الفصل الثاني والأربعين

465 21 16
                                    

42
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثاني والأربعين."
(الجذام)
(أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.. من همزه ونفخه ونفثه.)
**********
أخذت تحرك الفرشاة على شعرها المتموّج بانسيابيّة حتى انجذب انتباهها إلى بطنها الذي تغيّرت معالمه وصار بارزا خلف ملابسها.. وضعت الفرشاة على سطح التسريحة ثم وقفت باستقامة كي تمسّد بطنها بينما تنظر إلى انعكاسها بالمرآة.. وكيف تغيّر شكل جسدها مع هذا الانتفاخ الآخذ في الازدياد يوما بعد يوم منبّئا عن زيادة عمر جنينها الصغير الساكن بين أحشائها.. كانت السعادة تغلّف نظراتها إلى حدّ لم تنتبه إلى بدر الذي احتضنها من الخلف ساندا رأسه على كتفها بينما ينظر إلى انعكاسها قائلا بحنو:
_ "شايف ان شكلك بدأ يتغيّر!"
أماءت برأسها موافقة:
_ "جدا.. ومش في شكلي.. ده حتى لبسي ومقاس رجلي كل حاجة اتغيّرت!"
تحدث مطمئنا برفق:
_ "معلش يا حياتي بس تخلص الفترة دي وهترجع كل حاجة زي ما هي."
أمسكت بيده ثم وضعتها على بطنها كي يتحسّسها بينما تقول برقّة:
_ "أنا مش زعلانة.. فرحانة إنه بيكبر جوّايا وان شاء الله باقي الاربع شهور يعدّوا على خير ونقدر نشوف ابننا بقى!"
طبع قبلة خفيفة على وجنتها ثم قال بحب:
_ "إن شاء الله هيحصل قريب يا قلبي."
_ "يا رب."
أجفل عن تلك الذكرى الجميلة مع صوت والده مناديا:
_ "بدر!"
ببطء رفع عينيه ناقلا بصره نحو والده الذي كان يقف على مقربة من السيارة بينما يكمل بجديّة:
_ "وتين فاقت من البنج."
زفر بهدوء قبل أن يترجّل عن السيّارة فيتلقّاه والده بربتة على كتفه بينما يقول مؤازرا:
_ "هي محتاجة لك دلوقتي أكتر من أيّ وقت تاني.. إجمد."
أماء برأسه دون كلام ثم بدأ بالسير بخطوات وئيدة تميل إلى التراجع.. فقد بقيَ لساعتيْن وحيدا يشعر بمرارة فقد طفله كالعلقم بينما تؤنسه ذكرياته الماضية معها وتخفّف من وقع الصدمة الأليمة.. يحاول جاهدا الصمود كي يوحيها بالتحمّل.. ولكن هو نفسه لا يستطيع الصبر وإن اصطنع! لا ينسى كيف كانت ظروف مجيء هذا الطفل وكيف كان السبب في اجتماعهما وإزالة العوائق بطريق عشقهما ليتنعّما بمذاق الحب ويعيشا في كنف فرحة انتظار هذا الصغير.. ولكن سرعان ما اصطدمت أحلامهما بحائط الأسى لتبدأ رحلة المعاناة وهو على أتم تأكيد بعودة علاقتهما أميالا إلى الوراء.. فلن تمرّر وتين هذا الأمر مرور الكرام.. بل ستقع ببئر الانهيار خاصّة وأن هذا الطفل كان سببا رئيسيّا لإقبالها على الحياة.. فما هو ردّ فعلها بعد أن فقدته؟! ستصرخ باكية وعليه الصمود.. ستنهار وعليه مساعدتها للعودة من جديد.. فليست هذه نهاية المطاف.. بل يوجد العوض بإذن الرحمن..
توقّفا أمام باب الغرفة ليبتعد يونس إلى الوراء مفسحا المجال لابنه كي يدخل وحده.. تناول نفسا عميقا زفره بسرعة قبل أن يستجمع قوّته بإدارة المقبض ليدخل بخطوات هادئة.. ما أن وقعت عيناه عليها حتى تسارع قلبه بالخفقان بكاء عليها.. وجهها الشاحب الذي تنساب العبرات عليه كشلال مائيّ بينما تحاول والدتها التخفيف عليها ولكن دون جدوى.. فما فقدته أكبر من تجاوزه بين ليلة وضحاها.. وقف رياض عن كرسيّه ثم قال:
_ "اتفضّل يا بدر."
تقدّم منها حتى صار الفاصل بينهما لا يتجاوز مسين سنتيمترا بينما يقول بحنو:
_ "معلش يا وتين.. إن شاء الله ربنا يعوّض علينا."
تنبّهت حواسّها بعد سماعها لصوته فاتّسعت عيناها بقوّة وقد اشتعلتا كجمرات ملتهبة حتى حدّقت به قائلة بقسوة يتخلّلها الوجع:
_ "طلقني يا بدر."
بهتت نظراته دهشة بما تفوّهت به زوجته توّا وهو يحاول مراجعة ذلك علّها كانت تهذي أو أن أذناه عجزتا عن سماع شيء آخر يخالف مقصد تلك الكلمة الثقيلة.. أردف بنبرة حائرة طالبا التأكد:
_ "إيــــه؟!"
وفي ذات اللحظة أسرعت جيهان إلى نهرها بينما تهتف بعدم تصديق:
_ "وتين إنتي جرى لعقلك إيه؟ ليه يا حبيبتي بتقولي كدة؟!"
وخلفها صاح رياض بعدم فهم:
_ "وهو بدر عمل إيه عشان تطلبي منه الطلاق؟!"
إذا فقد كان ما سمعه صحيحا ولم يكن هذيانا أو مشكلة بسمعه بل إنها تعني تلك الكلمة ووالديْها لا يفهمان السبب حتى أردفت بصوت باكٍ متألّم:
_ "المصيبة إنه ماعملش وانا اللي عملت.. أنا ماستاهلش بدر!"
وهنا فقد بدر زمام التحكم بأعصابه بينما يهدر بانفعال:
_ "إيه التخريف اللي بتقوليه ده؟ إيه اللي حصل يا وتين؟"
عادت تواجهه بعينيها الدامعتيْن قائلة بصراخ:
_ "طلقني يا بدر بقولك!"
نسي كل ما أعدّ من كلمات حانية للتخفيف عنها وتهدئ نيران الرثاء على صغيرها وماثلها النبرة الغليظة هادرا:
_ "مش مطلق.. إنتي اتجننتي ولا إيه؟"
صمّمت على موقفها بينما تنطق باحتجاج:
_ "أنا مش راجعة معاك ولازم تطلقني."
ثم أسرعت تتشبّث بساعد والدها ناطقة بنجدة:
_ "خلّيه يطلقني.. يا بابا!"
نظر لها بحيرة قبل أن يبتعد عنها ثم ينظر إلى بدر قائلا بنبرة ذات مغزى:
_ "تعالى يا بدر."
خرجا سويّا من الغرفة لينظر بدر إلى رياض قائلا بدهشة:
_ "إيه اللي حصل فجأة يا عمي؟ هي قالت لكم حاجة؟"
رفع منكبيْه قائلا بعدم فهم:
_ "إللي عرفته انها سابت البيت فجأة ولحد دلوقتي مش فاهم مالها!"
خلّل خصلات شعره بأنامله بتوتر بينما ينطق بانفعال:
_ "بس اللي بتقوله دلوقتي مخلّيني هتجنّن! إيه اللي خلّى الفكرة جات فــ دماغها فجأة؟!"
أجابه رياض بنبرة مهتزّة:
_ "متأكّد صدمتها من الخبر.. تسمح لي آخد بنتي كام يوم لحد ما تهدى؟"
شعر بالهم يثقل على صدره من مجرّد فكرة ابتعادها عنه في هذه الظروف.. فلطالما اعتاد مؤازرتها وتقويتها والآن يكون الابتعاد الخيار الأمثل لتهدئة جماح صدمتها واسعة الأثر.. ورغم نفوره من الفكرة إلا أنه آثر الموافقة لأجلها فقط حيث قال:
_ "أكيد يا عمي."
ربت على ساعده قائلا بحنو:
_ "أزمة وتعدّي يا ابني بس قول يا رب."
أغمض عينيه بهدوء بينما يقول:
_ "يا رب."
**********
حطّت الطائرة بمطار "بالتيمور واشنطن الدولي" في أمريكا ليتوافد الركّاب من كل الأجناس تباعا.. ومن بينهم من جمهورية مصر كان هذيْن الزوجيْن حديثي الزواج الذي لا يظهر عليهما بوادر السعادة مطلقا.. بل كانت الأجواء الهادئة تحوم حولهما بينما ينتظران بالمطار لإنهاء بعض الإجراءات.. واجمة هي وملامحها قاتمة أكثر من السّواد الذي يغلّف ملابسها.. والخوف يصاحبها أكثر من أيّ شيء خاصة بعدما فقدت والدتها.. وما عاد لها الآن سوى حمزة الذي تخشى عليه أكثر من نفسها.. ولكن ما باليد حيلة فما وصلت إليه لا يستحب العودة منه.. وإلا قد تفقده في أيّ الحظة وهو العاشق للمجازفة بحياته طالما أنّه في مصلحة حبه.. الآن هما بالولايات المتّحدة الأمريكيّة لإخفاء أيّ أثر يمكن أن يوصل إليهما.. يشعر هو براحة شديدة لكونها بجانبه واستطاعا الذهاب بعيدا عن كل الأحزان في حين يخالجها القلق والذعر من القادم.. ولا يوج ضمان واحد لنجاتهما من هذا العذاب..
أفاقت من شرودها مع صوت حمزة مناديا:
_ "يالّا يا رغد."
أماءت برأسها بهدوء ثم سارت خلفه وهي تدعو بكل خطوة بالنجاة والرحمة من طغيان أخيها.. وبقاء حبيبها في أتمّ سلامته..
**********
انقضى الليل وحلّت الشمس مكان القمر.. وحان موعد خروج وتين من المشفى كما سمح إبراهيم.. وكما تمّ الاتفاق ستعود إلى منزل والدها لتتحسّن حالتها النفسيّة.. وما كان يستطيع بدر تركها تذهب دون وداع.. فدلف إلى الغرفة ثم قال:
_ "مساء الخير."
أشاحت وتين بوجهها دون أن تجبه وقد عادت إلى البكاء بصمت بينما أجابت جيهان بخفوت:
_ "تعالى يا بدر."
اقترب بهدوء حتى جلس إلى جوارها قائلا بحزن:
_ "أنا ماشي يا وتين.. هسيبك تاخدي فترة فــ بيت أستاذ رياض."
لم تجبه بل ظلّت تحاول إخفاء ضعفها عنه بينما يكمل هو:
_ "خدي وقتك لكن...."
وبحركة من يده تخالف رغبتها قام بإدارة وجهها نحوه ليحدّق بها مليّا فيجد دمعة حبيسة تفرّ حديثا من عينها فحرّك إبهامه على وجنتها كي يمسحها لتزيد صدمتها كما والدتها في حين ينطق:
_ "إوعي تدمعي."
يبقى هو أفضل من رأت بحياتها ومن انشغف به قلبها ويستحيل أن يأخذ مكانته آخر من جنس الرجال.. فإن لم يكن بحيلته إصلاح الأمور يكون خير مثال للدفء والحنان.. يحبها ويرفض مجرّد بكائها.. وما كان جوابها إلا أن زادت في البكاء لتنهمر العبرات تباعا.. تنهّد بهدوء قبل أن يخرج محرمة بيضاء من جيبه ثم يجفّف بها دموعها لتنظر إليه بدموع بينما يقول:
_ "عشان دموعك غالية عليّا."
ثم وقف عن مجلسه وغادر تحت أنظارها حيث ترقّبت طيفه بحسرة ثم انتقل بصرها تلقائيّا إلى محرمته البيضاء التي تركها معها فتوقن بجديّة كونها لم تخطئ حين طلبت الطلاق ليستريح من همّها.. فهي لا تستحق شهما شأن بدر لم تعطِه سوى التعب وحتى الهديّة التي كانت تحتضنها بأحشائها فقدتها بسبب مشكلاتها التي لن تنتهي بسبب تلك الحادثة.. تدين له بالكثير ولا تعطيه إلا الألم..
**********
ترجّل فهد عن السيارة ثم تحرك بخطوات متعجّلة نحو الداخل حتى أتى غرفة المعيشة ليرى الجميع جالسين حول بدر الواجم كي يواسوه في محنته المؤلمة.. دلف فهد دون إلقاء السلام متوجّها إلى بدر مباشرة كي يربت على كتفه قائلا:
_ "لسّة عارف الموضوع دلوقتي.. ربنا يعوض عليك."
ابتسم من جانب ثغره بينما ينطق بتثاقل:
_ "حلمي اني أكون أب اتأخر أوي!"
حاول نهيه بقوله:
_ "ماتقولش كدة يابني.. ربنا رايد كدة!"
عاد بدر يقول بعبوس:
_ "ده كان أول فرحتنا!"
وهنا تولّى نائل زمام الحديث بقوله:
_ "بس ده الخير.. إيش عرفك انه لو كان اتولد وعاش كان ممكن يبقى فاسد في الأرض!"
قطب حاجبيْه بتعجب ولم يصل بعد إلى فهمه مقصد نائل حيث أكمل الثاني موضّحا:
_ "إنت ناسي حكاية سيدنا الخضر مع سيدنا موسى.. لما قتل غلام وهو بيلعب عشان لو كان كبر كان هيطغى على أبوه وأمه ويرهقهم! وساعتها ربنا رضاهم بابن تاني أفضل منه رحيم بيهم!"
ثم استرسل يقول بنبرة بها بعض التفاؤل:
_ "إنت ماتعرفش الخير فين.. فماتحاسبش ربنا على اللي عمله.. لإنه أكيد الأصلح لحالك."
زفر بحرارة قبل أن ينطق بإنهاك:
_ "ونعم بالله."
وهكذا بقي الشباب مع ابن عمهم ليؤازروه في تلك المعضلة التي واجهته.. حيث وقع في مفترق طرق بين فقدان طفله ومغادرة زوجته ليكون وحيدا متألّما يشكو بثّه إلى حاله.. ولا يمكن أن يحدث ذلك وآل عمران هنا.. فكلهم سند لبعض وقت الفرحة ضحكة واحدة ووقت المحنة يدا واحدة.. وقد كان نائل أولهم رغم أنه لا يصلهم بالدم.. إلا أنه لا يستطيع رؤية أحدهم مهموما دون أن يخفّف من ألمه ولو بكلمات معنويّة.. وهذا ما لفت انتباهها نحوه لتتأكّد من صدق اهتمامه بالعلاقات أكثر من أيّ مشكلات شخصيّة.. فعاد ليشغل حيّزا من تفكيرها دون الانتباه إلى وجود فهد بجانبه لتتأكّد من كون الأخير لم يكن سوى انبهار بغموضه دون الولوج بعمق شخصيته كما فعلت مع نائل.. الآن فقط شعرت بخفقات مختلفة لم تحسّها قبلا ولم تكنّها لرجل غيره! الآن فقط يمكنها القول بأنها تحبه!
**********
في القصر العيني.. تحديدا غرفة العلاج الطبيعي.. انتهت هند من آخر جلسة علاج لإحدى الحالات التي تعاني صعوبة في حركة الذراع بسبب جلطة سابقة.. جلست على الكرسيّ خلف مكتبها فور خروج الحالة كي تنال قسطا من الراحة لتتأكّد من تأخّر قدوم الحالة الجديدة انتهاء المرضى لهذا اليوم.. فجلست بأريحيّة ثم شرعت في قراءة رواية على الهاتف.. ظلّت على هذا الحال لمدة ثلث ساعة حتى وافدتها طرقة على الباب لتنظر نحوه قائلة بتثاقل:
_ "أدخل."
الآن حان موعد اللقاء مع مريض جديد ولا وقت لديها للراحة.. ألققت الهاتف على سطح المكتب بإهمال ثم أراحت خدّها على باطن كفّها بينما تسند مرفقها على المكتب في انتظار الطّارق.. والذي خالف توقّعها.. فلم يكن مريضا كما ظنّت بل أحدا آخر أرجأت التفكير بملاقاته لأجل غير مسمّى..
_ "أمان!"
نطقت بها بدهشة بينما تعتدل في جلستها حيث أغلق الباب خلفه ثم تقدّم منها قائلا بتعجّب:
_ "مش راضية تردّي عالفون قلت اجي واشوفك بنفسي!"
أشاحت بنظراتها بعيدا بينما تردف بقتامة:
_ "معلش أصلي مشغولة شويّة."
جادلها بنبرة يعلوها الاستنكار:
_ "آه فعلا باين ان الناس عاملين زحمة على العيادة برّة لدرجة انك قاعدة هنا وبتقري رواية!"
زفرت بضجر قبل أن تنظر إليه قائلة بحدّة:
_ "جيت ليه يا أمان؟"
ماثلها الجديّة بقوله:
_ "عشان اعرف انتي عايزة تسيبي المستشفى ليه بصراحة ومن غير ما تتهرّبي."
وقد كانت تنتظر طرف خيط للحديث بهذا الشأن لتفرغ ما بجعبتها أمامه كما فعلت مع نهلة حيث أردفت باقتضاب:
_ "تمام طالما طلبت الصراحة.. عشان مشاعرك ناحية نهلة!"
_ "نعم؟!"
نطق بها أمان الذي تقلّصت معالمه بجهل عمّا تقصده ابنة خاله حيث استرسلت بصرامة:
_ "لو كنت أعمى وماشوفتش حبّي ليك طول الوقت ده.. فـــأنا مش عميا وقدرت كويس ألاحظ أد إيه إنت بتحب نهلة!"
اتّسعت حدقتاه عن آخرهما بينما تتوالى الصدمات تباعا بما تتفوّه به نهلة وتؤكّده.. فمن جهة تعترف بحبها صراحة والقهر يتخلّل معالمها بينما تفتئ بحقيقة مشاعره نحو نهلة وتطلق عليها مسمّى لم يرد على باله قبلا.. هل بالغ في الاهتمام بها إلى الحد الذي جعل الآخرين يشكذون في حقيقة علاقتيْهما! أجفل مع صوتها بينما تنطق بحزن:
_ "أنا عملت اللي اقدر عليه عشان اخد حبك.. وهي من غير ما تنطق حتى عرفت تحرّك مشاعرك!"
نظر لها بتيْه بينما يقول بتردّد نافيا:
_ "أنا أنا مــ ماقولتش كدة خالص!"
بادرت تقول بحزم:
_ "مش مهم عندي تقول ولا لأ.. بس انا ماقدرش أشوفكم سوا وارسم الابتسامة على وشي!"
أمعن النظر إليها ليجدها تكمل بعينين دامعتين وحسرة تكبّل نظراتها:
_ "الحب هو دقّة قلب ناحية شخص واحد بس مستحيل تتغيّر.. أفعال واهتمام وأمان.. مشاعر حسّيتها ناحيتك وانت حسّيتها ناحيتها! ماقدرش اغيّر مشاعرك ولا اقدر اقف فــ طريق حبكم.. كل اللي اقدر اعمله إني أنسحب في هدوء!"
وهنا انفجرت عيناها بالدمع كي تنخرط في بكاء مرير تحت نظراته المتأرجحة بين شفقة ومواساة.. وما كان منه إلا أن قال بخفوت: 
_ "أنا آسف جدا.. ياريت تسامحيني!"
وقبل أن يسمع جوابها تراجع مبتعدا حتى خرج من الغرفة مكتفيا بهذا الاعتذار الذي لا يدري سببه حتى الآن! فالإنسان معذور بحقيقة مشاعره الداخليّة.. وليس قلبه في يده كي يستطيع أن يوجهه كما يشاء.. وفي الحقيقة لم ينظر إلى هند أكثر من كونها ابنة خال وصديقة.. ولكن حين يفكّر في نهلة فالأمر مختلف.. مختلف تماما إلى حد أنه يعجز عن اكتشافه رغم كونه طبيب نفسيّ!!! 
**********
_ "مالك يا حبيبتي فيكي إيه؟ يعزّ عليا اشوفك زعلانة كدةّ! إيه اللي جرالك؟"
نطقت بها جيهان بنبرة حانية تمتلئ قهرا على صغيرتها التي تجلس صامتة متصنّمة كالأثاث من حولها في حين ارتجّت أوصال ريم خوفا من سؤال جيهان عن السبب الحقيقيّ وراء غضب وتين وتبدّلها بهذا الشكل.. فحتى الآن أخفت عنهم الحقيقة خوفا من غضبهم منها على خطأها الجسيم الذي راح ضحيّته ابن أختها واستقرارها النفسيّ..
عات تنطق جيهان بتساؤل:
_ "طب ليه رفضتي تروّحي مع بدر؟ هو زعلك؟"
وهنا اختارت وتين الخروج عن صومعة الصمت المهيب بقولها بنبرة رخيمة:
_ "سيبيني لوحدي يا أمي."
جادلتها جيهان بدهشة وخوف:
_ "أسيبك ازاي يا وتين؟ مش هيهدى لي بال إلا امّا اعرف مالك."
مسّدت على ظاهر كفّ والدتها بينما تنطق بصوت راجٍ متألمٍ:
_ "هقولك بعدين.. بس لو بتحبيني سيبيني دلوقتي."
رقّ فؤادها لحال صغيرتها الذي يُرثَى له فآثرت إيقاف الحديث بهذا الشأن بينما تقول بطاعة:
_ "حاضر يا حبيبتي."
ثم وقفت عن السرير واتّجهت إلى باب الغرفة قائلة لريم:
_ "خلّيكي مع أختك."
أماءت ريم برأسها لتخرج جيهان من الغرفة فتجد رياض يهبّ عن مجلسه بعد طول انتظار لنتيجة الحديث مع صغيرته ومعرفة سبب حزنها.. توقّفت زوجته مقابله بينما تقول بخيبة أمل:
_ "للأسف مش راضية تقولي أيّ حاجة!"
زفر بتعب بينما يقول بحيرة:
_ "وبدر حلف لي إنه ما عملهاش حاجة."
_ "ياربي!"
نطقت بها جيهان باستغاثة طالبة الراحة لصغيرتها وانتهاء الصدع بحياتها من رب العباد ومن غيره قادر على إجابة الدعاء؟
على الجانب الآخر.. جلست ريم مقابل أختها بينما تنظر إليها بحزن قائلة بأسف:
_ "أنا آسفة يا وتين."
لمّا وجدت نظراتها تتحوّل من الفراغ إليها أكملت بنبرة دامعة:
_ "عارفة ان اللي جرالك ده بسببي أنا.. والله أنا بكره نفسي أوي."
ثم وقفت عن مجلسها قائلة بعزم:
_ "أنا هروح اقول لماما وبابا اللي حصل."
_ "إستني!"
نطقت بها وتين بينما تتشبّث بكفّ أختها رادعة إيّاها عن التحرك فتقول ريم بنبرة يعلوها الخزيْ:
_ "زعلتك مني وخفت اقول اللي حصل لماما وبابا عشان جبانة! بس دلوقتي ما ينفعش اسكت!"
بصعوبة حرّكت شفاهها بينما تنطق بألم:
_ "ريم عشان خاطري بلاش.. اللي حصل حصل."
ثم قالت برجاء:
_ "اوعديني ما تعرفيهمش حاجة."
جلست ريم إلى جانبها قائلة:
_ "طب اوعديني إنتي ترجعي لبدر وتدّي نفسك فرصة تانية."
هزّت رأسها بطريقة هستيريّة بينما تقول بخوف:
_ "مش هقدر يا ريم."
هتفت ريم باستنكار:
_ "ليه يا وتين؟ حاولي يا قلبي.. أصلا بدر بيحبك ومستنيكي."
نطقت بنبرة مُجهَدة:
_ "ربنا يسهل."
ثم تسطّحت على السرير قائلة بأمر:
_ "إقفلي النور عايزة انام."
وقفت ريم عن مجلسها قائلة بخفوت:
_ "حاضر يا حبيبتي."
ثم انسحبت خارجة من الغرفة لتفسح المجال لوتين لتهنأ بطعم النوم الذي جافاها لساعات طوال.. أراحت رأسها على الوسادة وأغلقت عيناها ولكن دون أن يكون للنوم دور حيق تولّى عقلها مهمة العديد من الذكريات دون ان تكون الحادثة من بينهم.. فما فقدته الآن أسوأ منها.. بداية كان طفلها ومن بعده زوجها الذي فضّلت الابتعاد عنه لئلّا يتعرضا إلى هذا الموقف من جديد.. فلا تنسى كيف كانا متعلّقان بهذا الطفل وكيف كانت لحظات مراقبته بالسونار هي الأجمل على الإطلاق.. وكيف كانا ينتظران مجيئه بفارغ الصبر وخاصّة بدر الذي لا تزال تذكر كلماته بأحد الأيام قائلا بسعادة غامرة:
_ "تصدقي.. مجرد فكرة إني هبقى أب دي نقلتني لعالم تاني.. فكرة إن يبقى لي ابن مسؤول مني أشوفه بيكبر أدامي ويقولي يا بابا مخلياني طاير في السما!"
كانت تدعو دائما باكتمال صحته وتحتمل الإرهاق الناجم عن بقائه في رحمها حتى يأتي معافى سالما ويكون قرة عين لها ولأبيه.. هذا المسكين الذي تذوّق مرارة فقد ابنه بسبب مشكلتها الشخصيّة وأثرها الذي سيظل عالقا بحياتها كـــالجذام ولا يمكنها التخلص منه أبدا.. فلا تستطيع تبريد نارها بسبب ما اقترفه هذا المجرم ولا تستطيع التقليل من شفقتها على زوجته ولا تستطيع الانتقام! فلا يمكن لحياتها أن تعود سويّة أبدا..
**********
متخبّط بين أروقة الحزن والألم والقلق.. الحزن لأجل بدر وما صار مع طفله الأوّل وما نتج عنه من انهياره وزوجته المسكينة.. الألم لعودة تذكّر أخته المرحومة التي دوما ما تمنّى أن تكون بمكان وتين لولا خطؤها بحقّه لما فقدها أبدا.. وأخيرا القلق من نظرات شذى المتّهمة رغم براءته من هذا الأمر ويشهد الله أنه قام بما في وسعه لينقذ الطفل ولكن فات الأوان وما استطاع إلا إنقاذ الأم.. خوفه من لقاء شذا جعله يبقى بالمشفى لمناوبة إضافيّة هاربا من تلك المواجهة ولكن إلى متى؟ وكيف يقنع شذا؟
ببطء فتح باب الغرفة ثم دلف ليجد الغرفة خاوية.. وقبل أن يبدي تساؤله عن شذا أتاه صوتها من الشرفة بينما تتحدث في الهاتف فتقدّم منها كي يسمعها تقول بدفاع:
_ "والله يا بدر إبراهيم مالهوش ذنب.. وتين كانت تعبانة أصلا.. لما روحت معاها للدكتور نبهتها من موضوع الأنيميا الزيادة اللي عندها وحذرتها من أيّ توتر عصبي."
أجل بالفعل كانت تعاني وتين من الأنيميا وهو سرّ الهبوط الحادّ الذي اعتراها أثناء العمليّة واستلزم ليترا من الدم لتعويض الفاقد منها.. ولكن كيف عرفت ذلك ومنذ متى ذهبت مع وتين لفحص طبي؟! هي لم تذكر ذلك أمامه قطّ! أم هي تريد فقط تجميل صورة زوجها أمام أخيها!
سرعان ما خرج عن شروده مع صوتها مكملة بتأكيد:
_ "إنت عارف إني مستحيل أكدب ولو حتى فــ مصلحة جوزي.. انا بقولك اللي شفته بعيني.. ولو ما كنتش معاها في اليوم ده كنت هصدق اتّهامك."
ثم بدت الراحة على نبرتها بينما تقول:
_ "أوكي يا حبيبي أمانة عرفني آخر كلامك مع وتين إيه."
أغلقت الهاتف ثم ألقته جانبا وبقيت في مكانها ترقب قرص الشمس الآخذ في الغروب ليقاطعها إبراهيم بدخول قائلا:
_ "مساء الخير."
انتبهت إليه قائلة:
_ "مساء النور."
ثم وقفت عن مجلسها بينما تقول:
_ "هروح احضّر لك الأكل."
نهاها بقوله بهدوء:
_ "لا ماليش نفس."
ثم جلس على أحد الكراسي والهمّ باديا على ملامحه فقامت بما يخالف ظنّه حين جلست إلى جانبه قائلة بتهدئة:
_ "علفكرة بدر بيعتذرلك على اللي عمله في المستشفى.. بيقولك كان متعصب لدرجة شكّ فيك.. بمجرد ما يفضى هيجيلك ويعتذر بنفسه."
نظر إليها بدهشة غير مصدقا ما سمع توّا بشأن بدر.. فيبدو أنها كانت تعني كل كلمة بالدفاع عنه.. وبدر بالفعل اعترف بخطئه.. فشذا يمكنها القيام بأيّ شيء إلا الكذب وخاصّة بأمر هام كهذا..
نظر إليها قائلا بابتسامة خافتة:
_ "لا مافيش داعي.. اعتذاره وصل."
ثم نطق بجديّة:
_ "المهم ان مراته بخير دلوقتي."
زمّت شفتها بحزن بينما تقول:
_ "حالتها صعبة جدا.. رفضت ترجع البيت ودلوقتي في بيت باباها!"
حقا يعجب لأمرها! فما سبب تركها لمنزل زوجها واختيار منزل والدها للبقاء فيه على الرغم من أهميّة جودها إلى جانب بدر ومؤازرته؟ يوجد لبس في الموضوع لا يمكنه فهمه حقا ولكن آثر عدم التدخل حيث قال بهدوء:
_ "معلش مع الوقت هتهدى وترجع تاني."
_ "إن شاء الله."
**********
للمرة الألف يحاول التواصل معها وتجيبه بالتجاهل.. يعلم أنها تتعمّد ذلك وتحاول جاهدة الهروب من مواجهته ولكن لن يطيق صبرا حتى يفهم ما يجري.. وإن اضطر إلى قضاء اليوم بطوله في الاتصال بها..
أخيرا رضخت لإلحاحه وقامت بضغط زرّ الإجابة وقبل أن تنتظر حديثه اندفعت بقولها بشجن وألم:
_ "أنا السبب في اللي حصل لابننا يا بدر.. أنا اللي ما حافظتش عليه.. سامحني."
اعتلت الدهشة ملامحه وعاد إلى الحيرة بشأن تحميل نفسها كل الذنب بهذا الخصوص فبادر يهتف باستهجان:
_ "ليه بتقولي كدة يا وتين؟ فهميني إيه اللي جرى طـــ..."
وهنا بتر كلمته لما انغلق الخط بوجهه كإشارة منها إلى الاكتفاء وعدم سماع المزيد ولكن لن يطيع رغبتها وسيعاود الاتصال حتى يفهم منها بشكل كامل ما أربكها وتسبّب في قلب حياتها رأسا على عقب بهذا الشكل..
همّ ليعاود الاتصال ولكن سرعان ما سبقته رنّة من رقم فهد ليزفر بإنهاك قبل أن يجيبه على مضض:
_ "أيوة يا فهد؟"
أتاه صوت فهد قائلا بحزن:
_ "تعالى مستشفى ... بسرعة يا بدر."
_ "ليه؟!"
نطق بها بدر بضجر ليجيبه فهد باختصار:
_ "أم عمي عمرو اتوفّت."
بعد كلمات مختصرة تفيد قدومه في أقرب ما يمكن أغلق الخط ثم نطق بنبرة عالية مستنجدا:
_ "يا الله!"
**********
نهاية أحداث الفصل الثاني والأربعين
حد فاكر مين أم عمرو؟ طب حد فاكر أسماء بنته؟
اللي افتكروا عايزة أقولكم ان موتها هينتج عنه مفاجأة..
انتظروا الفصل القادم من #اغتصاب_لرد_الاعتبار وهمسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارМесто, где живут истории. Откройте их для себя