الفصل الخامس والأربعين

520 19 10
                                    

45
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الخامس والأربعين."
(الشوكة السابعة)

**********
_ "أهلا يا بنتي اتفضلي."
نطقت بها خيريّة بنبرة هادئة بينما تتقدّم نحوها تبعها علاء الذي لم تحِد عيناه الحادّتان عن تلك الفتاة والدهشة تكسو ملامحه.. فما قد يدفع تلك الفتاة إلى المجيء إلى هذا البيت وهي على علم جيّدا بمن فيه فضلا عن المشاعر المكنونة صوبها؟! جلس إلى جانب خيريّة بينما يرمق وتين ليجدها تفرك يديها بتوتّر قبل أن تقول بثبات ظاهريّ:
_ "عارفة اني جيت من غير معاد.. بس الصراحة انا عارفة كمان ان شذا مش موجودة النهاردة وفي بيت عمو.. وانا مش عايزاها تعرف اني جيت النهاردة لإني هتكلم معاكم انتم بس."
تحدث باهتمام:
_ "اتفضلي."
ظلّ بصرها معلّقا بالأرض بينما تردف بنبرة خاملة:
_ "عارفة اني السبب في بعدكم عن بدر لما اتجوزني بعد وفاة تقوى بفترة بسيطة.. وده كمان كان السبب في مشاكل ما بين إبراهيم وشذا علطول.. وانا عارفة كل حاجة مع أن ماحدش اتكلم ادامي."
ثم رفعت رأسها كي تنقل بصرها بينهما لتجد الحزن يكلّل معالمهما خاصة بعد ذكرها لفقيدتهما الغالية.. فأردفت بحزن:
_ "بس انا عندي إحساس بكل حاجة.. وكنت بحاول أخبّي عشان مازيدش حمول على بدر.. بس خلاص أنا هسيبه قريّب."
اتسعت عينا خيريّة بصدمة يتخلّلها التساؤل بينما تكمل وتين بجديّة:
_ "وقبل ماعمل كدة لازم اصلّح سوء الفهم اللي حصل بسببي.. عشان إنتم فاكرين إن بدر اتجوّزني بسرعة وتعمّد يهين تقوى الله يرحمها وعشان كدة إنتم واخدين منه موقف."
أجل كان هذا السبب الحقيقيّ وراء نفورهما منه حتى أوضح إبراهيم ما اقترفته تقوى من خطأ جسيم بقه.. فما عادا يقويان على النظر إليه بل يكفي رضاهما على زواجه بتلك الجديدة وإن كانا مكلومين لفقد تقوى وعدم عودتها من جديد كي يعاتبانها على ما أقدمت عليه.. انتشلتهما وتين قائلة بدفاع:
_ "بدر ما يستاهلش تزعلوا منه أبدا.. بدر ده أكتر إنسان محترم شفته فــ حياتي.. بدر عمره ما شاف شخص محتاج مساعدة ومالحقهوش.. فما بال بابايا أنا اللي كانت جمايله كتير على بدر!"
غامت سحابة من الدمع حول عينيها بينما تنطق بحسرة يكبّلها الخزيْ:
_ "هو اتجوّزني عشان ينقذني فــ وقت سابني فيه خطيبي.. كل اللي عمله من ناحية الإنسانيّة وبس.. ولولا ده كان مستحيل يتجوّزني.. لإني كنت بعتبره أخ وصديق."
رقّت نظرات خيريّة إلى تلك الصغيرة المهمومة التي اتّضح ما لم يدُر بتوقعاتهما أبدا.. إنها كانت بحاجة لتلك الزيجة وما أتى ذلك إلا لأمر متعجّل.. تماما كما فعل مع ابنتهما تقوى حين تعرّضت للحادث ولم يسمح بافتضاح أمرها أمام الباقين بل عرض عليها الزواج رغم أنف كرامته الجريحة وفؤاده المفطور.. ولم يفعل ذلك لرد جميل احتمالها الرصاصات عوضا عنه.. بل هي فطرة جُبِلَ عليها ولن تتغيّر لأيّ عارض مهما كان قوته.. والآن تؤكّد تلك الشابّة هذه الحقيقة.. أسرعت بتجفيف عينيها كابحة عبراتها عن الخروج ثم وقفت عن مجلسها قائلة بعبوس:
_ "أنا هختفي من حياته قريّب وكلي رجاء انكم تنسوا كل حاجة وترجعوا تتقرّبوا من بدر تاني لإنه ما يستاهلش المقاطعة."
وقف كلاهما بينما ينظران إليها وكأن على رأسيْهما الطير في حين التفّت وتين وهي تطرق برأسها هاربة من نظراتهما المشفقة بينما تقول بخفوت:
_ "بعد إذنكم."
سارت إلى الأمام بخطوات بطيئة أثقلتها الهموم المتضاربة.. بين حقائق متعدّدة أقساها فراق عزيزها بدر.. ولكن مصلحته فوق كل شيء.. وهي قوانين المحبّين.. ستضعه في مقدّمة أولوياتها دون العبء بسعادتها هي..
_ "حبيبتي."
توقّفت فجأة مع لمسة رفيقة على كتفها مع صوت خيرية وهي تفتئ بتلك الكلمة الحنونة.. فتوقّفت مكانها دون أن تستدير لكي لا ترى الضعف الذي اعتراها في حين تكمل خيريّة بنبرة صادقة:
_ "بدر جدع وابن أصول وابوه ربّاه على الخير.. ماتفرّطيش فــيه يا بنتي."
اتّسعت مقلتاها بدهشة غير مصدّقة ما لاح إلى مسمعها في تلك اللحظة من فيه السيّدة خيريّة.. إنها آخر من تسمع منه تلك الكلمات! فهي توصيها بأن تظل مع بدر ولا تخسره! حتما يوجد شيء خاطئ! التفّت بكامل جسدها كي تنظر إلى خيريّة والبهوت يكلّل معالمها بينما تقول الأخيرة بتأكيد:
_ "أنا كنت اتمنّى واحد زيّه لبنتي وانتي زيّ بنتي بالظبط وبترجّاكي تراجعي نفسك وتنسي أيّ مشاكل بينكم وترجعيله.."
ووسط الدهشة التي تعتريها أكمل علاء بنبرة هادئة خالية من المعالم:
_ "أنا سمعت عنك وعن أبوكي كتير.. إنتي طيبة وتستاهلي كل خير.. وبدر مش هيلاقي أحسن منك."
