الفصل الثامن عشر

624 27 18
                                    

18
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثامن عشر"
(الشوكة الأولى)
**********
انتهى من صفّ سيارته بالجراج ثم ترجّل عنها ليجمع بيسراه طرفيْ عباءته السوداء المُغلّفة جلبابه الرّماديّ.. لم يؤثّر تقدّمه بالسّنّ على نشاطه الصّباحيّ في استقبال عمل البناء مع مجموعة الشّباب العاملين تحت إمرته لإكمال تشييد البنايات السّكنيّة الواحدة تلو الأخرى.. توقّف ما أن وجد العمّال ليسوا بمواقعهم وإنّما محتشدين بجانب بناية مكتملة.. متجمّعين وكأنّ هناك ما تسبّب في انشغالهم وألهاهم بالنظر إليه.. توجّه إليهم حتى صار على مقربة ليجهر بالقول جاذبا انتباههم:
_ "سايبين شغلكم ليه يا.....؟"
التفتوا جميعا نحو مصدر الصوت ليجدوا رئيس العمل ينظر إليهم بحدّة فأجابوه بالابتعاد مفسحين الطريق كي يرى ما أوقفهم.. اتّسعت عيناه بقوّة حين رأى جسدا أنثويا خضّبت دماؤه حبّات الرّمال.. فاقدة الوعي والدّماء متفجّرة من دماغها.. بقايا ملابسها بالكاد تستر جسدها.. هتف بهلع:
_ "يا ربي! دي وجعت ازاي؟ وإيه اللي جطّع خلجاتها (ملابسها) اكدة؟!"
أجابه أحد الصبية قائلا:
_ "شفتها بترمي نفسها من الدور التالت يا معلم."
أسرع بنزع عباءته ثم دثّر بها جسدها ساترا إياه عن العيون بينما يقول أحد الواقفين بصوت يكتمه الحزن:
_ "دي باين عليها ماتت."
أجابه آخر بجديّة:
_ "لا دماغها جات عالرملة."
اعتدل بجذعه العلويّ بينما يقول آمرا:
_ "الحقوا شوفوا مين في الدور التالت قبل ما يهرب."
تولّى ثلاثة منهم مهمّة تنفيذ الأمر وساروا حتى بوّابة البناية بينما أخرج الرئيس هاتفه واتّصل بالإسعاف كي يسرعوا بإغاثة هذه الصغيرة التي يرقد جسدها بلا حول ولا قوّة والله يعلم إن فاضت روحها أو لا تزال تصارع لبقائها.. أثناء انتظار وصول الإسعاف وجد حشدا من الناس يتوافدون تباعا.. يحملون آلات تصوير مختلفة الأحجام ومكبّرات صوت وبعضهم يحمل الدّفاتر والأقلام.. يتسابقون في القدوم حتى وصوا جميعا مقتحمين الهدوء الذي عمّ المكان.. وبدأت الآلات بالتصوير في حين نادى صاحب العمل باستنكار:
_ "إيه ده؟ إنتو مين؟"
أجابه أحدهم بعدما التقط صورة لها بعمليّة:
_ "عرفنا ان في حالة انتحار ولازم نغطّي الخبر."
أسبل جفنَيْه محدّقا بهذا الرجل وما أردف به للحظات حتى قطع الصّمت بقوله متهكّما:
_ "بدل ما تغطّوا الخبر ساعدوا البنيّة ديْ تروح المستشفى.. ده انتو وصلتوا جبل (قبل) الإسعاف!!"
أجابه الثاني بلا اكتراث:
_ "ماحدش يقدر يلمسها إلا الإسعاف بنفسها.. وده مش شغلنا إحنا علينا نلحق الخبر وسيبني بقا أشوف شغلي."
قال الأخيرة بضجر معلنا نهاية النقائ القصير الذي وصل إلى حالة من السّلب فابتعد إلى الخلف كي يرمق هؤلاء المؤدّين عملهم بمهارة.. وكان أقرب ما سمع على لسان إحدى المراسلات قائلة:
_ "هنا مراسلتكم الإذاعيّة ننقل لكم خبرا من منطقة ... حيث توجد ضحيّة انتحار ألقت نفسها من الطابق الثالث في مكان يخلو من السكّان.. ويبدو من ثيابها الممزّقة أنها وقعت تحت عمليّة اعتداء دفعتها إلى الانتحار.. وحين تأتي الإسعاف نوافيكم بآخر الأخبار."
