الفصل الواحد والاربعين

456 17 12
                                    

41

#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الواحد والأربعين."
(موقف يثير العجب)
(اللهم أنت عضدي وأنت نصيري.. بك أحول وبك أصول وبك أقاتل.)
**********
"يا أيّتها النفس المطمئنّة.. ارجعي إلى ربكِ راضية مرضيّة.. فادخلي في عبادي.. وادخلي جنّتي.
صدق الله العظيم."
انقطع صوت المذياع بعد انتهاء السورة الكريمة بإعلان لانتهاء العزاء بشكل كامل في بيت أنور لفقد حرمه المصون السيّدة حنان إثر أزمة سكر لم يحتملها جسدها.. تقدّمت إحدى سيّدات الطبقة الراقية من وليد الذي كان يقف مستندا إلى العكّاز بينما تقول بأسى:
_ "البقية فــ حياتك يا حبيبي."
التفت إليها ثم قال بهدوء:
_ "وفــ حياتك الباقية يا طنط."
بادرت تسأله بتعجّب:
_ "أمّال فين رغد يا ابني؟ مش شايفاها خالص؟"
سؤال زلزل حصون ثباته الواهية ليحاول التماسك أمام سيّدة الطبقة الراقية بقوله بتردّد:
_ "أأ رغد مسافرة ومحتاجة وقت عشان تعرف ترجع."
_ "ربنا يوفقها أكيد حالتها صعبة جدا."
_ "يا رب."
تلفّظ بها لتنصرف السيّدة ليكمل وليد مصافحة الباقين بينما يحدج والده بنظرات عتاب صارمة.. فما كان ليتعرّض إلى هذا السؤال لولا تهوّره وقتله لوالدته.. غافلا عن كونه السبب الرئيسيّ لذلك.. فلولا تهديده لها لَمَا اختارت الهرب دون العزم بالعودة حتى مع وفاة والدتها.. فهي الآن بأتمّ سعادتها مع هذا العشيق.. ولن يهدأ له بال حتى يقتله ويستمتع بسماع صراخها تفجّعا عليه.. فلتأخذ نصيبها من الضحك..
هذا ما دار في حسبانه ولم يكن يعلم بما تمرّ به أخته حقّا بعد ما راسلتها رنيم آسفة لخبر والدتها..
_ "آاااااااه ماما ماتت يا حمزة! ماما سابتني خلاااااص!"
صرخت بها بنبرة يسكنها القهر بينما تهبط عبراتها على وجنتيْها بانهمار بينما يقترب منها حمزة قائلا بحزن:
_ "إهدي يا رغد.. ادعيلها بالرحمة يا حبيبتي."
حاولت التقاط أنفاسها اللاهثة بصعوبة بينماتكمل نحيبها بألم:
_ "هيّ سابتني وراحت ليـــــه؟!"
لم يحتمل رؤيتها تنهار أكثر من ذلك فأسرع إلى احتوائها بين ذراعيه قائلا بتهدئة:
_ "ماتقوليش كدة ده قضاء الله."
لم يهدأ صياحها بل أكملت بصوت متقطّع:
_ "هــ هي ماتت عشان ســ سافرت!"
ثم شدّت من قبضتها على قميصه بينما تنطق بحسرة:
_ "يا حبيبتي يا ماما آااااااااه!"
**********
احتضنت وتين والدتها التي قالت بحب:
_ "حبيبتي عاملة إيه؟"
أجابتها وتين بحب:
_ "الحمد لله يا ماما إيه أخبارك إنتي؟"
ابتعدت عنها جيهان بينما تقول برضا:
_ "الحمد لله في نعمة."
ثم انتقلت إلى والدها الذي كان يرمقها بسعادة فتسرع بقولها باشتياق:
_ "واحشني أوي يا بابا."
تناولها في أحضانه بينما يقول بفرحة:
_ "وانتي أكتر يا نور عيني."
ما أن ابتعد عنها حتى قال متسائلا:
_ "أخبارك وأخبار حضرة الرائد إيه؟"
أخفضت نبرتها بشيء من الاعتذار:
_ "الحمد لله كويس بيسلّم عليك وبيعتذر انه مش قادر ييجي."
أسرع والدها يقول بتفهّم:
_ "عارف إنه مشغول واللي فيه مكفّيه."
ما أن انتهى بها حتى صدح صوت رنيم من داخل الغرفة حيث أتت راكضة وهي تهتف بحماس:
_ "وتيــــن! وتيـــــن! عاملة إيه يا حبي."
