الفصل الثالث والعشرين

540 27 12
                                    

23
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثالث والعشرين"
(خمر العشق)
**********
بينما كان فهد يتجرّع من كأس الشمبانيا ضعيف التأثير.. يروي له شوقه وألمه من جفاء هذه الماكرة باغتته طرقات الباب ليفيق عن عالمه القاتم.. استند بباطن كفّه على الأرض مقاوما تجمّد أطرافه وعجزها عن الحركة بسبب المشروب.. تحامل على نفسه حتى فتح الباب لتتّسع عيناه بقوّة بينما يهتف بدهشة يسكنها الخوف:
_ "بدر!"
بادله الثاني بابتسامة بسيطة بينما يدخل بودّ:
_ "لقيت نور الأوضة مفتوح قلت اشوف سهران ليه...."
تبعثرت الكلمات بين ثنايا صدمته بينما ينظر إلى زجاجتيْ الشمبانيا ومعهما كأس طويل.. فالتفّ برأسه نحو فهد ليجده يقف عند الزاوية كطفل ينتظر العقاب فيقول بدر بعدم تصديق:
_ "يا نهار ابيض يا فهد! إنت بتشرب؟!"
أسرع الثاني إلى إغلاق الباب ثم اقترب من بدر ممسكا بذراعه بينما يقول راجيا:
_ "بدر أرجوك ماتقولش لحد."
لم تختلّ حدّته وإنما أكمل بتعجّب واستنكار:
_ "ماقولش إيه؟! أنا مستغرب.. من إمتا ده؟!"
جلس فهد على الأرض ثم أخذ ينظر إلى المشروب قائلا بامتعاض:
_ "من ساعة ما بدأت شغل مع أنور.. شربت أكتر من مرة ومن ساعتها مش قادر اتخلّى عن الهباب ده."
جلس إلى جانبه ثم فتئ بنبرة يتخلّلها القهر:
_ "على كدة بقى شغلنا خلانا نضطر لحاجات كتير ونخسر أكتر!"
انتهى فهد من صبّ كأس آخر بينما ينظر إلى بدر متسائلا بحزن:
_ "قصدك دكتور تقوى؟!"
غام الحزن على ملامحه بينما يقول بغموض:
_ "مش تقوى بس."
رمقه فهد بتساؤل بينما ينطق:
_ "امال إيه؟!"
شعر بالأسى يكبّل صدره بعدما تذكّر حقّا ما آلت إليه الخسائر بسبب ذلك العمل.. وكيف أنه تسبّب في خسارته لإنقاذ كرامته وكيف أن صديقته العزيزة خسرت أعزّ ما لديها بسبب عزمهما على درء الظلم.. والآن وبعد أن تحوّل منحى مشاعره لا يستطيع مصارحتها.. كلّما أراد شيئا يجد الأشواك دوما تزيّن الطريق حتى الوصول.. عوائق تردعه ولا يستطيع الصمود أمامها أكثر حتى ما عاد يريد الإكمال بهذا العالم.. فلمَ لا يخرج منه؟!
وبلا انتباه منه جذب الكأس الممتلئ من يد فهد ثم بدأ في تجرّعه تحت نظرات فهد المشدوهة.. من المعروف أن الشمبانيا تعدّ أقل أنواع الخمور حدّة وتأثيرا ولا يشربها إلا الشباب في الاحتفالات حيث أنها لا تقوم بعملها في ذهاب العقل بسرعة إلا لمن يجرّبها للمرة الأولى.. وعلى الرغم من مرارة الطعم إلا أنها لم تكن شيئا بالنسبة لما ينتاب بدر في هذه الأيام الأخيرة.. وضع الكأس على الأرض ثم أردف بلذوعة:
_ "حاجات كتيرة ماقدرش اقولها.. هات لي كاس تاني."
قالها بينما يمدّ الكأس نحو فهد طالبا المزيد.. وما كان من الثاني إلا الانصياع لأمر هذا المسكين الذي يبدو أنه بمأزق كبير ولا يريد الشكوى لئلا يثير قلق الجميع.. انتهى من شرب ما بحوزة الكأس الثاني ثم قال بنبرة شاكية:
_ "أنا أنا بحب مراتي أوي يا فهد."
اتّسعت ابتسامة فهد وارتخت ملامحه حيث يقول بأريحية:
_ "طب حلو جدا.. وأكيد هي برضه بتحبك."
أدار رأسه إلى الجهتين بينما يقول بعبوس:
_ "لا هي مش بتحبني هي لسّة...."