زمّ شفتيْه بتعجّب بينما يتشدّق بحزن:
_ "لا حول ولا قوة إلا بالله."
وعادت أنظاره نحو تلك البريئة التي ألقت نفسها بفم جهنّم بعدما تعرّضت لانتهاك جسديّ آلم روحها ودفعها إلى الانتحار.. رمقها بشفقة يتخلّلها الألم بينما يجد هؤلاء يقتحمون خصوصيّة الحادث بلا رحمة والوظيفة باتت الأهم من سمعة بريئة ودون الاكتراث بتبعات هذا الأمر عليها وعلى والديها.. في لحظة لاح إلى آذانهم صوت سرينة الإسعاف معلنة الوصول لتنصرف أنظار الصحفيين عنها ولكن ليس نحو الإسعاف بل نحو باب البناية حيث أمسك الصّبية بمن اشتبهوا به حين رأوه يحاول الهروب فور خروجه من ذات الطّابق الذي وقعت منه نهلة.. أسرع جميعهم إلى التقاط الصور وكتابة البيانات لتكون صورة الخبر مكتملة الأركان إلى حدٍّ ما..
**********
برويّة جلست على المقعد المجاور للمكتب بينما تنظر إلى وليد بترقّب حيث ألقى الأخير الأوراق من يده ثم ينقل بصره نحوها ناطقا بسخريّة يتخلّلها الاستهجان:
_"كنت متوقّع تيجي لي بدري وتعرفيني آخر الأخبار مش تستنّي لحد ما اطلبك! هو انتي مش مستعجلة على مكافأتك ولا إيه؟!"
_ "ما فهمتش قصدك يا وليد بيه..."
قالتها ببلاهة متعمّدة وفي نفسها ترجو الهرب من هذا السؤال الذي ستتسبّب نتيجته بالسّلب على عملها الفترة القادمة.. ولكن لم يكن ذلك ليسير على هوى وليد الذي نطق بنبرة احتدّت معالمها:
_ "فهد يا روفان.. عايز اعرف فهد واللي بيعمله.. ودي كانت مهمّتك انك تكشفي نواياه وعشان كدة هيأت الجوّ ليكم في أوضة واحدة."
ثم أمعن النظر إليها قائلا بدهاء:
_ "وأظن انتي ذكيّة كفاية عشان تفهمي قصدي والمفروض تقوليلي دلوقتي اللي عايز اسمعه."
وعاد يطلق كلماته المقتضبة بتأكيد:
_ "فهد بصف مين؟"
رفعت عينيها كي تواجه خاصّتيْه ثم تقول برزانة:
_ "فهد يا وليد بيه...."
لمّا وجدت اللّهفة جليّة بمعالمه ارتقابا لكلماتها التالية أكملت بابتسامة واثقة:
_ "ولاؤه كله لينا."
رفع أحد حاجبيْه وضيّق حدقتيْه بينما يفكّر بتلك الكلمات التي لاحت إلى مسمعه في حين تكمل مؤكّدة:
_ "مافيش حاجة بيفكر فيها أدّ الانتقام من عيلته ويخلص منهم."
ثم امتعضت ملامحها بينما تقول من بين أسنانها متذكّرة:
_ "حضرتك نسيت إني مش زيّ بقيّة البنات اللي في البار واني لما بقيت معاه في أوضة واحدة خدّرته وما حصلش أيّ حاجة بيننا.. بل بالعكس أنا استفدت من ده لمّا خليته يقرّ ويعترف باللي انا عايزاه."
اعتدل في جلسته وهمّ ليردّ بالقول المناسب ولكن سبقته رنّات الهاتف المزعجة.. ليلتقطه ثم يسحب زرّ الإجابة قائلا:
_ "ألو ... أيوة أنا ..."
ثم سرعان ما انتفض عن جلسته واقفا كمن لدغته صعقة كهربيّة تحت نظرات روفان التي وقفت أمامه تنظر إليه بدهشة بينما يهتف بصدمة:
_ "إيـــــــــه؟!!"
**********
_ "في واحد جاي يزورك يا مدام."