اندفعت نحو أختها لتحتضنها بقوّة بينما تدور بها لتسرع وتين إلى الابتعاد عنها حيث تمسك بطنها قائلة بتألم:
_ "آه حاسبي!"
بادرت جيهان تقول بحذر:
_ "براحة على أختك يا ريم خُدي بالك."
نظرت بريم إلى أختها قائلة باعتذار:
_ "أوه آسفة.. إنتي واحشاني خالص."
تناولتها وتين بين ذراعيْها ببطء بينما تقول باشتياق::
_ "إنتي أكتر يا غالية."
استأذن رياض للذهاب قائلا:
_ "طب انا هروح دلوقتي المكتب وهرجع بعد ساعتين."
وما أن غادر قالت جيهان:
_ "اقعدوا في الأوضة وانا هشوف اللي عالنار."
أماءت ريم برأسها بقوّة حيث كانت تتمنّى فرصة للانفراد مع وتين للحديث بأمور خاصّة.. جذبت وتين من يدها نحو الغرفة قائلة:
_ "تمام.. يالّا."
جلستا على طرف السرير لتبدأ وتين سؤالها باهتمام:
_ "إيه أخبار الشغل الجديد."
_ "ماشي حاله."
عادت تسألها بخبث:
_ "وأخبار الجوّ إيه؟"
أجابتها ريم ببعض الضيق:
_ "الجوّ بقى ساقعة."
اعتلت السّخريّة وجه وتين التي فتئت باستنكار:
_ "تخلف عقلي مافيش كلام!"
قطبت حاجبيْها بتعجّب بينما تتساءل:
_ "أمال قصدك ايه؟"
حاولت توضيح مقصدها قائلة:
_ "بتكلم عن زياد يا أخت ريم!"
لم تُمحى الدهشة من ملامح ريم التي قالت بتساؤل:
_ "وانتي بتسأليني عنه ليه؟"
تحدثت بنبرة مازحة:
_ "والله؟! أشوف فيكي يوم يا ريم يا بنت جيهــان!"
كَسَت الحيرة معالم ريم التي قالت بتعجّب:
_ "والله مش عارفة أقولك إيه يا وتين.. أنا وزياد مش بنتكلم كتير وكل محادثة دلوقتي مش بتزيد عن السلام وخلاص.. مع إن نفسي المحادثة تزيد عن كدة."
ضيّقت حدقتيْها بتركيز قائلة:
_ "إنتي بتحسّي ناحيته بحاجة يا ريم؟"
نظرت إليها ريم بتساؤل من وقع السؤال على مسمعها فأكملت وتين بتأكيد:
_ "أنا متأكدة انه لسّة بيحبك بس يمكن عشان كنتي بتصدّيه علطول."
رفعت منكبيْها إشارة إلى الجهل بينما تقول بجديّة:
_ "مش عارفة اتصرّف ازاي وفــ نفس الوقت لسّة بدّي نفسي الفرصة عشان أفهم مشاعري أكتر وإيه سبب الميل ده ناحيته."
فتئت وتين بحنو:
_ "ربنا يوفقك للصالح يا حبيبتي."
غيّرت ريم مجرى الحديث بقولها بسعادة:
_ "عندي ليكي خبر بــمليون جنيه."
التمعت عينيْ وتين بينما تقول بحماس:
_ "بجد؟ فرحيني."
نطقت ريم بابتسامة واسعة:
_ "حقّك رجع لك يا قلبي.. أخيرا بعد وقت طويل خدتي بطارك."
كلمات غامضة ومقصد بعيد تنشده ريم لم يصل بعد لعقل وتين التي قالت بعدم فهم:
_ "مش فاهمة.. قصدك إيه؟"
كانت تعلم أن أختها نسيت الأمر منذ فترة طويلة فهمّت لتذكيرها قائلة:
_ "الحيوان إللي اتسبّب بدمارك في الأوّل ووصّلك للحالة النفسيّة اللي كنتي فيها اتحطّ فــ نفس الموقف ومراته لقت نفس المصير بس على ألعن."
_ "إيـــــــه؟!"