طالعتهما بنظرات ملتمعة بمزيج من الحيرة والإعجاب.. كانت مذهولة إلى حدّ لم تستطِع أن تنطق بكلمة أخرى فاكتفت بالإيماء برأسها ثم أكملت طريقها بالانصراف.. وما أن خرجت من الغرفة حتى تسمّرت مكانها حيث وجدت إبراهيم يقف بالقرب من الباب وحلقة حمراء تغلّف عينيه الزرقاوتيْن بينما ينظر إليها بحزن وأسى فاستنتجت كونه استمع إلى كل ما قيل بالداخل.. فأشاحت بوجهها متّجهة إلى الخارج تحت نظراته الثاقبة.. أجفل مع صوته والدته التي أطلقت العنان لبكائها مع صرخة تمتلئ بالقهر..
_ "آاااه!"
أسرع بالدخول على عجلة كي يرى ما ألمّ بوالدته التي جلست على الأريكة بينما تذرف العبرات بحسرة وعلاء ينظر إليها بقلق قائلا:
_ "خيريّة!"
أجابته بصوت متقطّع يتخلّله البكاء:
_ "كان نفسي قعدتها تطول يا علاء! كان نفسي أوي اخدها فــ حضني."
ثم طالعته بنظراتها الدامعة بينما تنطق بألم:
_ "حسيت تقوى اللي كانت قاعدة أدامي وبتتكلم!"
جلس إبراهيم إلى جانبها وربت على كتفها قائلا بشرود:
_ "مش لوحدك يا أمي."
أجل لم تكن الوحيدة التي شعرت بذلك.. وقد سبقها إبراهيم قبلا منذ رآها لأول مرة في الزفاف.. فلم يكن يرى السيّدة وتين بل كانت أخته تتجسّد له بها.. دوما كانت تُشبّه له بأختها رغم الاختلاف الشّاسع بينهما في المعالم.. حين حضرت زفافه.. حين قام بمداواتها.. والآن مع زيارتها المفاجئة! دوما كان يرى الفقيدة بها ولعلّ ذلك يرجع إلى شدّة اشتياقه إليها.. ولكن اتّضح أن ذلك لم يكن شعوره وحده بل شاركه بذلك والداه اللذان تولّيا أمر نصحها والعودة عمّا يجول برأسها من ترك بدر دون أن يعلما السبب الحقيقيّ وراء ذلك.. أخبراها بفعل الصواب وكأن تقوى تقف أمامهما وليست بأحضان التراب! أما من جانبه فهو على يقين بكون موقفها من بدر أتى بعد فقدهما للصغير الذي كان يربطهما والذي لم يتمكن هو من إنقاذه.. وبعد أيام طوال من التحامل على بدر.. يشعر للمرة الأولى بالشفقة عليه ويتمنّى حقا أن تعود المياه إلى مجاريها بعلاقته مع زوجته الجديدة..
*********
انتهت وتين من هذه المقابلة مع عائلة تقوى.. لتتّجه إلى مكان آخر يعدّ البقاء فيه دون انهيار أكبر تحدٍّ على الإطلاق.. ولكن عليها بخوض المخاطرة وإلا لن ترتاح أبدا.. بخطوات وئيدة اجتازت بوّابة مشفى الأمراض العصبيّة تاركة ريم بعدما أوصتها بانتظارها.. شعرت بزيادة تجمّد الدماء في عروقها كلما تقدّمت خطوة اخرى نحو الداخل.. بصعوبة استطاعت بلوغ مكتب الاستعلامات لتتوقّف مكانها بينما تحاول جاهدة تهدئة نبضاتها المندفعة بخوف.. انتبهت إلى صوت الموظّفة قائلة:
_ "أقدر اساعدك يا فندم؟"
حمحمت مجلية صوتها بينما تنطق باهتزاز:
_ "فين مدام نهلة زاهر؟"
اعتلت بسمة هادئة شدق الموظفة وقد عرفت سريعا هويّة تلك الحالة المميّزة والتي كانت أخبارها منتشرة لفترة طويلة قبل أن تنطفئ شرارة الحديث عنها وتؤول محلّها الجديد من الأخبار المشتعلة.. فأجابتها بنبرة عمليّة:
_ "مدام نهلة مش في الجناح دلوقتي يا فندم.. موجودة في الجنينة برّة."
أماءت برأسها بينما تقول بمجاملة:
_ "طيب شكرا."
عادت أدراجها بهدوء حتى بقيت في الحديقة تتأمّل المرضى الموجودين بالخارج والذين ينالون معاملة خاصّة ويحتاجون إلى الخروج يوميّا.. فتنفّس الهواء النقيّ يزيد من درجة وفود الأكسجين كما ان أشعة الشمس تمدّ الجسد بالكمّيّة اللازمة من فيتامين دال والذي ينقص العديد من المرضى.. جالت عيناها عليهم بسرعة حتى استقرّتا على وجهة بعينها حيث تجلس شابّة يافعة على كرسيّ متحرّك.. لم تتبيّن معالمها بوضوح ولكن لحظت هيئتها حيث تسند رأسها إلى كفّها بينما ترمق الشجرة مقابلها بشرود وكأنّها تحفظ تفاصيلها أو تحاول كتابة تقرير عنها.. وخصلات شعرها البنّيّ تتطاير حولها بفعل نسمات الهواء الرقيقة.. لم تعلم إن كانت هي المقصودة بالزيارة ولكن حقّا جذبت انتباهها واسترعت اهتمامها.. لم تخرج عن شرودها إلا مع صوت أحدهم متسائلا:
_ "بتدوري على حاجة يا مدام؟"
أجفلت سريعا ليتشتّت انتباهها عن تلك السيّدة بينما تنظر نحو مصدر الصوت فإذ بصاحبه طبيب صغير السنّ لم يطعن الخامسة والثلاثين عرفت هويّته عن طريق المعطف الأبيض الذي يعتلي ملابسه السوداء.. قالت بتيْه:
_ "هه! هي مش دي برضه نهلة زاهر؟"
أماء برأسه إيجابا بينما يقول:
_ "أيوة حضرتك تعرفيها؟"
لم تستطِع إجابته بل تحوّلت نظراتها من التساؤل إلى الحرج ليتمتم بتفهّم:
_ "يبقى سمعتي عنها من النت!"
أماءت برأسها بشرود ليتأكّد من كونها مثل من سبقها من الزوّار الذين أرادوا الاطمئنان على حالتها من بينهم تلك الصحفيّة التي تحدّثت معها وتمنّت لها بصدق أن تتعافى بسرعة.. وربما مقابلة تلك السيدة معها سيزيد من تحسّنها خاصّة وأن معاملتها باتت جافّة في الأيام الماضية.. فقال بنبرة مشجّعة:
_ "تقدري تتكلمي معاها هي بتحب كدة بس من غير ما تجيبي سيرة الحادثة."