نطقت بها الخادمة بنبرة خفيضة الصوت بينما تقف أمام إبراهيم وشذا اللذين تناقلا النظرات الجاهلة.. فمن قد يأتي لمقابلة شذا خصّيصا ببيت زوجها.. فتساءلت شذا بجديّة:
_ "مين؟"
_ "بيقول أخوكي."
رفعت شذا أحد حاجبيْها ناطقة بعدم تصديق:
_ "بدر!"
وكذلك لاح الاستنكار على ملامح إبراهيم ليحكّ ذقنه بتفكّر بشأن هذا الزائر الذي قابلته شذا أمس.. فما أحضره اليوم إلى هنا ولم يمرّ على لقائهم سوى عدد من الساعات؟ أيريد أن يطمئنّ على حالها و يتأكّد من مدى جودة المعاملة التي تحصل عليها بهذا البيت؟! إن ظنّ هذا فلن يكون سوى أحمق كبير.. هل يظنّ حقا أن إبراهيم قد يتصرّف مع أخته كما فعل هو بفضح سرّ أخته المتوفّية التي يجدر أن لا يذكروا إلا محاسنها؟! خرج عن شروده مع صوت شذا بنبرة مفعمة بالحماس:
_ "يالا نسلّم عليه يا ابراهيم."
وقف عن الكرسيّ قائلا بتثاقل:
_ "يالّا."
سارا حتى نزلا الدّرج ومنه إلى غرفة الضّيوف حيث كان يقف أخوها يحدّق بالنّافذة وموليا ظهره لهما.. ما ان دلفا حتى قال إبراهيم بصوت يحاول جعله طبيعيّا:
_ "مساء الخير."
التفّ بجسده قائلا بلهفة:
_ "مساء النور."
_ "نائل!"
صاحت بها شذا بأعلى صوتها بينما تنظر إلى نائل بنظرات يغلّفها السرور والمحبّة.. ف حين ارتخت عضلات وجه إبراهيم المتقلّصة وقد فهم توّا إيحاء اسم الأخ هذا.. صافحت شذا نائل بحرارة بينما تقول بفرحة:
_ "عامل إيه أخبارك؟"
أجابها بنبة لا تقل عنها سعادة:
_ "بخير يا أجمل أخت في الدنيا."
وهنا تذكّرت ما حدث قبل أيام من تجاهل نائل لزفافها وتفضيل عمله لتقول معاتبة:
_ "لو كنت فعلا كدة كنت اهتمّيت وحضرت فرحنا!"
اكتسى الحزن وجه نائل الذي قال معتذرا:
_ "معلش يا شذا حقيقي ماقدرتش آجي سامحيني."
رمقت أخاها دون أن تنبس ببنت شفة في حين تدخّل إبراهيم قائلا:
_ "ادّيله عذره يا شذا.. أكيد كان عنده شغل ماقدرش ياخد أجازة منه."
انتقلت عيناها تلقائيّا صوب زوجها وقد شعرت بانقباض فكّها إثر الاقتضاب الذي اعتراها مع تذكّر ما جال بينها وأخيها أمس من نقاش حادّ بشأن إبراهيم وعمله.. وإن كان لعمل نائل ظروفا خاصّة فهي لم تطبّق عليه بالتأكيد ولكن اختلق وجودها.. انتبهت إلى صوت نائل يقول مبرّرا:
_ "فعلا كان مدير الشغل وقّف أجازاتي.. ودي أول أجازة هاخدها من دلوقتي لحد 10 أيام في رمضان."
ثم استطرد يقول بابتسامة واسعة:
_ "وعشان اعوّضك جيت على هنا علطول بمجرّد ما رجعت من السّفر."
بادلته الابتسامة بينما تقول ببساطة:
_ "نورت يا نائل.. انا ماقدرش ازعل منّك أبدا."
قال مبتهلا بحنو:
_ "ربنا يحفظك ليا."
**********
ما أن توقّف السائق أمام بوّابة المستشفى حتى أسرع إلى الخروج بلا هوادة.. يقطع المسافات بسرة لا تتناسب مع مرحلته العمريّة أو الصحيّة.. بالكاد يحفظ ثباته أمام المارّين في داخله تتزاحم الهواجس ويشتعل قلبه هلعا على صغيرته وما سمع بشأنها.. حضر وبلسان حاله يرجو أن يكون ما سمعه مجرد خرافات هيّأها عقله فقط لا غير.. فكيف له أن يحتمل رؤية صغيرته بعد ما حدث لها من جرم أهلكها.. رأى وليد يقف بجانب والده فأسرع إليه ممسكا بتلابيبه بينما يهتف بقسوة:
_ "بنتي فين؟! راحت فين بنتي يا وليد؟!"
نظر إليه وليد بخمول ولم يعقّب في حين أسرع إليه أنور يشدّ من عضده مهدّئا:
_ "إهدى يا زاهر مش كدة."
نفض يديه عن وليد موجّها حديثه إلى أنور باستنكار:
_ "أهدى ازاي بنتي اتخطفت وبعدين رمت نفسها من فوق وعايزني اهدى!"
ثم نطق بخفوت يسكنه الجزع
_ "يا ترى انتي عاملة إيه دلوقتي يا بنتي؟!"
ظلّ وليد على حاله.. محنيا رأسه وملامح وجهه جامدة في حين انهارت حصون ثباته داخليّا.. يكاد يختلج قلبه من مكانه خوفا وعقله يردّد ألف سؤال جهلا بسبب انتحار زوجته بهذا المكان.. شذرات الخوف بشأن إصابتها تحوم حوله بلا رحمة وكأّنّه المذنب هنا.. وما زاد الطين بلّة مجيء زاهر الذي لم يكن يريده أبدا بهذا التّوقيت.. هذا الرجل الذي تمثّل له ابنته كل حياته يأتي الآن ويحمّله المزيد من الأثقال فوق كاهله.. ولولا أن اتصل به أنور ما كان ليخبره حتى يطمئنّ على حالها.. فآخر ما يعلمه أنّها وصلت إلى المشفى على قيد الحياة.. وفي علم الله متى ستدوم كذلك.. قطع حبل أفكاره صوت خروج الطبيب عبر الباب فأسرع إليه وليد مستنجدا بينما ينطق بخوف:
_ "دكتور إيه الأخبار؟ طمنّا؟"
تحدث الطبيب بنبرة عمليّة:
_ "وقعت من ارتفاع عالي عمل كسر في دراعها اليمين ومحتاجة عمليّة شرايح في مفصل الحوض وارتجاج في المخّ لسّة ما نعرفش أثره هيوصل لإيه."
أتى زاهر من خلفه هاتفا بجزع:
_ "كل ده حصل لبنتي يا دكتور؟!"
أجابه الطبيب متمتما:
_ "ده كله سهل بالنسبة للّي حصل قبل الوقعة."
اتحدّت عينا وليد بينما يحدج الطبيب حيث قال بتساؤل:
_ "قصدك ايه؟"
_ "هيّ اتعرّضت لعمليّة اعتداء جسدي قبل الوقعة.. وبسبب كدة محتاجين نتصل بالشرطة."
أسرع وليد يهتف بنزق:
_ "ما تتصلش بحد إحنا مش عايزين شوشرة والخبر ينتشر."
تكلم الطبيب بنبرة تعلوها الشّفقة:
_ "يبقى حضرتك ما شفتش قنوات التليفزيون يا أستاذ وليد.. كله بيذيع الخبر عن الحالة اللي جوّة.. ولولا الأمن برّة كان زمان لقيت 20 صحفي هنا."
أجابه بالاندفاع منصرفا يقطع الطريق بخطوات واسعة أقرب إلى العدو في سرعتها.. يكاد يُصاب بالجنون إثر هذا الخبر الذي زفّه إليه الطبيب والذي يعدّ بمثابة شهادة دماره.. فما يٌقال غير محتمل.. أن تُشاع حادثة زوجته بأنحاء مصر عن طريق تداولها بين وسائل الإعلام.. ما أن عبر البوّابة حتى وجد حشدا من الصحفيين بالخارج يردعهم الأمن عن الدخول وبلا استسلام يطالبون بالحضور وتسجيل ما ورد في الساعات الأخيرة لهذه الضحيّة التي يبدو أنها نالت اهتماما من الرأي العام بهذه السرعة.. لم يستطِع تصديق ما يرى وخلايا عقله شلّت عن إنتاج حلٍّ لهذا المأزق الذي أٌقحِمَ فيه.. عاد أدراجه هاربا من رؤية المزيد ليتوقّف مع صوت المذيعة بالبرنامج التليفزيونيّ قائلة:
_ "لقد أفادت مصادرنا بمعرفة هويّة الضحيّة المنتحرة صباح اليوم.. إن اسمها نهلة زاهر عبيد ابنة رجل الأعمال زاهر عبيد وزوجة الصّناعيّ الشّهير وليد أنور حسّان.. تم اغتصابها وشوهدت تلقي نفسها بفم الموت.. وتم إلقاء القبض على رجل يهرب من ذات الشقّة التي كانت فيها وهذه صورته.."
أمعن النظر بالصّورة التي ظهرت توّا لينفغر فاهه وترِد الصاعقة الكبرى لإهلاكه.. فلم تكن صورة المجرم سوى طارق المجنون المتوحّد..
_ "ما سبب قيامه بذلك أهي عداوة مع السيّد وليد أم السيّد زاهر؟! هي أسئلة عديدة تحتاج إلى إجابة ولا زال التّحقيق جاريا.. وسنوافيكم بالجديد كونوا معنا."
طارق الذي كثيرا ما ساندهم في عملهم المشبوه.. طارق الذي كان ينال قسطا كبيرا من اهتمام والده خوفا على صحته النفسيّة.. طارق الذي لا ينطق بما ينافي نعم أمام وليد.. بل لم يجرؤ يوما أن يرفع عينيه أمام خاصّتيْه يقدم على هذه الفعلة البشعة! كيف هذا؟!
نفض تلك التساؤلات عن رأسه بينما يندفع نحو الخارج متوجّها إلى قسم الشّرطة لمواجهة هذا المجنون بما قام به.. وما أن يتأكّد من ذلك سيكون عقابه حتما عسير.. لا يعلم كم مرّ عليه أثناء خروجه وفلاته من أسئلة الإعلاميين الماكثين بالخارج وانتقاله نحو قسم الشّرطة الذي يوجد به طارق.. تزاحم من الأسئلة يكاد يصيبه بالجنون لو لم يفهم سريعا ما يحدث.. أفاق مع صوت طارق قائلا بنبرة واثقة لم يعهدها عليه قبلا:
_ "أهلا بيك يا وليد بيه.. مسرع ما اشتقت لي!"
ما أن التفت نحو الباب حتى وجد طارق واقفا بجانب العسكريّ الذي كان يمسك بعضده.. فما لبث أن وقف عن مجلسه هاتفا بنزق:
_ "إنت ازاي تتجرّأ تعمل كدة في مراتي يا زبالة؟!"
ثم أشار إلى العسكريّ مرّتيْن ليخرج ويغلق الباب خلفه كي يستطيع إكمال ما سيقدم عليه بحريّة.. فقد أسرع إلى طارق يجذبه من ياقة قميصه ناطقا بغضب:
_ "بقى انت.. تغتصب مراتي وتخلّيها تنتحر؟! دانت مش هيطلع عليك نهار!"
أمسك بمعصميْ يديه وأبعدهما عنه ثم قال باستحقار:
_ "أمال انت عايز تأذي في الناس وما تشربش من نفس الكاس؟!"
حدجه بنظرات صارمة أتبعها بقوله باستهجان:
_ "وانت مين انت عشان تفكّر تعاتبني؟"
أجابه بلا مقدّمات مندفعا:
_ "لمّا يبقى الموضوع بخصوص حبيبتي يبقى تستاهل اللي حصل واكتر."
حبيبة! لدى طارق امرأة بمكانة حبيبة! منذ متى ولم يوضح ذلك أبدا؟! نطق وليد مخمّنا:
_ "أنيسة!"
زمجر طارق نافيا بقتامة واتّهام:
_ "أنيسة ايه يا عبيط انت! حبيبتي واحدة أشرف منك ومن 100 زيّك.. حبيبتي وتين اللي اغتصبتها وسيبتها بتموت يا حيوان."
_ "المحاميّة؟!"
قالها بتشوّش والصدمة تكبّل لسانه في حين أكمل طارق بجفاء:
_ "آه المحاميّة اللي كان مجرّد شوفتها بتصبّرني على أمثالك انت وابوك.. اغتصبتها ليــــه؟!"
على الرغم من الغمّ الذي اكتسى صدره ومعالمه إلا أنه ابتسم أخيرا بتشفّ بينما يلقي قنبلته الموقوتة قائلا:
_ "إنت فكّرت تعاقبني عشان واحدة كانت السّبب في موت أبوك!"