تفوّهت بها ريم بدهشة ثم سرعان ما اتّسعت عيناها وقد عضلَا الذهول معالمها بعدما اتّضح لها مقصد ريم فتلجلجت الحروف بلسانها بينما تنطق:
_ "إ إنتي بتقولي إ إيه يا ريم؟ مين ده وعرفتي ازاي؟"
تحدثت ريم باسترسال:
_ "وليد حسّان هو صاحب العربيّة اللي رمتك أدّام باب البيت بعد ما عمل اللي عايزه.. مراته نهلة زاهر اغتصبها واحد فــ شقّة مفروشة وماستحملتش اللي حصل راحت رمت نفسها من فوق والصحافة والسوشيال ميديا كلها اتقلبت عليها وبقت تريند كبير واسمها واسم جوزها بقوا مشهورين جدّا بس عشان إنتي مش متابعة نت ماعرفتيش اللي حصل وانا مافتكرتش الاسم غير من يومين بس."
ثم سرعان ما اتّسعت ابتسامتها بينما تقول بسعادة:
_ "أنا فرحانة جدا عشان خدتي العدل ومرات الحيوان ده اغتصبها حيوان زيّه!"
ولم تكتمل فرحتها حيث تلقّت صفعة مدوية من كفّ وتين ليرتدّ وجهها إلى أقصى اليسار.. تحسّست وجنتها المتألّمة ببطء بينما تنظر إلى أختها لتجدها تحدجها بنظرات مشتعلة يسكنها الغضب فقالت بنبرة متلعثمة:
_ "و وتين!"
هدرت بها بصرامة:
_ "إنتي جرى لعقلك حاجة؟!  فرحانة فــ واحدة لقت نفس مصيري واتفضحت كمان.. وبتقوليها بكل وقاحة؟!"
أبعدت راحتها عن خدّها ثم حاولت تمالك نفسها بينما تقول بقسوة:
_ "حصل فيها زيّ اللي حصل فيكي وانتي ماقدرتيش تطالبي بالعدالة بس هيّ اتفضحت عشان ربنا يعاقب الحيوان ده.. ده عدل ربنا هنعترض عليه يعني؟"
ثم أكملت بقتامة:
_ "وبعدين مش انتي اللي قلتيلي زمان إن أمير هيدوق من نفس الكاس في أخته أو بنته بسبب اللي عمله معايا؟"
وتحت مرآى نظراتها الغليظة استرسلت بتساؤل:
_ "مش انتي اللي قلتيلي كما تدين تدان وكل إنسان بيإذي بنت بيرجع يتردّ له فــ أهل بيته؟!"
وضعت يدها على قلبها بينما يكسو الهمّ وجهها حيث تقول بتبرير وألم:
_ "بس ماخدتش بالي إن اللي بيتردّ فيها دي بنت زيّنا مالهاش ذنب من اللي بيحصل فيها بسبب اللي منها!"
ثم عادت تنظر إلى ريم قائلة باتّهام:
_ "وانتي فرحانة فيها؟!"
هزّت رأسها بينما تقول بجفاء:
_ "أنا شمتانة فيه هو.. كان لازم يتعاقب ومايخصّنيش اتعاقب ازاي.. لكن ماعرفش هي تعبت ازاي.. بس أكيد مش أكتر منك!"
لما وجدت المقت يسكن ملامح أختها والرفض جليّا بردّة فعلها الصارمة أكملت بمجادلة:
_ "عارفة ان تفكيري مش عاجبك بس انا بفكر فــ حقك اللي ماقدرناش ناخده يا أختي."
اندفعت وتين في الحديث بتهكّم:
_ "وخلاص خدت حقّي كدة؟!"
لما وجدت جواب ريم تأخّر وكأن نفذت طاقة عقلها وما عاد قادرا على الجدال أسنت حقيبتها على كتفها بينما تعود أدراجها حتى خرجت من الغرفة وقبل أن تخرج من الشقّة استوقفتها ريم التي تشبّثت بساعدها قائلة بقلق:
_ "وتين رايحة فين؟"
أطلقت زفراتها الحارقة بينما تفتئ بغضب مكتوم:
_ "عايزة امشي من هنا حالا عشان حاسّة اني مخنوقة."
ثم نفضت ساعدها من بين يديْ أختها وأكملت طريقها في الخروج حيث استقلّت المصعد متجاهلة نداءات ريم التي أسرعت الخُطى في تتبّعها بينما تهتف منادية:
_ "يا وتين استنّي! وتين!"