بتر كلماته التالية والتي تعدّ بمثابة نبش لأسرار دُفنَت منذ وقت طويل.. أسرار لا يقوى على مناقشتها مع نفسه فكيف وهناك غريب يجلس معه؟! التفت إلى فهد ليجده محدّقا به باهتمام بينما يقول:
_ "لسّة إيه؟!"
تغيرت نبرة الصوت بينما يشعر بأنه بالفعل سافر إلى عالم جديد يغاير الواقع حيث هتف بمرح:
_ "لا لا لا مش هقولك ده سرررررر."
قطب فهد جبينه بعدم فهم بينما يبحث في عقله عن مبرّر لعدم حب وتين لبدر.. فما الظروف التي دفعتهما للزواج إذا.. وهو ما استدعى انتباهه إلى التفكير جديّا بسبب زواجه على عجلة من وتين وبعد موت عزيزته تقوى بشهر واحد.. أفاق من شروده مع صوت ضحكات عالية أطلقها بدر بنشوة:
_ "هههههههههه إيه ده شكلك بيضحّك يا فهد!"
عاد بزرقاوتيْه نحو بدر والاستفهام يكلّل معالمه بينما ينظر إليه الأخير بملامح طفوليّة:
_ "إيه يابني الحلاوة دي.. ما تسلّفني شويّة يمكن وتين تحبّني!"
شعر بالخطر يحوم حوله مع نبرة بدر الآخذة في العلوّ خاصّة وقد ذهب عقله الآن مع المشروب وما سيقول خارجا عن إرادته بالتأكيد.. فأسرع يهزّه قائلا بقلق:
_ "بدر! بدر فوق."
نفض بدر يده قائلا بضحك:
_ "مانا فايق اهو."
عاد فهد يسأله بنبرة جديّة:
_ "ركز معايا.. انت بتحب وتين هي ليه بقى ما بتحبكش؟!"
أجابه بمداعبة:
_ "لا مش هقولك عشان دي حاجات أكبر منك."
ثم أمسك بالزجاجة الخضراء وهمّ ليشرب المزيد من فوّهتها مباشرة ولكن بادر فهد بإمساكها من بين أنامله قائلا بنبرة مؤازرة:
_ "طب بص.. طالما انت بتحب وتين يبقى روح قولها مش تيجي تكلمني أنا!"
أخذ يقلّب الكلمات بعقله ثم عاد ينظر إلى فهد قائلا بحزن:
_ "فكرك هتوافق على حبي؟"
أجابه بحماس وقد نجحت الخطّة بإلهاء بدر عن المشروب:
_ "آه صدقني هتوافق.. هي أكيد بتحبك بس مخبيّة."
أخذ يحكّ ذقنه النابتة بأنامله قائلا بتعجّب:
_ "مخبيّة؟ ليه؟ ده ناا حتى حلو وقمور!"
أجابه فهد ببعض المزاح:
_ "عشان حابة تتعبك يا رجولة.. والمفروض انك تكون ناصح وما تخيلش عليك الألاعيب دي."
ضيّق عينيه للحظات يفكّر فيها عن ماهيّة الصواب حتى قال بلهفة:
_ "تصدق معاك حق!"
ثم حاول الوقوف قائلا بأمر:
_ "يالا خدني عندها."
بادر فهد إلى دعمه على الوقوف حيث لا تستطيع أعصابه احتمال حركاته.. يقول بحذر:
_ "طيب على مهلك."
وسار معه متخطّيا الغرفة والطابق بأكمله حتى باب الجناح حيث رنّ جرس الباب ثم أسرع يبتعد ما أن استشعر حركة وتين لئلا يقابلها ويضطر إلى أن يروي سبب الحالة التي وصل إليها بدر الآن..
وعلى الجانب الآخر كانت توجد وتين التي كانت تجلس بالصالون بانتظار عودة بدر حيث تأخّر كثيرا اليوم على غير عادته.. ففي الغد لديه مهمّة وسفر فكيف يعود الليلة متأخّرا؟! تنتظر عودته بفارغ الصبر حتى تطمئنّ عليه أولا ثم تغرقه بوابل من التوبيخ ثانيا حتى يكفّ عن الاستهتار بصحته أكثر من ذلك.. انتبهت إلى صوت رنّة الجرس فأسرعت إلى الوقوف ثم سارت حتى الباب.. ففتحت بينما تقول بقلق:
_ "اتأخرت ليه يا بدر."
ما لبثت أن فتئت بها حتى وجدت الثاني يندفع نحوها حتى حاوط خصرها بين يديه مقرّبا إياها منه.. شعرت بتجمّد الدماء في عروقها بينما تنظر إليه باضطراب واضح لتتبيّن النعاس في عينيه والابتسامة السخيفة تزيّن ثغره فأيقنت أنه ليس بخير.. أردفت تقول بتوتر:
_ "بدر! في إيه؟"
أجابها بنبرة هائمة ونظراته مسلّطة عليها:
_ "في حاجات كتير عايز اقولها لك."
أسرعت تنفض يديه عنها حيث ابتعدت قليلا بينما تقول باستنكار:
_ "بالحالة دي؟!"
ثم أكملت بنبرة غاضبة:
_ "بدر إنت شارب حاجة؟"
أجابها ببلاهة:
_ "أنا؟! أوووووه!"
انتبهت إلى أن الباب لا يزال مفتوحا فأسرعت تغلقه ثم عادت تنظر إليه هاتفة بحدّة:
_ "رد عليا كويس من إمتا؟"
اعتلى العبوس وجهه حيث مطّ شفتيه قائلا باحتجاج:
_ "مش هقول."
أمسكت بساعده ثم أخذت تجرّه نحو الغرفة بالإجبار ناطقة بتعب:
_ "يا ربي!"
ما أن دلفا بالغرفة حتى دفعت وتين بدر إلى السرير ليجلس ثم جثت على الأرض كي تنزع عنه الحذاء حتى يستطيع النوم براحة.. وبينما تقوم بذلك رمقها بدر بلهفة قبل أن يمسك بذقنها ثم يرفع وجهها كي يراها عن قرب قائلا:
_ "من إمتا انتي حلوة كدة؟"
انفغر فاه الثانية عن آخره بينما تحاول دراسة ما قال هذا.. يتغزّل بها وبجمالها! لا تستطيع التصديق حقّا.. ولكن بادر بدر بمضاعفة دهشتها حيث يقول بإعجاب واضح:
_ "إنتي قمر."
وقفت باعتدال ثم قالت بجديّة:
_ "بدر إنت مش في وعيك.. ابعد عني."
وهمّت لتبتعد ولكن أسرع بدر بإمساك يدها جاذبا إياها نحوه لترتطم بصدره ثم يقول مخمّنا:
_ "آه إنتي عايزة تتعبيني صح؟"
إضافة إلى شعورها بالخجل لزيادة جرأته اليوم حتى يريد ملاصقتها بهذا الشكل إلا أنها حقا لا تفهم ما يريد قوله.. حيث يكمل بنبرة واثقة:
_ "بس الألاعيب دي مش هتخيل عليا."
حاولت التملّص من براثنه قائلة بانزعاج:
_ "إبعد عني يا بدر وإلا هزعل منك.. ها؟"
أسرع يبتعد عنها قائلا بنبرة طفوليّة:
_ "لا خلاص بعدت اهو."
ابتعدت خطوتين نحو الخزانة بينما تقول بلهجة حازمة:
_ "شاطر.. أقعد بقى عالسرير."
أطاع أمرها على الفور خوفا من تنفيذ تهديدها بينما استدارت هي لإحضار بعض الملابس البيتيّة من الخزانة.. عادت إلى السرير لتجد بدر متسطّح وقد أصابه النعاس.. تنهّدت براحة بينما تضع يدها على خافقها الذي علا ضجيجه من قوّة الخفقات المتسارعة.. حدجته بنظرة أخيرة قبل أن تنحني لتدثّره بالغطاء كي يكمل نومه في هناء.. ولكن ما اجتازت الظنّ حيث باغتها الثاني بمحاوطة خصرها لتستلقي إلى جانبه فيعتليها مكبّلا إياها عن الهرب.. رمقته بنظرات مذهولة بينما تنطق بخجل:
_ "بدر إنت بتعمل إيه؟"
أجاب سؤالها بآخر قائلا:
_ "إنتي فعلا بتحبيني؟"
حاولت الهرب من حصاره قائلة بغضب:
_ "يا بدر إوعى."
لم يسمح لها بالهروب وإنما أكمل يقول بهيام:
_ "أنا بحبك أوي.. ليه بتصديني؟"
شعرت بالوهن يصيب حصونها المنيعة مع نبرته التي تسلّلت إلى أعماقها حيث أجابته بأنفاس لاهثة:
_ "عشان ما ينفعش..."
ابتلعت بقيّة الكلمات بفمه حين كمّمها بقبلة عميقة تعبر عن القليل من أشواقه.. أطال وكأنّه يروي من خلالها عن قصّة مشاعره المتأجّجة تجاهها.. وبعد برهة ليست بالقصيرة ابتعد عنها تاركا لها المجال لالتقاط الأنفاس ولم يبتعد جسده عنها.. حيث فتحت عينيها ببطء كي تنظر إليه بخجل بينما أكمل هو بتساؤل:
_ "مين قال ما ينفعش؟"
أجل من قال أنه لا يصح؟! وضعت دوما الحواجز والأشواك بطريقة جعلته يخشى الاقتراب منها ولكن ما السبب يا تُرى؟ إنها تحلّ له شرعا بالمناسبة! وهذا ما جعلها تستجيب لوابل قبلاته على رقبتها وترقوتها حتى بدأ بالانتقال لما بعد ذلك حين وجد منها القبول.. ولم ترضخ له مرغَمة بل كان ذلك بكامل رضاها.. تذوب كقطعة الجليد امام لهيب اشواقه وكأنّها تبدّلت إلى فتاة أخرى.. فتاة أذهب الخمر عقلها.. وهنا لا أقصد خمر الشراب بل خمر أقوى تأثيرا يُسمّى خمر العشق.
**********
سارت متجاوزة الصالون حتى وصلت إلى غرفة الضيوف لتطرق الباب مرّتين قبل أن تستدعي انتباه الجالس بقولها:
_ "أونكل فؤاد."
وقف الطبيب الخمسينيّ عن الأريكة قائلا بترحيب:
_ "أهلا يا وتين.. عاملة إيه؟"
أجابته بابتسامة:
_ "الحمد لله."
ثم جلست مقابله بينما تفرك يديها بقلق ولا تعلم من أين تبدأ ليقول فؤاد مشجّعا:
_ "رياض قالي انك عايزة تكلميني فــ حاجة مهمة.. بس مش راضية تقولي.. في إيه؟"
التفتت إليه بينما تردف بخفوت:
_ "حضرتك عارف ان فرحي على الأبواب وفاهم كويس بدر طلب إيدي ليه.. وانا مرعوبة من إن في الفترة اللي جاية دي تحصل حاجة تإذيه هو وتسبب مشكلة كبيرة.. يعني حضرتك فاهم قصدي؟"
أماء برأسه متفهّما بينما يقول بنبرة هادئة:
_ "فهمت.. واحب اطمّنك في الموضوع ده."
نظرت إليه باهتمام بينما أكمل هو بنبرة متفائلة:
_ "وقت ما رياض كلمني وشفتك عملت احتياط اللي انتي خايفة منه.. يعني دلوقتي مافيش أي أثر في جسمك من اليوم ده.. ومع الوقت هتتأكّدي من كلامي.. مافيش حمل هيحصل."
تمتمت بابتهال وقد سرت الراحة بعروقها:
_ "الحمد لله."
ثم عادت تنظر إلى فؤاد بامتنان:
_ "بجد شكرا يا دكتور على تعبك معايا."
أجابها بسرور:
_ "العفو ربنا يكرمك يا بنتي."
**********
وهكذا توالت المشاهد على ذهن وتين التي فضّلت الصمت على البوح أمام تساؤلات نجلاء المنتظرة الإجابة.. فيجيب عنها بدر بثقة:
_ "أنا ووتين بقينا نعيش حياتنا الطبيعيّة."
على الرغم من كذبته تلك إلا أنها بالتأكيد في محلّها.. فأسرعت تقول مؤكّدة تنفي الاتّهام:
_ "أنا حامل بابن بدر مش حد غيره."
أسبلت جفونها بينما ترمقهم بذهول حيث فتئت بتساؤل:
_ "بس ازاي...."
قاطعها بدر قائلا بشيء من الصرامة:
_ "يالا يا أمي سيبي وتين ترتاح."
وكانت كلماته تلك بمثابة الرادع لها لئلا تنطق بالمزيد وقد قدّمت ما يكفي من الكلمات اللاذعة بحق وتين.. أمرها بالخروج تابعا أثرها وكأنّه يريدها على انفراد تاركا وتين التي شعرت بالألم يغزو قلبها حين تذكّرت نتاج خطأها الفادح.. كيف أنها أفاقت من سباتها مع صوت أنفاس بدر المتسارعة.. حيث ابتعدت قليلا لتجده يرمق جسدها العاري المنستر بملاءة بيضاء فقط.. يحاول تذكّر ما حدث ولكن أخفق فلا يستطيع تشكيل الخيوط العريضة لما حدث بعد لقاء فهد.. نطق متسائلا بقلق:
_ "هو إيه اللي حصل انبارح؟"
أخفضت بصرها خزيا بينما تحكم لفّ الملاءة حول جسدها قائلة بامتقاع:
_ "إللي حصل انك شُفت تقوى فيّا يا سيادة الرائد."
ضيّق حدقتيه بجهل بينما يحاول التفكير بمغزى هذا القول في حين أكملت هي والألم يطبق على صوتها:
_ "إنت عملت اللي كان نفسك يحصل مع تقوى يا سيادة الرائد!"
وما استطاعت المكوث أكثر بل وقفت وهي تمسك بالملاءة من كلا الاتجاهين تسير حتى المرحاض ليبقى بدر على حاله من الذهول غير مصدقا ما آلت إليه الأمور مع وتين وبغير وعي منه..
أغمضت عينيها لتفرّ عبرة حبيسة من جفونها بينما تلعن قلبها المجنون الذي دفعها إلى الاستمتاع بالحب ولو ساعة.. استجابت للمساته دون مقاومة وذلك حين شعرت للمرّة الأولى بحاجتها للحب.. وإن كانت آثار تلك الحادثة محفورة بذهنها فقد محتها ليلة اتّحادها مع بدر.. فرأت كم أنها كانت مخطئة بشأن أيّ رجل ومن المجحف أن تظن أن الجميع كذلك المجرم.. ولا سيما إن كان بدر.. حبيبها الذي نبتت بذور الحب بفؤادها منذ زمن حتى أزهرت الآن بعد فيض من المشاعر الجيّاشة.. ولكن أخطأت حين كان لها السبق بالتعبير عن حبها وهي تجزم بأن كل ما قيل لها في ذلك اليوم لم يكن لها.. بل لأخرى تمنّى تلك الليلة معها.. وما كانت وتين إلا مجرّد جسر للوصول إلى تلك الغاية.. وما يؤكّد ذلك كلمته الأخيرة قبل أن يغفو في النعاس حيث قال:
_ "من زمان كان نفسي في الليلة دي."
وقد كان بالفعل يرجو أن يقترن بتقوى ولكن كانت الظروف أقوى منه فلم تتحقّق أمنيته.. واستطاع بدر الآخر أن يحقّقها حين كان غائبا..
في نفس الأثناء كان بدر واقفا مقابل نجلاء التي لم تستطع أن تكبح دهشتها حيث قالت:
_ "أنا مستغربة من اللي حصل.. ليه ما قلتليش انك حبيتها يا بدر؟"
أجابها بصرامة غير معهودة:
_ "كويس اني ما عملتش كدة لإنك أكيد هتستخدمي الكلام ده ضدي."
انفغر فاهها بقوّة من فرط صدمتها حيث ترمق ابنها بذهول يكلّله القلق قائلة:
_ "إيه؟! ليه بتقول كدة يا بدر؟"
سلّط سوداوتيْه القاتمتيْن بخاصتيها ناطقا بنزق:
_ "وتين عارفة انك عرفتي اللي حصلها.. وبدل ما تساعدي عشان تنسى بسهولة فكرتيها باللي حصل وهرجع لنقطة الصفر معاها كدة؟!"
اتّهام صريح أُلقيَ على عاتقها من قِبَل هذا الثائر الذي يبدو الجدّ في حديثه مجرّدا من المبالغة.. أسرعت تحاول الدفاع قائلة بخفوت:
_ "أنا ما كانش قصدي وانت عارف كويس اني عايزة مصلحتك..."
قاطعها هادرا بغضب:
_ "مصلحتي عارفها كويس مش محتاج توجيه من سيادتك."
أتبع ذلك بزفرة حارّة كالرياح العاتية لفحت وجهها لتغمض عينيها للحظات قبل أن تعود إلى النظر إليه ثم تبتلع ريقها بتوتر قائلة:
_ "بدر إنت بتكلمني بالأسلوب ده ليه؟"
أجابها مباشرة دون تردّد:
_ "واكلم أيّ حد يغلط غلطتك.. وتين خط أحمر واللي فــ بطنها يبقى ابني."
ثم استرسل يقول بعدم اكتراث:
_ "كونك مش قابلة ده دي حاجة ترجعلك."
أتاه صوت وتين من الخلف هاتفة بدهشة:
_ "بدر انت بتقول إيه؟"
التفت كلاهما نحو تلك التي تحاملت على جسدها الضعيف حتى لكزته في ذراعه قائلة بعدم تصديق:
_ "واخد بالك انت بتكلم مين؟ اعتذر لأمّك يالا."
التفّ بجسده إلى الناحية الأخرى بينما يقول والحسرة أطبقت على نبرته:
_ "كانت زيّ أمي."
ثم انصرف إلى غرفته مُعلنا إغلاق الحديث عند هذا الحدّ تاركا نجلاء التي شعرت بتمزّق نياط قلبها لأجل ربيبها الذي تلفّظ بما لم تظنّ يوما سماعه ولو بأسوأ كوابيسها.. كما لحظت أخيرا بحجم ما اقترفت بحق زوجته اليافعة.. فقد كان تركيزها منصبّا على التحقيق بمصلحة ابنها دون أن تعبأ بتأثير ذلك عليها.. أجفلت مع لمسة من كفّ وتين التي قالت باعتذار:
_ "طنط نجلاء أنا...."
قاطعتها بصوت مُجهَد آسفة:
_ "أنا آسفة يا وتين يا بنتي ما تزعليش مني لو كنت سبّبت لك إحراج."
صمتت وتين دون القدرة على النطق بالمزيد لتخفض الثانية بصرها بينما تبتعد:
_ "سلام عليكم."
ثم انصرفت بالاتجاه المعاكس نحو باب الشقة تاركة وتين التي أخذت ترقب طيفها ولا يزال لسانها مُكبّلا عن إبداء رد فعل.. ولا عجب فهي التي أوقعت نفسها بموقف لا يُحسَد عليه حين استمعت إلى أمر قلبها للمرّة الأولى.. سارت بخطوات وئيدة حتى بلغت غرفتها لتجد بدر يجلس على السرير والتعب يغلّف ملامحه.. يمسح على وجهه ثم يزفر بحرارة وقد نال الإجهاد منه مبلغه.. دلفت إلى الداخل بحذر حتى وقفت أمامه ثم وضعت يدها على خصرها ناطقة بنبرة هجوميّة:
_ "ممكن اعرف إيه لزوم اللي عملته مع طنط ده؟"
أجابها دون النظر بعينيها بنبرة جادّة لا تحتمل النقاش:
_ "كان لازم تفهم انها غلطت فــ حقك.. وانا مش هقبل حد..."
قاطعته بصراخها بثورة:
_ "يا سيدي إنت شفتني اشتكيت لك؟! مين عيّنك تدافع عني أنا عايزة افهم؟ إن كنت أنا نفسي مقدّرة موقفها!"
وقف عن مجلسه كي يرمقها بتركيز بينما يردف بنبرة يعلوها الامتعاض:
_ "وليه إنتي اللي مكتوب عليكي تقدّري موقفها؟! ليه مكتوب عليكي انتي اللي تستحملي الأسئلة دي؟!"
تقلّصت معالمها بينما تغمض عينيها بقوّة لتفرّ عبرات ساخنة من محابسها ليشعر بوخزات الألم تنتاب فؤادها ليقول بنبرة تأكيد لا شية في صدقها:
_ "وتين أنا مش فاكر إيه اللي حصل وقتها بس انا واثق فيكي.. ولما عرفت انك حامل علطول اتأكدت انه ابني من قبل ماعرف عمر الجنين ويستحيل ابصّ لك بنظرة اتّهام واحدة."
أطلقت زفيرا حارّا معبّأ بالأثقال قبل أن تنطق بحسرة:
_ "بس مش هتقدر تجبر الكل يتصرّفوا زيّك.. ده قدر ومحكوم عليا افهم اني ناقصة عن أيّ بنت تاني وإن جوزي شايف فيّا حبّه القديم."
التمعت عيناه بدهشة تسكنها الشفقة بينما يرمقها بتألم حيث وضعت يدها على بطنها قائلة بقهر:
_ "ياريت الليلة دي ما كانت جات.. أنا حقيقي بقيت كارهة نفسي!"
***********
على الجانب الآخر دلفت نجلاء إلى الغرفة بخطوات متثاقلة والخمول قد اخترق كل خليّة بجسدها حيث تهاوت على أقرب مقعد قابلها.. أخذت تفكّر مليّا بما وُجِّه إليها من اتّهام ظالم أوقعتها غريزتها الأموميّة فيه.. خسرت احترام ابنها بدر بسبب اندفاعها إلى الاستبيان دون تروٍّ.. آذت مشاعر وتين وتبعا لذلك أعلن بدر ثورته على علاقتهما.. ووشت كلماته الأخيرة بصعوبة مسامحته لها وعودة المياه إلى مجاريها من جديد.. وهو ما جعلها تشعر بأثقال بحجم الجبال على كاهلها.. أخذت الدموع تتسابق إلى التحرّر من مقلتيْها.. وقبل أن تنجح بذلك بادرت بإخفاق محاولتهنّ حين شعرت بخروج يونس من المرحاض.. فأسرعت تمسح بأناملها على جفونها للحظات قبل أن تقف مع صوت يونس مناديا:
_ "نجلاء!"
أجابته بابتسامة مصطنعة:
_ "أيوة."
اقترب منها حتى أمسك بكلتيْ ساعديْها بينما يقول بصوت دامع:
_ "أنا فرحان أوي باللي سمعته.. بدر أخيرا هيبقى أب!"
حاولت جاهدة أن تتّسع ابتسامتها بينما تقول بصوت طبيعيّ ظاهريّا:
_ "ألف مبروك يا جدو."
ضيّق حدقتيْه بعدم فهم لمّا استشعر الخمول الساكن صوتها ليقول بقلق:
_ "مالك؟!"
أسرعت تقول بفرح:
_ "لا لا دي دموع الفرحة.. أنا لسّة جايّة من عندهم بعد ما اطمّنت على وتين."
ارتخت عضلات وجهه حيث افترشت الابتسامة وجهه بينما يقول بجديّة:
_ "خلي في بالك وتين من مسؤوليتك.. اهتمّي بصحتها."
أجابته بهدوء:
_ "طبعا فــ عنيّا."
ربت على وجنتها برقّة ثم ابتعد نحو السرير كي يغلق جفونه والراحة تسكن معالمه.. فقد حدث ما استبعد وقوعه وهو أن تصير الحياة بين بدر ووتين طبيعيّة.. أراد أن تكون وتين كنّة للمنزل وتنتقل من صفحة الألم التي سبّبتها تلك الحادثة صوب صفحة أخرى يكتب بدر الحكاية فيها.. ولم يكن بحسبانه أن تجري الأمور بهذه السرعة.. الحادث الشنيع لوتين.. وفقدان بدر لتقوى.. أُلقيَ الحادث وتقوى ببئر النسيان وتحطّمت الحواجز واستطاعا معا تجاوز المِحَن والآن ينتظران ثمرة اتّحادهما..
وكانت سعادة يونس تغمر على عقله إلى درجة أن غفل عن ترجمة مكنون نجلاء والحزن القابع بفؤادها..
**********
في اليوم التالي.. طوى أحمد صفحة من الكتاب الذي بين أنامله كي يقرأ التي تليها.. ولكن انتشلته طرقات الباب عمّا نوى فعله حيث التفت نحو الباب قائلا:
_ "أدخل."
فُتِحَ الباب واتّضحت من خلفه هويّة الطارق الذي لم يكن سوى أمان فقال ببساطة:
_ "اتفضل يا أمان."
تقدّم منه وبحوزته بعض الأوراق يقول بجديّة:
_ "معلش لو هعطّلك بس في حاجة مهمّة لازم تشوفها."
أغلق الكتاب ثم التفت إلى ابنه باهتمام:
_ "ورّيني."
وضع الأوراق على سطح المكتب قائلا بشيء من الثقة:
_ "حالة عمليّة مطلوب اني أشتغل عليها في الرسالة."
**********
في ذات الأثناء.. أغلقت شذا الخطّ مع نيروز وعلامات السرور تكسو وجهها بعدما زفّت إليها ابنة عمها الخبر السعيد بكون اخاها سيصبح ابا بعد طول انتظار.. سنوات من التأجيل قضاها في محاولة استرضاء حبه تقوى.. حتى وصل إلى الثلاثين منتظرا وشذرات القلق تسلّلت إلى أفئدة عائلة عمران من كبيرهم إلى صغيرهم خوفا على مجازفته بعمره الذي يتساقط تنازليّا كحبات الرمال الدقيقة في ساعة رملية.. وعلى الرغم من معارضتها بإهانة ابنة خالها الراحلة واختيار اول عروس وجدها مناسبة.. إلا أنها حين أعادت تقليب الأمور بعقلها وجدت انه انسب قرار.. فلو سمح لنفسه بالبكاء عليها طويلا لما استطاع الخروج من تلك الدوّامة.. وانتقال وتين إلى حياته كان بمثابة تحريره من شرنقة ذكراها.. هنيئا له ولوتين الخبر السعيد.. ولن تتأخر عن ان تكون اول المهنّئين..
عادت تفتح هاتفها ثم ضغطت على شاشته عدّة مرات قبل أن أسندت عند اذنها بانتظار الإجابة من الطرف الآخر والذي لم يستغرق روان حتى أجاب قائلا:
_ "ايوة يا شذا."
صمتت للحظات ترتب فيها الكلمات المناسبة قبل أن تنطق بنبرة ودودة:
_ "معلش لو بعطّلك يا ابراهيم بس عايزة الاذن منك أزور بيت بابا النهاردة."
اتاها صوت المسائل مستنكرا:
_ "إنتي لسّة كنتي عندهم أسبوع كامل استنّي شويّة!"
أسرعت تقول نافية:
_ "لا المرة دي هتبقى زيارة خفيفة لمرات أخويا."
_ "إشمعنا؟"
سألها باهتمام لتجيبه دون أن تكبح سعادتها:
_ "أصل بدر هيبقى أب.. ولازم عليّا أزور اخويا ومراته وابارك لهم بنفسي."
لم يأتها الرد وإنما عمّ السكون الذي تقطعه أنفاسه المتلاحقة باضطراب فأعتقدت ان هناك خطأ بالشبكة حيث قالت:
_ "ابراهيم سامعني؟ قول رأيك!"
أسرع يخرج عن شروده قائلا بتيْه:
_ "هه! أ آه طبعا.. روحي."
أجابته بمودّة وامتنان:
_ "تسلم."
**********
_ "يعني إيه عايزني انقل حالة مهمّة زيّ دي للتدريب عندك يا أمان؟!"
هتف بها احمد مستهجنا ليقول أمان مجادلا:
_ "ده المطلوب مني.. وبعدين ما ينفعش اتأخر وانت عارف كويّس الحالات دي بتاخد وقت في العلاج وأهي حالة أدامي ليه أدوّر؟!"
اراح ظهرت على الكرسيّ بينما يقول بحزم:
_ "مش هعرف اقنع دكتور ربيع بكدة."
علا التبرّم بملامح أمان الذي بادر يهتف بغضب:
_ "لا تعرف.. وبالمناسبة الحالة ماتكتبتش باسمه عشان يمنع دكتور غيره يستلمها!"
لمّا وجد احمد على حاله من السكون دون تعليق على تمرّده الدائم على النظام القائم.. فقال بنبرة حاسمة:
_ "كلمة واحدة هتساعدني ولا لأ يا بابا؟"
أخذ يفرك جبهته بتعب قبل أن يقول بامتثال:
_ "حاضر."
**********
علا صوت نغمة موسيقيّة تنبّئها بورود رسالة نصّيّة جديدة فابعدت نظرها عن الحاسوب لتجد اسم فهد يعتلي قائمة الرسائل فضغطت على صندوق رسالته لتجده يقول:
_ "إيه رأيك نتقابل في مطعم .... جديد وبيقولوا أكله هايل."
غلّف الحذر ملامحها بينما تكتب ببطء:
_ "إيه المناسبة؟"
اتتها إجابتهه في اقل من دقيقة:
_ "من غير مناسبة.. مجرد لقاء أصدقاء."
تعلم جيدا ان هناك سبب وراء كل ما يُقام ولكن لا بأس من المسايرة فاقترابها من فهد سيساعد في تقدّمها على كل حال.. ارسلت إليه بإيجاز:
_ "امممم موافقة.. بس نتكلم فيه بصراحة؟"
وكأنه ينتظر الرسالة حتى أجاب على الفور:
_ "بكل صراحة."
**********
عند باب غرفة الحالة ١٢٢ كان ربيع ان يدير المقبض للدخول ولكن سبقه صوت احمد الذي أتى من الخلف مناديا:
_ "دكتور ربيع."
التفت بجسده نحو الطبيب الذي يخبره بعدّة أعوام قائلا بابتسامة ترحيبيّة:
_ "أهلا يا دكتور أحمد."
أجابه احمد بجديّة"
_ "تعالى عايزك في مكتبي."
**********
نهاية أحداث الفصل الثالث والعشرين
إيه رأيكم أمان ممكن ينجح في أد إيه مع نهلة؟ وما تنسوش تقولولي رأيكم في مفاجأة وتين وبدر
آراءكم وتوقعاتكم تهمني
#إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now