عقد حجبيْه وضيّق حدقتيْه بعدم فهم بينما أكمل وليد بتشفٍّ:
_ "أصل دي يا بابا المحاميّة اللي اترافعت في قضيّة ابوك ووصّلته للمشنقة.. وبدل ما تدافع عنها كان المفروض انت تعمل اللي عملته انا."
أغمض عينيه للحظات يحاول فيها تنظيم أنفاسه التي تسارعت تزامنا مع انفعاله حتى شعر بعروقه تكاد تنفجر من شدّة الغضب.. ولكن تمالك نفسه لئلّا يرى شماتة هذا اللّدود فعاد ينظر إليه ثم قال بامتقاع:
_ "أبويا كان كدة كدة رايح للمشنقة ووجود وتين أو عدمه ما كانش هيفرق كتير.. هي عمرها ما غلطت."
قال الأخيرة بإقرار مؤكّدا صحّة موقفها حتى لو على حساب والده.. ففي كل الأحوال مات والده مسموما قبل أن يُطبَّق الحكم.. التفت إلى صوت وليد الذي نطق بجفاف:
_ "بس انت غلطت."
عاد ينظر إليه بعينين ملتمعتيْن بالانتصار وقد حقّق مراده حين سمع القهر الساكن نبرته الثائرة ليقاطعهما صوت العسكريّ الذي دلف قائلا باحترام لمنزلة وليد:
_ "الزّيارة انتهت يا باشا."
ثم أسرع يمسك بساعد طارق جاذبا إياه تحت نظرات وليد الحارقة حيث ختم قوله متوعّدا:
_ "وغلط كبير هدفّعك تمنه غالي."
طارق محقّ بظنونه على كل حال.. نجح بكشف المُخبّأ خلف هذا قناع الشراسة هذا.. صلب من الخارج محطّم من الداخل.. بات الأمر أشبه بكابوس يتمنى لو استيقظ منه.. ولكن تظلّ حسرته تذكّره بأنه على أرض الواقع وما يحدث حقيقة لا هروب منها.. ارتدّ عليْه ما اقترفه أضعافا.. فلم يقتصر الأمر على اغتصاب زوجته فقط كما فعل مع وتين.. بل أصبحت قضيّتها شهيرة تتصدّر كل الصّحف والمجلّات.. ولم يقتصر الحديث عنها فقط بل أُدرِجَ اسمه بالقضيّة ليشعر بضآلة نفسه للمرّة الأولى في حياته.. رجل الأعمال الشّهير صار اسمه يتردّد بالألسنة مقرونا بالشفقة من قِبَل الرأي العام الذي يطالب بأقصى عقوبة لهذا المجرم.. والتشفّي من قِبَل الأعداء الذين وجدوها فرصة جيّدة لاستغلال تلك الصدمة التي ستعيق تقدّمه لفترة طويلة..
_ "طارق ده أنا عمري ما كنت اعرفه.. ده معارفك انت!"
أبعد يده عن عينيه كي ينظر إلى والد زوجته الذي أردف بتلك الكلمات والغضب يكلّل نبرته فضلا عن ملامح وجهه المتقلّصة بمزيج من الحسرة والألم.. زفر بحرارة ثم أردف بضجر:
_ "سيبني لوحدي دلوقتي يا عمّي والله ما ناقصك."
لم يرتدع وإنما أصرّ على الإكمال بجزع رافعا سبّابته باتّهام:
_ "شفت مجايبك الهباب عملت ايه فــ بنتي؟ إنت لازم تطلّقها حالا."
احتدّت عينا وليد بقسوة بينما ينتفض عن مكانه واقفا حيث نظر إلى حماه باستهجان مزمجرا بشراسة:
_ "إنت بتخرّف تقول ايه يا راجل انت؟ إبعد عني بدل ما ارتكب جناية."
أثار انفعاله طريقة هذا المتعجرف في الحديث رغم ما حدث فصرخ بثورة يتخلّلها القهر:
_ "إنت السبب في اللي حصل لبنتي وانا مستحيل اسمح تقعد في أمانتك من تاني.. بنتي متبهدلة وهتعمل عمليّة كمان شويّة وكل ده بسببك وانا ....."