وقبل أن تدخل فاجأها الباب بالانغلاق أمام وجهها لينقل المصعد وتين إلى الأسفل.. وقفت للحظات بينما تشعر بالقلق يتسلّل إلى فؤادها في حين أتاها صوت والدتها التي نطقت بخوف:
_ "فيه إيه يا ريم؟ وتين راحت فين؟"
التفتت إلى والدتها الخائفة فتجاهلت سؤالها بالنزول عبر الدرج بمحاولة يائسة منها للحاق بــوتين.. تجاوزت درجات السلم بعد دقائق لترى وتين تستقلّ سيارة أجرة فركضت نحوها لتجتذب انتباهها عبر نافذة السيارة بينما تقول:
_ "وتين!"
أجابتها بحدّة قبل أن تغلق زجاج السيّارة:
_ "عيدي تفكير من تاني يا ريم!"
ثم تحركت السيارة إلى الأمام تحت نظرات ريم التي تبعتها حتى اختفت من مرأى البصر لتتيبّس أطرافها محلّها بينما تنطق بقلق:
_ "يا الله! ماكنتش عارفة ان ده هيزعلها!"
**********
كانت شذا جالسة بالشرفة بينما تقرأ أحد الكتب بين أناملها.. عيناها تجولان بين الكلمات وذهنها شارد بعالم آخر.. فهي -كبقيّة آل عمران- منشغلة بشأن حمزة الذي سارع بالهروب وإقحام نفسه بالخطر لأجل فتاة يزعم أنه يحبها! فلا ترى حبهما سوى زعما لكون حمزة لم يجهر قبلا بمكنون مشاعره عن حب فتاة حدّ الهيام إلى هذه الدرجة.. إلى درجة أن يترك مستقبله وعائلته ولا يأبه إلا لأمرها منقذا إيّاها وتاركا إيّاهم بين النيران خوفا عليه.. انقطع حبل أفكارها مع صوت إبراهيم الذي قال متسائلا:
_ "مافيش أخبار جديدة عن حمزة يا شذا؟"
أغلقت دفّتيْ الكتاب بين يديها ثم وضعته على الطاولة أمامها قائلة بوجوم:
_ "لأ للأسف."
تنهّد بحزن ثم قال والأسى يخالج معالمه:
_ "إن شاء الله يرجع قريّب والموضوع يتحلّ علطول."
أطلقت زفرة حارّة تروي من الوجع أطنانا بينما تفتئ بخيبة أمل:
_ "مش باين خالص ان ده هيحصل!"
بادر يقول بنبرة محايدة:
_ "لأ هيحصل.. قولي يا رب."
_ "يا رب."
عاد غلى الخلف خطوتيْن بينما يستطرد بجديّة:
_ "أنا رايح الشغل دلوقتي.. محتاجة حاجة؟"
هزّت رأسها بالنفي قائلة بنفس الوجوم:
_ "شكرا."
أماء برأسه بحزن ثم استدار بتثاقل ليذهب في حين تستوقفه بكلمتها المشجّعة بعض الشيء:
_ "ربنا يوفقك."
تعلم جيّدا أنها تحمّله فوق ما يطيق.. وإلى جانب الحاجز الذي شيّدته بينهما قبل شهور.. الآن أتت مشكلة حمزة لتزيد الطين بلّة.. وما يفعل شيئا سوى الصبر علّ الغمّة تنقضي قريبا وتعود إلى الابتسام من جديد.. أجل هذا هدفه الأسمى وهي تعلم به لذلك حفّزته بدعاء صادق من قلبها لتجعله يسبّ العمل والظروف التي تمنعه عن البقاء إلى جانبها ومؤازرتها في تلك المحنة العقيمة..
**********
_ "إزيّك يا دكتورة اتفضلي."
نطقت بها نادية مرحّبة بــهند التي عادت اليوم من إجازتها فقالت الأخيرة بهدوء:
_ "عاملة إيه يا نادية؟"
_ "الحمد لله تمام."
ثم استطردت تقول بشيء من المداعبة:
_ "مدام نهلة بطلت التمارين من ساعة ما خدتي الأجازة ورجعت تكسّل تاني."
انتقلت أنظارها إلى نهلة التي كانت تتسطّح على السرير فقالت دون أن تحيد ببصرها:
_ "تسمحي تسيبينا شويّة يا نادية؟"
شعرت بالقلق في بادئ الأمر من طلب البقاء منفردتيْن والذي لم يسبق أن طلبته خلال فترة العلاج! ولكن عزمت أمرها على الطاعة فقالت بهدوء:
_ "حاضر."
ما أن خرجت حتى جلست هند على الكرسيّ المجانب لنهلة ثم فتئت بهدوء:
_ "جايّة اقولك إن دي آخر مرة تشوفيني فيها."