تجاهلت كلماته المحفّزة بقولها متسائلة:
_ "أي أخبار حالتها دلوقتي؟ يا ترى اتحسّنت؟"
اكتسى وجهه بغمامة من الإحباط أتبعها بصوت رخيم:
_ "ماكدبش عليكي.. التحسّن بسيط يا مدام.. استجابت بالانفعال وحركت إيديها.. لكن لا بتتكلم ولا بتحرك رجليها.. مشكلتها نفسيّة بحتة وانا بحاول معاها بس مش مشجّعة!"
أيقنت بكونه الطبيب المشرف على حالتها والذي سمعت من أختها كوه رفض تصويرها بتاتا أو تسريب أيٍّ من أخبارها إلى وسائل الإعلام فقالت بحزن:
_ "هيّ بتهرب من نفسها."
أمعن النظر إليها والاستفهام ارتسم على ملامحه بينما تكمل هي بتأكيد:
_ "وبتهرب من الحقيقة المرّة فــ حياتها.. ومش هترجع إلا لمّا تواجهها."
ولم يزده توضيحها إلا حيرة وتعجّبا.. فكيف استطاعت هذه السيّدة العاديّة أن تشخّص علّتها وتضع لها الحل من تلقاء نفسها إلا إن كانت عاملة في المجال الطبيّ! وحتى إن كان ذلك فلمَ يبدو الشجن بنبرة صوتها؟
حاول تجاهل تساؤلاته بقوله بتردّد:
_ "إنتي إنتي مش ناوية تقابليها؟"
زفرت بحرارة قبل أن تقول بأسى:
_ "ياريت اقدر اقابلها.. بس صعب.. هدعيلها دايما تتحسّن فــ أقرب وقت.. وان شاء الله على إيدك."
ثم تجاوزته قائلة:
_ "بعد إذنك."
وانصرفت إلى حال سبيلها تاركة إيّاه يترقّب طيفها وهو يتخبّط بين أروقة الجهل.. فلأول مرة يفشل في قراءة تعبيرات إحداهنّ! وقد كانت تلك السيّدة التي لا يعرف حتى اسمها أول من يثبت له ذلك.. ما صلتها بنهلة؟ ولم اهتمّت بمعرفة حالتها؟ ولمَ رفضت لقائها واكتفت بمراقبتها من بعيد؟ تساؤلات جمّة دارت بذهنه وانتهت بعلامة استفهام!
**********
في الملهى الليليّ تحديدا بأحد الزوايا.. صاح فهد بأسماء التي تصرّ على الانصراف محاولة التملّص من قبضته المؤلمة ناطقا بنزق:
_ "يا أسماء أقله ردّي عليّا!"
وضعت يدها الأخرى على خصرها بينما تكزّ على أسنانها بغيظ:
_ "ها رديت عايز إيه؟"
ترك ساعدها بينما يحاول التحدث بعقلانيّة قائلا:
_ "بلاش اللي ناوية عليه ده وإلا هتحطّي نفسك فــ مصيبة كبيرة."
_ "آسفة مش هينفع."
نطقت بها بقتامة لتزيد من انفعاله بينما يهتف:
_ "يعني ينفع تضيّعي نفسك؟!"
أجابته بنبرة متهكّمة تحمل الزّجر في طيّاتها:
_ "انا حرّة.. إنت مالك؟ يفرق معاك فــ إيه أضيّع نفسي مع إن قتل أنور فــ مصلحتك؟!"
وهنا لم يتملّك نفسه بل اندفع إلى إمساك ساعديها بين كفّيه بينما يقترب منها ناطقا بإقرار:
_ "يفرق معايا كتير.. لإني ماقدرش اعيش من غيرك."
احتدّت عيناها بقوّة وانفغر فاهها بصدمة بينما تنظر إليه بعدم تصديق لتفتئ بشرود:
_ "إيه؟"
حاول تنظيم أنفاسه اللاهثة بينما يقول مؤكّدا:
_ "أنا بحبك إنتي ومش هسمح بحاجة تإذيكي."
ثم قرّب أنامله من وجنتها اليمنى برقّة متفحّصا ملامحها عن كثب قائلا:
_ "إنتي ملكي."
شعرت بحرارة أنفاسه المضطربة تلفح وجهها لتنتقل ذبذبات اضطرابه إليها حتى فقدت اتّزانها لوهلة وكادت تنسى نفسها.. ولكن سرعان ما استعادت وعيها ونفضت نفسها من أسر مشاعره الملتهبة حيث تبتعد إلى الوراء قائلة بنبرة مقهورة:
_ "يااااه! الكلمة دي جات متأخّر أوي يا فهد بيه!"
أسبلت نظراته بينما يحدّق بها باستفهام فتقول بقتامة:
_ "بعد ما عرفت اللي حصل لابويا وأمّي قلبي اتملى حقد وغلّ وماعادش فيه مكان للحب وكل اللي شايفاه في مستقبلي سواد ويا إما اموت على إيد عشماوي أو رجالة أنور.. لكن حب دي كلمة أكبر مني ممنوع أحسّها!"
أثناها بقوله بتأكيد:
_ "ماتقدريش تنكري انك بتحبيني!"
وهنا أجابته بنبرة صارمة تخلو من الإحساس:
_ "أسماء عمرو يحرم عليها الحب لحد ما تاخد بطارها.. ولو فضلت عايشة يبقى على الله التساهيل."
ولم تمنحه فرصة الرد بل أسرعت إلى الهروب قبل أن يعتريها الضعف مجدّدا فتقع أسيرة لهواه وحبها وتنسى هدفها الأساسيّ بالقصاص من هذا الوغد الذي حرمها متعة الحياة مع والديها.. غادرت تاركة إيّاه يرقب أثرها والحزن يقبع بنظراته.. فهو يعلم جيّدا أن نهاية دربها مأساويّة ستسلب حياتها وهو ما قد يقتله.. فلن يحتمل العيش بدونها وهي من استطاعت أسر فؤاده وجعله يعشقها دون قصد منها.. يعترف بكونه أحبها ويعلم أنها تبادله نفس الشّعور ولكن يقف انتقامها وقفة الأشواك بطريق عشقهما.. أشواك مدبّبة نصالها تمنعه من نيل عشقها.. والآن عليه الاختيار بين الانسحاب ومداواة فؤاده المفطور أو مواجهة هذه الشوكة اللعينة ليعود ظافرا منتصرا أو قتيلا مهزوما..
**********
انتهى نائل من تجفيف شعره المبلّل بالمنشفة ليلقيها جانبا ثم يجلس أمام التلفاز كي يتابع أحد برامجه في محاولة لنيل قسط من الترفيه بعد يوم حافل بالمهام التي أوكلها له حسين.. بينما يقلّب القنوات بملل انجذب انتباهه إلى الكتاب الذي أُهدي له على الكومود.. والذي يحوي قصّة أطفال عنوانها "عشّ البطّ السعيد" تلك القصّة التي لا يعلم حتى الآن هويّة صاحبها.. فقط يعلم الدافع وراء إرسالها وهو أن يتراجع عن تفكيره بشأن مغادرة الفيلا وينسى فكرة اختلافه وإنما هذه فكرة تميّزه بالتأكيد.. إن صاحب هذه القصّة يرجوه بشكل غير مباشر أن يظلّ بالمنزل ولكن من هو يا تُرى؟! وقف عن مكانه ثم التقط الكتاب وأخذ يقلّب صفحاته الواحدة تلوَ الأخرى بينما يعيد قراءة القصّة من جديد باستمتاع.. فقد باتت تلك عادته التي يرجو منها أن يكشف هويّته.. انتهى من قراءة الصفحة الأخيرة ثم أغلق الكتاب وقد علا الخمول ملامحه حيث لم يستطِع التقاط طرف خيط يوصله إلى ضالّته.. وقبل أن يترك الكتاب أسرع إلى فتح الكتاب من جديد كي يعيد قراءة كلمات دُوِّنت بالصفحة الأخيرة فحواها
"مطبعة ...." 
جالت عيناه على الكلمات مرّة واثنين وثلاثا وعقله في رحلة يعصف فيها ذكرياته حيث عاد إلى أحد المشاهد منذ عامين بركن اللوحات وكان هو وحمزة وشذا ونيروز جالسين بينما يتناولون قطع الفواكه.. فانشغل حمزة بمكالمة هاتفيّة بينما قالت شذا بإعجاب:
_ "الأبحاث جامدة.. المطبعة بتاعتك بيّضت وشي يا نيرو!"
أجابتها نيروز بفرحة:
_ "عيب يا بنتي هو انا هجيب لك أيّ حاجة!"
وهنا تولّى نائل زمام الحديث متسائلا:
_ "هو انتي شغّالة في جرنال ولا مطبعة يا فيروز؟!"
انتفخت أوداجها غضبا من هذا الاسم العتيق الذي يتعمّد تسميتها به لتقول بنبرة قاتمة:
_ "يا خفيف الضل أنا شغالة فــ جرنال والجرنال ده تبعه مطبعة بتعمل شغل كتير جدا للجرنال وغير الجرنال ده غير انها بتطبع مجلّة للجرنال كل شهر.. وأيّ حد عايز يعمل كتاب بيعمله من عند المطبعة."
عاد مجدّدا إلى أرض الواقع وقد انتبه توّا إلى أن اسم المطبعة بالكتاب يطابق اسم المطبعة التي تعاملت معها نيروز وطبعت فيها أبحاث شذا.. إذا لم يكن كاتب هذه القصّة إلا نيروز!
*********
في المساء.. دخلت ريم بغرفة أختها لتجدها تقف على سجّادة الصلاة بينما تتلو بعضا من الآيات القرآنيّة بخشوع.. ما أن انتهت حتى همّت بالركوع وتلاها السّجود.. جلست بالقرب منها حتى فرغت من صلاتها لتقول باهتمام ودفء:
_ "إيه أخبارك يا حبيبتي؟ احسن دلوقتي بعد ما قابلتيهم؟"
التفتت إليها وتين بينما تقول بتأكيد:
_ "جدا."
تحدثت ريم بتساؤل:
_ "بس انا مستغربة.. ليه ما قابلتيش نهلة؟!"
شردت وتين مع ذكرى رؤية نهلة لأول مرّة وكيف كانت ملامحها هادئة تخفي الألم بطيّاتها تماما كشعورها الآن.. فأجابت بتبرير:
_ "نهلة إنسانة عاشرت اللي انا شفته واتعذبت زيّي ويمكن أصعب منّي.. لو كنت قرّبت منها وعيني جات فــ عينها كنت هنهار واترمي فــ حضنها لإنها أوّل الوحيدة اللي داقت من اللي انا دوقته.. وهي الوحيدة اللي قلبي بيتقطّع عليها.. لإن يمكن ده جزء من دعايا على جوزها الله يجحمه!"
ثم سلّطت عينيها بخاصتيْ أختها قائلة بتأكيد:
_ "أحسن اني شفتها من بعيد واطمّنت عليها."
لما وجدت الاستجابة من أختها أكملت في التساؤل:
_ "وإيه رأيك فــ ردّ فعل أهل تقوى؟!"
ابتسمت وتين من جانب ثغرها بينما تقول بخفوت:
_ "زيّ ما قلت لك ناس طيّبين مايكرهوش الخير ليّا.. ورغم حزنهم على بنتهم إلا إنهم قالولي أرجع لبدر وانسى مشاكلنا."
_ "وهترجعي؟!"
سألتها بلهفة ليعتلي الخوف ملامح وتين بينما تقول بحيرة:
_ "خايفة أوي!"
ربتت ريم على كتف أختها بتهدئة بينما تقول بنبرة مطمئنة:
_ "مش هقولك حاجة تاني يا وتين.. إنتي بقيتي فاهمة ومش محتاجة حد يعرفك حاجة.. إنتي بس متلخبطة ومحتاجة وقتك في التفكير."
ثم استرسلت تقول بابتهال:
_ "ربنا يكرمك وتختاري الصح."
اعلنت ختام المحادثة عند هذا الحدّ لتترك الغرفة مانحة شقيقتها المزيد من الخصوصية والراحة.. لتعود ريم إلى الشرود بشأن زوجها وحبيب قلبها الذي تخطّى كل الأشواك في سبيل عشقها.. وكلّما نفذ من حاجز بادرت هي بوضع الآخر.. ولذلك اختارت الآن أن تكون هذه نهاية المطاف ولينعم بالسعادة مع زوجة أخرى لا تحمل هذا الكمّ من العقد النفسيّة.. وليفرح بطفله الذي يرجوه من الدنيا والذي عجزت عن الحفاظ عليه لأجل مشاكلها التي لم ولن تنتهي.. حتى وإن كان ذلك على حساب سعادتها الخاصّة..
نفضت الأفكار عن رأسها بأن رفعت يديها إلى السماء ثم نطقت بتضرّع:
_ "يا رب.. احمي بدر واكرمه واكتب له السعادة."
دعت له بالسعادة ولا تعلم أنها سعادته وبدونها لا يدرك الفرح لفؤاده سبيلا!
**********
انتهى عمل أمان منذ فترة طويلة حيث نفذت الحالات التي قدمت إليه اليوم.. ولكن لم يستطِع العودة إلى المنزل وذهنه بالكامل شاردا مع أمر حالته الأكثر تعقيدا والتي شغلت حيّزا كبيرا من تفكيره فضلا عن مكانتها التي احتلّتها قبلا في فؤاده لتصير الرقم واحد بأولويّاته.. التحسّن في تراجع وشغفها للعودة أصبح أقل وما عادت تستسيغ كلماته أبدا.. كلما تشعر أنها على أعتاب الشفاء تعود مائة خطوة إلى الوراء وكأنّ تلك الحادثة خلقت لها هاجسا بعدم التقدّم من جديد.. تماما كما تفوّهت الزائرة الصباحيّة والتي رفضت أن تقابلها.. إنها تهرب من نفسها.. من خوفها.. من مستقبلها.. وإن كانت تعشق طفلتها وترجو العودة لأجلها إلا أن عقدتها من هذا اليوم أضلّ تأثيرا.. قبلت أن تتوقّف عند هذه النقطة ولا تعلم بأنه أكثر الناس تمنّيا بامتثالها للشفاء.. ولن يستسلم عن إخراجها من هذه الحالة سواء برضا منها أو رغما عنها.. فلن يتركها تنال مرادها بالاستسلام..
وبينما يفرك جبهته محاولا التقاط أحد الحلول لاح إلى مسمعه صوت الزائرة بينما تقول بتأكيد:
_ "وبتهرب من الحقيقة المرّة فــ حياتها.. ومش هترجع إلا لمّا تواجهها."
**********
طرق بقبضته على سطح المكتب حتى كاد يهشّمه من فرط قوّته حيث صرخ بالماثل أمامه باستهجان ناهرا:
_ "إنت بتخرّف تقول إيه؟ أسماء مين وطار مين؟ من روفان؟"
اهتزّ هذا الشاب حتى شعر بتخبّط ركبتيْه من شدّة خوفه من بطش أنور بعدما رأى من انفعاله بعدما سمع ليكمل بتلعثم:
_ "و والله سمعتها بودني يا باشا.. بتقول ان اسمها أسماء عمرو وعايزة تـ تاخد بطار ابوها وامها منك إنت."
لوى فمه بسخريّة بينما يقول متسائلا:
_ "أبوها وامها! إيه الكلام د......"
تلعثم لسانه عن إطلاق المزيد بينما احتدّت عيناه فجأة وقد لاح أمر ما أمامه يطابق هذا الكلام.. أمر يحتاج إلى التفحّص والتدقيق بشأنه لذلك طلب العزلة قائلا:
_ "طب اطلع انت دلوقتي."
امتثل لأمره ثم هرول إلى الخارج تاركا هذا الذي بقي على حاله من الصدمة وقد لاح إلى ذهنه مشهد قتله لثنائيّ تسبّب في دمار حياته وإفقاده هويّته.. امرأة صدّته لأجل الشرف فعاقبها بانتهاكه.. وعلى خلاف ما كان معتادا في ذلك العصر قامت بالشكوى ضده وطالبت بحقّها ليظهر دور شهيد الشجاعة كي يقف إلى جانبها ويتعاونا على زجّه بالسجن وانتظار حبل المشنقة لولا أن تمكّن من الهرب في أقرب فرصة.. اختار أن يفقد اسمه الحقيقيّ ويحرق السجلات الخاصّة به من ملفّات الشرطة.. وعاش حياة شبه طبيعيّة ينغّصها تعطّشه للانتقام.. وبالفعل تمّ له ذلك حين قضى عليهما بعد ثلاث سنوات.. ويتم تأييد الجريمة ضد مجهول.. وفي حسبانه وقتها أنه قتل العائلة بأكملها.. الزوج والزوجة وجنينهما.. ولم يبحث عن بقيّة عائلته.. والآن ينطق مساعده بكون روفان تُدعِى أسماء ابنة عمرو.. ترغب للثأر لأجل والديْها! فكيف استطاعت خداعه بهذه الطريقة الذكيّة حتى لا يجد باب للشكّ بأمرها إلا أقفلته؟! أتت إليه لهدف في نفسها ولا تعلم أنها أسقطت نفسها بجحر سام لن تخرج منه إلا جثّة هامدة!
**********
بعد مرور يومين.. دلف أمان إلى داخل غرفة نهلة بعد غياب يومين كرّس فيهم جهوده لتنفيذ الفكرة الجديدة آملا أن تُسهم هذه بشفائها.. فقال بنبرته الحانية التي لطالما عهدتها منه:
_ "إزيّك يا مدام عاملة إيه؟"
أجابته بابتسامة صفراء متكلّفة والتثاقل يعتلي ملامحها برعونة كونها لا ترجو أن يطول بقائه معها على خلاف شعورها سابقا.. فقامت مؤخّرا بزراعة الكثير من الأشواك بطريق مروره إليه خاصّة وأنها شعرت بحياد النبض إليه وهو ما تخشى حدوثه.. فلا ترغب أن تقع بفخّ العشق من جديد حتى وإن رأت فيه اختلافا جذريّا عن الوغد الذي لا يستحقّ ذرة من تضحياتها لأجل سعادته.. أفاقت مع صوت أمان الذي يقف بجانب التلفاز قائلا بابتسامة:
_ "أنا جبت لك مسلسل على ذوقي.. هو قديم حبّتين بس رائع جدا أنا بحبه."
أماءت برأسها بلامبالاة دون الاكتراث بالمعنى الحرفيّ للمسلسل الذي تعب في تحميله لأجل الترفيه عنها كما يفعل دائما.. هذا المسلسل بعنوان "قضيّة رأي عام" بطولة الفنانة يسرا وكوكبة من النجوم اللامعين.. يروي قصّة ثلاث نساء تعرّضن للاغتصاب من ثلاث شباب طائشين.. ولا تصمت الضحايا ويكتفين بلملمة بقايا أنوثتهنّ المجروحة وشرفهنّ الممزّق.. بل يجازفن بالشكوى ضد من سلبوا حقوقهنّ حتى تحوّلت قضيّة الاعتداء إلى رأي عام.. قصة رائعة تناولت هذه القضيّة المخيفة بشكل صريح وكان ذلك سببا في نجاحها باكتساح في رمضان..  
وعلى الرغم من كونها تحب هذه القصّة جدا إلا أنها تعمّدت تجاهل الأحداث في محاولة ضعيفة منها كي ينقطع عن عادة المشاهدة معها ويكتفي بالعلاج الطبيّ كبقيّة المرضى.. ولكن ما لبثت أن فشلت خطّتها سريعا حين استدعى أحد المشاهد انتباهها رغما عنها.. حيث اعترضت سيّارة الشباب سيارة الطبيبة عبلة والسيدتيْن معها.. وقام ثلاثتهم وهو سكارى بارتكاب أفظع جريمة متخفيين بستار الليل.. وانشقّ السكون بصرخات ثلاث نسوة مستنجدين.. بين أستاذة جامعيّة وطالبة امتياز وممرّضة حامل بشهورها الأخيرة.. وعلى الرغم من أنها شاهدت هذا المسلسل مرات عديدة إلا أنها وللمرة الأولى تشعر بازدياد إفراز الأدرينالين بجسدها وأوصالها ترتعد خوفا كأنّها إحدى هؤلاء السيدات.. فلم يذكّرها ذلك إلا بأسوأ ليلة مرّت بحياتها.. تلك التي حوت أفظع كابوس روّع حياتها وقلب كيانها رأسا على عقب.. تسارعت خفقاتها وترقرق الدّمع بعينيها لتطبق يديها على أذنيها في محاولة بئيسة لصدّ الأصوات المستغيثة عن مسمعها.. كان ذلك تحت مرأى أمان الذي كان يلاحظ تحرّكاتها المضطربة مع رؤية وسماع هذا المشهد.. فقام عمدا برفع مستوى الصوت إلى أعلى درجة ليخترق حاجز يديها إلى مسمعها بوضوح فتغمض عينيها بقوّة وفي نفسها ترجو الموت على أن تعود بالذكرى إلى هذه الليلة البغيضة.. وليت المطالب بالتمنّي! فلم تحصل على ما تودّ بل عاد ذهنها مُكرها إلى هذا الحادث.. كيف كانت مقيّدة.. مكمّمة الفم.. وحين انقضّ عليها لم تستطِع إنقاذ نفسها أو أضعف الإيمان أن تقاوم حتى! ولكن الوضع يختلف الآن.. فلا يديها مقيّدتان ولا فمها مكمّم.. الآن فقط جوارحها حرّة تستطيع المقاومة.. وقد كان..
انطلقت صرخة عالية مستغيثة صمّت الجدران من قوّتها تزامنا مع ضمّ ركبتيها إلى صدرها بينما تصيح باستنجاد:
_ "ابعد عنــــيّ! آااااااااااااه!"
انتفض عن مجلسه واقفا ثم أسرع إليها كي يمسك بساعديْها ويهزّها بقوّة قائلا:
_ "إهدي يا نهلة.. مافيش حد هنا."
لم تُسهم كلماته بتهدئتها بل انخرطت في حالة هستيريّة بينما تصرخ بألم:
_ "لااااا ده حيوااان مش هيسيبني خااااالص! إلحقوووووووني!"
كان صوتها مرتفعا إلى درجة أن وصل إلى آذان الكثيرين خارج الغرفة فاحتشدوا عند باب الغرفة بينما دلفت نادية كي ترى إلى نهلة التي انخرطت في نوبة هستيريّة وأمان يحاول جاهدا إيقافها فقال ما أن رأى نادية:
_ "بنج بسرعة!"
أسرعت إلى تنفيذ أمره فحضّرت محلولا مخدّرا بالحقنة ثم ناولته إياه وقامت مع ممرّضتيْن أخرتَيْن بتثبيت نهلة ليحقن أمان المُخدِّر بوريدها فتهدأ صرخاتها تدريجيّا وتخور قواها بينما تغمض عينيها وقد وضع المُخدّر بصمته..
**********
دخلت أسماء بغرفة أنور بعد استدعاء سابق منه.. ما أن وقعت عيناه عليها قالت:
_ "طلبتني يا فندم؟"
امتعضت ملامحه مع رؤيتها بتفحّص بينما يقول بنبرة خالية من المعالم:
_ "أيوة قرّبي يا روفان."
امتثلت لأمره طوعا بينما تقلّب في عقلها طريقة لقتله بها ضاربة بوصايا فهد عرض الحائط.. ما أن جلست مقابله حتى وضع صورة فوتوغرافية على سطح المكتب كي تتمكّن من رؤيتها بوضوح قائلا:
_ "بصّي."
اتّسعت عيناها بصدمة بعدما رأت الثنائي المُجسّد بهذه الصورة.. فهي نسخة من صورة والديْها بحفل الزفاف.. لا تعلم كيف حصل على هذه النسخة ولكن حاولت تصنّع الهدوء بينما تتساءل:
_ "مــ مين دول؟"
استشعر الخوف ممزوجا بهدوئها فقال بنبرة ببرود:
_ "اغتصبت اللي في الصورة دي لمّا رفضت تكلمني وبعدها عملت عليّا بلاغ وبعد ما اتحكم عليّا خرجت تاني وقتلتها هيّ والخرونج اللي اتجوّزها."
احتدّت عيناها بقسوة ولم تستطِع التحكم بانفعالها ليعتلي الانتصار بمعالمه حين استطاع استفزازها ليكمل بسماجة:
_ "اتحدّتني والاهبل اللي معاها قوّى قلبها ورموني في السجن بس ما يعرفوش ان ماحدش يتحدّاني! رجعت تاني واتحدّيت القدر وغيّرته فــ مصلحتي.. واللي افتكر نفسه قوي أنا خلّيته أضعف ما يكون وقتلته أدّام مراته عشان تعرف ان مالهاش حماية منّي."
ثم وقف وأولاها ظهره بثقة لتنجذب عيناها إلى المشرط الموضوع على المكتب والخاصّ بفتح الظروف في حين أكمل هو بنفس الاستفزاز:
_ "كنت ناوي الصراحة أعمل فيها حاجة بشعة جدا.. بس لما شفتها مش قادرة تاخد نفسها وهي حامل وعايزة تولد صعبت عليّا وقلت كفاية طلقة رصاص."
وهنا لم تستطِع كبح رغبتها الجامحة بقطع نحره وإسكاته إلى الأبد.. فتسلّلت أناملها بهدوء نحو المشرط بينما يختم قوله:
_ "يالّا معلش خدوا جزاتهم!"
ما أن التقطت المشرط حتى وجدته يلتفّ بسرعة وكأنّه أعدّ لهذه الخطوة مُسبَقا وهو يمسك بمسدس موجّها فوّهته نحوها فتتسمّر محلّها بينما يقول هو بتهكّم:
_ "الحاجة الوحيدة اللي ما جاتش فــ بالي إن يكون معاهم بنت تاني عقلها هايف زيّ ابوها وبتفكّر تعمل زيّه!"
تحوّلت نظراتها من الغضب والقسوة إلى الخوف والبهوت خاصّة وأن كلامه يشي بكونه كشف سرّا جاهدت في إخفائه.. حيث يكمل بسخرية:
_ "برافو يا أسماء!"
كانت تلك آخر كلمة تذكرها قبل أن تتلقّى صدمة قويّة غدرا على رأسها كانت كفيلة بإفقادها وعيها.. فقد جهّز لها كمين من أربع رجال ليختبؤوا بالغرفة وأعطاهم الإشارة المناسبة للظهور للهجوم عليها وكالعادة من خلف ظهرها.. فقد اعتاد أن يكون جبانا لا يواجه إلا مع إضعاف خصمه..
**********
في ركن اللوحات.. كانت نيروز تجلس بينما تطالع موقع التواصل الاجتماعي بملل.. حيث انتهت من أداء العمل باكرا وعادت إلى المنزل دون أن يكون هناك جديد تقوم به.. والمنزل أصبح شبيها بالصحراء الجرداء الخالية من الحياة.. فمنذ ذهب حمزة والأجواء مضطّربة تمتلئ بالخوف من كل يوم آت.. خاصّة مع والدتها التي تكاد تفقد برجا من عقلها لولا أن يربط حسين ونجلاء على قلبها لتطمئنّ.. وهو ما تعجز نيروز عن القيام به.. فكيف تستطيع مؤازرتها وهي أكثر المحتاجين لذلك.. وحتى شذا لا تقابلها إلا مرة في الأسبوع ولا تقضي معها الوقت الكافي للبوح وإفراغ القليل من مخزون أحزانها.. وحتى من اتّخذتها رفيقة واعتادت وجودها اختارت المكوث ببيت والدها عازمة على الطلاق ومقابلها يرفض بدر بكل ما أوتي من قوّة.. انتبهت إلى دخول الخادمة حيث اقتربت منها بهدوء ثم ناولتها كتاب صغير أهالها رؤيته.؟. قالت الخادمة:
_ "اتفضلي يا هانم."
نظرت إلى الخادمة بجحوظ بينما تقول ببهوت:
_ "جبتي الكتاب ده منين؟"
أجابتها بخفوت:
_ "نائل بيه طلب مني ابعتهولك."
_ "مين؟!"
انبعثت من لسانها بدهشة ثم سرعان ما وضعت يدها على عينيها قائلة بتعب:
_ "يا الله!"
لابد من أنه عرف صاحب القصّة وهو سبب إرسالها لها خصّيصا.. وها قد انكشف أمرها وعليها أن تعنّف نفسها على ارتكاب هذه الحماقة.. حاولت امتلاك أعصابها بينما تنظر إلى الخادمة قائلة بتردّد:
_ "طــ طب روحي انتي دلوقتي."
ما أن ذهبت حتى نظرت نيروز إلى الكتاب بامتعاض ثم ألقته على الطاولة أمامها فابتعد الغلاف عن الصفحة الأولى لتظهر قطعة حلوى ملتصقة بجانب العنوان.. قطبت حاجبيها بينما تنظر إليها بغرابة وهي تذكر جيّدا كونها لم تُرفِق حلوى مع القصّة.. فعادت تمسك بالكتاب من جديد لتجد بعض الكلمات المكتوبة بحبر أزرق إلى جانب الحلوى:
"وجد فرخ البط مكانه اخيرا.. ولكن هل تقبل محبوبته به رغم اختلافه؟"
سرعان ما تبدّلت انفعالاتها من الوجوم والحيرة إلى الدهشة والسعادة حيث وقفت عن مكانها وأسرعت إلى الخارج لتتوقّف فجأة حين يظهر لها نائل عند مدخل الركن.. يرمقها بابتسام هادئة وقبل أن ينال فرصة الحديث سرقتها ناطقة بإقرار:
_ "أنا بحبك."
شعر وكأنّه ظمآن منذ سنين طويلة والآن ارتوى بالماء! طالعها بنظرات حانية تُفصِح جليّا عن عشقه وسعادته بينما يقترب منها ببطء قائلا بعدم تصديق:
_ "معقولة دي الحقيقة مش بحلم زيّ  كل مرة!"
افترشت الابتسامة ثغرها بينما ترتمي بين ذراعيه كي تؤكّد بقولها:
_ "بحبك أوي أوي أوي."
احتواها بذراعيه بدفء بينما يقول:
_ "وانا كمان يا نيروز."
وهنا ابتعدت عنه ك تواجه عينيه قائلة بتحذير:
_ "أنا مش نيروز.. أنا فيروز."
اتّسعت ابتسامته وبريق السعادة يلتمع بعينيه فلم يجبها إلا بعناق دافئ يروي بمقدّمة قصيرة عن قصّة عشقه لها.. فلطالما تمنّى تلك اللحظة ووضعها بقائمة اليأس.. ولطالما استسلم للأشواك وعاد أدراجه خائب الرجاء إلا أن المفاجأة كانت أكبر من مستوى توقعاته.. حيث تسلّل الحب إلى فؤادها وتلمّس أوتارها بدقّة لتشعر به دون سواه.. وتعترف بحبه في العلن قبل الخفاء..
**********
أسدل الليل ستاره في سماء الكوكب.. ننتقل إلى أحد الأمكنة المجهولة.. استفاقت أسماء حين تسلّل شعور الألم بعروق يديها المقيّدتين بحبال خشنة ختمت علاماتها بثنايا جلدها.. نظرت حولها لتجد أنور يجلس مقابلها وخلفه اثنين من الحرّاس.. في شقّة غريبة قديمة الطّراز.. والإضاءة خافتة تبعا لقلّة المصابيح بالمكان.. أتاها صوت أنور يقول باستفزاز:
_ "أهلا بيكي يا أسماء.. نورتي المكان."
نفثت زفرات ملتهبة من فرط غيظها بينما تنطق من بين أسنانها:
_ "إنت واطي خسيس تستاهل الحرق."
رفع أحد حاجبيْه قائلا بنبرة باردة مستهزأة:
_ "والله! ومين اللي هيعمل كدة؟ إنتي يا ننّوسة؟!"
رمقته بعينيها الناريتين قائلة بتهديد:
_ "جرّب تفكّني واوريك ازاي هقطّع من لحمك.. لكن مش من الرجولة إنك تربطني وسط رجّالتك وتاخدني على خوانة يااااا.. بيه!"
الآن فقط شعر بعودته عشرين عاما إلى الوراء حين كان عمرو على قيد الحياة.. الآن فقط تأكّد من كونها ابنة عمرو حين بقيت على حقيقتها دون تنكّر.. نفس الطريقة التي يتحدث بها والدها ونفس الغرور الذي يعتريه حتى وإن كان نصل السكّين على رقبته.. تذكّر أنه تجاهل كلمات عمرو المتعجرفة ذلك اليوم وقتله سريعا.. ولكن لن يسمح أن يستمع لنفس الكلام للمرة الثانية ويتصرف بنفس الطريقة.. وهو سبب قوله متحدّيا:
_ "فكّوها."
ابتسمت بانتصار بعدما تحقّقت لها تلك اللحظة.. حيث ستنال أخيرا فرصة المواجهة معه والتي لن تنتهي إلا بالقضاء عليه.. فينتهي قصاصها أخيرا والهدف الذي قضت سنوات عمرها تسعى لتحقيقه.. أشار أنور لرجاله بالابتعاد بينما يقترب منها تدريجيّا وهي على أهبّة الاستعداد لتسديد ضربتها الأولى.. تنظر إليه بتوعّد بينما يبادلها بازدراء.. فحتى وإن تقدّم بالسنّ قليلا إلا أنه يستطيع مواجهتها وتكسير عظامها الليّنة بكل سهولة.. بادر بتسديد لكمته الأولى إلى وجهها لتنحني إلى الوراء متحاملة على عمودها الفقريّ وفي أقل من ثانية تتّزن وتتمسّك بقبضته الممدودة إلى الأمام ثم تتّخذها وسيلة لقلب جسده بالكامل إلى الأرض فيتأوّه بتعب ويتسلّل الخوف إلى نظراته بينما يرى معالمها الصارمة.. ساعده الرجلان ليقف على قدميه ولكن بشكل مهتزّ والدهشة تعتريه بشأنها.. فيبدو أنها أعدّت نفسها جيّدا لهذا اللقاء وليست مواجهتها بالسهولة التي توقّعها.. فعاد للاقتراب منها دون أن يبتدئ الضربة التالية لئلّا تفاجئه بردّ فعلها وهنا اندفعت هي نحوها وقبل أن يفكّر بخطوته التالية استخدمت باطن كفّها لتصيب به صدره ثلاث مرّات متتالية تحديدا عند موضع القلب ليضعف تحمّله فيقع أرضا بينما يضع يده على قلبه وقد شعر باختناق أنفاسه.. وهنا وجدت فرصة مناسبة لتعود إلى تسديد حركتها التالية ولكن كان الأسرع هنا حيث أشار إلى أحد رجاله بمنعها.. وقد كان.. صدم رأسها من الخلف بمؤخّرة سلاحه لتقع أرضا وتضع يدها رأسها بتأوّه.. في ذات الأثناء سقطت إحدى العدسات من عينها فنظرت إلى أنور المتسطّح جانبها بعينين مختلفتيْن لونا مكلّلتيْن بالغضب.. ذكّرتاه الآن بعينيْ والدتها التي لطالما شغلته وجعلته يتغزّل بها.. وحين رفضت مجاراته ارتكب تلك الجريمة بحقّها.. الآن تذكّر تلك النظرات التي واجهته أثناء المحاكمة وقد كانت دوما تتوعّده بغضب مستعرّ.. أتاه صوت أسماء بازدراء:   
_ "عمرك ما خدت حاجة بشجاعة.. انت دايما واطي!"
في ذات الأثناء انطفأت الأنوار بالشقة كلها ليسود الظلام بالأرجاء ولا يمكن لمرء أن يرى كفّه فيه.. هتف أنور بإرهاق:
_ "شوفوا إيه اللي حاصل؟"
قام أحدهم بفتح مصباح الهاتف ليتبيّن وجودها ويعود إلى تقييدها ولكن سرعان ما باءت خطّته بالفشل حيث وجدها اختفت كفصّ ملح ذاب بالماء.. حاول أنور التقاط أنفاسه بصعوبة بينما يقول آمرا:
_ "ما تسمحولهاش تهرب."
أسرع الاثنان بامتثال الأمر وقام أحد بمراسلة صديقيْه بالخارج لأخذ الحذر من هروبها.. في ذات الأثناء كانت هي معلّقة بالماسورة الداخليّة التي تنتهي بغرفة المنور.. كان العرق يسيل من جسدها بغزارة وقد شعرت أنها النهاية الحتمية وما تقوم به ليس إلا محاولات يائسة لزيادة خطّ عمرها بضع لحظات.. خرجت من المنور.. ثم تحركت إلى الخارج وكلها أمل أن تستطيع النفاذ من عيون الحراس الذين أغلقوا الطريق.. ازدردت ريقها بينما تنظر نحوهم بمساعدة ضوء القمر في هذا الظلام الدامس.. ورأت أنها لن تستطيع فعل شيء إلا المجازفة.. ستحاول التسلّل ومراوغتهم وإمّا أن تفلح أو تموت..
همّت لتتحرك ولكن سرعان ما كُمِّم فمها بواسطة يدٍ أتت من الخلف.. واليد الأخرى تكبّل جسدها وتجرّها إلى الخلف مانعا إيّاها من الهروب.. حاولت التملّص من بين يديه ولكن دون جدوى.. فقد كان قويّا للغاية.. قام بإدارتها إلى الجهة الأخرى كي تتبيّن هويّته دون أن يزيح يده عن فمها.. رأت انعكاس ضوء القمر على وجهه فارتخت معالمها وشعرت بالراحة أخيرا.. أبعد يده عنها ببطء لتنطق بنبرة باكية تبوح بالخوف والنجدة:
_ "فهد!"
**********
نهاية أحداث الفصل الخامس والأربعين
يا ترى فهد كفاية يقدر يطلّع روفان من المصيبة دي ولا هيحتاج مساعدة؟
انتظروني في الفصل القادم والقبل الأخير من #اغتصاب_لرد_الاعتبار وهمسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now