الفصل الثاني والثلاثين

497 29 10
                                    

32
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثاني والثلاثين"
(دائرة غير مُغلَقة)
**********
جلست على مقربة منه كي ترقب معالمه عن كثب.. كم هو مهموم تعلو غمامة الألم وجهه في حين ينظر إلى الفراغ بشرود.. وليس ذلك عليه بحديث.. فمنذ قابلته قبل ساعتيْن والحزن يثقل على صدره.. ابتداء من دخوله إلى المقابر.. ومرورا بصلاته وقراءة بعضا من آيات الذكر الحكيم علّها تكون لروح والده شفاء.. حتى بسط رفع يديه نحو السماء داعيا متضرّعا لنجاة والده من العذاب.. شقّ السكون صوتها بينما تقول بشيء من الشفقة:
_ "فاكر أيامك معاه؟"
أماء برأسه دون أن يغادر الوجوم ملامحه حسرة على ذهاب والده.. فلا يستطيع أيٌّ كان تعويض الأب وحنانه.. وهو ما يشعر به نائل حيال فقد والده وما يتسبّب بالطّبع بنظرته الغير راضية ليونس.. هذا ما دار بخلد نيروز بينما تحدّق به بهدوء حتى فاجأها بقوله بمرارة:
_ "لحقت اشوفه لما كان قاعد في البيت وامي هي اللي تخرج وتشقى.. ولمّا ترجع كان يعذّب فيها لحد ما ياخد اللي معاها! لحقت اشوفه لما كان عمره ما فاكرني والكاس كان أهمّ عنده منّي.. لحقت اشوفه لما كان بيعلّم حزامه على جلد أمّي!"
قطبت حاجبيْها بينما تسأله بتلقائيّة:
_ "ولمّا انت شوفت ده بنفسك لسّة بتزوره؟!"
تسلّل صوت زفرته الحارّة إلى أذنها أتبعها حديثه ناطقا بهدوء:
_ "شيء من جوايا مخليني افتكر له الخير وبس.. لإن فات الأوان على إني أعاتبه وماليش اني اعاقبه.. هو بين إيدين رب كريم ومالهوش عندي غير الدعاء!"
همهمت بصوت شبه مسموع:
_ "يا بخته."
التفت إليها بمعالم متسائلة عمّا تمتمت به الآن فأسرعت ترسم الابتسامة على وجهها قائلة برضا:
_ "إنت الوحيد اللي بدعواتك تخفّف من عقابه.. ربنا يرحمه ويغفر له."
_ "آمين."
وقبل أن يسمح لتأثّره بأن يغلب على محابسه فتنهمر الدموع على وجنتيه أسرع غلى الهروب بأن وقف قائلا:
_ "يالّا عشان نمشي قبل ما الوقت يأخّر."
**********
انتهت وجبة العشاء بالمائدة التي كان يترأسها الطبيب أحمد وعلى يمينه ابنه أمان.. وفي الجهة الأخرى يجلس الضيفان كريم وابنته هند التي لا تعدّ ابنة خالة أمان وحسب.. بل من أكثر المُقرّبين إليه..
وضعت الخادمة كوبيْ الشاي على المنضدة أمام كل من هند وأمان الذي حدق بها متسائلا:
_ "إيه أخبار التكليف يا دكتور؟"
التفتت إليه قائلة بابتسامة:
_ "لسّة واصلّي جواب التعيين في مستشفى قريبة من هنا."
أكمل السؤال بقوله:
_ "والدراسات؟"
_ "لسة ما بدأتش."
ركّز انتباهه إليها قائلا:
_ "تحبي تشتغلي جنب المستشفى الحكومي؟"
التفتت إليه بتعجب ثم سرعان ما استطردت بحماٍس:
_ "ياريــت! بس مين اللي يشغّل دكتور علاج طبيعي من غير ماجستير عالأقل؟"
ابتسم من جانب ثغره حتى حفرت غمازته الساحرة بين شعيرات ذقنه قائلا ببساطة:
_ "سيبي الموضوع ده عليّا."
أماءت برأسها بينما تقول بسعادة:
_ "قشطا يا دوك."
