتمع الظلم لسرقة شرف بريئة دون أن يسمع شكواها أحد.. ولكن الله موجود يسمع ويرى.. ولا يحسبنّ الطغاة أنهم ناجون من العذاب.. بل لهم العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أضلّ..
في ذات الأثناء أفاقت نهلة من نعاسها مع صوت قاهر للرعد جعلها تهبّ مستيقظة والفزع مكلّل وجهها.. أخذت تحاول استعادة أنفاسها المنتظمة بينما تنظر إلى المكان حولها فتجد أن الهواء جيّد وليس هناك برق.. بل كان صوت تردّد في حلمها فقط.. مسحت بظاهر كفّها العرق المتفصّد بجبينها ثمّ اقتربت من الكومود والتقطت كوب الماء المغطّى بأنامل مرتعدة من شدّة الخوف.. تجرّعت القليل منه ثم أعادته إلى مكانه.. ازدردت ريقها بخوف بينما تقول بارتجاف:
_ "هو في إيه؟! .. ماله نفسي مقبوض كدة ليه؟!"
ثم أكملت بنبرة خائفة:
_ "حاسة إن في حاجة غلط."
وسرعان ما دار بخلدها أمرا حيث هتفت بهلع:
_ "وليد! .. وليد فين؟!"
تطلق سؤالا إجابته معروفة مسبقا.. فعادت ترد على نفسها باهتزاز:
_ "فــ شغله .. بس ماعرفش انا خايفة عليه كدة ليه؟"
ثم انتقلت نظراتها نحو النافذة الزجاجيّة والسماء تسكن خلفها فنطقت بابتهال:
_ "يـــا رب احميه."
لقد وصلت الساعة إلى منتصف الليل ولم تعُد وتين بعد ولم يعرفوا أين مكانها.. ولا يتوافر لديهم أيٍّ من أرقام صديقاتها المحتمل أنها قابلت إحداهنّ.. القلق ينهش بثبات جيهان التي كانت تسير ذهابا وإيابا على غير هدى.. قلبها يزيد في الانقباض بينما تنتظر بفارغ صبر عودة ابنتها.. تتضرّع إلى الله بالدعاء لعودة ابنتها سالمة بينما تذرف العبرات بصمت.. وريم تقف إلى جانبها تهدّئها وهي من تريد التّهدئة.. فما الذي سيجعل وتين تتأخّر إلى هذا الوقت دون سابق إنذار إلا إن كان شرّا؟! قطع حبل أفكارها صوت طرقات الباب لتسرع راكضة إليه خلفها جيهان التي فقدت ثباتها صارخة:
_ "إفتحي بسرعة لتكون وتين!"
وبالفعل فتحت ريم ليظهر رياض فقط دون غيره.. يظهر الغمّ بمعالمه بينما يدخل بخطوات وئيدة.. التفت إلى صوت جيهان التي هتفت بارتياع:
_ "رياض؟! فين وتين؟"
نظر إليها رياض بنظرات تسكنها الهزيمة أعقبها بقوله مستسلما:
_ "أنا دوّرت عليها في اقسام الشرطة بس ما رضيوش يفتحوا محضر .. ومالهاش أثر في أيّ مستشفى!"
نطقت جيهان بجزع:
_ "هتكون راحت فين بس يا ربي!"
تكلمت ريم بتصميم:
_ "أنا مش هستنى هنا واحطّ إيدي على خدّي.. لازم نعرف طريق ليها."
ثم أسرعت إلى الخارج دون انتظار الرد ليتنهّد رياض بتعب ثم يتبعها لئلّا تكون وحيدة بهذا الوقت من الليل حيث تسمع دبيب النملة فيه.. تجاوزت ريم الدّرج ثم تقدّمت في طريقها نحو الباب لتتوقّف فجأة مع قدوم سيّارة جيب سوداء توقّفت أمام البناية.. وضعت يدها على قلبها الذي بات يعمل كمضخّات بينما ترقب السيارة لتجد بابها انفتح وأُلقِيَت منه وتين لتقع أرضا.. أُقفِلَ الباب وأسرعت السيارة بالسباق مع الريح هاربة.. بينما هرولت ريم نحو أختها لتجدها مغشيّا عليها بدليل لم تطلق آهة واحدة.. جثت ريم على ركبتَيْها بينما تنظر إلى هيئة أختها بثيابها الممزّقة.. حانت منها التفاتة إلى السيارة الهاربة لتلمح الرقم المدوّن باللوحة في الخلف.. فعادت تنظر إلى أختها الغافية بلا حول ولا قوّة فهتفت بهلع:
_ "إلحق يا بابا."
أسرع الخطى حين لمح ظهر ابنته الجالسة أرضا بينما تهتف بخوف.. ليجد ما لم يحسب له حسابا.. ابنته متسطّحة بإغماء وثيابها ممزّقة والكدمات تغطّي جسدها.. أخذت ريم تضرب على خدّها هاتفة:
_ "وتين! .. وتين!"
جثى رياض أرضا بينما يهزّ ذراعيها بقوّة كمحاولة ميْتة لاستعادة وعيها من جديد.. صاح بخوف:
_ "وتين يا بنتي فوقي."
وبعد عدّة محاولا متكرّرة غادر اللاوعي الساحة تاركا لها المجال لتستجيب وتفتح عيونها ببطء.. أطلقت آهة خفيضة بينما تشعر بالألم يجتاح خلاياها فضلا عن ضربات ريم المتتالية..
_ "هه!"
هتفت ريم باطمئنان:
_ "وتين! إنتي سامعاني؟ إيه اللي حصل؟"
ازداد اتّساع حدقتَيها بينما ترمق الجالسَين حولها لتتأكّد بأنها فعلا بمنزلها وانتهى الكابوس.. بعد ساعات من الصراخ المتواصل وجدت الرّاحة أخيرا بالإغماء والآن في منزلها ولا تزال أنفاسها تعمل! لا تصدّق أن انتهى الألم وعادت إلى الدار.. ولكن لحظة! إن الألم لم ينتهِ بعد.. فبمجرد عودة وعيها تذكّرت تلك اللحظات السيّئة لتبدأ في الانهيار باكية بصوت مرتعد مبحوح:
_ "آاااااه .. يا بابا آاااه .. خسرت يا باباااا."
أسرع رياض يحتضن وجهها بين كفَّيْه ناطقا بفزع هستيري:
_ "مالك يا بنتي؟! .. عملوا فيكي إيــــه؟!"
أجابته بذات النبرة والحسرة تسكن ثناياها:
_ "عملوا اللي ما يتعملش.. أنا خسرت حاجة كبيرة يا بابا.. آااااه."
جحظت عينا ومع الآهة الأخيرة لم تعُد تستطيع الاحتمال الأكثر حيث تضاعفت أنفاسها لتعود إلى الإغماء من جديد وما نجحت طاقتها في الصمود أكثر.. عاد رياض كي يضرب وجهها بينما يهتف:
_ "يا وتين فوقي!"
ولمّا لم يجد منها إجابة قام وريم بحملها والصعود إلى الأعلى.. فعاد رياض إلى مدخل العمارة ليتأكّد من عدم تخليف أثر لما حدث قبل قليل.. فما أدلت به ابنته يعد كارثة حقيقيّة.. وخير دليل على ذلك ثيابها الممزّقة المخضّبة بالدماء.. ما أن أغلق باب الشقّة حتى وجد جيهان تخرج من غرفة وتين بينما تذرف الدموع بغزارة.. نظر لها بقلق بينما تقترب منه ثم تواجهه بعينيها قائلة بصوتها الباكي بجزع:
_ "مصيبة وحطّت فوق دماغنا يا رياض!"
أغمض عينيه بقوّة وفي داخله كان يرجو لو كان بكابوس سيفيق منه قريبا.. فها هو الآن يزفّ إليه خبر ذبح ابنته ولا تزال على قيد الحياة.. فاجعة حلّت دون حسبان.. مأزق صعب الخروج منه.. فماذا سيفعل؟
أمسك بهاتفه ثم ضغط عدّة أزرار قبل أ سضعه على أذنه وانتظر قليلا ثم قال:
_ "ألو.. فؤاد."
اتاه صوت جاره قائلا بحبور:
_ "أهلا يا رياض عامل ايه؟"
أجاب ودّه باقتضاب:
_ "إنت فين دلوقتي؟"
صمت فؤاد للحظات وفي خُلده يفكر بنبرة رياض الجافّة فأغلق باب السيارة ثم أجاب:
_ "عند باب العمارة."
تحدث رياض بثبات يخفي انكسارا كبيرا:
_ "طب تعالى على شقّتي علطول من غير ما تكلم حد ومش عايز حد يعرف انك جاي عندي حتى زياد."
دلف فؤاد عبر مدخل العمارة ثم قال بقلق:
_ "خير يا رياض .. قلقتني في إيه؟"
تحدث باختصار:
_ "تعالى وهتعرف كل حاجة."
ثم أغلق الخط دون انتظار الرد عائدا إلى جبال همومه بينما أسرع فؤاد إلى المصعد كي يأتي إلى صديقه وقد غرس الخوف انيابه بقلبه.. فماذا حدث مع رياض كي يطلبه بهذا الوقت ودون علم أحد ولِمَ هذا الانكسار بنبرته؟!
مرّت نصف ساعة انكشف فيها المستور حديثا.. وظهرت علّة وتين الجديدة والتي ستلازمها طوال عمرها.. وصمة ستلاحقها جسديّا ونفسيّا.. فحتى مع زوال الكدمات والجروح التي خلّفها هذا الحقير ستعاني دوما من ألم هذه اللحظات ولن تنساها بل ستعلق بذاكرتها ما دامت حيّة.. خرج فؤاد من الغرفة وسار حتى وجد رياض يجلس على الأريكة والانكسار باديا على ملامحه فرقّ قلب فؤاد لأجل صديقه.. اقترب منه بينما يرمقه بشفقة وجلس إلى جانبه قائلا بوجوم:
_ "عرفت أعالجها ولحقت الهبوط."
ثم استطرد مكملا:
_ "كويس انك كلمتني يا رياض.. لو كانت راحت مستشفى كانوا هيطلبوا تحقيق.. ومن ناحيتي ماحدش هيعرف اللي حصل."
ظلّ على حاله صامتا ولم يستطع التلفّظ بحرف آخر فوقف قائلا:
_ "مع السلامة."
نهاية أحداث الفصل التاسع
كل ده وطارق في الغيبوبة .. لما يصحى تخيلوا ردّة فعله إيه؟
رأيكم يهمني يا أحلى فانز
#إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now