انقطع عن الإكمال إثر ألم حاد خالجه بالناحية اليسرى من صدره ليضع باطن كفّه عليه بينما يشعر بتجمّد الدماء في عروقه وانقطاع الأنفاس تدريجيّا فكان بطريقه إلى الوقوع فسارع وليد بالإمساك به حتى جلس أرضا وجسد الثاني مستلقٍ باستسلام فهتف وليد بخوف:
_ "عمي! عمــي!"
**********
اتّكَأَت على الوسادة بينما توجّه انتباهها إلى الفيلم المعروض على التلفاز.. أجفلت مع صوت خروج إبراهيم من المرحاض لتلتفت نحوه فتراه يجفّف شعره بالمنشفة.. فتح عينيه ليجد خاصّتيْها مسلّطتيْن عليه فبادلها بابتسامة حالمة ولم يفهم مغزى نظراتها إليه.. استلقى إلى جوارها ثم حوّط يده حول خصرها مقرّبا إياها منه ولم يتبدّل الاهتمام البادي بثبات عينيها.. قرّب وجهه منها حتى طبع قبلة رقيقة على عنقها أتبعها بأخرى على ترقوّتها دون أن يتزحزح ثباتها قيد أنملة.. زفرت بهدوء ثم قالت بنبرة خفيضة:
_ "إبراهيم."
_ "هممم."
أبعدت نفسها إلى الخلف قليلا كي تنظر إليه قائلة بهدوء:
_ "عايزة اسألك سؤال وتجاوب عليا بصراحة."
ابتعد بدوره كي يمعن النظر إليها مرتقبا كلماتها التالية والتي انتقتها بعناية ممهّدة:
_ "هو فعلا كان صعب عليك تاخد أجازة من المستشفى وقت فرحنا؟"
_ "أيوة كان صعب أمّال هروح الشّغل بمزاجي؟!"
أجابها بلا اكتراث ثم سرعان ما انتبه إلى مناسبة طرح السؤال خاصّة بعد لقاء أبيها وأخيها أمس.. فقال متسائلا بشيء من الرّيبة:
_ "إنتي بتسألي السؤال ده ليه؟"
تناولت شهيقا عميقا قبل أن تقول بهدوء:
_ "عرفت انه كان من السّهل تاخد الأجازة والإدارة ما كانتش هتعارض."
زاد في البعد عنها حتى نهض عن السرير كي يحدّق بها متفرسا بملامحها بينما يقول بحدّة:
_ "مين اللي قالك الموضوع ده؟"
قامت هي الأخرى حتى صار السرير فاصلا بينهما بينما تقول بحذر:
_ "بابا وبدر.. والمفروض انا اللي اسألك لو الكلام ده صح."
لم يحتمل أن يحكم انفعاله أكثر من ذلك حيث هدر بغلظة:
_ "ودول يتدخلوا ليه فــ شغلي أصلا؟! همّا بيراقبوني؟!"
لم يرفّ لها جفن بل كان ذلك بدائرة توقّعاتها حيث قالت بصمود:
_ "من غير ما تزعّق وتداري على الموضوع الأهم.. ياريت تقولي لو الكلام ده صح وياريت تعرّفني كان إيه الشّغل المهم اللي منعك تروح معايا لبيت أهلي؟"
احتدّت عيناه بشراسة بينما يقول من بين أسنانه مستنكرا:
_ "هو تحقيق بقى؟!"
أجابته بصلابة وغضب:
_ "إعتبره تحقيق.. إنت لازم تعرفني إيه اللي بيحصل يا ابراهيم من غير لفّ في الكلام؟"
وضع يديه على خصره قائلا بخشونة:
_ "ببساطة أنا مش هعتّب بيت اللوا من تاني."
انفغر فمها بذهول اعترى معالمها.. شعرت بالصدمة تكبّل لسانها ولكن تحاملت على نفسها حيث نطقت بتثاقل:
_ "إنت قلت إيه؟! إزاي يعني مش هتدخل بيت أهلي؟"
أغمض عينيه بتألم وقد غامت سحابة سوداء من الحزن العميق بعدما وَرَدَ إلى ذهنه ما بَدَرَ من أخيها ووالدها.. كيف أن أهان بدر زوجته المتوفّاة وتزوّج سريعا كما قام بفضح ما حدث بينهما ذلك اليوم.. إلى جانب أسلوب يونس الذي أثار استفزازه أثناء الزّفاف وقبله.. عاد ينظر إلى شذا التي تعلو علامات الدهشة وجهها فقال بقتامة:
_ "إللي سمعتيه يا شذا.. بعد اللي عمله بدر مع اختي وأسلوب سيادة اللوا وهو بيخوّنني يخلوني ماقدرش ارجع البيت تاني."
عادت تستدعي حبالها للعمل من جديد حيث تقول بتقطّع:
_ "بس.. بس وقت جواز بدر إنت حضرت بنفسك وانت عارف ان تقوى كانت...."
قاطعها بسرعة قبل أن تتلفّظ بما يعيب أخته من خطأ اقترفته ولم يصفح عنه بدر.. حيث هدر بغضب:
_ "كان لازم عشان وقتها كنتي فــ بيتهم لكن دلوقتي إنتي ملكي والوحيدة اللي تفرقي معايا من البيت ده كله."
أسبلت جفونها بينما تشعر بالدموع تترقرق بعينيها حيث أردفت بامتعاض:
_ "أنا مش مصدقة اللي بسمعه.. يعني إنت عايزني أبقى فــ بيتك من غير سيرة أهلي؟"
بيت الفتاة الحقيقيّ الذي تشاطره مع زوجها وليس الذي تنشأ فيه.. ولكن حتى مع انتقالها إلى بيت زوجها تظلّ دوما عزيزة أهلها.. وتظل الرابطة بينهم متينة إلى أقصى حدّ.. وهذا يطالبها بأن تنأى عن عائلتها التي قضت معهم أجمل الأيام.. بين طفولتها ومراهقتها والشباب.. شاركوها حلو الأيّام ومرّها دون كلل.. عملوا على إسعادها بكل ما أوتوا من قوّة.. وعليها أن تنسى تلك اللحظات لأجل حبيبها الذي خاضت شهرا واحدا بالحياة معها.. لا وألف لا.. لن تستطيع القيام بذلك وإن فعلت فعار عليها أن تُلحِقَ اسمها باسم العائلة من جديد..
حدجته بعينين دامعتَين بينما تنطق من بين ذهولها بعتاب:
_ "قول كمان يا ابراهيم سكتّ ليه؟"
ثم استطردت بنبرة أعلى تحمل في طيّاتها العتاب:
_ "ناقص الاقيك متجوّز مرّة تانية عشان تردّ لبدر وابويا الجميل مش كدة؟!"
زفر بضيق بعدما سمع من حديث فارغ أوصله إليه موقفه من بدر ويونس فتكلّم بجمود:
_ "شذا ما تخلطيش المواضيع.. الحاجة الوحيدة اللي خليتني اقبل كل حاجة هو حبّك إنتي."
لم يقلّ عبوسها وإنما فضّلت الصمت ليمشي حول السرير ثم يمسك بساعديها بين يديه موضّحا:
_ "همّا ما يلزمونيش دلوقتي وانتي الوحيدة اللي تفرقي معايا."
هزّت رأسها بخمول بينما تقول بصوت دامع:
_ "مستحيل اصدّق ان انت ابراهيم اللي حبيته! فعلا يا خسارة!"
ثم نفضت يديه عنها وابتعدت هاربة إلى الشرفة حيث تودّ أن تنزوي بعيدا للبكاء منفردة وقد صارت بمفترق طريق مهلك يصعب الاختيار فيه.. أما إبراهيم فكان بموقف لا يُحسَد عليه.. يعاتب نفسه على التلفّظ بمكنون القلب صراحة دون التفكّر بأثر ما تفوّه به.. قال ما أراد بحريّة ولم ينتبه إلى ما ستكون عليه شذا بعد أن يقول ذلك.. يخبرها بوضوح بمقاطعته لأهلها وما يكنّه لهم داخليّا ويريد منها أن تتقبّل ذلك! انهارت مكانته بنظرها حتى ما عادت تراه ولن تذكر كيف كانت تحبّه أو كيف قام بالكثير لأجل أن تكون من نصيبه.. غبيّ زرع بنفسه الأشواك التي ستعيق طريقه إلى عشقها من جديد.. فإمّا أن يعود خائبا ويبكي على الأطلال وإمّا أن يعود ويتحرّك بطريق الأشواك متجاهلا الأذى الذي سيتحمّله في سبيل عشقها..

اغتصاب لرد الاعتبارWhere stories live. Discover now