الفصل الثامن والعشرين

556 28 14
                                    

28
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثامن والعشرين"
(الخطوة التالية)
**********
تقدّمت نجلاء من نائل الذي كان ينقل ملابسه إلى الحقيبة الكبيرة على عجلة.. يلقي كومة الملابس بشكل غير مرتّب وكأنّه لا يريد أن يتأخّر عمّا عزم على فعله اليوم أمام الجميع.. أخذت ترقبه بهلع بينما تقول راجية بصوت دامع:
_ "يا نائل ما تمشيش أبوس إيدك."
أجابها دون أن يتوقّف عمّا يفعل:
_ "مضطر أعمل كدة يا أمي."
تحدثت بنبرة أعلى قليلا كي تجذب انتباهه المنشغل مع السفر:
_ "أنا مش عارفة مين اللي ركّب في دماغك الكلام الفارغ ده؟! يونس طول عمره بيحبك زي ولاده.. ليه بتفكر كدة؟!"
انتهى من ضبّ الملابس المبعثرة داخل الحقيبة ثم أغلق السحاب كي يستدير صوب والدته فيطالعها بنظراته الباكية قائلا بصوت يجيش بالألم:
_ "لإن دي الحقيقة يا أمّي.. ما تحاوليش تجمّليها.. أنا مش من البيت ده ولا ليّا حق فيه ومش مستنّي صدقة منه."
أيّ صدقة يتحدّث عنها هذا؟! يريد القول بأن يونس يبقيه بالمنزل بدافع الصدقة! أيّ جنون هذا؟! وبينما كانت تحاول استيعاب ما أردف به توّا أسرع هو بالتماسك فحمل الحقيبة من فوق السرير ثم خرج دون إضافة المزيد تتبعه بخطواتها البطيئة نسبة إلى تقدّمها بالعمر بينما تنادي بتوسّل:
_ "يا نائل استنّى لأ ماتمشيش.. يا نائل!"
كان أمر بدر يقتضي أن يعودوا جميعا إلى غرفهم وترك الأمر بين يونس ونائل فهما طرفان المشكلة ولا يحقّ لغيرهما التدخّل فيه.. أذعنوا لأمر الأكبر سنّا بلا جدال.. عداها هي التي ظلّت تجوب الغرفة ذهابا وإيابا والقلق قد أبدى أثره على وجهها.. تشابك يديها بينما تسير على غير هدى ورجاؤها الوحيد أن ينجح يونس بجعل نائل يتراجع عن قراره.. هذا الأخير الذي تراه للمرة الأولى وغمامة الغضب تدفعه إلى التهوّر بهذه الطريقة.. دوما كانت تراه الهادئ في تصرّفاته مع الجميع عداها.. فكان يتصرّف معها بتلقائيّة تامّة تتمثّل في مداعبتها كل حين.. كم تتوق لسماع هذا اللقب يصوته النديّ الآن! فلم يدُر بخلدها أن يصل نائل إلى هذا الحدّ من الثورة.. ولأيّ سبب؟ السبب شعوره بعدم التجانس مع أبناء العائلة! على الرغم من أن تصرفات يونس ومن غيره لم توحي أبدا بتمييز الآخرين عنه.. كما لم يُبدِ نائل نفسه أيّ تلميح عن شعوره بالنقص وسط بقيّة الأفراد.. وحتى مع امتناعه عن العمل مع حسين كان واضحا أمامهم أنه يريد الاعتمام على نفسه بلا واسطة ولكن اتّضح أن هناك ما يدفنه في خبايا نفسه ولم ينبش سرّه إلا اليوم.. وضعت يدها على خافقها الآخذ في إطلاق النبضات باضطراب خوفا من الدقائق التالية والني فيها يتحدّد ذهاب نائل أو بقائه.. حاولت ترتيب أنفاسها بهدوء بينما تقنع نفسها بمرور الأمر مرور الكرام.. تفكّر بشأنه مليّا وبانتظار الأخبار على أحرّ من الجمر.. ونسيت تماما سبب خوفها الغير مُبرّر على مغادرة نائل.. فلماذا تقلق على ذهابه وهي كانت الأكثر غضبا منه بسبب مزاحه الدائم؟ لكن إلى جانب مداعبته لها فقد ساعدها حين كانت تشعر بالضّعف أمام العمل.. فضلا عن مسامحته لها لمّا أخطأت بحقّه حين أراد معاتبتها.. فإن كان نائل وصل إلى تلك الحالة مع العائلة فبالتأكيد لها نصيب كبير من هذا التحوّل الجذريّ.. بتضرّع تدعو أن يتراجع عمّا في رأسه بأيّ ثمن وسابقا كانت تدعو له بالشفاء العاجل وعودته سالما من معركته مع الوباء..
عشر دقائق فقط مرّوا دون أن تفقد السيطرة على أعصابها.. فلم تستطِع الانتظار أكثر من ذلك ووجدت ضرورة بخروجها والاستعلام عن ما جدّ من أحداث.. ما أن خرجت حتى لاح إلى مسمعها صوت صياح نجلاء والذي يفيد رجاءها بالعودة عمّا يصرّ على تنفيذه.. اقتربت نحو مصدر الصوت ثم تتيبّس أقدامها فور رؤيتها لنائل الآتي من الجهة المقابلة مندفعا وبيده الحقيبة.. همّت لتنطق بإيقافه ولكن سبقها بتجاوزها مع اصطدام الحقيبة بها لترجع بجسدها إلى الخلف خطوتيْن من قوّة الصدمة فانبعثت منها آهة مستنجدة.. تسمّر مكانها فور سماعها تستغيث لئلّا تقع فأفلت الحقيبة كي ينظر إليها هاتفا بهلع:
_ "فيروز!"
استطاعت اتّخاذ الحائط دعامة تمنعها من السقوط فتنظر إليه بلهفة ليبادلها النظر بحنان يفيض عشقا.. شعر بالراحة تتسلّل إلى معالمه مع عدم إصابتها بمكروه.. في حين استغلّت هي لقاءه بأن تطالعه ناطقة برجاء حقيقيّ:
_ "خليك معانا يا نائل.. ما تمشيش!"