رفعت نهلة أحد حاجبيْها تعجّبا مما قالت الطبيبة.. فكما هو معلوم أنها لا تزال تحتاج وقتا حتى تستطيع الحركة بلا جلسات فكيف تتحدث هند بالمغادرة؟ أتاها جواب هند بنبرة واجمة:
_ "إنتي لسّة ماخلصتيش علاجك بس أظنّ إن أمان بالنسبة لك كفاية أوي."
تضاعفت الدهشة على ملامح نهلة ونظراتها من غرابة الحديث حتى أكملت هند بنبرة إقرار يتخلّلها القهر:
_ "عشان هو بيحبك يا مدام."
توقّفت عقارب الساعة عن الحركة وتوقّف خافقها عن النبض وجحظت عيناها بصدمة.. وقد كان ذلك مُوقّعا من ناحيتها حيث تعلم تلك الأخبار لأوّل مرة فأكملت بتأكيد:
_ "أيوة بيحبك.. إنتي الوحيدة اللي حركتي مشاعره وفكرتيه إن ليه قلب لازم يدقّ عشان إنسانة واحدة.. واللي هي إنتي في الآخر!"
ثم التقطت شهيقا طويلا زفراته بحرقة وعادت تنظر إلى نهلة التي ظلّل البهوت وجهها فاسترسلت بصوت يسكنه الوجع:
_ "عشان كدة مش هقدر أكمل معاكم.. أنا لا بحقد عليكي ولا عايزاه.. خلاص لازم أرضى بالمكتوب.. بس انا بشر وليا طاقة تحمّل."
ثم وقفت عن الكرسيّ وابتعدت حتى الباب قائلة:
_ "ربنا يوفقكم."
ثم خرجت من الغرفة تحت مرأى نهلة التي ظلّت على حالها من الذهول وقد تبعثرت الأفكار برأسها عمّا سمعت من كلمات ودّت لو صُمّت أذناها قبل سماعها.. حب! كلمة بعيدة جدا لم تضع في حسبانها أن تستمع لها في ظلّ تلك الظروف.. ومن مَن؟ أكثر شخص عدّته أمنا لها ومساعدا لكن لم يطرأ ببالها أن تنظر له على هذا النحو الذي أخبرتها به هند.. بل لم تأبه للحظة لذلك الأمر تحديدا خاصّة بعد انفطار قلبها لأوّل مرّة بسبب زوجها الماجن.. والآن تخبرها هند بكونها سكنت بين ضلوع آخر وتتمنّى لهما التوفيق كثنائي! لا وألف لا!
خرجت عن شرودها مع صوت نادية التي قالت بتساؤل:
_ "مالك باين عليكي زعلانة!"
أجفلت مع صوتها حيث لم تنتبهع لدخولها منذ لحظات إلا مع صوتها المرتفع الذي يسكنه القلق فحاولت التماسك بينما تمسك بالدفتر وتدوّن عليه بعض الكلمات ثم تعطيه لنادية قائلة:
_ "هاتيلي العكّاز."
أماءت برأسها بطاعة ثم قرّبت منها العكّاز رباعيّ الأطراف مرتقبة الأمر التالي والذي كان:
_ "ساعديني أتحرك يا نادية."
عادت إلى الموافقة وبدأت تساعدها في السند على العكّاز ثم الضّغط على قدميْها ببطء وفي حسبانها أن هند اعطتها طاقة إيجابيّة كبيرة دفعتها إلى التدرّب لعودة عمل جسدها على خلاف ما حدث حقّا وما تنوي افتعاله في الخطوة القادمة..
**********
قطعت سيارة الأجرة الطريق بسرعة متوسطة متجهة إلى فيلا عمران كما أمرت وتين.. تلك التي كان ذهابها على خلاف عودتها.. وصلت إلى منزلها والاشتياق يكلّل حماسها للقائهم وقضاء الوقت معهم.. وعادت تجرّ أذيال الأسى خلفها بعد ما علمت من حال فتاة اخرى تتذوّق مرارة ما اختبرته بشكل أقسى.. فإن كانت وجدت من ينقذها قبل الوقوع بهوّة الضياع فهي لم تنل نفس الفرصة بل أقحمت نفسها بفخّ الفضيحة وأصبحت قضيتها في متناول الرأي العام والآن تخضع للعلاج النفسي لإعادة تأهيل أطرافها للعمل من جديد! أجل كان ذلك عقابا للمدعوّ وليد الذي لم يرقّ قلبه لصراخ وتين ولم يرحم ضعفها.. ولكن حسرة قلب وتين على تلك المسكينة التي عانت ولا زالت تعاني حتى الآن.. موقفها يثير عَجَبَ كل من يعلم به ولكن لكونها عرفت معنى هذا العذاب فقلبها يتألّم لأجل تلك السيدة وهذا هو سبب ثورتها على ريم والهروب من المنزل الذي كانت تتوق له منذ أيام.. وبين شفقتها على نهلة وغضبها من ريم نبتت أشواك الذكرى الأليمة لهذا اليوم المشؤوم.. والتي غابت عن عقلها لشهور تزامنا مع وجود بدر في حياتها الذي كان كفيلا بمحوِ أثرها والعيْش معها وطفلهما في سعادة دائمة.. إلى حدّ ان تناست تلك الحادثة في ظله واستقرت سعادتها في كنفه.. ولكن حدث ما غيّر مجرى حسبانها حيث عادت تفاصيل تلك الليلة بالتسلّل الى ذاكرتها.. وتدريجيا تحفّزت قنواتها الدمعيّة لإطلاق العبرات في أقرب فرصة..
ترجّلت عن السيارة متجاوزة بوابة الفيلا حيث كان الوقت بالظهيرة والنساء مشغولات بالمطبخ أما الأبناء فكلّ منهما مختلٍ بغرفته.. وكانت تلك فرصة مثالية للعودة إلى شقتها دون أن يلحظ أحدهم.. ما أن اغلقت الباب خلفها حتى هرعت إلى غرفتها لتجلس على طرف السرير وتنفجر عينيها بالدموع المنهمرة.. وفي جوّ السكون الذي يزعجه بكاؤها المرير أتاها صوت أمنية التي اقتحمت الغرفة بينما تهتف بخوف:
_ "مالك يا مدام؟ فيه إيه؟"
نظرت باتجاهها وقد تذكّرت توا وجود أمينة التي ستقوم مقام السائلين من عائلتها خوفا على حالها الذي تبدل بين ساعة وأخرى.. أشارت بوجهها بينما تقول بصوت خالٍ من الحياة:
_ "مافيش حاجة يا أمينة.. سيبيني لوحدي."
لم تكن إجابة وافية لتتوقّف الثانية بل أصرت على السؤال خاصة مع ازدياد بكاء وتين فأكملت بتصميم:
_ "حضرتك باين عليكي مخنوقة! قوليلي مالك وانا هساعدك."
وهنا وصل الغضب ذروته ونفذ صبرها القليل حيث انفجرت بها هادرة:
_ "بقولك سيبيني لوحدي."
ارتجّت اوصالها خوفا من التحوّل الذي لاقته من وتين ولم تعهده بها قبلا.. فآثرت الطاعة والانسحاب بهدوء تاركة المجال لوتين التي ارتمت على الفراش وهي تعود إلى وصلة نحيبها الصامت.. منزوية إلى حزنها الدفين.. متألّمة بجراح الماضي التي عادت تخالجها.. فليس أمامها الا التسليم بالبكاء وما تستطيع قول ما ينتابها لأيٍّ كان! انخرطت في بكاء مرير والأحداث تمرّ بشكل عكسيّ على ذاكرتها.. فلا تنسى نبرة الخزيْ التي اعتلتها حين عنّفت ريم بكلامها عن روايات الاغتصاب بعدما اختبرت هي تلك المصيبة.. حيث قالت بنبرة يعلوها الاستهجان:
_ "مش كنتي بتقري روايات الاغتصاب اللي بيبيّنوا فيها مبررات ليه وانه أد إيه حاجة حلوة.. أنا أهو حالة حقيقيّة قدامك بقولك ان الجريمة دي أسوأ حاجة ممكن تصيب البنت."
ثم ابتلعت ريقها بينما تحتضن جسدها قائلة باشمئزاز:
_ "حاولوا يجمّلوا صورة المغتصب وانا حاسّة اني قرفانة من جسمي عشان لمسه الحيوان ده.. حسبي الله ونعم الوكيل فيه."
أسرعت ريم إلى احتضان أختها بينما تقول بأسى:
_ "إنسي يا وتين.. إنسي يا حبيبتي."
لن تنسَ ما جرى.. ولو بعد حين.. لن تنسَ هذا الجرح الذي تسبّب به هذا الحيوان وإن زال أثره الجسديّ.. ستظل كدمة مؤلمة عالقة بروحها دون أن تجد منها الخلاص..
شعرت بالخوف يعتري خلاياها كطفلة صغيرة تخاف من الظلام.. فأسرعت تدثّر جسدها بالغطاء الذي يخفي ارتجافها حيث عادت تذكر أول محادثة لها مع والدها في اليوم التالي لتلك الليلة.. وكأنّها كانت تحفظها عن ظهر قلب.. فلا تنسى الاختناق الذي أصاب أنفاسها حين واجهته بألم:
_ "لما بكون تعبانة.. كنت بتيجي علطول تتطمّن عليّا."
ثم نظرت إلى والدها بنظرات تمتلئ اتّهاما بينما تقول:
_ "لكن المرة دي استنيت اليوم كله لحد ما جيت تكلمني!"
أغمض عينيه للحظات قبل أن يردف مدافعا:
_ "يا وتين...."
أسرعت تكمل عنه بنبرة مريرة ساخرة:
_ "مش قادر تشوفني صح؟!"
ثم استرسلت بنبرة شاكية:
_ "ولا مش عايز؟!"
هزّ رأسه إلى الجهتين مبعدا هذا الظنّ الغامر بعقل ابنته حيث ربت على وجنتها مدافعا:
_ "لا يا وتين مستحيل إنتي بنتي وما استحملش اعيش من غيرك إنتي أو ريم."
لم يرفّ لها جفن مع نبرته التي تبثّ الحنان بثناياها بل أكملت بقتامة:
_ "من واحنا صغيرين ربيتنا أحسن تربية.. وعودتنا نكون أقويا.. عودتنا نثبت نفسنا من لما كنا صغيرين.. عمرك ما منعت واحدة فينا عن حاجة عايزاها."
ثم نظرت لوالدها مكملة بحدّة:
_ "بس المرة دي عايزة اقولك انك غلطت يا أستاذ رياض!"
حدّق بها باهتمام ومعالمه تروي عن الجهل بينما أكملت هي موضّحة بزجر:
_ "غلطت لما سيبت كل واحدة فينا تعمل اللي عايزاه.. غلطت لما قبلت كل حاجة بنحققها بشكل ديمقراطي."
ثم أردفت بمرارة:
_ "لإن اتّضح إن الأب اللي بيقفل على بناته وبيمنعهم من الخروج حتى.. هو ده الشخص الصح!"
أسبل أهدابه غير مصدق ما يسمع الآن من فيه ابنته المتحضّرة صاحبة الشهادة العليا والطموح البالغ عنان السماء.. تقرّ بما كان يجول في القرون الماضية من أفكار جامدة.. تفيد بتقييد المرأة بالمنزل كي تهتم بشؤونه دون النظر إلى حلمها كالبعير.. عادت تكمل صاعقتها بثورة:
_ "عملت اللي قدرت عليه عشان نحقق أحلامنا وياريتك ما سيبتنا على هوانا وقفلت علينا بالمفتاح."
ثم لانت نبرتها بينما تقول بانهيار:
_ "العالم برا طلع قاسي جدا يا بابا."
سلّط عينيه بخاصتي ابنته يبثّها الثبات بينما ينفي ما يُقال بحزم:
_ "لا يا وتين ما تقوليش كدة.. ماحدش ليه يقفل عليكم ولا يمنعكم عن حاجة بتحبوها.. واللي غلط لازم ياخد عقابه والبني آدم ده أنا مش هسيبه إلا...."
قاطعته بينما تقول بنبرة ذات مغزى:
_ "للأسف ما ينفعش رياض تمّام يبقى محامي في القضيّة دي بالذات."
احتلّ الصمت لسانه من جديد بينما أكملت بتألم"
_ "إن كنت إنت هتقبل تدافع عني قدام آلاف من الناس فأنا مش هقبل أبدا."
تحدّث بغضب يكلّله الإصرار:
_ "أنا مش هسكت واحط إيدي على خدّي.. لازم اجيب حقّ بنتي."
عقّبت على حديثه باستنكار:
_ "وعشان تجيب حقّي اتفضح أنا؟!"
ثم أكملت موضّحة والدموع باتت تنساب على وجنتَيها بانهمار:
_ "يا بابا أنا مش هستحمل نظرات الناس ليا اللي هتبقى مليانة شفقة وحسرة.. ده غير نظرات اللوم اللي هتحسّسني إن انا اللي غلطانة مش هو!"
ثم أكملت بحسرة:
_ "المرة دي بالذات ماقدرش ادافع عن نفسي ضد اللي كسرني يا بابا.. المرة دي الظالم انتصر."
أجل لقد انتصر واستطاع بجدارة سلب كل ما لديها.. أحلامها.. شجاعتها.. براءتها.. وبغض النظر عمّا أصاب زوجته.. فهذا لن يشفي غليلها.. بل لن تنسى هذا الحيوان الذي لم ترَ وجهه بسبب العصابة على عينيها.. والتي حرص على بقائها لئلّا تستطيع الاعتراف عليه إن قامت بالشكوى.. ورغم ذلك كان صوته الصارم كفيلا ليقبع بين ثنايا أذنها ولا تنسى نبرته ما دام حيّة.. كلماته الغليظة التي تفيد الانتقام منها وتعليمها درسا على خطأ غير مفهوم! لم تره حتى الآن ولكن باتت تعرف هويّته على الأقل.. بعد مرور نصف ساعة استجعت قواها أخيرا لفتح هاتفها ثم كتبت اسم (وليد أنور حسّان) على محرك البحث بجوجل وقبل أن تضغط على أيقونة البحث شعرت بهزّة عنيفة رجّت جسدها فانتابها الهلع حين سمعت صرخاتها المستنجدة وفحيحه السابق جريمته الشنيعة.. ممّا دفعها إلى إلقاء الهاتف بأقصى قوّتها ليرتطم بالحائط المقابل فيصير حطاما ثم تعود إلى الاختباء تحت الغطاء بينما تطلق آهات هستيريّة.. فلم تسعفها شجاعتها هذه المرة لرؤية وجه هذا الحقير.. بل سيظلّ دائما وأبدا لغزا بالنسبة إليها.. حاولت الهروب من تلك الذكريات البئيسة مع النوم لكن حتى هذا لم يساعدها.. فقد بدأت الكوابيس المفزعة والتي تعيد مشهد الجريمة بالتوارد إلى خاطرها.. يلقيها بالتراب ليمرّغ وجهها.. يقترب منها.. يستمتع بصراخها.. ينتزع براءتها.. ليتمرّغ شرفها بوحل الجريمة تماما كجسدها الملطّخ بالثرى.. ثم يتركها تحترق بنيران الألم والمواجهة.. وتحتمل كل الأنظار.. ابتداء من حسرة والديْها.. بكاء أختها.. شفقة الطبيب فؤاد.. ازدراء خطيبها الأسبق تامر.. وأخيرا نجدة بدر التي عملت مقام المخدّر بحياتها.. ومن حيث لا تدري عادت إلى الحياة ونبض قلبها بالعشق إلى أن حانت لحظة ارتطامها بأرض واقعها المرير وكونها لا تزال بقايا جثّة هامدة هُيّأت لها الفرصة لعيش أحلام ورديّة.. استفاقت أخيرا والدموع تغرق صفحة وجهها وأنفاسها متلاحقة لا تقوى على التقاطها بشكل كامل بل هي شهقات متقطّعة يرتجف لها صدرها وسائر جسدها.. ولا تزال الذكرى السوداء تلاحقها مهما تفتح عينيها أو تغلقهما حتى خرجت عنها مع شعور مؤلم أصاب بطنها لتطلق من بين بكائها أنّة خافتة:
_ "آه!"
ثم سرعان ما تتحوّل إلى صرخات أعلى صوتا حين تفاقم الألم المدوي بأرجاء بطنها مع ضربات قويّة على ظهرها..
_ "آااااااه! آاااااه!"
كان ذلك الصوت كفيلا لدخول أمنية التي وجدت وتين تتلوّى على السرير من شدّة الألم.. فأسرعت إليها بينما تقول بخوف:
_ "مالك يا مدام وتين؟"
زفرت بغير اكتمال بينما تنطق بتألّم:
_ "مش عارفة يا أمنية! مغص شديد هيموتني! الحقيني!"
وقفت أمنية عن السرير قائلة:
_ "هروح اناديهم استحملي شوية."
ثم ركضت نحو الخارج لتجذب المساعدة بينما شعرت وتين بالخوف يداهمها بشأن أمر ما لا ترجو أن يتحقّق.. حيث جذبت الغطاء عن جسدها لترى بحرا من الدماء يخضّب ملابسها وملاءة السرير.. أجل إنها حقيقة وطفلها الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة! وبين خوفها والألم الذي يعتريها أطلقت صرخة أخيرة تمتلئ بالوجع والحسرة:
_ "آاااااه."

اغتصاب لرد الاعتبارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن