الفصل العاشر

656 27 13
                                    

10
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل العاشر"
(مجنون ليلى)
كان بدر يقود السيارة قاطعا الطريق قاصدا المنزل.. شاردا باللا شيء بينما يحدّق بالطريق.. حتى لاح أمامه صورة وتين ليريح مرفقه إلى نافذة السيارة وهو يدير عجلة القيادة.. اكتسى وجهه بغلالة من الحزن بعدما تذكّر تصيره بحقّها.. يعلم كم هو تعدّى الذّوق بعدم تهنئتها.. وإن كان الحزن معتمرا بصدره منذ تلك الحادثة إلا أن ذلك ليس عذرا كافيا لتجاهل نجاح صديقتها التي آزرته في كثير من الأحيان.. تنهّد بهدوء قبل أن يعبس وجهه ناطقا على لسان حاله:
_ "عارف اني المفروض اتصل عشان أبارك لك على النجاح.. بس صدقيني أنا في أكتر وقت محتاج اكون لوحدي فيه.. أنا حزين ومش عايز حد يشيل همّي.. الأحسن اكون لوحدي شويّة."
السكون الرخيم يطبق على المكان حتى صار صوت دقّات الساعة هو المسموع.. في ظلام دامس يكسو أنحاء الغرفة.. كان رياض يجلس على الكرسي محدّقا في الفراغ.. ساهم الوجه والانكسار يغزو مقلتَيْه فضلا عن الألم المعتمر بقلبه الدامي.. شهيق وزفير يتتابعان بجسد فقد الرغبة في الحياة.. لا يعلم كم مضى من الوقت وهو هنا لا يفعل شيئا سوى التفكير بما ستعانيه ابنته من الألم في حياتها القادمة.. عليها وعلى أسرتها احتمال الوضع الجديد الذي سيأتي بالسلب على سمعتها وسمعة أختها.. ولا ذنب لها سوى قيامها بعملها فما الجُرم الذي اقترفته لتنال عقابا كهذا؟ لم ترتكب جُرما بل إن المجرم زاد طغيانه بأن اقترف ذنبا لا يُغتفر.. ذنبه بأن سلب بريئة عفّتها بغير حق.. تاركا إياها تغرق ببحر من الوجع والدموع بينما ينام هانئا مطمئنّا على فراش النعام ولكن لا..
في شركة حسّان، تناول أنور القلم ثم أشار به نحو إحدى العلامات على الورقة الكبيرة أمامه بينما يوجّه حديثه إلى الجالس أمامه قائلا:
_ "كنت عايز اقولك ان في عملية جديدة في (....) إيه رأيك تأمن الطريق هنا؟"
أجابه الثاني رافضا:
_ "مانصحكش خالص."
_ "ليه بقى؟"
سأله بتعجّب ليجيب الثاني موضّحا:
_ "لإن الكماين على الطريق ده صعبة جدا.. ولو أمّنت ظابط مش هعرف أأمّن الباقي."
ثم رمق أنور بنظرات ثاقبة مكملا:
_ "بلاش المخاطرة في البرّ.. خليك على البحر أحسن."
أماء برأسه متفهّما بعدما وجد الاستحسان في اقتراح شريكه فيقول بهدوء:
_ "كلام مظبوط"
ثم سلّط عينيه عليه مكملا بإعجاب:
_ "ما غلطتش لما وثقت فيك يا فهد!"
ابتسم فهد مجاملا ثم قال بثقة:
_ "عمرها ما هتكون غلطة يا أنور باشا."
قطع إكمال حديثهم صوت رنين الهاتف ليلتقطه أنور ثم يجيب قائلا:
_ "ألو."
وما هي إلا ثوان لينتفض عن مكانه واقفا بينما يهتف بصدمة وذهول:
_ "إيـــــه؟!"
بخطوات متثاقلة كان يسير بحذر حتى وصل الغرفة المنشودة ليقف على مقربة ثم يلتقط شهيقا عميقا زفره على مهل.. اشرأبّ بعنقه من الزاوية ليجد صغيرته على حالها كما أخبرته والدتها.. تجلس وهي تحدّق في اللا شيء ساهمة.. فطرق الباب مرّتين قبل أن يقول:
_ "وتين يا بنتي."
انتقل بصرها نحو مصدر الصوت لتعود بعينيها إلى الفراغ من جديد دون أن تنبس ببنت شفة.. اعتبر ذلك إذنا للدخول فدلف ثم أغلق الباب خلفه واقترب حتى جلس على طرف السرير لتنحلّ عقدة لسانها في تلك اللحظة.. فنطقت وغصّة عالقة بحلقها:
_ "لما بكون تعبانة.. كنت بتيجي علطول تتطمّن عليّا."
ثم نظرت إلى والدها بنظرات تمتلئ اتّهاما بينما تقول:
_ "لكن المرة دي استنيت اليوم كله لحد ما جيت تكلمني!"
أغمض عينيه للحظات قبل أن يردف مدافعا:
_ "يا وتين...."
أسرعت تكمل عنه بنبرة مريرة ساخرة:
_ "مش قادر تشوفني صح؟!"
ثم استرسلت بنبرة شاكية:
_ "ولا مش عايز؟!"
هزّ رأسه إلى الجهتين مبعدا هذا الظنّ الغامر بعقل ابنته حيث ربت على وجنتها مدافعا:
_ "لا يا وتين مستحيل إنتي بنتي وما استحملش اعيش من غيرك إنتي أو ريم."
لم يرفّ لها جفن مع نبرته التي تبثّ الحنان بثناياها بل أكملت بقتامة:
_ "من واحنا صغيرين ربيتنا أحسن تربية.. وعودتنا نكون أقويا.. عودتنا نثبت نفسنا من لما كنا صغيرين.. عمرك ما منعت واحدة فينا عن حاجة عايزاها."
ثم نظرت لوالدها مكملة بحدّة:
_ "بس المرة دي عايزة اقولك انك غلطت يا أستاذ رياض!"
حدّق بها باهتمام ومعالمه تروي عن الجهل بينما أكملت هي موضّحة بزجر:
_ "غلطت لما سيبت كل واحدة فينا تعمل اللي عايزاه.. غلطت لما قبلت كل حاجة بنحققها بشكل ديمقراطي."
ثم أردفت بمرارة:
_ "لإن اتّضح إن الأب اللي بيقفل على بناته وبيمنعهم من الخروج حتى.. هو ده الشخص الصح!"
أسبل أهدابه غير مصدق ما يسمع الآن من فيه ابنته المتحضّرة صاحبة الشهادة العليا والطموح البالغ عنان السماء.. تقرّ بما كان يجول في القرون الماضية من أفكار جامدة.. تفيد بتقييد المرأة بالمنزل كي تهتم بشؤونه دون النظر إلى حلمها كالبعير.. عادت تكمل صاعقتها بثورة:
_ "عملت اللي قدرت عليه عشان نحقق أحلامنا وياريتك ما سيبتنا على هوانا وقفلت علينا بالمفتاح."
ثم لانت نبرتها بينما تقول بانهيار:
_ "العالم برا طلع قاسي جدا يا بابا."
سلّط عينيه بخاصتي ابنته يبثّها الثبات بينما ينفي ما يُقال بحزم:
_ "لا يا وتين ما تقوليش كدة.. ماحدش ليه يقفل عليكم ولا يمنعكم عن حاجة بتحبوها.. واللي غلط لازم ياخد عقابه والبني آدم ده أنا مش هسيبه إلا...."
قاطعته بينما تقول بنبرة ذات مغزى:
_ "للأسف ما ينفعش رياض تمّام يبقى محامي في القضيّة دي بالذات."
احتلّ الصمت لسانه من جديد بينما أكملت بتألم"
_ "إن كنت إنت هتقبل تدافع عني قدام آلاف من الناس فأنا مش هقبل أبدا."
تحدّث بغضب يكلّله الإصرار:
_ "أنا مش هسكت واحط إيدي على خدّي.. لازم اجيب حقّ بنتي."
عقّبت على حديثه باستنكار:
_ "وعشان تجيب حقّي اتفضح أنا؟!"
ثم أكملت موضّحة والدموع باتت تنساب على وجنتَيها بانهمار:
_ "يا بابا أنا مش هستحمل نظرات الناس ليا اللي هتبقى مليانة شفقة وحسرة.. ده غير نظرات اللوم اللي هتحسّسني إن انا اللي غلطانة مش هو!"
ثم أكملت بحسرة:
_ "المرة دي بالذات ماقدرش ادافع عن نفسي ضد اللي كسرني يا بابا.. المرة دي الظالم انتصر."
اعتصرت عيناها بقوّة تحت نظراته المشفقة بينما يستمع إليها تقول باستسلام:
_ "حقيقي انتصر.. لما قالّي مش هخليكي تخرجي من البيت تاني كان معاه حق.. أنا فعلا مش هقدر اخرج من بيتي تاني.. حقيقي أهنّيه هو انتصر وانا مش هقدر اواجه العالم تاني."
وهنا لم يستطع رياض الاحتمال أكثر من ذلك ليقع عنه قناع المحاميّ الجسور الذي لا ينحني أمام الظلم أبدا.. وظهر وجه الأب الذي يتلوّى من قسوة الألم تفجّعا على صغيرته المنهارة.. وليس لديه القدرة للقصاص لها وإن تجرّأ على القيام بذلك سيكون بمثابة فرمان لإعدام آخر ذرّة من كرامتها المبعثرة.. احتلّ الجزع معالمه فوقف وخرج من الغرفة تاركا وتين التي عادت لتذرف العبرات بشدّة لتأتي ريم التي اقتربت منها ثم احتوتها بين ذراعيها قائلة بحزن:
_ "إهدي يا وتين الانهيار مش كويس عشان صحتك يا حبيبتي!."
لم تنتهِ من البكاء بل زادت حيث نطقت بصوت متحشرج:
_ "ياريتني اموت خالص يا ريم."
أسرعت ريم إلى النفي قائلة:
_ "ماتقوليش كدة.. إنتي لسة قدامك المستقبل ما ينفعش تستسلمي كدة."
ثم استطردت مكملة بحكمة:
_ "مش انتي دايما بتقولي ما نخسرش أي لحظة سعادة عشان العمر قصير!"
انتفضت عن عناق أختها لتحدجها بنظرات حادّة أتبعتها بقولها بمرارة:
_ "ده لو في لحظة سعادة.. لكن من هنا ورايح مافيش في حياتي غير اللون الاسود وبس."
ثم أكملت بنبرة يعلوها الاستهجان:
_ "مش كنتي بتقري روايات الاغتصاب اللي بيبيّنوا فيها مبررات ليه وانه أد إيه حاجة حلوة.. أنا أهو حالة حقيقيّة قدامك بقولك ان الجريمة دي أسوأ حاجة ممكن تصيب البنت."
ثم ابتلعت ريقها بينما تحتضن جسدها قائلة باشمئزاز:
_ "حاولوا يجمّلوا صورة المغتصب وانا حاسّة اني قرفانة من جسمي عشان لمسه الحيوان ده.. حسبي الله ونعم الوكيل فيه."
أسرعت ريم إلى احتضان أختها بينما تقول بأسى:
_ "إنسي يا وتين.. إنسي يا حبيبتي."
لن تنسَ ما جرى.. ولو بعد حين.. لن تنسَ هذا الجرح الذي تسبّب به هذا الحيوان وإن زال أثره الجسديّ.. ستظل كدمة مؤلمة عالقة بروحها دون أن تجد منها الخلاص.. لن تنسَ الحيوان الذي لم ترَ وجهه بسبب العصابة على عينيها.. والتي حرص على بقائها لئلّا تستطيع الاعتراف عليه إن قامت بالشكوى.. ولكن هذا إن طالبت بحقّها في القصاص.. فليست تلك المحاميّة التي ستطالب بالعقاب.. ولكن لن تتوقّف عن التلفّظ بــ "حسبي الله ونعم الوكيل" ومع هذا الدعاء يجيب الحق تبارك وتعالى "لأنصرنّك يا عبدي ولو بعد حين." وإن ظنّ الماجن بأنّه ناجٍ من عذاب الدّنيا فلعذاب الآخرة أخزى..
_ "هنستلم الجثة إمتا؟"
أردف بها أنور بينما يضع الهاتف على أذنه تحت مرأى فهد الذي يراقبه بهدوء حيث تأتي إجابة الطرف الآخر بوجوم:
_ "هيتحفّظوا عليها يا فندم لتشريح السم وممكن يتأخروا جدا عشان مالهوش أهل."
_ "بس ابنه لسة عايش!"
نطق بها بتعجّب ليجيبه الثاني شارحا مقصده:
_ "لكن في مستشفى الإدمان يعني يعتبر فاقد الأهليّة."
ختف أنور بغضب:
_ "ماليش في الكلام ده خالص.. ولازم استلم جثّته في أقرب وقت وإلا مش هيحصل طيب.. مفهوم؟"
ثم أغلق الخط دون أن يترك للضابط فرصة للرد.. التفت إلى صوت فهد الذي أردف متسائلا:
_ "تسمح لي أساعدك عشان تستلم الجثة؟"
ضيّق أنور حدقتيه بينما ينظر إلى فهد قائلا بعدم فهم:
_ "وهتعمل كدة ازاي يا سيادة النقيب؟"
أجابه فهد بتلقائيّة:
_ "ليا طرقي الخاصة.. أنا عليا أخرّجه من السجن وانت عليك تكتشف مين عمل كدة فيه."
عاد يضيّق عينيه قائلا بشكّ:
_ "قصدك ايه؟"
_ "قصدي اللي فهمته."
نطق بها بقتامة ليتحدث أنور مخمّنا:
_ "إن دي من فعل فاعل؟!"
أجابه فهد مؤيّدا ظنّه:
_ "اكيد.. حد مش من مصلحته ان صابر بيه يفضل عايش."
ثم وقف عن مكانه قائلا:
_ "بعد إذنك."
وخرج تاركا أنور الذي بدأ بالإبحار في ظنونه بينما سار هو حتى تجاوز المبنى فتوقّف ثم رسم ابتسامة خبيثة على شدقه أتبعها بقوله:
_ "لازم اساعدك بكل اللي اقدر عليه يا أنور يا باشا.. في الحقيقة إنت أكتر واحد بتساعدني وجميلك لا يمكن انساه."
ثم ارتدى النظارة الشمسية مكملا طريقه نحو سيارته بثقة عالية وكأنّه مَلَكَ الدنيا وصار الأكثر قوّة بين بني البشر.
أخذ بدر يجفّف شعره بالمنشفة بعدما اغتسل.. فألقاها بعيدا قبل أن يجلس على السرير وقبل أن يلتقط الفرشاة من سطح الكومود باغتته طرقات الباب المتتالية لنظر باتّجاهه قائلا:
_ "أدخل."
دلف يونس قائلا بصوت خفيض:
_ "إنت لسة صاحي يا بدر؟"
وقف بدر عن مكانه قائلا باحترام:
_ "أيوة يا بابا.. اتفضّل."
اقترب من ولده بالقدر الكافي لتأمّل ملامحه المتهدّلة من فرط الإنهاك والتوتّر الناجمين عن الحزن والعمل.. فقال برفق:
_ "إيه أخبارك؟"
_ "الحمد لله."
_ "انا كلمت رياض عشان ازوره أنا وانت يوم الجمعة وابارك لبنته على نجاحها."
قالها بينما ييستشفّ ردّة فعل بدر الذي اعتلى الاستنكار معالمه بينما يقول بدهشة واحتجاج:
_ "إيــــه؟! ونطقت إسمي ليه يا بابا؟ وافترض انا مش مستعد اقابل الناس دلوقتي؟"
ماثله الاستنكار متشدّقا:
_ "إيه اللي هيخلّيك مش مستعد يا بدر؟! إنت بتحب رياض جدا وبتعزّ بنته واكيد زيارة زي كدة هتخفّف عنك كتير."
همّ ليجيبه بما يجيش بصدره بأن لا يريد أن يلقي أحزانه في صدور الآخرين ولكن أسرع يونس إلى إيقافه بحسم:
_ "واعتبرها يا سيدي من باب الذوق انت كان المفروض تبارك لهم من زمان وجات الفرصة أدامك اهو!"
كم أن لقاء رياض وابنته يسعده ولكن بظرف يغاير هذا.. فعلى الرغم من مرور الوقت إلا أن الجراح لم تلتئم بعد وقلبه لا زال مصابا.. وبدر الصامد أمام الصعاب لن يقبل أن يرى أحد همومه.. بل وتفسريها بشكل خاطئ أيضا.. فالجميع يظنّ أن حزنه لفراق الشريكة الغالية.. ولكن الحقيقة أنه لا يزال يلملم شتات كرامته الممزّقة.. أفاق من شروده مع صوت يونس متمتما بحنو:
_ "حاول تخرج من الروتين اللي انت فيه ده يا بدر.. ابدأ اضحك من تاني وافرح العمر مش طويل وانت سيّلت نفسك الهم من دلوقتي! إدي لنفسك فرصة تفرح يابني."
نظر بعينيْ والدَيه فقال بجديّة:
_ "معاك حق يا بابا.. أنا هاجي معاك الجمعة وان شاء الله مقابلة أستاذ رياض تخفّف عنّي."
_ "ربنا يريّحك يابني."
قالها بابتهال ثم أردف مستديرا إلى الجهة الأخرى:
_ "تصبح على خير."
_ "وانت من أهله."
ما أن خرج من الغرفة حتى أخرج هاتفه من جيبه وضغط به عدّة مرات ثم وضعه على أذنه قبل أن يقول بودّ:
_ "ألو إزيّك يا رياض؟ عامل إيه؟"
عقد حاجبيه بتساؤل حين سمع إجابة الطرف الآخر ليقول بقلق:
_ "ماله صوتك؟ تعبان ولا إيه؟ .... ألف سلامة عليك .... في الحقيقة كنت عايز اكلمك عشان بدر حابب يشوفك ويبارك لوتين فقلت نقضّي معاك السهرة يوم الجمعة لو فاضي .... ربنا يعزّك يا رياض.. بإذن الله اقابلك قريب .... سلام."
أغلق الخطّ بعدما أنهى الاتصال ثم أكمل سيره نحو غرفته والابتسامة تتسلّل إلى شفتيه وقد حقّق مراده بشأن بدر.. فقد قضى وقته منكمشا عن البشر منذ ذلك الحادث وكان على يونس التصرف كأب خائف على سلامة ولده.. قرّر أخذه إلى أكثر الأشخاص مقربة إلى قلبه.. وكان من الحكمة التظاهر بإقحام بدر بالأمر كي يتجاوز عناده ويرضخ لأمر الزيارة قبل أن يحادث رياض حتى.. فأراد أخذ الضمان بموافقة ابنه أولا قبل أن يحادث رياض خشية الإحراج.. وها قد جَرَت الأمور وفقا للتيّار دون مشكلة وفي انتظار الزيارة التي ستكون بمثابة الخطوة الأولى لتحسّن بدر.
ومرّت الأيام متتالية دون جديد يُذكَر.. لا تخلُ من محاولات أسرة تمّام المستميتة لترميم روحها وإعادة البسمة إلى شفاهها من جديد.. يقومون بواجبهم وزيادة كأسرة متماسكة ترفض تحميل ابنتها العواقب.. وإن كانت قضيّة القصاص فيها مستحيلا فالمُنقذ عودة السعادة إلى وجه ابنتهم من جديد.. ومن جانبها تحاول بكل ما أُوتيت من قوّة التجاوب لمجهودهم وفي داخلها لا تزال مرآة كبريائها مهشّمة إلى أجزاء صغيرة..
كانت تجلس أمام التلفاز الذي يعرض أحد المسلسلات تتصنّع المشاهدة لأجل ريم التي قامت بتشغيل التلفاز لأجلها.. تستمع وذهنها في مكان آخر.. حتى خرجت عن شرودها مع أحد المشاهد.. فقد كان المسلسل يحمل اسم "قضيّة رأي عام" والذي يحكي قصّة النساء الثلاث الذين تم اغتصابهم من قبل ثلاثة شباب فاسدين.. جذب انتباهها مشهد يبعث الحب والطمأنينة في النفس حتى تظنّ أن الدنيا لا تزال بخير.. فقد كانت طبيبة الامتياز حنان "لقاء الخميسي" تطالب خطيبها مصطفى "إيهاب فهمي" بالتّخلّي عنها بعد الحادثة التي أصابتها وجعلتها تحمل سفاحا ثم تجهض جنينها رحمة من ربها.. ولكنه تفهّم الأمر ولم يتخلّ عنها بل دعمها حتى نال القانون مجراه مقسما بعفّتها حتى بعد ما أقدم عليه هؤلاء الجُناة.. قطع حبل شرودها صوت والدتها التي دلفت قائلة:
_ "خدي الدوا يا وتين."
_ "حاضر."
قالتها بينما تأخذ حبّة الدواء من بين أنامل والدتها لتتناولها مع كوب ماء بينما تجلس جيهان بجانبها ثم تربت على شعرها برفق قائلة:
_ "عاملة إيه دلوقتي يا قلبي؟"
_ "بخير."
ثم استطردت تقول بهدوء:
_ "قولي لبابا إن تامر جاي بكرة."
عقدت جيهان حاجبيها بينما تتساءل بدهشة:
_ "مين سمح له ييجي؟"
أجابتها وتين بنبرة جديّة:
_ "كان بيتصل عليا الفترة اللي فاتت وانا ماكنتش برد.. ولما كلمته قلت له ييجي بكرة."
رمقت ابنتها ذات المعالم الجامدة لتقول بخوف:
_ "ليه يا وتين؟"
تحدثت بصمود:
_ "عشان اللي المفروض يحصل يا أمي."
_ "هتقوليله؟"
نطقت بها بفزع احتلّ صوتها لتجيبها وتين بنبرة قاتمة:
_ "إنتي وأبويا وأختي واثقين فيا ولازم أعرف هو كمان هيبص لي ازاي."
ثم التفتت إلى والدتها مكملة:
_ "ولا إيه رأيك؟ أتصرف ازاي؟"
أجابتها جيهان بقلة حيلة:
_ "باللي يريحك يا بنتي."
ثم انسحبت إلى الخارج تاركة وتين التي عادت الأفكار تعصف بعقلها من جديد.. فالخوف يكبّلها والانكسار يشتّتها وبين هذا وذاك توجد ثقتها بخطيبها.. ذاك الذي يحبها ويخاف من الهواء أن يؤذيها.. ولن يقبل بفسخ الخِطبة دون سبب وهو يعرف خصال العائلة التي يناسبها.. فلا تأخذهم في الحق لومة لائم وإن كانت ستتركه فلابد من سبب وجيه لذلك.. والأفضل مصارحته واختبار مدى حبه لها.. فماذا سيفعل؟ أيرفضها لمجرد هذا الحادث الذي لا يد لها فيه؟ أم يفعل مثل ما قام به مصطفى؟
أجابت نفسها بصوت مهزوز:
_ "طبعا هتعمل زي مصطفى يا تامر.. أنا واثقة انك بتحبني وإنت راجل متعلم وفاهم إن حاجة زي كدة مش هتعيبني."
_ "إنت ناوي تيجي إمتا يا نائل؟"
نطقت بها نجلاء بينما تضع الهاتف على أذنها بلهفة ليجيبها نائل بهدوء:
_ "مش هاجي إلا على معاد الأجازة أول رمضان يا أمي."
هتفت نجلاء باستنكار:
_ "إزاي ده يابني؟ المفروض تنزل دلوقتي!"
أجابها بجديّة موضّحا:
_ "يا أمي كل الناس خدت أجازة إلا الموقع لأنه في الصحرا ومش عايزين تعطيل للشغل."
ازدردت ريقها بتوتّر قبل أن تقول بخوف:
_ "يا حبيبي أنا خايفة عليك.. الوباء انتشر وانت صدرك تعبان ممكن أوي تلقط الفيروس."
قال مهدّئا لظى روعها:
_ "سيبيها على الله يا حبيبتي."
تكلمت نجلاء بعدم فهم:
_ "أنا مش عارفة إيه اللي عاذرك على الشغلانة المتعبة دي؟! ماتيجي واشتغل مع عمّك...."
لم يعطها فرصة للإكمال وإنما أسرع إلى إقفال الموضوع قائلا بجفاء:
_ "بعد إذنك يا ماما البنّا بينادوني."
ثم أغلق الهاتف تاركا إياها تعود إلى أفكارها القديمة من جديد.. تعود إلى عزلة نائل عن هذه العائلة قدر الإمكان.. وعلى الرغم من اعتباره ابنا لها إلا أنه يرفض قاطعا الانضمام إلى هذا الشّمل المتكاتف.. ويأبى أن يكون جزءا من كيانه.. بل يرى نفسه بعيدا وأن معاملة هذه العائلة لا تتعدّى كونها مجاملة فقط! ومتى يفهم صدق مشاعرهم يا تُرى؟!
في مكان آخر.. وضع تامر كوب الشاي على سطح الطاولة أمامه بينما ينظر بجانبه إلى وتين الهادئة ظاهريّا فيقول مبتسما:
_ "عاملة إيه يا وتين؟"
_ "كويسة."
نطقت بها بصوت رخيم يطبق الألم عليه فترتسم علامات القلق على وجه تامر الذي قال بخوف:
_ "مالك حبيبتي؟ في إيه؟"
حّدقت به بنظرات مبهمة المعالم بينما أكمل هو بذات النبرة:
_ "مابترديش على مكالماتي خالص وأستاذ رياض يقولي انك تعبانة.. بس إيه التعب اللي يخليكي مش راضية تكلميني؟!"
نظرت إليه بنظرات ثاقبة بينما تقول بهدوء:
_ "مستعد تعرف الحقيقة كاملة؟"
أسرع يقول بلهفة:
_ "ياريت."
في الصالون جلس رياض مقابل بدر ويونس ثم ربت على ركبة بدر قائلا بابتسامة يعلوها التكلّف:
_ "والله ليك وحشة يا بدر."
بادله بدر المجاملة بهدوء:
_ "إنت أكتر يا أستاذ.. الغيبة كانت طويلة المرة دي أنا عارف."
تحدث رياض متفهّما:
_ "عاذرك في كل اللي حصلك يابني.. ربنا يعوّض عليك بالزوجة الصالحة يا رب."
لم يعد ينتبه إلى هذا الدعاء كثيرا وإنما تذكّر شيئا آخر حيث نطق مستطردا:
_ "أمال فين وتين؟"
_ "مع خطيبها."
قالها رياض بهدوء ليقول يونس معتذرا:
_ "إحنا آسفين جدا لو جينا في وقت غلط و...."
أسرع رياض يجيبه نافيا:
_ "لا ماتقولش كدة يا يونس.. مجيّتكم عندنا تسوى كتير."
اختتمت وتين قولها بنبرة مختنقة يكبّلها الدّمع المحبوس بمحجريها:
_ "وهو ده اللي حصل من أسبوع.. وقرار تصدقني أو ماتصدقش يرجع ليك."
أسبل جفونه بهدوء ثم قال بنبرة تمهيديّة:
_ "وتين إنتي عارفة كويس إني بثق فيكي وكمان بشجعك دايما في نجاحك."
تحت نظراتها الخائفة المرتقبة أكمل بتلعثم:
_ "لكن اللي حصل ده.. آآآآ صعب..."
مع كلماته المتقطّعة فهمت ويا ليتها لم تفهم.. لقد خابت ظنونها واحترقت ثقتها بحبه المزعوم.. يتراجع لولا سرده لحكاية عشقه وكأنه مجنون ليلى.. فلم يكن بقيس ولم تكن هي ليلى! أكملت عنه بصمود ظاهريّ:
_ "مش محتاج تكمّل يا مستر أنا فهمتك."
أسرع يقول
_ "أنا مش قصدي أغلط يا وتين بس الصراحة أنا مش هعرف اعيش مع حقيقة..."
قاطعته من بين اختناقها باقتضاب:
_ "إن مراتك مغتصبة!"
ثم أكملت بسخرية:
_ "مع إن السبب فــ كدة مش بإيدها لا هي حققت نجاحها اللي كنت بتساعدها فيه مش أكتر!"
أغاظه إلقاء اللوم عليه حين ساعدها وافتخر بنجاحها فاندفع بالحديث دون الاعتبار بردة فعلها:
_ "لكن أنا راجل شرقي ماقدرش أعيش مع واحدة جربها غيري."
اتحدّت عيناها بقوّة بينما تحدجه بنظراتها النارية حيث هتفت بغضب:
_ "وإيه اللي مخليك قاعد لحد دلوقتي يا سيادة الراجل الشرقي المحترم؟!"
التفت إليها بعينين متّسعتَين دهشة وذهولا بينما أكملت هي بغضب مستعرّ
_ "إطلع برّة يالا."
انتفض ثلاثتهم عن الجلوس مع سمع صوت هدر وتين من الغرفة ثائرة:
_ "مش قلت انا واحدة جربت مع غيرك يبقى اتفضّلاطلع برّة يا محترم.. بـــرة."
أسرع جميعهم إلى الغرفة ليجدوا تامرالذي خرج منها ووتين أغلقت الباب خلفه.. اقترب منه رياض ثم قال بنبرة يكلّلها الغضب:
_ "إيه اللي حصل يا تامر؟"
رمقه بهدوء قبل أن يسرع إلى الخارج دون أن يتجرّأ على التفوّه بكلمة ممّا جرى.. في حين أسرعت جيهان إلى الباب وقد استشعرت الخطر من غلق وتين للباب فأخذت تطرقه بعنف هاتفة:
_ "وتيـــن! وتين افتحي."
وكذلك تبعتها ريم ورياض تحت أنظار ربدر ويونس المتسائلة وقد فهما جزئيّا ما يحدث هنا..
لم تستجب لنداءاتهم المتكرّرة وإنّما أسرعت إلى أحد الأدراج ثم أخرجت منه شفرة حادة مرّرت نصلها على شرايين معصمها لتقع مضرّجة بين دمائها الغائرة.. هتف رياض بخوف:
_ "وتين! وتين يا بنتي افتحي وكلميني.. افتحي يا وتين."
_ "إبعدوا كلكم."
أسرع بدر إلى صدم الباب بجسده عدّة مرات حتى كُسِرَت قوّته وانفتح ليجدوها على هذه الحالة التي أهالتهم فتصرخ ريم بهلع:
_ وتيـــــن!"
بينما تسرع إليها جيهان لتبدأ بهزّها بقوّة هاتفة:
_ "بنتي حبيبتي!"
تناسى خوفه وصدمته مما آلت إليه أمور وتين بفترة الغياب.. وأسرع يقطع من قماش قميصه ثم يبدأ بربط معصمها الجريح بقوّة تُضعف نزفه ثم يحملها بين ذراعيه مسرعا إلى الخارج كي ينقذ حياتها قبل أن تُفقَد.
ولم يتراجع عن إدخالها بسيارته ثم يهرب بها إلى أقرب مشفى لإسعافها.. ما ان وصل حتى أتى الفريق الطبيّ لاستقبال الحالة ثم نقلها مباشرة إلى غرفة العمليّات ليقف بدر بالخارج منتظرا حتى انضمّ إليه بقيّة أفراد العائلة ومعهم يونس الذي بادر يسأله بقلق:
_ "عاملة إيه دلوقتي؟"
همّ ليجيبه ولكن كان للممرّضة السبق حيث خرجت للمرة التي لا يمكن إحصاؤها ولكن ليس لإحضار شيء بل لتوجيه كلمة إلى أفراد أسرتها الذين اجتمعوا حولها بلهفة فتقول مطمئنة:
_ "الحمد لله عرفوا يوقّفوا النزيف.. وهتفوق كمان ساعتين."
تعالت الابتهالات بالحمد لله على نجاة بكريّة العائلة بعد خطر كان قريب منها لولا أن قام بدر بالمطلوب لإنقاذها.. وكأنّ وجوده بهذه اللحظة كان محتوما لأجل إنقاذ بالذات.. اقترب منه رياض قائلا بامتنان:
_ "شكرا يا بدر يابني."
_ "ماتقولش كدة يا عمي.. المهم انها تكون بخير."
وتمّ نقل وتين إلى غرفة عاديّة لتفيق بها من آثار البنج والإرهاق الجسديّ في حين غادر يونس برفقة بدر المشفى لتغيير ثيابه بذات الشقّة التي تجهّز بها للخِطبة.. كي لا يلاحظ أحد من العائلة سبب الدم المخضّب ملابسه.. وعزما العودة للاطمئنان على الفتاة بشكل كامل ومؤازرة الأستاذ رياض في محنته المجهولة ومعرفة سببها.. وقف بدر أمام باب الغرفة ثم قال لوالده:
_ "هي دي أوضة وتين زي ما قالت الممرضة."
تكلم يونس مستنتجا:
_ "أكيد كلهم جوة دلوقتي بيتطمنوا عليها."
همّ لينطق ولكن انعقد لسانه عن العمل مع صوت رياض قائلا بعتاب يكلّله الحزم:
_ "تعاقبي نفسك بالموت عشان راجل حيوان!"
أتبعته وتين من بين عبراتها باحتجاج:
_ "أعمل إيه طيب؟ أنا واحدة بعد حادثة مالهاش ذنب فيها واحد جاي يقول عنها كلمة زي كدة.. مستنيين مني أعيش ازاي بعد كلمة زي كدة؟!"
تعالت دقّات بدر حتى صار كالمضخّات بعدما لاح ضمنيّا حقيقة ما يرفض تصديقه في هذه الأيام الماضية.. في حين نطقت ريم مثنية إياها:
_ "مالكيش دعوة بكلامه يا وتين.. إنتي عرّفتيه الحقيقة وهو اللي خسرك...."
قاطعتها تقول بنبرة قاطعة:
_ "لا لازم اخد بكلامه لإن من هنا ورايح دي هتكون نظرة أي راجل ليا بعد كدة.. للأسف لازم اخد بكلامه لبعد كدة.. ياريتني ما مسكت القضيّة دي."
أغمض بدر عينيه بقوّة يعتصرهما وقد شعر بالألم يجتاح قلبه بشراسة ليعيد جراحه من جديد.. في حين ربت يونس على منكب بدر قائلا بهدوء:
_ "تعالى اقعد يا بدر."
امتثل لأمر والده دون أن ينطق بكلمة وفي عقله صدع بشأن هذا الخبر الأخير الذي يخصّ صديقته وتين.. لا يصدّق أن تكون تعرّضت لمثل هذه الجريمة البشعة.. ولكن كلامها وكلام البقيّة حولها يوحي بذلك.. أجفل مع صوت الباب حيث خرج رياض غائم العينين والانكسار يكبّل معالمه فرمقه بدر بتركيز بينما وقف يونس عن مجلسه ثم أسرع إليه وجذبه نحو المقعد قائلا:
_ "تعالى ارتاح يا رياض."
جلس وعقله مغيّب لا يقبل المزيد بينما تحدّث يونس بعتاب:
_ "أنا فهمت دلوقتي سبب صوتك اللي متغير يا رياض.. بس احنا اخوات ولازم نبقى سند لبعض."
_ "الحمد لله على كل شيء."
ثم أجفل مع صوت بدر مناديا:
_ "عمي رياض."
التفت إليه بمعالمه المتهدّلة المنهكة بينما أكمل الثاني بجديّة لم يعهدوها قبلا:
_ "أنا طالب منك إيد الآنسة وتين على سنة الله ورسوله."
نهاية أحداث الفصل العاشر
طلع فهد شرير وأنور ليه جمايل على فهد.. يا ترى إيه هي بقى؟
آراءكم وتوقعاتكم تهمني
#إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارWaar verhalen tot leven komen. Ontdek het nu