**********
انتهت وتين من تناول جرعة الأدوية الخاصة قبيل النوم قبل أن تتّكئ على السرير كي تريح ظهرها الذي تشعر بوخزات الألم فيه في الفترة الماضية.. نظرت نحو الباب لتجد بدر قد دلف حتى جلس إلى جانبها من الناحية الأخرى.. لم تعره اهتماما حيث أرادت أن تنتهي الليلة دون أيّ نقاش يفتعله بينهما كالعادة.. ولكن سرعان ما أخفق تخطيطها حين قال:
_"علفكرة.. أنا نسيت اقولك ان بكرة حفلة تخرّج شذا."
تهلّلت أساريرها والتمع السرور بعينيها حيث التفتت نحوه قائلة بفرحة:
_ "بجد؟! ألف ألف مبروك."
ثم سرعان ما تساءلت باهتمام:
_ "بس هي ما اتصلتش بيّا حتى!"
أجابها بدر ببساطة:
_ "ولا بيّا.. إللي عرّفني إبراهيم."
سلّطت بنيّتيها بمعالم وجهه التي يبدو عليها عدم الاكتراث لتقول بهدوء:
_ "يا رب تكون كل حاجة تمام."
يعلم جيّدا أن لا تزال أخته على خلاف معه بسبب زواجه المفاجئ ومن بعه التشكيك بزوجها ووفائه ولذلك تولّى إبراهيم إبلاغه ويونس.. ولكن كيف يخبر ذلك لوتين وقد كان جزء من العقبات يخصّها؟ اكتفى بإيماءة من رأسه ناطقا:
_ "إن شاء الله."
ثم سرعان ما استطرد قائلا:
_ "المهم جهزي نفسك عشان تيجي معايا بكرة."
_ "أنا؟!"
قالتها بتساؤل يتخلّله التعجّب ليومئ برأسه قائلا:
_ "أيوة طبعا.. هروح أنا وأبويا وأمي ولازم تيجي معانا."
سرعان ما تلاشت البهجة واختفى الحماس من عينيها حيث انزَوَت بعيدا بينما تفكّر بمن سيحضرون غدا في هذا الحدث.. إبراهيم ووالديْه أو بالأحرى تسميتهم عائلة الزوجة الأولى لبدر والتي حلّت وتين مكانها ولم ينسَ أيّا منهم حقيقة ما قام به بدر حتى الآن.. يعتقدون أنه فعل ذلك لأجل إمتاع نفسه وتكوين أسرة غير مبالٍ بتلك التي توفيت لأجله.. ولا يعرفون السبب الكامن في ذلك أو العشق الدّفين بقلبه لأجل تلك الفقيدة.. وإن رأوا وتين سيتفاقم غضبهم منه وعليها أن تردع ذلك..
_ "في الحقيقة مش هقدر اجي يا بدر."
تفوّهت بها بخمول ليسرع بدر إلى سؤالها مستنكرا:
_ "ليه؟!"
جالت عينيها بأرجاء الغرفة هربا من نظراته الثاقبة بينما تقول بشيء من التردّد:
_ "لإن.. أصل أنا تعبانة وعلطول بدوخ من الحمل.. ده غير ان معاد المتابعة بكرة!"
كانت تلك الكلمات كفيلة بإقناعه حيث قال بجديّة متذكّرا:
_ "أيوة صحيح كنت هنسى!"
ثم أكمل بابتسامة:
_ "ولا يهمّك خالص.. خلّيكي وانا هقولها انك مش قادرة تيجي واستنّي لحد مارجع عشان اخدك للدكتور.. وياريت لو تفضلي في البيت لحد ماجي."
أماءت برأسها مردفة بطاعة:
_ "حاضر."
اتّكأ على السرير بينما يجذب طرف الغطاء عليه قائلا:
_ "تصبحي على خير."
تنفّست الصعداء وهي تجيبه براحة:
_ "وانت من أهله."
**********
انتهى حفل تسليم الجوائز والشهادات وأسرع الطلاب والطالبات بالاتّجاه إلى ذويهم لتهنئتهم بهذا النجاح.. ومن بينهم شذا التي شرعت في الخروج من القاعة لتجده يقف على مقربة من البوّابة وكأنّه كان بانتظارها.. توقّفت للحظات بفعل من كبريائها الذي أخبرها أن تمتنع عن الاقتراب منه بعد حجم الجراح الذي تسبّب به لها.. سرعان ما تبدّد هذا الفكر ما أن رأته يبسط ذراعيْه بالهواء والسرور يغلّف ملامحه بينما يرمقها بحب.. فأسرعت صوبه راكضة حتى ارتطمت بصدره ليحتويها بحضنه الدّافئ بينما يهمس في أذنها بتأييد:
_ "ألف مبروك يا حبيبتي."
_ "شذا يونس عمران."
أفاقت من شرودها مع صوت الأستاذة التي نادت باسمها وتردّد صداه مع مكبّر الصوت تلاه صوت التصفيق فعرفت أنها الآن بأرض الواقع وما حدث قبل قليل لم يكن سوى ضربا من الخيال.. فقامت عن مكانها وتصعد إلى المنصّة لتسلّم شهادتها.. وعلى الرغم من التوتّر الذي زلزل أطرافها جرّاء الوقوف أمام الأساتذة إلا أن بوادر الفخر والاعتزاز تكسو وجهها وقد استطاعت تحقيق الخطوة الأخيرة لنيل الجائزة على ستّة عشر عاما من الكدّ في مراحل التعليم المختلفة..
انتهى الحفل وبدأ الطلاب بالخروج تباعا.. من بينهم شذا التي ما أن خرجت حتى اتّسعت ابتسامتها ما أن رأت أسرتها بانتظارها.. يونس ونجلاء وبدر ينتظرونها والسعادة تغلّف وجوههم إلى جانب زوجها وأسرته.. أسرعت نحو والدها كي تحتضنه بقوّة تفصح عن القليل من اشتياقها لهم.. كم ودّت زيارتهم ودعوتهم ولكن منذ تلك المحادثة الأخيرة مع إبراهيم وهي ليست على ما يرام بتاتا.. وجيّد أن إبراهيم نال المهمة عنها وأخبرهم لئلّا تشعر بالمزيد من الحرج خاصّة مع أخيها.. انتبهت إلى صوت والدها وهو يقول مهنّئا:
_ "ألف مبروك يا حبيبتي."
ابتعدت عنه ببطء بينما تقول بسعادة:
_ "الله يبارك فيك."
ومن بعده عانقتها نجلاء بحفاوة وبدر ينتظر ولا تزال الابتسامة مرتسمة على وجهه دون أن يُنتقص منها.. ابتعدت عن نجلاء ثم نظرت إليه بسرور يخفت الحرج بريقه فيسرع إلى احتضانها بقوّة فتبادله العناق.. ابتعد عنها بعد قليل ليقول وعيناه تشعّان فخرا:
_ "والله وشفتك خرّيجة يا قمري."
نظرت إليه بسعادة قبل أن تعود إلى أحضانه طالبة المزيد من الدّفء بينما تنطق بسعادة:
_ "ربنا يحفظك ليا يا اخويا."
وهكذا انتهت تهانئهم لها حتى قرروا جميعا الذهاب إلى مطعم للاحتفال بتلك المناسبة السعيدة..
الأفواه تلوك الطعام دون الشعور بمذاقه.. الأحاديث الدائرة بينهم يقطع فحواها منحىً آخر.. الابتسامات المغلّفة معالمهم تخفي في طيّاتها الكثير.. النظرات تنتقل يُمنة ويُسرة ولكل منهم أسبابه في الحيرة والعَجَب.. فهذه خيريّة التي باتت نظرتها إلى بدر تتّسم بالنقاء أكثر من السابق.. بعد ما عرفت من حقيقة مؤلمة واضطرت طوعا إلى تقبّلها.. وما عاد لبدر الذنب كما كان.. وإلى جانبها يجلس علاء الذي كان ينقل بصره بين بدر وأبيه ويكاد التّشتّت يذهب بعقله.. فإن كان لبدر مبرّره الوهميّ بالزواج مجدّدا لنسيان خطأ تقوى.. فهل كان يونس بالفعل يعاني من تربية الأولاد ولخوفه عليهم تزوّج من نجلاء؟! وعلى الجانب الآخر لم تزح شذا عيناها عن أخيها الذي كان يتكلم دون أن يفسد الحزن حبوره.. ودون أن يحكم غضبه عليه بعدما اقترفت شذا معه.. لقد ظلمته كثيرا حين ظنّت كونه غير وافٍ لزوجته الأولى واتّضح أنه يضرب به المثل في التحمّل ومواراة ألمه عن الأنظار.. تأسف كثيرا عمّا فعلت وتعلم أن لأخيها قلب كبير يتّسع لمسامحتها دون الحاجة لاعتذار.. ولكن ستكون أكثر تهذيبا من ذلك لأجله ولأجل زوجته.. حادت عيناها نحو إبراهيم جانبها وغمامة من النزق والعتاب غلّفت وجهها.. فلم يقبل على عناقها بل أظهر البرود لها بمصافحة عاديّة.. على خلاف ما دار بعقلها الباطن لتقول في نفسها بحزن:
_ "حتى ما بيّنتش إنك مهتم بيّا! للدرجة دي بتكرهني؟!"
وفي ذات الأثناء ابتلع إبراهيم مضغة الطعام التي كانت بين أسنانه ليقول على لسان حاله وكأنّه يحادثها:
_ "مالكيش نفس حتى تبتسمي لي أدامهم! للدرجة دي إنتي زعلانة مني؟!"
وهذا هو الشقاق القائم على سبب غير ظاهر.. فهي تنتظر المبادرة بالاهتمام وهو يخشى القيام بذلك حتى يتأكّد من كونها سامحته فأصبح الخلاف بينهما يسير في دائرة غير مُغلَقة..
**********
_ "إنتي طلعتي شاطرة في المطبخ يا وتين!"
قالتها نيروز بينما تراقب وتين التي كانت تقلب الطعام بالإناء بمهارة ورائحته الزكيّة التي عمّت الأرجاء حولهما.. ابتسمت وتين برقّة قائلة:
_ "البركة في الست الوالدة.. أيْ نعم كانت بتسيبنا على راحتنا بس في أساسيّات اتعلمناها ما ينفعش نبعد عنها."
لما وجدت الاهتمام ينبثق من نظراتها إشارة إلى الإكمال استرسلت موضّحة:
_ "يعني مثلا.. لازم تعملي لجوزك الأكل اللي بيحبه عشان يحسّ انك مهتمة بيه وتقدميه قدامه بنفسك عشان يحلوّ فــ عنيه."
مطّت شفتيْها بحزن بينما تقول:
_ "بس انا مابعرفش اعمل أيّ حاجة خالص يبقى ازاي هيحبه؟!"
أجابتها وتين ببساطة:
_ "اتعلّمي إيه المشكلة يعني؟! الموضوع محتاج شويّة حنيّة وحب عشان الوصفة تطلع مظبوطة وحبّة فــ حبّة هتفهمي سرّ الوصفة."
عادت الابتسامة إلى ثغر نيروز بينما تقول بحماس:
_ "أنا هتعلم منك خلاص."
تحدثت وتين بنبرة حانية:
_ "أنا فــ خدمتك في أيّ وقت يا قمري."
ما أن انتهت بها حتى دلفت نجلاء إلى المطبخ بينما تقول:
_ "مساء الخير يا بنات!"
التفتت كلتاهما إلى مصدر الصوت ثم تجيبان:
_ "مساء النور."
اقتربت منهما بينما تقول بإعجاب:
_ "الله! ريحة الأكل تجنّن."
أجابتها نيروز بابتسامة واسعة:
_ "الشيف وتين هي اللي أصرّت تعمل الأكل النهاردة."
ربتت نجلاء على كتف وتين برقّة بينما تقول وبريق السعادة ملتمع بعينيها:
_ "ما شاء الله عليكي يا حبيبتي."
_ "تسلميلي يا طنط."
نطقت بها وتين ثم سرعان ما استطردت:
_ "هو بدر رجع؟"
أماءت نجلاء برأسها ثم أرفت:
_ "أيوة بيقول مستنّيكي برّة.. إنتو رايحين حتة؟"
أجابتها وتين بجديّة:
_ "أيوة النهاردة 12 معاد المتابعة."
صمتت نجلاء للحظات قبل أن تنطق بدهشة:
_ "يا خبر 12!"
أثار ذهولها تساؤلا بذهنيهما لتسرع نيروز بالسؤال باهتمام:
_ "في إيه يا طنط؟"
التفتت إليها نجلاء قائلة بشيء من الحزن:
_ "انا كنت هنسى ان عيد ميلاد نائل بكرة."
اعتلت البهجة معالم وتين بينما تقول بسرور:
_ "إيه ده بجد! كل سنة وهو طيب."
وجهت إليها نجلاء الحديث بابتسامة:
_ "وانتي طيبة يا حبيبتي.. أهو موضوعك فكّرني اعملّه الحلو زيّ ما بيحب كل سنة."
وهنا حانت لحظة أن تخرج نيروز عن سكونها لتهتف بشيء من الدهشة:
_ "وليه يكون حلو بس ما تعمليله عيد ميلاد؟"
التفتت برأسها نحو نيروز وكل ما للدهشة كامن بوجهها حيث تنطق باستنكار:
_ "إيه؟"
تلعثمت نيروز عن الإجابة وقد احتلّ الارتباك معالمها.. فكيف لها أن تنطق بعد هذا الاقتراح الغير مألوف في العائلة؟ أحسّت وتين بما تواجهه نيروز في تلك اللحظة فأسرعت إلى إنقاذها قائلة:
_ "أيوة عيد ميلاد نتجمع فيه ونائل يحسّ بالفرحة وسطنا.. بذمتك مش كدة أحسن؟"
عادت الابتسامة تشقّ طريقها إلى ثغر نجلاء التي شعرت بالسعادة تداعبها لمجرّد اهتمام الموجودين لأمر ابنها.. فقالت موافقة:
_ "أحسن يا وتين!"
ابتعدت وتين إلى الخلف مستأذنة:
_ "بعد إذنكم هلحق البس.. ومع بعض من بكرة الصبح."
_ "إن شاء الله."
قالتها نجلاء ولا زالت ملامحها متوهّجة من فرط سعادتها في حين بقيت نيروز على حالها من الهدوء محاولة الهروب من نظرات وتين التي حدجتها بها قبل أن تخرج وكأنّ هناك مغزى تريد إيصاله ولكن لم تفلح بعد..
**********
طرقتين صغيرتين على باب الغرفة أتبعهما بدخوله دون انتظار الإجابة حيث من بالداخل يصعب الحصول منها على إجابة شفهيّة أو جسدية.. ما ان دخل حتى قال بابتسامته المعهودة:
_ "مساء الخير يا مدام نهلة."
لم تنظر إليه نهلة وإنما بقيت على حالها من الشرود وكأنها ليست بمزاج يسمح لها بتشغيل حواسّها.. ولكن لا إراديا انجذب انتباهها نحو الرجال الذين دلفوا من بعده وهم يحملون علبة كرتونيّة مربعة الشكل وخلفهم أتت الممرضة نادية التي كانت تنظر إلى الجال متسائلة:
_ "إيه ده يا دكتور؟"
يبدو أنها خطّة جديدة أقدم عليها أمان دون أن يخبر أحدا كعادته!
أجابها أمان بتلقائيّة:
_ "هيكون إيه؟ تليفزيون!"
اتّسعت عيناها بقوّة بينما تلتفت برأسها نحو أمان الذي لم يُنقَل بصره عنها حتى مع سؤال نادية المشدوهة:
_ "لمدام نهلة؟!"
أماء برأسه قائلا:
_ "أيوة.. قلت بدل الملل لازم يكون في حاجة تسلّيها."
ثم أكمل حديثه موجّها إياه لنهلة:
_ "إيه رأيك يا مدام؟ بتحبي التليفزيون؟"
لم تجبه أو بالأحرى ليس باستطاعتها إبداء ردّ فعل في الوقت الراهن خاصّة وأن صدمها هذا بما لم يكن بمحيط حسبانها.. أحضر شيئا جديدا لأجلها خصّيصا! أيعقل كما كان اهتمامه بعلاجها الآن يصنع ما يسهم في ملء فراغها؟ إنه لأمر يستحق العجب!
زمّ شفتيْه بحزن مصطنع بينما يقول مازحا:
_ "يعني أنا أدوخ الــ7 دوخات عشان اجيب إذن وادخّل التليفزيون واركّب الدّش وفي الآخر ماسمعش شكر! يا أخي قدّرني حتى لو هتشتمني!"
لم تستطع كبح ضحكاتها من طريقته الطريفة أثناء المزاح فافترشت الضحكة شغرها وقد عمّت البهجة بعينيها.. فرحا بأن تعود لمشاهدة التلفاز بعدما نسيت كيف شكله منذ شهور.. وعدم تصديق بأن ترى مثل هذا الاهتمام بتلك المشفى التي أحبّت البقاء بها حتى وإن كانت مريضة..
**********
_ "وتين رياض."
التفت كلاهما مع صوت الممرضة فور نطقها لاسم الحالة المُدوّنة بالفحص وقد حان دورها.. وقفا ليتقدّمها بدر ثم يجذب يدها حاثّاإياها على التقدّم.. تحركت خلفه بخطوات مرتجفة بينما تنظر إليه بتعجّب وقد أصابها التوتّر من نظرات الباقين حولهما.. ومنذ متى يتصرف معها بهذا الشكل؟ لقد بات بدر يشكّل أكبر الألغاز في حياتها!
ما أن دلفا حتى استقبلتهما الطبيبة ببشاشة قائلة:
_ "أهلا بيكي يا مدام وتين."
جلست وتين على الكرسي ومقابلها بدر بينما بدأت الطبيبة حديثها بعمليّة:
_ "ها إيه الأخبار؟"
أجابتها وتين باختصار:
_ "علطول بحسّ بدوخة."
وقفت الطبيبة عن مكانها قائلة:
_ "اتفضلي عالسرير."
كشفت عن بطنها بتوتر وللمرّة الأولى تشعر بأنها محاصرة مع وجود بدر إلى جانبها أثناء فحص أشعّة السونار.. ولكن ما باليد حيلة.. فقد حكم بالمجيء ونفذ أمره دون تردّد.. بدأ الجهاز بإحضار صورة للجنين وحركته العشوائيّة داخل رحمها لتتهلّل أسارير وتين تلقائيّا.. فدوما تعشق اللحظات التي تأتي فيها وترى التقدّم الذي وصل إليه جسد طفلها الصغير.. ولم تكن تلك حالتها فقط.. حيث رفرفت السعادة حول بدر الذي كان ينظر نحو الجهاز وغمامة من دموع الفرح عمّت عينيه.. التفت إلى صوت الطبيبة قائلة:
_ "حضرتك أول مرّة تشوف البيبي؟"
التفّت رأسها نحو بدر لتجد معالمه المتوهّجة فرحا مما أثار التساؤل بعقلها.. يبدو عليه السعادة والبهجة! أيعقل أنه متحمّس لمجيء هذا الطفل منها هي وليس تقوى!! أجاب بدر مع إيماءة من رأسه دون أن يجد القدرة على أن ينبس ببنت شفة.. ما أن انتهى الفحص حتى عاد ثلاثتهم إلى المكتب لتقول الطبيبة بينما تمسك بالقلم بين أناملها:
_ "الجنين تمام.. بس لازم تتغذّي لإن الضعف ده مش كويس خالص."
تحدث بدر بالنيابة عنها شاكيا:
_ "ما بترضاش تاكل أبدا يا دكتور!"
نظرت إليه الطبيبة قائلة بابتسامة:
_ "مهمّتك تساعدها يا أستاذ.. الحمل ما بيبقاش مسؤوليّة عالسّت وبس.. لازم الرّاجل كمان ياخد باله من أكلها."
أماء برأسه إيجابا ثم التفت برأسه نحو وتين التي كانت غرقة في مزيج من التعجّب ليقول بدر بتأكيد:
_ "حاضر أكيد."
**********
نهاية أحداث الفصل الثاني والثلاثين
يا ترى القنبلة اللي جايّة هتبقى بخصوص مين؟
ده اللي هنشوفه في الفصل القادم من #اغتصاب_لرد_الاعتبار و همسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن