الفصل التاسع والثلاثين

505 26 10
                                    

39
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل التاسع والثلاثين."
(الشوكة الرابعة)
**********
كانت تسير بموازاة السّور بتيْه والألم يكبّل خطواتها.. الهمّ يغزو معالمها المنكسرة.. التعب يكبّل خلاياها وكأنّها عائدة من رحلة طويلة تزخر بالأثقال.. بصعوبة تحرّك قدميْها بينما تمضي قدما وكلمات والدتها البارحة تدور في عقلها حيث كان آخر ما قالته:
_ "إنسيه يا بنتي.. ما تتعبيش نفسك وتإذيه معاكي.. عشان خاطري لو ليّا عندك خاطر."
فالأفضل أن تبتعد وترضخ لرغبة أخيها المُدمّرة لآخر أمل لها في السعادة.. ويؤيّد ذلك والدتها التي تعد الأكثر علما بماهيّة خطورته كما تعلم جيدا ما قد يتسبّب فيه أنور إن عرف بالأمر.. وما توصي به ابنتها ليس لدفن سعادتها بل نابعا من أمومتها خوفا على صغيرتها..
ومن صوت والدتها انتقلت بذكراها إلى كلمات رنيم حين كانت تروي عن والدتها قائلة
_ "خافت انه ينفذ كلامه وضحّت بحبها ومثّلت على بابا انها كانت بتلعب بيه وفارقته واتجوّزت الظابط المرتشي و....."
صمّت أذناها عند هذا الحد وما عادت تقوى على سماع المزيد.. فما تذكّرته يعدّ حالة شبيهة بما يحدث معها.. ولكي تسلم ممّا يقوم به أخيها عليها أن ترضخ لكل ما يأمر به.. وما ستقوله لحمزة يعدّ منافيا لما يفصح عنه فؤادها الذي ينبض باسمه فقط.. ستضطر إلى خوض نفس المأساة والتمثيل بما ليس فيها فقط لأجل سلامته! توقّفت فجأة ثم استندت بكلتيْ يديها على السور مغمضة عينيها وصراخ اندلع داخلها بجزع:
_ "بس انا ماقدرش اعمل اللي عملته طنط سارة ولا اكمّل مع حمزة وانا عارفه انه فـــ خطر بسببي! صعب أوي أعيش تاني لو جراله حاجة.. وصعب كمان أسلّم نفسي لواحد غيره."
ثم فتحت عينيها لترى ماء النيل المكتسب لونه الصافي من زرقة السماء.. لتصدح فكرة برأسها سارعت إلى تنفيذها دون الاكتراث لعواقبها.. فوقفت على حافّة السور مكملة بابتسامة منكسرة:
_ "عشان كدة اختارت أحسن طريق.. غيابي هو الأسهل يا حمزة.. عارفة انك هتزعل مني.. بس مش بإيدي كله عشانك إنت.. أنا علفكرة مش ندمانة على أيّ حاجة عملتها كفاية إني دُقت طعم الحب بعد ما كان السواد هو اللي مغطّي قلبي والغيوم غامرة سعادتي.. أول مرّة أحب الموت كدة طالما عشانك إنت!"
_ "بتعملي إيه يا بنتي؟ إنزلي!"
انتبهت إلى صوت تلك السيدة من بعيد وهي تركض نحوها بهلع فازدادت ابتسامتها بينما تجيبها بالاندفاع إلى الخلف كي يحملها الهواء إلى الماء فتبتلعها مطبقة على أنفاسها وإيقاف الرئتيْن عن العمل انتقالا إلى سائر أعضاء الجسد..
_ "إيه اللي حاصل؟"
نطق بها بدر بخوف ليجيبه الثاني بهلع:
_ "في واحدة رمت نفسها في المايّة يا بيه!"
نظر من أعلى السور إلى المياه ليجد الفقاقيع تنبعث منها إشارة إلى نفاذ زفراتها تدريجيّا.. فأسرع ينزع السترة عن جسده قافزا بجوف الماء في محاولة مستميتة لإنقاذ تلك الروح التي سلّمت بانتهاء حياتها بهذه الطريقة المُجحفة.. تم ذلك على مرأى حمزة الذي أخذ يتلفّت حوله قائلا بتفكّر:
_ "ليه رغد ما جاتش لحد دلوقتي؟!"
لحظ خروج بدر من الضفّة الموازية بينما يجذب جسد فتاة يافعة إلى الخارج.. فأسرع نحوه ككي ير معالم تلك الشابّة بشكل أكثر اتّضاحا فيصدق ما جال بذهنه للحظات.. هتف بهلع:
_ "رغـــــــد!"
التفت إليه بدر والدهشة تكسو ملامحه حيث يقول بعدم فهم:
_ "في إيه يا حمزة؟!"
لاجابه بالجلوس أرضا إلى جانبها ثم تلقّى جسدها بين ذراعيه هاتفا بجزع:
_ "رغد! رغد فوقي يا حبيبتي!"
جعلها تتسطّح على الأرض ثم أخذ يضغط براحتيْه على صدرها لإنعاش قلبها ولكن لم يفلح الأمر.. فأخذ يهزّها بخوف صارخا بغضب يغلّفه الذعر:
_ "عملتي فــ نفسك كدة ليـــه؟!"
اختار بدر الابتعاد بصمت بينما يرمق ابن عمه الذي نفذت الطرق أمامه لإنقاذها فاحتوى رأسها بين كفّيه مقرّبا شفتيه من خاصتيها مفرغا من أنفاسه لرئتيْها كي يعيد إليهما النشاط مجدّدا.. أعاد العمليّة مرارا وتكرارا ثم أخذ يصرخ بجزع:
_ "رغد ماتعمليش فيّا كدة أبوس إيديكي."
بعد مرور لحظات استفرغت الماء من فمها مع سعال طويل حتى طرد جهازها التنفّسيّ مخزون الماء بداخله.. هدأ انفعال حمزة قليلا بعدما استشعر عودة النبض إليها من جديد.. أجفل مع لمسة من بدر الذي قال بهدوء:
_ "يالّا ناخدها عالمستشفى."
**********
خرجت وتين من إحدى غرف الكشف بعدما أنهت فحصها الطبّي تبعتها شذا التي أغلقت الباب خلفها ثم نظرت إلى وتين قائلة بعتاب:
_ "شوفتي بقى انك مهملة صحّتك خالص والدّوخة بسبب الأنيميا اللي عندك ده غير الجنين اللي ساحب كل صحتك؟!"
تنهّدت وتين بتعب قائلة:
_ "ماكنتش متخيّلة إن الأنيميا ممكن تأثّر فيا كدة!"
أكملت شذا بجديّة:
_ "المهم انك تاخدي بالك الفترة اللي جايّة."
_ "معاكي حق."
قالتها ثم ما لبثت أن توقّفت عن الحركة بعدما تثبّت نظرها عند آخر الرّدهة حيث يُهيّأ لها طيف بدر في جسد مَن يقف هناك حانيا رأسه وتبدو الفوضى بملابسه على خلاف الحالة التي كان عليها قبل خروجه.. أسرعت إلى الاتّجاه الآخر تحت مرأى شذا التي سارت خلفها بخطوات متسارعة بينما تقول:
_ "إستنّي يا وتين."
ثم سرعان ما دقّقت النظر إلى ما جذب انتباه وتين ففهمت سريعا كونها تذهب نحو زوجها الغير معلوم سبب وجوده بالمشفى لكليْهما.. ربتت وتين على ذراعه لينظر إليها فتتّسع عيناه بدهشة لرؤيتها وخلفها شذا حيث تقدمت منه بينما تقول وتين:
_ "بدر إنت هنا!"
وكأنّ احتدام الموقف يحتمل مجيء هاتيْن الاثنتيْن لتبدأ وصلة لا متناهية من الأسئلة عن أمر كان يرجو أن يصبح سريّا قدر الإمكان.. رمق وتين بتساؤل مستفهما:
_ "إنتو بتعملوا إيه هنا؟"
أجابته بتلقائيّة:
_ "تعبت شويّة وشذا أصرّت تاخدني المستشفى."
نقل بصره بينها وبين شذا ثم نطق بقلق:
_ "وطلع عندك إيه؟"
_ "اطمّن شويّة أنيميا."
فتئت بها وتين بنبرة مطمئنة بعض الشيء ثم استطردت تقول وعيناها تجولان على ملابسه المبتلّة وشعره المندّى:
_ "إيه اللي عمل في هدومك كدة؟"
أجابها بجديّة:
_ "انقذت بنت كانت هتغرق في المايّة."
وضعت يدها على صدرها وقد ارتسم القلق على ملامحها حيث تقول بشفقة:
_ "يا حبيبتي! وعاملة إيه دلوقتي؟"
همّ ليجيبها ولكن سرعان ما قاطعته شذا بتساؤل آخر وعيناها على حمزة:
_ "هو حمزة كمان معاك؟"
حانت منه التفاتة نحو ابن عمّه الذي كان يجلس على الكرسيّ بينما يسلّط عينيه أرضا ورأسه منكسا وكأنّ كل الهموم اجتمعت للإثقال عليه.. كان شاردا إلى درجة أن لم ينتبه لوجود هاتين السيّدتيْن بل كان عقله منشغلا بسلامة من بداخل الغرفة وما دفعها لإلقاء نفسها بفم الموت دون الاكتراث لشأنه وما قد يحلّ به إن أصابها مكروه..
أسرع بدر يقول بثبات مصطنع:
_ "أأ أيوة أنقذتها وهو كان معايا."
عادت تسأله بعدم فهم:
_ "وليه مستنيينها بقى؟"
وهنا قاطعه خروج الطبيب من الغرفة ليسرع إليه حمزة هاتفا بلهفة:
_ "دكتور! طمنّي عليها.. عاملة إيه دلوقتي؟"
نظر إليه الطبيب قائلا بنبرة مهدّئة:
_ "ماتقلقش يا أستاذ هي بخير بسبب التنفّس الاصطناعي."
احتدّت ملامح وتين بينما يكمل الطبيب:
_ "ممكن واحد فيكم ييجي معايا عشان شويّة بيانات."
اجابه حمزة بإيجاب:
_ "جاي معاك يا دكتور."
ثم انصرفا معا باتّجاه مكتب الاستعلامات تحت نظرات بدر الذي كان يشعر بالقلق يحاوطه من كل الجوانب.. انتقل بعينيه نحو زوجته ليجدها ترمقه بعينين ناريتين والدماء تتقن بعروقها ليقول بعدم فهم:
_ "بتبصّيلي كدة ليه؟"
أجابته بنبرة مقت وغضب:
_ "تنفّس اصطناعي هاه؟!"
جعّد حاجبيْه بينما يقول بتساؤل:
_ "إيــه؟!"
ثم سرعان ما استدرك مرادها حيث يبدو أن سوء الفهم سيقع عليه بكونه الذي أنقذها بالتنفس الصناعي فأسرع يقول:
_ "آااه.. لأ استني مش انا."
لم تعطِه فرصة للتوضيح وإنما نطقت بغيظ:
_ "أمّال مين يا فاعل الخير ياللي الواجب ما يفوتكش؟! إنت خلاص غيّرت المجال وبقيت في الإنقاذ؟!"
عاد حمزة إلى الرّواق ليجد احتدام الموقف بين بدر وزوجته حيث يردف الأول مبرّرا:
_ "يا وتين انتي فاهمة غلط...."
قاطعته هاتفة بنزق:
_ "وإيه هو الصح يا حبيبي فهمني؟! رميت نفسك في المايّة وأنقذتها وماتكلمتش لكن كمان عملت تنفّس اصطناعي؟! إنت عايز تجنّنّي؟!"
هنا تولّى حمزة زمام الحديث قائلا بهدوء:
_ "يا مدام في سوء تفاهم.. ده أنا مش هو."
نقلت بصرها إليه بينما تقول بحدّة:
_ "إنت إيه؟"
أسرع يجيبها بحرج:
_ "انا اللي عملت التنفّس الصناعي بعد ما أنقذها."
تسمّرت وتين مكانها بينما تنظر إليهما باستنكار في حين جذبتها شذا قائلة:
_ "يالّا يا وتين."
ثم ألقت كلمة مرحة قبل انصرافهما:
_ "ما شاء الله في فعل الخير ما بتقصّروش! مستنّيينكم في العربيّة."
الأمر لا يحتمل المزاح أو التبرير حتى فانطلق الكلمات رخيمة مقتضبة لا حياة فيها.. جذب بدر حمزة قائلا بأمر:
_ "يالّا نمشي."
لم يتحرّك سنتيمترا واحدا وإنما تجمّد في مكانه قائلا بإصرار:
_ "مش قبل ما اتطمّن عليها."
وقف بدر مقابله ناطقا بحزم:
_ "يا حمزة البنت دي ماتنفعش ليك بأيّ شكل من الأشكال."
حدج ابن عمه بتبرم قائلا:
_ "ليه بقى؟ إيه مشكلتها؟"
ألقى بدر قنبلته الموقوتة غير آبه للعواقب بقوله:
_ "مشكلة عيلتها يا حمزة دي بنت مهرّب كبير في البلد مش عارفين نمسكه لحد دلوقتي."
اتّسعت حدقتاه بقوّة حتى كادتا تخرجان من محجريهما حيث نطق بتردّد يتخلّله عدم التصديق:
_ "إنت.. إنت بتقول إيه؟"
أجابه بذات الجديّة:
_ "أنور حسّان مهرّب؟!"
ولم يرحم صدمة هذا المسكين في سماع مثل هذا الخبر الصاعق بل أكمل باقتضاب:
_ "هو ووليد إبنه.. وفهد دلوقتي وسطهم بيتجسّس عليهم ومش عارف يمسك حاجة عليهم."
ثم تحرك إلى الخلف قائلا:
_ "بعد إذنك."
**********
في غرفة نهلة.. كان أمان يجلس على الكرسيّ المُجانب لنهلة.. يتابع تعبيرات وجهها بينما تشاهد أحد المسلسلات المفضّلة بالنسبة لها حيث عرف ذلك عن طريق تواصل سابق مع رغد.. قاطعها عن المتابعة بقوله:
_ "اممم يعني (جون) بيطلع له سكاكين من ضهره بمجرّد ما يغضب وده سبب إن المسلسل إسمه الرجل الحديدي؟"
أماءت برأسها إشارة إلى الموافقة ليقول بابتسامة ليّنة:
_ "تصدقي طلع الكوري دمّه خفيف! وأفكارهم باين عليها creative (مبدعة)."
أمسكت الدفتر الذي على الكومود ثم دوّنت بضع كلمات وأعطته إياه ليجدها تجيب:
_ "جدا.. حلو أوي وتمثيلهم جميل."
وجد النصر لتدريبها على إمساك الورقة والقلم واجتياز أعصابها للكتابة بنجاح فأكمل متسائلا:
_ "بس ازاي بتعرفي تفرّقي بين الأبطال؟ ده كلهم شبه بعض!"
عادت تدوّن كلمات أخرى على نفس الصفحة فحواها:
_ "محتاج وقت قليّل من المتابعة عشان تعرف تفرّق بينهم بعد كدة هتعرفهم من أوّل نظرة."
عاد ينظر إلى التلفاز قائلا بعدم فهم:
_ "بس في حاجة غريبة."
_ "إيه هي؟"
كان هذا سؤالها التالي على الورقة ليفتئ بحيرة:
_ "الرجّالة بيحطّوا ميكب ولا انا بيتهيألي؟"
ارتسمت ابتسامة واسعة على ثغرها أتبعتها ضحكة عالية نسبيّا بينما تغمض عينيها ليقول دون أن يزيح بصره عن التلفاز باستنكار:
_ "صح! الولد ده حاطط روج بامبي!"
ازدادت ضحكاتها علوّا ووضوحا حتى وقع الدفتر والقلم من بين أناملها ليلتفت إليها متسائلا عن سبب ضحكها ثم سرعان ما تسمّرت معالمه بينما يحملق فيها وهي تضحك من قلبها للمرّة الأولى.. ضحكتها الرنّانة تطرب لها أذنه.. معالمها المشرقة تزيد من وهجها بعينيه حتى رآها كشمس سطعت في سماء صافيّة.. وما ان تفتح عينيها حتى ينبهر بالبريق المغلّف خضراوتيْها القاتمتيْن.. كم هي جميلة أثناء سعادتها.. مشرقة لامعة أطفأتها الصدمة لفترة طويلة وعمل بكل قوّته لإعادتها.. وما كان يعلم أنها بهذا الجمال الخلّاب الذي نجحت تعويذته كالسحر في إبهاره.. أفاق من شرود مع وكزة خفيفة من أناملها تحثّه بالإشارة على إحضار الدفتر والقلم.. فأسرع إلى تدارك الموقف وناولهم إيّاها قائلا:
_ "إيه بقى؟"
أتته اجتابة مكتوبة تقول:
_ "فعلا مشكلتهم الروج.. أصلا معروف في كوريا إن نصّ الميكب بيستخدموه الرجّالة.. شايفين انهم المفروض ما يتمنعوش من التجميل زيّ الستّات."
عاد إلى التعامل كطبيب معالج يريدها أن تتمرّن على الكتابة بشكل أسرع فسألها:
_ "طب ودي حاجة حلوة؟!"
_ "هي وجهة نظر وعادات عندهم.. زيّ مثلا الراجل هنا اللي فاهم إن الدقن بيخلّي شكله أحلى!"
انتبه لكونه من هذا الصنف الذي تحدثت عنه للتوّ حيث لحيته النابتة السمراء تغلّف ذقنه بشكل يأسر الأنظار كما يسمع دائما.. ولكن ماذا عنها؟ّ! انتبه إلى حركة منها بأناملها تسأله عن سرّ صمته فيقول بسرعة بصوت مرح:
_ "ولا حاجة.. يالّا نرجع للراجل اللي حاطط ميكب!"
**********
_ "عشان كدة اختارت أحسن طريق.. غيابي هو الأسهل يا حمزة.. عارفة انك هتزعل مني.. بس مش بإيدي كله عشانك إنت.. أنا علفكرة مش ندمانة على أيّ حاجة عملتها كفاية إني دُقت طعم الحب بعد ما كان السواد هو اللي مغطّي قلبي والغيوم غامرة سعادتي.. أول مرّة أحب الموت كدة طالما عشانك إنت!"
كانت تلك آخر كلمات تلفّظت بها قبل أن تلقي نفسها بفم النهر وتفقد الوعي نتيجة لتوقّف قدرتها على التنفس.. وهي أيضا كانت آخر كلمات وردت إلى مسمعها قبل أن تعود إلى الوعي حيث تستفيق ببطء بينما تشعر بضيق يثقل على أنفاسها.. اتّسعت عيناها بقوذة حين رات حمزة يجلس إلى جانبها يرقبها والخوف باديا على ملامحه فهمّت لتتحرّك ولكن سبقها سعال شديد أصدرته رئتيْها المجهدتيْن بعد امتلائهما هذا الكم من الماء.. هبّ عن مجلسه كي يعيدها إلى الجلوس قائلا بقلق:
_ "براحة يا رغد.. إشربي مايّة."
ناولها كأس الماء لترتشف منه القليل ثم تعطيه إياه بأنامل مرتجفة بينما تقول بتعب:
_ "إيه اللي حصل؟"
أتاها صوته الحاد بينما يقول مستفهما بقتامة:
_ "أنا اللي المفروض اسألك عن اللي حصل.. ليه عملتي كدة يا رغد؟"
سلّطت عينيها عليه وقد سيطر الامتعاض على معالمها بينما تسمعه يكمل بعتاب:
_ "إيه اللي أجبرك على كدة؟ إنتي عارفة انا من غيرك يجرالي إيه؟"
تناولت شهيقا عميقا ثم زفرته بإجهاد قائلة بصوت تخنقه العبرات المكبوتة:
_ "لازم تتعوّد على بُعدي يا حمزة.. ياريتك سيبتني أغرق.. كان زمانك ريّحتني دلوقتي!"
أثناها بقوله بغضب:
_ "ليه كل ده؟ إيه اللي يخلينا نبعد؟ قوليلي إيه العيب فيّا؟"
أجابته بنبرة يتخلّلها الوجع:
_ "العيب مش فيك.. ده فيّا أنا."
وهنا لم يجد بدّا من الاعتراف حين أردف بجديّة:
_ "أنا عرفت كل حاجة يا رغد.. ابن عمّي ظابط وفهمني."
احتقنت الدماء بوجهها حتى تحوّلت بشرتها إلى اللون الأحمر بينما تخفض بصرها وهي تقول بصوت مكبّل بالخزي والخجل:
_ "لأول مرة أكون مكسوفة وانا بتكلم عن أهلي يا حمزة.. بس للأسف همّا اللي فرضوا الوصمة دي عليّا!"
ثم عادت تنظر إليه بعينيها المترقرقتيْن بالدمع بينما تردف بحرقة:
_ "بس كل ده اتعوّدت عليه.. لكن اللي مش هقدر عليه أبدا ان حياتك تكون فــ خطر بسببك."
ضيّق حدقتيْه بتساؤل قائلا:
_ "إزاي انا فــ خطر بسببك؟!"
أكملت حديثها بنحيب:
_ "أخويا عايز يجوّزني لظابط بيشتغل معاه ووفي ليه.. ولمّا رفضت هدّدني يا أتجوّزه يا يإذيك."
حاولت التقاط أنفاسها اللاهثة بينما تسترسل بجزع:
_أنا ماستحملتش اللي فرضه عليّا عشان كدة اختارت الانتحار وانت للأسف أنقذتني! سيبني يا حمزة أبوس إيدك."
هنا اتّضحت لرؤية بالنسبة إليه حيث وقعت بين براثن هذا العذاب الذي دفعها إلى سلب حياتها لأجله ولأجل عشقه.. حبيبته الغالية أقدمت على تلك الفعلة الشنيعة لأجل سلامته.. اعتلى الألم ملامحه وغمره التوق ليمسك بكفّها بين راحتيه مؤازرا وحاميا.. قام بمسح عبراتها بطرف إبهامه وقبل أن ينبس ببنت شفة قاطعته طرقة على الباب أتبعها دلوف بدر دون انتظر الإذن ليجدهما على هذا الحال فقال بنبرة جادذة:
_ "حمد الله عالسلامة يا آنسة."
_ "الله يسلمك."
تمتمت بها بخفوت بينما تسحب كفّها بهدوء.. ليوجّه بدر حديثه إلى حمزة قائلا باقتضاب:
_ "يالّا يا حمزة عشان نمشي.. أنا خلّيت إدارة المستشفى تكلّم أهلها ودلوقتي على وصول."
أجابه بالتجاهل حيث ظلّ ينظر إليها والحزن يكسو وجهه خوفا من أن تكون تلك اللحظة الأخيرة للقاء ليعود بدر إلى الحديث بشكل أكثر حزما:
_ "يالّا يا حمزة بقولك."
تناول أنفاسه بصعوبة ثم وقف عن مجلسه في طريقه إلى الخروج كالمغيّب دون أن يكون لقلبه موافقة على ذلك.. تركها وشعر بأن روحه صارت إلى جانبها وما معه ليس غلا بقايا الجسد بعد العائق المنيع الذي وقف اليوم في طريقه..
على الجانب الآخر..
_ "هو إيه اللي حاصل مع البنت دي؟"
نطقت بها شذا بحيرة لتجيبها وتين بشك:
_ "باين حمزة بيحبها!"
عادت تسأل بعدم فهم:
_ "وانتحرت ليه؟"
رفعت كتفيها إلى الأعلى إشارة إلى الجهل بينما تقول بهدوء:
_ "مش عارفة! هبقى اكلم بدر وافهم منّه."
تكلمت شذا بشيء من المرح:
_ "ماتنسيش تفهّميني عشان حاسّة اني هطقّ لو ماعرفتش!"
همّت لتنطق وتين ولكن أوقفهما عن الحديث مرور حمزة إلى الخارج متجاهلا إيّاها والإحباط يبدو جليّا على ملامحه فأسرعت شذا إلى ملاحقته منادية إيّاه للتوقّف ولكن لم يستمع في حين بقيت وتين بمكانها تنظر إليهم بعدم فهم حتى أتى بدر قائلا:
_ "يالّا يا وتين."
نظرت إليه لتجده لا يقلّ عن الأول إحباطا فقالت بقلق:
_ "ماله حمزة يا بدر؟"
أجابها باقتضاب:
_ "مرهق من الشغل."
عَلِمَت أن هناك خطب عظيم الشأن بحيث يصعب على أحدهما التفوّه بكلمة منه في الوقت الراهن.. ففضّلت الصمت حتى يحين الوقت المناسب لإعلان الأمر.. سارا بهدوء نحو الباب الخارجيّ ولكن ما لبثت أن شعرت بالدوار يخالج رأسها من جديد لتتوقّف بينما تفرك جبهتها وعينيها مغمضتيْن.. رمقها بدر بقلق قائلا:
_ "مالك يا وتين؟"
أجابته وهي تهزّ رأسها بضعف:
_ "نفس الدّوخة!"
أسرع يقول بتساؤل:
_ "طب نرجع للدكتور؟"
أجابته بهدوء:
_ "مش هيقول حاجة جديدة.. يالّا نمشي."
_ "طب اسندي عليّا."
من الجهة الأخرى.. انتهى كل من وليد وأنور من تجاوز الباب الخارجيّ للمشفى حيث أسرع الأخير إلى مكتب الاستعلامات متسائلا عن محلّ وجود ابنته بينما وقف وليد والتوتّر يكسو ملامحه قلقا من مقابلته مع رغد كي لا يفقد أعصابه وصبّ جام غضبه عليها بعد هذا الذي فعلته وقد كان وشيكا على التسبّب بفضيحة أخرى.. نظر يمينا  ويسارا بإهمال ثم سرعان ما استقرت عيناه على وجهة بعينها حين رأى تلك السيدة الحامل التي تقف إلى جانب هذا الرجل ومعالمهما مألوفة جدا سرعان ما نجحت ذاكرته بالتقاطهما.. فالأول الضابط بدر ابن عمّ فهد شريكه والذي تسبّب بالقبض على إحدى العمليّات.. وتلك الحامل يذكرها جيّدا رغم الضباب الذي جمعهما في ليلة اختفى فيها القمر.. إنها نفسها التي لقّنها درسا قاسيا بسلب ما يجعلها مرفوعة الرأس طوال حياتها.. إنها نفسها التي أقسم على تحميلها الخزيْ والعار طوال عمرها.. إنها نفسها التي تلذّذ بصراخها تلك الليلة وكأنه سيمفونيّة متناغمة! إنها نفسها التي توقّع أن تُدمّر حياتها جرّاء فعلته ولكن يبدو عكس ذلك الآن! فهذا الضابط يقف إلى قربها بطريقة توضّح العلاقة بينهما.. يضع يسراه حول خصرها ويمينه تحمل كفّها بينما تستند عليه بكلّ جسدها.. يسيران ببطء نحو الخارج تحت أنظار وليد الحارقة حيث شعر بفشل مخطّطاته بشأن إحدى الضحايا بين ثانية وأختها.. ظلّ يتبعهما حتى أجفل مع صوت والده الذي قال
_ "في إيه يا وليد؟"
التفت إلى والده ليجده يقول بجديّة:
_ "يالّا."
حاول التماسك وكبت انفعاله وهو يتحرك قائلا:
_ "آه حاضر."
**********
وسط جمع من العساكر وأمام أحد الشيوخ.. وقف طارق أمام مقصلة الإعدام على خلاف العديدين ممّن كانوا قبله في هذا الموقف.. فقد كان يقف أمام حبل المشنقة يرمقه بتحدٍّ واضح دون أن تهتزّ له شعرة من الخوف من الموت.. معالمه هادئة لا يشوبها ذرّة من الفزع من هول الموقف بل يبدو عليه الاستعداد الكامل لالتفاف الحبل حول عنقه متحرّرا من هذه الحياة القاسية.. فلطالما فقد والدته الحنونة زينب التي كانت دوما ما تحتويه رغم مرض التوحّد الذي يجعله بعيدا عن الباقين.. وبعدها فقد والده الذي كان يحاول القيام بواجباته كأب قدر الإمكان.. وبين هذا وذاك فقد عشق من رأى فيها والدته.. وتين التي كان يرى سعادته في رؤية بسمتها الصافية التي دوما ما كانت تذكّره بوالدته الفقيدة.. ولكن كالعادة أخفق في التعبير عن مشاعره أمامها وما اجتاز إلا الانتقام لأجلها ممّن ارتكب ذلك.. وها هو الآن يدفع ثمن هذه الفعلة غاليا.. ورغم محاولات الأطباء ومحامي الدفاع المستميتة لإثبات كونه مضطرب عقليّا ولا يعلم خطورة ما يقوم به إلا ان ثورة الرأي العام كانت أقوى تأثيرا مطالبا بعودة حقّ الضحيّة المنتحرة التي تعاني بسببه حتى الآن.. ولكن ما عاد يهمّه هذا الفشل بل يستقبل الموت بصدر رحب.. وينتظر بفارغ صبر أن ينهي الحبل دوره ليلقى والدته الحقيقيّة بعدما فشل في لقاء شبيهتها..
**********
كان بدر جالسا على السرير بينما يخلّل شعره المندّى من اثر الاغتسال بأنامله.. ثم وضع يده أمام فمه بينما يعطس لتأتيه وتين وهي تمسك بالمنشفة قائلا:
_ "ده باين عليها ليلة قمر هتبدأ بزكام!"
أمسك المنشفة من بين يديها قائلا:
_ "كله يهون.. الحمد لله إنها بخير دلوقتي."
جلست إلى جانبه قائلة بهدوء:
_ "برضه مش ناوي تقولي إيه حكاية البنت دي وإيه علاقتها بحمزة؟"
انتهى من تجفيف شعره ثم نظر إليها قائلا برجاء:
_ "سيبي كل حاجة لوقتها يا حبيبتي."
أماءت برأسها بتفهذم قائلة:
_ "أوكي قول وقت ماتحب."
أمسك بيدها مغيّرا مجرى الحديث بحنو:
_ "بس طلعت حبيبتي بتغير عليّا وانا مش واخد بالي!"
رفعت أحد حاجبيْها قائلة بسخرية:
_ "والله! عارف لو كنت عملت كدة أنا كنت هعمل فيك إيه؟"
أسرع يرسم الخوف على ملامحه قائلا بمزاح:
_ "شوفي بتبقي زيّ القمر لكن لما بتتعصّبي بتبقي....."
وضعت أحد يديها على خصرها قائلة بتهديد:
_ "ها ببقى إيه؟"
غيّر مجرى الحديث بقوله:
_ "خلاص بقى نبطلها سيرة.. المهم إيه اخبارك دلوقتي؟ الدكتور قالّك إيه؟"
أجابته بنبرة طبيعيّة:
_ "أخدت مقويّات عشان تساعدني.. يظهر ان الشهور اللي جايّة هتبقى صعبة جدا!"
أماء برأسه بينما يربت على كتفها قائلا بحب:
_ "الموضوع مش سهل بس انا معاكي يا حياتي."
أسندت راسه على كتفه بينما تقول برقّة:
_ "ربنا يحفظك ليا وان شاء الله نشوف إبننا قريّب."
_ "يا رب."
**********
_ "رفضت تتكلم خالص واحنا في المستشفى.. شوفي مالها وبلّغيني."
نطق بها أنور بنبرة قاتمة آمرة أمام حنان التي قالت بطاعة:
_ "حاضر."
ثم خرجت من الغرفة منتقلة إلى حيث توجد رغد.. ابنتها الصغيرة التي فضّلت الموت على تنفيذ الأوامر ضاربة بوصايا والدتها عرض الحائط.. اقتربت منها بهدوء لتجد الطعام الذي وضعته الخادمة كما هو لم تمسسه حتى فجلست إلى جانبها ثم ملأت الملعقة ببعض حبّات الأرز وقرّبتها من فمها قائلة بحنو::
_ "كلي يا رغد.. إنتي على لحم بطنك من الصبح يا حبيبتي."
أشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى وكأنّ ذلك جوابها الأكيد بعدم رغبتها في الطعام تماما كالحياة.. فقالت بنبرة تعلوها الشفقة والتفجّع على صغيرتها:
_ "أنا مش قلت لك تسمعي الكلام وتنسي الولد ده يا رغد؟ ليه مش عايزة تفهمي إنه صعب تكوني معاه؟"
وهنا نظرت رغد إلى والدتها بعينين ملتمعتيْن بالدمع المتلألئ فيهما بينما تنطق بألم:
_ "مش قادرة يا ماما والله ما قادرة!"
ثم بدأت تضع كفّيها أمام وجهها صارخة بجزع:
_ "مش قادرة انســــاه! آه!"
لم تحتمل الجمود أكثر من ذلك فأسرعت إلى احتواء طفلتها بين ذراعيها تشدّ من احتضانها كي تفرغ الثانية القليل ممّا بجعبتها.. باكية.. عاجزة.. متألّمة.. نشدت الرحمة ولم تلقاها.. طلبت الموت ولم تجده.. وليس أمامها سوى الرّضوخ خاصّة بعد علم حمزة بالأمر وتأكيده برفض عائلته للأمر استنادا إلى موقف بدر القاتم أثناء مقابلتها.. ولكن هل تستمع أو تنفّذ؟!
**********
ولم تكن رغد وحدها التي تتلوّى من فرط العذاب الذي أجبرتها الظروف على الخوض فيه.. بل كان لحمزة نصيبا مماثلا.. حيث بقي الأخير أمام مصيبة ذات حدّين.. فمن جهة عائلة رغد صاحبة الأعمال المشبوهة والتي تحكم عليها بالزواج من غيره.. ومن جهة ثانية توجد عائلته التي سترفض قطعا إقرانه بها خاصة بعد علم يونس وبدر وفهد بأمرها.. عوائق منيعة وأشواك حادّة تقف في طريق عشقه لها فهل يتوقّف يعود مستسلما؟ أم يحارب بجسارة للحصول عليها متجاوزا تلك الحواجز متحدّيا تلك الأشواك؟
_ "كنت عارف اني هلاقيك هنا!"
أجفل مع تلك الكلمات التي وردت إلى مسمعه من لسان بدر لينظر إليه قائلا بنبرة جافّة:
_ "جيت ليه يا بدر؟"
جلس مقابله ثم قال بجديّة:
_ "عشان اعرف انت ناوي على إيه بعد كل اللي عرفته."
أردف بنبرة يشوبها الاستهزاء:
_ "يهمّك أوي؟!"
أسرع بدر يقول ببعض الحكمة:
_ "أكيد طبعا.. عارف انك عاطفي وبتحكم بقلبك بس ماينفعش هنا وإلا هتورّط نفسك فــ مصيبة."
لم يأتِه الجواب من حمزة الذي فضّل السكوت ليقول بدر بشبه رجاء:
_ "قرّرت انك تبعد صح؟"
أماء برأسه إشارة إلى الموافقة بينما يقبض على فكّيه ألما والامتقاع يكسو معالمه بينما يقترب منه بدر وقد ارتخت معالمه براحة شديدة حيث ربت على فخذه قائلا بتأييد:
_ "أحسن قرار خدته يا حمزة.. ربنا يعوّض عليك بحب حقيقي."
**********
في صباح اليوم التالي.. كانت رنيم جالسة بغرفة الضيافة بمنزل أنور حسّان بعد استدعاء من حنان التي طلبت نجدتها في إثناء رغد عمّا برأسها اعتبارا بكونها صديقتها المقرّبة.. وقفت عن مكانها احتراما مع دخول حنان بالغرفة حيث قالت الأخيرة بترحيب:
_ "منوّرة يا بنتي."
ما أن صافحتها حتى قالت بتساؤل:
_ "رغد عاملة إيه دلوقتي يا طنط؟ طمّنيني عليها."
تنهّدت بتعب بينما تقول بحزن:
_ "حالتها صعبة أوي.. مش عارفة اهدّيها خالص! هيّ بتحبّك وبتسمع كلامك.. اقنعيها تاكل عالأقل."
فتئت رنيم بجديّة:
_ "خديني عندها."
تبعت أثر حنان متّجهة إلى الدّرج ومنه إلى غرفة رغد حيث دلفت خلف حنان لتجدها متصنّمة عيناها ساهمتان مثبّتتان بنقطة وهميّة والطعام مرصوص على الصينيّة أمامها دون أن تمسّ قطعة منه.. فاقتربت رنيم من حنان وهمست بأذنها ببضع كلمات لتجيبها الثانية بالإيجاب حيث أطاعت أمرها بالخروج لتصبح الفتاتين على انفراد.. جلست رنيم مقابلها ثم جذبت الملعقة التي تحمل بعض الشوربة وقرّبتها من فمها قائلة بحنوّ:
_ "كلي يا رغد."
أطبقت شفتيْها بقوّة كإشارة للتصميم على موقفها بالامتناع عن الطعام علّ طاقتها تنفذ قريبا وتموت تاركة هذا العالم بما فيه.. فقد أعلنت صراحة كونها لن تحتمل رؤية نظرات الغضب من حمزة أو الحياة مع غيره.. انتبهت إلى صوت رنيم مكملة:
_ "العناد مع صحتك مش هيجيب نتيجة لازم تفكّري في اللي جاي."
ظلّت على حالها دون غضفاء كلمة لتكمل رنيم بجديّة:
_ "علفكرة حمزة كلّمني وقالّي أوصل لك رسالة."
**********
قضى الليل بطوله دون أن يتذوّق للنوم طعما حيث جافاه وامتنعت الراحة عن الوفود إلى ذهنه وظلّ التوتر مسيطرا على جنبات عقله.. فما رآه بالأمس كان كفيلا بسلبه الراحة ودفع عقله إلى الانفجار من شدّة الغيظ إلى حدّ أن انشغل عن رغد والحماقة التي ارتكبتها.. تلك المحاميّة اليافعة التي أقسم على تدمير حياتها وذبحها بالحياة وما قام به كان كفيلا لتدفن نفسها حيّة ولا تُري نفسها لأيٍّ كان.. ولكن أخفق في تحقيق ذلك تعيش تلك السيدة بسعادة الآن ومعها زوجها الضابط الذي ساعدها إلى جانب كونهما بانتظار طفل الآن! إنها المرة الأولى التي يسلَم فيها أحد من ضربته القاضية! صدع شديد انتاب رأسه وبعثر أفكاره حتى ما عاد يستطيع مواجهة العالم الخارجيّ قبل ترتيب حساباته من جديد.. فهل يعقل أن تأثيره بات غبارا!
**********
ودّت لو فقدت سمعها قبل أن تستمع لخبر إيصال رسالة لها عبر رنيم.. ولكن كان سيحصل ذلك عاجلا أم آجلا فقط هي من لا تقوى على معرفة ردّ فعله بعدما علم من حقيقة عائلتها المخزية.. أسرعت تضع كلتا يديها على أذنيْها عازلة أيّ أصوات خارجيّة.. مؤكّدة رفضها القاطع لسماع رسالته بطريقة هستيريّة.. وهنا أسرعت رنيم إلى إزاحة يديها بعيدا ثم تمسك بذقن صاحبتها بينما تقول بنبرة جادّة: 
_ "حمزة بيقولّك جهّزي نفسك عشان يوم الاتنين الساعة 8 الصبح هيستنّاكي مكان ما بتتقابلوا ومن هناك هتسافروا  برّة مصر وهتتجوّزوا."
أيعقل أنها في حلم وما تشعر بها من أصوات رنيم ولمساتها لا يسكن بأرض الواقع؟! لقد سمعت توّا كلمة لم تكن في حسبانها من كافّة التوقّعات التي رسمتها بشأن حمزة.. والآن تفاجئها رنيم بعرضه للزواج عليها تاركين هذا العالم بما فيه بادئين حياة جديدة بمنأى عنه!
ازدردت ريقها بصعوبة بينما تقول بشيء من التوتر:
_ "إيه؟!"
ابتعدت رنيم عن زميلتها قائلة بتأكيد:
_ "حمزة أكد لي انه مايفرقش معاه كل اللي عرفه ومستعدّ يخاطر عشانك.. هو مرتب كل حاجة.. بس لازم تعرفي تخرجي من البيت في اليوم ده.. هتعيشوا حياتكم وماحدش هيعرف لكم طريق."
لمّا وجدت ارتخاء عضلات وجه رغد تأكّدت من كون الفكرة نالت استحسانها فعادت تقرّق لقيمة الطعام من فمها قائلة:
_ "ممكن بقى تاكلي؟"
أماءت برأسها بتأكيد بينما تنهمر العبرات من عينيها بغزارة.. لكن هذه المرة كانت دموع الفرح من تشقّ صفحتيْ وجهها.. فخطة الهرب والزواج بعيدا عن تلك الأجواء المشحونة خطّة في غاية الشجاعة من حمزة الذي أثبت حبه اليوم بتجاوز هذا العائق.. سيترك عالمه متخطّيا الأشواك التي تعترض طريقه متمثّلة في عائلتيهما.. سيجتاز اختبار العشق بكل ما أوتي من قوّة وليكون النصر حليفه مع دعمها.. ولن يكون الخطر حولهما هذه المرة خاصة وأن وليد لم يعرف بعد هويّة معشوقها الحقيقيّ..
**********
نهاية أحداث الفصل التاسع والثلاثين
يا ترى إيه اللي ممكن يحصل بعد خطوة حمزة المجنونة دي؟
انتظروني في الفصل القادم من رواية #اغتصاب_لرد_الاعتبار وهمسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now