ولولا تفهّمه لحقيقة مشاعرها التي تكنّها للضابط فهد لظنّ جدلا كونها تقلق على غيابه وتريده أن يبقى.. ولكن بقائه يعني أن يكتوي بلوعة العشق من طرف واحد.. يعلم أن نهاية الأمر أن تكون من نصيب ابن عمها.. وهو ما لن يحتمله أبدا.. فكانت تلك حجّة أخرى واقوى تدفعه إلى تنفيذ قراره بالابتعاد.. انحنى ليلتقط الحقيبة قائلا بوجوم:
_ "آسف."
خيّب ظنّها بالاستماع إليه ليتضاعف الغمّ البادي على ملامحها فيخيّم السكون على جسدها فلا تملك القدرة على تتبّعه وقد رجحت كفّة ذهابه دون رادع.. لم تنتبه إلى نجلاء التي أتت راكضة تتبع ابنها ولا إلى فهد وحمزة اللذان خرجا لتفقّد سبب صياحها ولا حتى مع خروج والديْها لمعرفة إلى أين ترسو سفينة الجدال.. اقتربت سلولى من ابنتها قائلة بتساؤل:
_ "إيه اللي بيحصل يا نيروز؟!"
أجابتها بصوت رخيم وعيناها مثبّتتان بنقطة وهميّة في الفراغ:
_ "هيمشي نائل خلاص."
زفرت سلوى بتعب قبل أن تتّجه إلى الأسفل وتتبعها نيروز بخطوات وئيدة لتجد نائل يقترب حتى الباب.. يقطع الطريق بخطوات واسعة وكأنّه يهرب من شيء ما.. لم يوقفه شيء عدا صوت يونس الذي بدا صارما:
_ "إستنّى عندك."
توقّف بمكانه ثم استدار ببطء كي يواجه يونس بمعالمه القاتمة البادي الغضب بثناياها فيقترب منه يونس حتى يقف مقابله قائلا:
_ "إنت كدة خلاص هتسيب البيت؟!"
أماء برأسه في هدوء قائلا بتأكيد:
_ "أيوة يا سيادة اللوا.. أنا خلاص ما عادش ليّا مكان هنا."
تحدث يونس بنبرة جادّة لا شية فيها:
_ "مش سيادة اللوا أنا أبوك."
مطّ شفتيه ساخرا من عزم هذا الشيخ على قلب الموازين وادّعاء المثالية في حين يكمل يونس بتصميم:
_ "والبيت ده بيتك غصب عنّك وعن أي حد يقول عكس كدة."
ظلّ حاله من الصمت بانتظار خاتمة هذا الهراء ليذهب دون عودة في حين يقول يونس حاسما:
_ "مش هسمح لك تمشي وهتفضل هنا.. أنا كنت هخسرك مرّة ومش مستعدّ اخسرك تاني."
تبعه حسين يقول مؤيّدا:
_ "مش شرط الدم يكون السبب عشان تفضل معانا يا نائل.. إنت أكتر من أخ هنا لكل الولاد."
التفت نائل إلى حسين بمعالمه القاتمة قائلا بصرامة:
_ "مش عايز حد يمنّ علــ...."
ردعه يونس عن الإكمال قائلا بذات الصرامة:
_ "مافيش حاجة اسمها كدة البيت هنا حقّك زي الباقيين.. والدليل بيت ابوك إللي مع عمّك دلوقتي."
حدج يونس بمعالم متعجّبة في حين يقول بعدم فهم:
_ "إنت قلت إيه؟"
اعتلى الذهول معالم نجلاء التي توجّهت أنظارها نحو يونس الذي قال بتأكيد:
_ "بعد جوازي من أمّك عمّك أخد البيت كله لنفسه واللي هو المفروض ورثك الشرعي.. وعشان أحميك من المكان ده وتنساه خالص خلّيت أمّك تمضي بخطّ إيدها على تنازل من البيت ليه.. وعاهدت أمك وقتها إن نائل اللي هيكبر وما يلاقيش لنفسه بيت.. مكانه هيبقى وسطنا ومكتوب باسمك البيت زيّهم مش صدقة ده حقك.. ولمّا قولنا إن كلكم تبقوا في البيت ده أنا كنت قاصد كدة بالمعنى الحرفي.. كل الولاد بما فيهم إنت."
وبينما كان نائل ومن مثله في حالة من الصدمة المُلجمة وضع يونس يده في جيبه وأخرج ورقة مطويّة وناوله إياها قائلا:
_ "وده إقرار التنازل عن البيت."
أمسك بالورقة بأصابع مرتجفة تنبّئ عن نوبة التوتّر التي أصابت صاحبها في حين تكمل نجلاء مؤكّدة وهي تنظر إلى زوجها بسعادة:
_ "أيوة ده حصل.. يونس لسّة فاكر وعده بعد كل السنين دي."
نقل بصره بين والدته وزوجها ومعالمه متقلّصة من فيض التساؤل الذي ترجمه مردفا بتردد:
_ "بس.. بس ليه ما قلتوش الموضوع ده من الأول؟!"
تحدث يونس بشيء من الحنوّ:
_ "عشان ما كنتش عايز ابيّن ان في ماديّات بيني وبينك يا نائل.. كنت عايز يبقى بيننا علاقة مودّة وبس.. لكن لمّا الموضوع وصل لكدة وفهمت السبب الحقيقي لبعدك عننا طول السنين دي.. يبقى لازم اقولك عشان تنسى موقفك من العيلة اللي بتحبك."
في هدوء أخفض بصره وقد شعر بكونه محاطا بحصار الخزي وتعنيف الضمير على حكمه المُجحف بحقّ رجل كيونس الذي عامله بالحسنى وحفظ حقّه طيلة هذه السنوات.. لم ينسَ كونه ربيبه الصغير الذي احتضنه منذ كان في الرابعة ليحلّ مكان والده المتوفّي.. انتبه إلى إمساك يونس بيده وعيناه مسلّطتان بخاصتيه قائلا بصدرق:
_ "دلوقتي مش نجلاء اللي هتترجّاك عشان تفضل لأ أنا اللي هعمل كدة.. لإن انا بخاف على ولادي.. ومش هسمح لابني يبعد عني تاني.. إفضل يا نائل أرجو...."
لم يحتمل استماع المزيد فأسرع إلى جذب يده كي يحتضنه بقوّة وقد شعر أن هذا أقلّ جزاء له بعد ما اكتشف من أمره اليوم.. افترشت الابتسامة ثغر حمزة الذي كان سعيدا بنجاح عمّه بإرجاع نائل عن عزمه.. وكذلك نيروز التي شعرت بأوّل دمعة للسعادة انبعثت من عينها فأسرعت تمسحها كي لا تكون محطّ الأنظار.. بينما ربتت سلوى على منكب نجلاء التي كادت تخرّ راكعة بفضل الله لتحقيق أمنيّتها ببقاء صغيرها بقربها دائما.. وتقدّم حسين من نائل ليأخذه بين ذراعيه مؤكّدا موقف يونس منه دون تمييز.. وشخص واحد فقط انسحب إلى الخلف حتى اصطدم ظهره بالحائط ليستند عليه وقد بدأ الألم يتسلّل إلى معالمه والهمّ يثقل على صدره يقول على لسان حاله:
_ "ليك حقّ كبير في البيت يا نائل.. ألف مبروك.."
**********
_ "وتين بصّي."
أردف بها بدر بينما يمدّ هاتفه نحو وتين لتلتقطه ثم تقرأ ما فيه فإذ بها رسالة من حمزة يقول فيها:
_ "نائل وعمّي اتفاهموا أخيرا يا بدر.. والله ما مصدق اللي حصل! نائل هيفضل وهيشتغل مع ابويا!"
اتّسعت عيناها بدهشة بينما تعيد قراءة الكلمات مرار وتكرارا وأخيرا نقلت بصرها إلى بدر قائلة بعدم تصديق:
_ "إيه ده؟! إزاي؟! عمو عمل إيه عشان يعقّله؟!"
ابتسم بدر بخفّة قائلا بتوضيح:
_ "عشان كدة قلت كلنا نمشي.. سيبته يفكّر لوحده وعمل الصّح عشان يرجّعه عن اللي في دماغه."
بادلته الابتسامة بينما تردف:
_ "ربنا يساعده ونائل ينسى الموضوع ده."
_ "آمين."
**********
في اليوم التالي..
دخل نائل الغرفة متقدّما حتى السرير الذي تتسطّح فيه تنهلة وابتسامة واسعة تغلّف ثغره.. حيث انتهت اليوم من الجبس الذي كان يكبّل قدمها بعد العمليّة وقبله بأكثر من شهر انتهت من جبس ذراعها.. وصارت اليوم حرّة وليس هناك ما يعرقل أطرافها من جديد.. الآن صارت مستعدّة لتلقّي التدريب على الحركة وبدأ العمل الجادّ لإعادة خلاياها الميتة إلى الحياة.. لا تزال عيناها معلّقتان بنقطة في الفراغ متعمّدة تجاهله فقال بنبرة مشرقة:
_ "حمد الله على السلامة يا مدام نهلة.. الدكتور طمنّي على حالة رجليكي قبل ما يمشي وان شاء الله تتحرّكي."
تلقّت كلماته المتفائلة على محمل السخرية قائلة في نفسها:
_ "هذا في الأحلام سيدي الطبيب."
وبينما كانت في انتظار كلماته التالية مع بدء الجلسة النفسيّة التي تصيبها بالصداع من حديثه المتواتر عن كل شيء.. فاجئها بانحنائه قليلا ليقترب منها متمتما:
_ "خبر حلو جدّا النهاردة انك فكّيتي الجبس وعشان كدة أنا هرحمك من الرّغي بتاعي.. ها مبسوطة؟"
رفّت بجفونها مجيبة إياه بالموافقة على ذلك وقد شعرت بالرّاحة حقّا من جلسة الثرثرة التي يقحمها أمان فيها.. اعتدل أمان بجذعه ثم قال بابتسامة:
_ "أشوفك بكرة.. سلام."
ثم استدار إلى الجهة الأخرى محقّقا لها السلام من وجهة نظرها.. ولكن في حسبانه أن يقوم بالخطوة التالية والتي بها يدخل العلاج مرحلة الخطر..
**********
وصل بدر إلى باب الجناح خاصّته.. ثم ضغط على زرّ الجرس.. وعلى الرغم من امتلاكه للمفتاح إلا أنه يفضّل أن يقرع الجرس كي يُعلم وتين بوصوله ولا يقتحم مملكتها بلا استئذان.. أجل فهذا الجناح يخصّ الأميرة الساحرة وتين وهو لا يتعدّى مرتبة الضيف بهذا المكان.. وعليه أن يمنح صاحبته الخصوصيّة الكافية ولها كامل الحريّة في بقائه أو لا.. انتبه مع صوت فتح الباب ليجد أن هنيّة هي من قامت باستقباله.. ابتسم لها ثم دلف قائلا:
_ "مساء الخير."
أغلقت هنيّة الباب ثم قالت:
_ "مساء الخير يا بدر باشا.. مدام وتين خرجت وقالت لي أحضر لك الغدا أول ما توصل."
توقّف عن السير إلى الأمام ثم استدار ليطالعها بتساؤل قائلا:
_ "هي راحت فين؟"
_ "عند الدكتورة.. متابعة الشهر بتاعتها."
سكنت ملامحه بينما يقول بشيء من الضّيق:
_ "ما تحضّريش أكل.. هستنّاها على ما توصل."
قالها ثم سار نحو الغرفة وقد غلّف الغضب ملامحه.. بدّل ثيابه وجلس على طرف السرير مُسندا مرفقيْه إلى فخذيه منتظرا إياها.. مرّت الدقائق متواترة حتى اكتملت ساعة ولا يزال في انتظارها.. التفت إلى صوتها قائلة:
_ "مساء الخير."
طالعها بهدوء وقد حال غضبه دون ردّ التحيّة فأسرع غلى قوله باقتضاب:
_ "ليه ما قلتيش إن معاد الدكتور النهاردة؟"
استشعرت الغضب الكامن بنبرته فأسرعت تجلس إلى جانبه كي توضّح سوء الفهم الذي تبيّن من نبرته القاتمة حيث قالت بهدوء:
_ "من اللي حصل انبارح أنا نسيت خالص اعرّفك.. وكلمتك عالفون وكان مغلق.. قلت أكيد مشغول."
هدأت معالمه بينما يطالعها بنظرات ساكنة لا تخلو من العتاب في حين أكملت مُعتذرة:
_ "آسفة إني خرجت من غير إذنك بس طنط نجلاء كانت عارفة وكانت عايزة تيجي معايا بس ما رضيتش اتعبها."
تناول شهيقا عميقا زفره ببطء قبل أن تتحوّل نبرته إلى اللين قائلا:
_ "لمّا تروحي بعد كدة إبقي كلميني عشان آجي معاكي أو كلمي أمّي."
حدّقت فيه بعدما تحوّلت نبرته إشارة إلى مسامحتها على الخروج بغير إذنه بينما أكمل هو بابتسامة خافتة:
_ "لازم يكون معاكي حد يا وتين.. إفرض تعبتي في الطريق!"
إنه لأمر عظيم أن يُبدي خوفه عليها الاهتمام لأمرها.. ولديه الحقّ بذلك.. فخروجها بهذه الحالة يجعلها عرضة للإغماء في أيّ لحظة فكيف تجازف للخروج؟ وحتى بقاء السائق معها ليس كافيا للتأكّد من أمانها.. أماءت برأسها قائلة بطاعة:
_ "حاضر.. أوعدك أعرّفك بعد كدة."
استطرد يسألها بفضول:
_ "إيه الأخبار صحيح؟"
طالعته بعدم فهم قائلة:
_ "أخبار إيه؟"
أشار بعينيه إلى بطنها قائلا بابتسامة:
_ "البيبي!"
شعرت بتجمّد الدماء في عروقها من سؤاله الصريح عن الطفل والذي قد تناست تماما كونه يشاركها النصيب فيه فحاولت التماسك قائلة بخجل:
_ "بخير.. تمّ الشهر التاني."
بادر يقول بحنو:
_ "تمام جدا.. خدي بالك من نفسك."
أماءت برأسها في خجل وقد اكتسى وجهها بحمرة من تساؤله ونظراته المتفحّصة لتسرع بالوقوف قائلة بتخبّط:
_ "ثــ ثواني والغدا يكون جاهز."
ثم أسرعت إلى الهروب من الغرفة وقد شعرت بنفاذ الهواء من محيطها فقد أوقف هذا خفقاتها عن التحرك للحظات.. في حين ابتسم بدر وعلامات السرور تغلّف وجهه.. فهي وصغيرهما بخير.. وفي انتظار لقائه بعد مرور سبعة أشهر.. ينتظر الأيام والليالي بفارغ الصبر حتى يحمل صغيره بين يديه ولكن قبل ذلك يرجو أن يستطيع حلّ سوء الفهم الذي يعرقل مسير علاقتيْهما نحو التقدّم.. ما الحل يا تُرى؟ كيف يعرف ما تسبّب في خلق هذا الصدع المانع إيّاه من كسر الحواجز بينهما؟!
**********
أعلن حمزة انتهاء المحاضرة والاكتفاء بكمّ معلومات المحاضرة الأخيرة في الدّورة.. أخذ الطلّاب بترتيب أدواتهم وكذلك حمزة الذي أغلق الحاسوب الذي كان يستخدمه لإلقاء المحاضرة ومعه الأغراض اليدويّة.. توقّف مع صوت أنثويّ يدري هويّته جيّدا تقول صاحبته بخفوت:
_ "دكتور حمزة."
التفت إليها مع ابتسامة حانية تغلّف ثغره بينما يقول:
_ "أهلا ازيّك يا آنسة رغد.. عاملة إيه؟"
شدّت من احتضان الكشكول ذا الحجم الكبير بين يديها بينما تقول:
_ "بخير."
أكمل قوله متسائلا باهتمام:
_ "ما جيتيش المرّة فاتت.. أرجو يكون المانع خير."
لم يكن المانع بخير أبدا.. ومع سؤاله عادت جراح الحدث الأخير إلى إيلامها.. ابتداء من مشادتها مع أخيها وانتهاء بصبّ جام غضبها على حمزة ووصفه بما ليس فيه.. وها هو الآن يقف أمامها ولابد من فعل شيء لالتماس السماح.. قالت بلا وعي:
_ "أنا آسفة!"
لم يفهم سبب اعتذارها بهذه الطريقة المفاجأة فقال متسائلا:
_ "نعم؟!"
سرعان ما تداركت الموقف فقالت بسرعة:
_ "هه! لا مافيش حاجة."
أماء برأسه ثم قال متسائلا:
_ "علفكرة إنتي قلتي هتورّيني الحاجات اللي عملتيها وقت الحظر ولسّة لحد دلوقتي ما عملتيش كدة!"
وضعت يدها على فمها متذكّرة لتقول باعتذار قاصدة هذه إياه هذه المرّة:
_ "آه آسفة جدا."
قال بابتسامة هادئة:
_ "ولا يهمك في خدمتك في أيّ وقت."
عاد ليكمل عمله ولكن أوقفته رغد بسؤالها:
_ "دكتور إنت هتبدأ دورة تاني إمتا؟"
عاد يحدّق بها مثبّتا عينيه العسليّتين بخاصتيْها السوداوتيْن قائلا:
_ "هنعلن عن دورة تانية كمان 10 أيام واحتمال أنا إللي اشتغل فيها برضه."
لم تستطِع كبح ابتسامتها التي افترشت فمها بينما تقول بلهفة فشلت في إخفائها:
_ "تمام منتظرة إن شاء الله."
حمل الحقيبة قائلا:
_ "بالتوفيق."
ثم سار إلى الخارج تحت نظراتها المرتقبة وتم ذلك تحت نظرات رنيم التي كانت تتابع المشهد بصمت تام وبوادر الشكّ تسلّلت إلى عقلها حول ماهيّة ما يحدث بين طالبة وأستاذ..
**********
كانت نجلاء تجلس أمام التلفاز بغرفتها في انتظار وصول يونس.. وبينما تشاهد التلفاز وتركّز مع المشهد بإمعان شرد عقلها إلى جهة أخرى خاصّة بالأبناء في الفترة الأخيرة.. تتذكّر جدالها مع بدر الذي أوصله إلى الطعن بأمومتها له.. ويقابل ذلك ما قام به نائل مؤخّرا مع يونس حين نفى عضويّته في هذا البيت.. وبينما تعود بذاكرتها إلى ما قبل أيام أو شهور سافرت سنوات طوال إلى الوراء..
_ "مين دي يا يونس؟"
أردف بها حسين بينما يرمق هذه الشابّة التي تقف خلف أخيه وبجانبها طفل صغير ينظر إلى ما حوله بخوف شديد.. انتبه إلى صوت أخيه بنبرة جادّة:
_ "مدام نجلاء.. مراتي."
وقفت سلوى عن مجلسها بينما تحمل الرضيعة الصغيرة بين يديها.. سارت حتى وقفت بجانب هذا الطفل ذا الثماني سنوات الذي يرمق والده بعدم فهم في حين يهتف حسين بدهشة:
_ "إيه؟! إنت اتجوّزت؟! إمتا وازاي ما نغير ماتقولي؟"
أجابه يونس بهدوء:
_ "ماكانش في وقت عشان اقولك.. نجلاء دلوقتي هتاخد مكان وفاء.. مراتي وأم لاولادي وابنها نائل هيكون ابني أنا."
أسبل جفنيه بدهشة بينما ينظر إلى أخيه بتفحّص باحثا عن الإجابة في طيّات معالمه الجادّة.. وقبل أن ينطق عَلَا صوت شذا الصغيرة بالبكاء والتي كانت تحاول سلوى تهدئتها.. اتّجهت نجلاء إليها حتى صارت مقابلها لتجدها تمعن النظر إليها وآلاف التساؤلات تدور بعقلها.. أتاها صوت نجلاء التي تشير إلى الصغيرة بتساؤل:
_ "دي شذا؟!"
أماءت برأسها في هدوء لتبسط كلتا يديها إلى الأمام تحثّها على إعطائها الصغيرة.. بعد برهة من التفكير أعطتها سلوى الطفلة لتحملها نجلاء برقّة بينما تهزّ يديها ببطء باعثة الراحة إلى نفس الصغيرة لتشعر بالاستقرار بين راحتيها وتخفض البكاء.. في نفس الأثناء ابتعد بدر عن سلوى ثم تسلّل حتى والده قائلا بتساؤل:
_ "مين دي يا بابا؟"
التفّت نجلاء نحوه ويتّضح القلق في معالمها.. حيث استطاعت ترويض تلك الصغيرة ولكن كيف تستطيع ذلك مع هذا البالغ من العمر الثمانية ويتساءل ويعقل ما حوله من أشياء؟ كيف تخبره بأنها البديلة عن والدته وبه ستقوم بالاعتناء؟ وإن تمكّنت من إخباره فكيف تجتاز إقناعه بتلك الحقيقة والتعايش معها؟ انحنى يونس بجذعه العلويّ حتى صار وجهه مقابلا لصغيره ليقول بابتسامة خافتة:
_ "دي ماما يا بدر."
قوّس حاجبيه بتعجّب بينما يقول ببلاهة:
_ "بس ماما راحت لربنا!"
اغرورقت عينا سلوى وحبست الدموع عن الخروج بصعوبة بالغة بينما تقترب من زوجها المتسمّر محلّه وكأنّه محاصر من جميع الجهات خشية أن يعجز أخاه عن التعامل مع هذا الوضع.. في حين بقيت نجلاء على حالها من الجمود الظاهريّ وقلبها يعلو ويهبط بعنف تفجّعا على حال الصغير الذي اختبر شعور اليتم في هذا العمر وحسرة على حالها حيث دفعتها الظروف إلى اختبار هذا الموقف.. وخوفا على صغيرها الذي تحتاج إلى بذل مجهود إقناعه بكون هذا أباه الجديد بعد والده الراحل.. احتفظ يونس بثباته أمام طفله قائلا بجديّة:
_ "هي هتاخد مكانها وكمان معاها أخ ليك تلعب معاه هو وحمزة."
ثم ابتعد عنه كي يجذب نائل الذي كان ينظر إليهم بغرابة ممزوجة بالرهبة من اختبار مكان جديد مكتظّ بأنس غريبين لم يسبق له رؤية صغير فيهم أو كبير.. أمسك يونس يده الصغيرة بين راحته ثم جذبه نحو بدر بخفّة.. حدّق فيه بدر متسائلا:
_ "إسمك إيه؟"
أجابه نائل بتلعثم وخجل:
_ "نــ نائل."
ابتسم بدر قائلا براحة:
_ "أنا بدر."
ثم سرعان ما زمّ شفتيْه قائلا باحتجاج:
_ "بس صغير عني زيّ حمزة! ماحدش خالص أدّي غير ابراهيم ومش بييجي كتير!"
وفي تلك اللحظة اقتربت منه نجلاء قائلة بابتسامة:
_ "يبقى العب معايا انا لحد ما همّا يكبروا ويبقوا أدّك."
رفع بدر رأسه كي يطالعها بينما تحمل أخته ثم يقول ببراءة:
_ "تعرفي تلعبي الشرطة والحرامية؟!"
أماءت برأسها قائلة:
_ "أيوة."
نطق بحماس وابتسامة واسعة غلّفت ثغره:
_ "خلاص أنا الشرطة وانتي الحراميّة."
ماثلته اللهفة بينما تقول بمرح:
_ "اتفقنا."
وهكذا مرّت الليلة مرور الكرام بصمت مهيب من جانب حسين الذي لم يستطِع إضافة المزيد لمّا وجد نجاح زوجة أخيه الجديدة في إلهاء الأطفال منذ اليوم الأول.. وانسحاب سلوى التي رأت أن لا شأن لها بما يحدث ولتكتفي بتربية أبنائها دون التدخّل بشؤون أخ زوجها.. في حين انتهت نجلاء من القيام بمهمّتها لليلة الأولى في هذا البيت وهي احتواء الصغار ومساعدتهم على النوم الهانئ دون رهبة تتسلّل إلى قلوبهم بعد اختفاء والدتهم.. ها قد أتى خطّ الأمان متمثّلا بهيئة نجلاء لمساعدتهم على النوم بسلام دون أن تراودهم الكوابيس من جديد.. ولم تُحسن احتواء أطفال زوجها الجديد وإنما طفلها نائل أيضا.. عاهدت نفسها على حماية صغارها الثلاثة ومعاملة الطفلين كابنها تماما.. عاد يونس إلى غرفة النوم بخطوات متثاقلة أصابها الغمّ بالخمول.. ما أن فتح الباب حتى وجد نجلاء تجلس على طرف السرير وكلتا يديها منبسطتان على سطحه وعيناها مسلّطتان على الأرض.. ويبدو وكأنّها تفكّر بأمر ما وشغلها التفكير إلى درجة لم تنتبه إلى وقع خطواته على الأرض.. استغرقت في التفكير بشأن ما هو آت وهو على علمٍ جيّدا بما يدور بخلدها.. فكيف لها أن تعيش محلّ الطبيبة وفاء التي كانت من أعزّ الناس إلى قلبها.. وكثيرا ما ساعدتها وها هي الآن تأخذ محلّها بعد مرور شهرين على وفاتها.. أهذا ثمن ردّ الجميل لها؟! كما تخاف من نظرة اهل البيت لها وهل سيتكيّف الطفلان معها وطفلها معهم؟! وكيف ستكون نظرة يونس لها بعد أن تزوّجها تستّرا عليها؟ فقد عاد بذاكرته إلى ما قبل يومين حين أتى إلى المشفى الحكوميّ الذي كانت تعمل به زوجته لسحب بعض الأوراق الخاصّة بها.. حينها رآها وتذكّرها.. فكثيرا ما كانت زوجته تثني عليها بأجمل الصفات.. اقترب منها بهدوء حتى وقف أمامها لتنتبه إليه ثم تقف بتثاقل وتمسح عبراتها بسرعة خشية أن يلتفت إليها.. قالت بتماسك مصطنع:
_ "أهلا يا يونس باشا."
رمق هيئتها المبعثَرة بتفحّص بينما يتساءل:
_ "بتعملي إيه هنا في الوقت ده؟"
شعرت بحصون ثباتها تتآكل على أهبّة الاستعداد للانهيار في أيّة لحظة بينما نجحت العبرات باختراق المحابس للهروب حيث قالت بصوت دامع يكلّله القلق:
_ "ابني نائل صدره اتملى مايّة وجبته بسرعة عشان يتعالج."
ثم رفعت بصرها كي تنظر إليها قائلة ببكاء:
_ "قالولي حالته خطيرة أوي."
صمت للحظات يفكّر فيها عن سبب دخول الماء إلى رئة الصغير حتى أتعبه بهذا الشكل.. إلا إذا كانت خرجت به في ظلّ هذا الجوّ العاصف الممطر! عاد يتساءل بدهشة:
_ "وإيه اللي خلّى صدره يتملي مايّة؟!"
همّت لتجيبه ولكن قاطعها صوت الممرضة التي اقتربت منها قائلة ببشاشة:
_ "ماتقلقيش يا نجلاء ابنك بقى بخير."
سرعان ما التفتت إليها بعينين متّسعتيْن من فرط الدهشة بينما تقول بعدم تصديق يتسلّله السرور:
_ "بجد؟!"
أجابتها الممرضة بابتسامة يملؤها الحبور:
_ "آه والله الدكتور لحقه.. بس هيجيله بعد كدة ضيق نفس لازم تخلّي بالك منه بقى."
أماءت برأسها دون كلام في حين تذرف العبرات السعيدة بلا توقّف.. وما هي إلا نصف ساعة حتى أصبحت تجلس بجانب السرير الخاص بطفلها ويفق إلى جانبها يونس الذي أصرّ على الاطمئنان على حال الصغير وإمداد والدته بما تحتاج من المال.. فقد أحضرته إلى مشفى حكوميّ وهذا يعني أنها بحاجة إلى كل جنيه تمتلكه.. وقفت عن مكانها قائلة بامتنان:
_ "شكرا على وقفتك جنبي يا يونس بيه.. معلش عطّلتك."
تجاهل عرفانها الذي يسكن الألم ثناياه ليقول بنبرة جليديّة:
_ "إيه اللي حصل عشان الولد يخرج في المطر ده يا مدام نجلاء؟"
زفرت هواء حارّا يكاد لهيبه يحرق الأخضر واليابس من قوّته دون أن تستطيع الردّ وقد ألجم الهمّ لسانها وأصابت الخيبة شجاعتها في الحديث.. أعاد صيغة السؤال بشكل أكثر حدّة:
_ "بقولك إيه اللي حصل يا مدام نجلاء؟ ماله نائل وإيه اللي خلّاكي تخرجي بيه من غير حدّ من أهلك؟ وإيه سبب الزّعل ده كلّه؟ فهّميني يمكن اقدر اساعدك!"
ازدردت ريقها بصعوبة بالغة قبل أن تحسم أمرها برواية ما حدث قبل عدّة ساعات.. فما سيكون أسوأ ممّا طرأ عليها بحجّة أنها أرملة ستقوم بممارسة الرذائل لإحضار قوت يومها؟ نظرة رجعيّة لمجتمع التسعينات الذي كان يرى المرأة كائنا ضعيفا لا يمكن ائتمانها على شرفها بمفردها بل يجب أن تكون تحت جناح رجل.. وقد صدق المثل ظلّ رجل أفضل من ظلّ الحائط.. ولكن أحيانا يكون ظلّ الحائط أكثر أمانا لها من الاقتران بواحد من معشر الذئاب البشريين.. ها هي الممرّضة الأرملة التي لا تملك من عائلتها سوى ابنها.. تعمل منذ زمن في المشفى الحكوميّ الذي كانت تعمل به وفاء.. وكانت الأخيرة دوما تغدق عليها بالمعونات وهي على علم مسبق بحالة زوجها السيّئة.. فإن خرج يوما للعمل لا يقوم بذلك لعدّة أيام أخرى.. ويصرف أمواله في الشراب دون أن يعطيها ما يكفيها وطفلها.. كانت هي من تتحمّل مصاريف المعيشة لأجل طفلها وإكمال حياتها دون أن تحصل على لقب مطلقة ويلحق بها العار من كل الجهات كما قد تُحرم من فلذة كبدها.. وحين توفّي سمير لم يقبل شقيقه مساعدتها إلا بشرط أن تقبل الزواج العرفيّ منه.. وحين رفضت كاد لها حين عادت في إحدى الليالي المتأخرة بخطّة دنيئة تمسّ شرفها زورا فطُرِدَت من قِبَل أهل الحارة الذين ارتدوا فجأة أقنعة التديّن الزائفة للحفاظ على نظافة المنطقة.. خرجت بينما تحمل طفلها بين ذراعيها وسط الليلة العاصفة التي يزيّن البرق سماءها ويضجّ الرّعد بصداه عليها.. تحاول احتواء طفلها المرتجف من شدّة البرد وتدرأ عنها زخأت المطر المتجمّدة ولكن هيهات.. فقد آذت الأمطار الصغير حتى أُغشيَ عليه لمّا لم يستطِع التحمّل.. وهنا تحوّلت وجهتها من البحث عن ملجإ يأويهما إلى إسعاف صغيرها.. انتهت من سرد الحكاية بشكل مختصر تخلّلته شهقاتها المتقطّعة ألما وتوجّعا على حالها الذي فرضه عليها مجتمعها منذ أن حصلت على اللقب.. فإمّا القبول بما حرّم الله أو الطعن بشرفها بما لا يُرضي الله.. شعر بوخزات من الألم تنخر بنياط قلبه شفقة على حال هذه التي ترجو مأوى لنفسها وصغيرها دون تعدّي حدود الله.. وعلى الجانب الآخر يوجد هو المحتار بين صغيريْه الفاقدين لوالدتهما حديثا.. فمن جهة يوجد بدر الذي ينام الليلة بصعوبة ودموعه تبلّل الوسادة يوميّا افتقادا لها وطلبا لأن تعود لاحتوائه كما تفعل كل ليلة.. والصغيرة شذا التي تكاد تُصاب بحالة عصبيّة من شدّة افتقادها لحنان والدتها.. وعلى الرغم من إحضار مربيّة لها إلا أنها لم تنجح في تهدئة الصغيرة وكأنّها تشعر بمن يصدق في مشاعره حين يحملها وهذه المربيّة ليست سوى أجيرة تقوم برعايتها لأجر يومها دون أن تشتعل عاطفتها للصغيرة.. وهنا وردت الفكرة إلى عقله بإحضار أم بديلة لطفليْه وهو الحل الأنسب هنا.. قال بنبرة ساكنة تخلو من المعالم:
_ "أنا اقدر أوفّر لك ولابنك الحماية.. مكان تاني تعيشي فيه بعيد عن الحارة وتنسي اللي حصل ده خالص."
ابتسمت بمرارة بينما تقول بتهكّم:
_ "لا يا يونس بيه خلّي مساعدتك لنفسك..أنا ماقبلتش عرض أخو جوزي اللي طردني وخد بيتي وكل حاجة لنفسه.. عايزني اعمل ايه انا بقى؟ عرفي ولا تقضّيها كدة بعد المرحومة؟!"
طالعها بجمود متعمّدا الصمت تاركا إياها تخرج ما بجعبتها وقد توقّع هذا الردّ الهجوميّ مسبقا فما تعرّضت كفيل بقيامها بأكثر من ذلك.. عادت تجلس على الكرسيّ كي تمسّد شعر صغيرها برقّة قائلة بصمود:
_ "أنا هعيش مع ابني في الحلال ولو متّ يبقى أحسن له ملجأ أيتام أسهل من إنه ياكل لقمة من حرام."
وهنا تحدّث مهاجما ظنونها بدفاعه:
_ "بس انا عايزك في الحلال أدّام الناس كلّها."
**********
عاد من شروده مع الماضي مع صوت نجلاء التي شعرت بولوجه أخيرا حيث قالت بابتسامة هادئة:
_ "الولاد ناموا."
اقترب منها حتى صار مقابلا لها ليتفحّص معالمها المتهدّلة والتي أطبق الهمّ عليها فقال بتساؤل:
_ "مالك يا نجلاء؟ في إيه؟"
أخفضت بصرها بينما تجيبه بحزن:
_ "خايفة أخوك يفضل زعلان منك بسببي يا يونس بيه."
هزّ رأسه بنفي قائلا:
_ "ولا زعلان ولا حاجة يومين ويعدّوا.. وبعدين أنا مش بيه.. اتعوّدي تقولي يونس بس."
عادت تنظر إليه والعرفان باديا بنظراتها البسيطة حيث تقول شاكرة:
_ "شكرا على اللي عملته معايا أنا وابني إحنا....."
قاطعها قائلا بجديّة:
_ "إوعي تشكريني.. ولو في حدّ أحقّ بالشكر يبقى انتي."
ثم استطرد موضّحا:
_ "لازم تعرفي إن مهما كنتي محتاجالي فأنا محتاج لك 100 مرة.. ومش هتخافي بخصوص نائل.. هيعيش هنا وليه زي بقيّة العيلة.. وانا مش هعول همّ اولادي تاني."
أجابته بوعد:
_ "دول في عنيّا.. ماتخافش عليهم معايا."
ابتعد إلى الخلف خاتما الحديث:
_ "تصبحي على خير."
وهكذا انتهى الحديث بينهما بالتلفّظ بتحيّة قبل النوم.. فكان الزواج سريعا إلى الحدّ الذي جعلهما لم يجرؤا بعد للحياة بشكل طبيعيّ وليبقى الزواج شرعيّا فقط إلى أن تأتي اللحظة المناسبة لجعله يطابق العرف أيضا..
**********
في اليوم التالي.. استيقظت نجلاء في الصباح الباكر مع صوت بكاء شذا إنذارا إلى استيقاظها.. فقامت بإطعامها حتى سكنت وفي ذات الأثناء استيقظ نائل أيضا طالبا الطعام.. فنزلت وهي تحمل شذا بين راحتيْها ويتبعها نائل بحذر خوفا من أن يتوه بهذا المكان الواسع.. دلفت إلى المطبخ لتجد سلوى تقف فيه ومعها خادمتيْن.. ما ان وقعت عينا سلوى عليها حتى أخفضت نجلاء بصرها محمحمة بحرج:
_ "جيت أرجّع الإزازة وافطّر نائل.. كمان بدر لمّا يصحى."
رسمت سلوى ابتسامة هادئة على ثغرها بينما تشير إلى نجلاء بالتقدّم قائلة:
_ "تعالي يا نجلاء.. مش نجلاء برضه؟!"
_ "أيوة."
قالتها بخفوت بينما تقترب بهدوء حتى جلست عند سلوى التي تركت ما بيدها كي تكون معها.. بدأت سلوى الحديث قائلة بحبور:
_ "أنا اسمي سلوى محمد كنت صحفيّة ودلوقتي بهتمّ بالبيت والولاد وابوهم حسين.. معايا حمزة 5 سنين ونيروز سنة واحدة."
شعرت نجلاء بالراحة تدبّ في قلبها بينما تنظر إلى سلوى قائلة بسعادة:
_ "ربنا يحفظهم لك."
ثم سرعان ما استدركت قولها بحرج:
_ "معلش اللي حصل كان سريع جدا.. وانا عارفة أن أستاذ حسين رافض وجودي أكيد....."
قاطعتها سلوى تطمئنها:
_ "لا لا خالص حسين نسي الموضوع أصلا.. حسين كل اللي يهمّه سعادة أخوه الكبير كان ممكن كلامك يبقى صحّ لو كان سمير هنا."
_ "سمير؟!"
تساءلت نجلاء باهتمام عن هويّة هذا الجديد لتجيبها سلوى بنبرة متثاقلة:
_ "آه ماتعرفيهوش.. سمير ده يبقى أخوهم الصغيّر.. مش عايش هنا من زمان مستقلّ مع مراته بعيد عنّنا.. ومعاهم فهد."
ابتسمت نجلاء بينما تقول بتفاؤل:
_ "ان شاء الله لما اقابلهم يقبلوني زيّكم."
مزيج من الإحباط والارتباك أصابا سلوى في آن واحد.. فأيّ أسرة هذه التي تقوم بزيارة آل عمران؟ أسرة سمير عمران؟! تزوّج وأصبحت زوجته المتحكّمة به حتى فصلته كليّا عن العائلة ودفئها واهمة إيّاه بكونهم يطمعون بميراثه ويقومون باستغلاله.. ولكن ما يحدث هو العكس تماما.. فما يحبه أكثر من شقيقيْه ولكن غشاوة من نوع خاص ألقتها أمام عينيه ليجهل الحقيقة على الرغم من كونها أمامه طيلة الوقت.. حاولت الهروب من الردّ على تلك الجملة بالتفاتها نحو نائل الذي يقف بعيدا بخجل لتقول بابتسامة:
_ "تعالى يا نائل واقف بعيد ليه يا حبيبي؟"
اقترب ببطء حتى وقف إلى جانب والدته بينما عينيه على تلك الطفلة ذات العينين الزرقاوتيْن بيد سلوى فيقول بصوت منخفض:
_ "مين النونّة دي؟"
قالت سلوى بسرور:
_ "اسمها نيروز."
نطق نائل ببراءة:
_ "فيووز (فيروز)!"
هزّت رأسها نافية:
_ "لا لا نيروز."
أصرّ على قوله بنفس التعثّر في نطق الرّاء:
_ "فيووز."
اتّسعت الابتسامة على شدقها بينما تقول بمرح:
_ "طب لدغة الــ (ر) وعرفناها إنما إيه لدغة الــ (ن) اللي تبقى (ف) دي؟!"
وهكذا عمّ الضّحك والسكون على الأجواء حتى تلاشيا فجأة مع وفود عاصفة خطيرة متمثّلة في صوت هادر ينادي:
_ "يونس! يونس!"
التفتت كلتاهما نحو الخارج لتقف نجلاء سريعا وتتّجه إلى مصدر الصوت في حين تقف سلوى للحظات تحاول فيها معرفة هويّة صاحب النداء المألوف.. ما أن خرجت حتى وجدت رجلا طويل القامة ذا معالم حادّة لا تنبّئ بخير.. نطقت نجلاء بتساؤل:
_ "أيوة مين حضرتك؟"
التفّت خضراوتاه نحو تلك السائلة بنظراته الحادّة.. يتفحّص هويّتها حتى استقرّت عيناه على ابنة أخته التي بين يديها ليعود إلى النظر إليها قائلا بمقت يتخلّله الاتّهام:
_ "المفروض أنا اللي اسأل مين حضرتك؟"
**********
نهاية أحداث الفصل الثامن والعشرين
رجّعتكم شوية 20 سنة ورا عشان تفهموا الظروف اللي سبّبت بجواز نجلاء ويونس وطبعا ده هيساعدنا قدام.. إيه بقى توقّعكم للخطّة اللي بيفكّر فيها أمان لنهلة؟ وبدر هيستغل هدوء وتين ويقول الدنيا بقيت ماشية نص نص ولا هيعافر عشان يعرف اللي حصل منه ليلتها؟
آراءكم وتوقعاتكم تهمّني
إلى اللقاء في فصل جديدة من رواية #اغتصاب_لرد_الاعتبار وهمسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now