الفصل الثلاثون

617 30 11
                                    

30
#اغتصاب_لرد_الاعتبار "الفصل الثلاثون"
(السلالة الملكيّة)
**********
كانت نيروز تجلس في ركن اللوحات بينما تهتزّ أقدامها بسرعة إشارة إلى ارتباكها.. لقد انتهت من عملها والآن تجلس لأكثر من ساعة منتظرة قدوم أحدهم بفارغ الصبر.. ما أن سمعت صوت بوق سيارة تقترب من الفيلا حتى انتفضت واقفة وكأنّ أصابتها صعقة كهربيّة.. أسرعت إلى تخطّي ركن اللوحات حتى وصلت إلى الجراج لتجد أن السيارة تخصّ والدها.. فأسرعت تقول بابتسامة مشرقة:
_ "بابا!"
أغلق حسين باب السيارة قائلا بابتسامة:
_ "أهلا يا نيروز.. مستنّيّة برّة ليه؟"
كان تركيزها منصبّا على المقعد المُجانب له منتظرة ترجّله من السيارة ولكن يبدو أن والدها فقط من حضر! أسرعت تنظر إلى والدها قائلة بتلعثم:
_ "آآآآآ.. أنا.. كنت في الجنينة وسمعت الكلاكس قلت استقبلك."
ازدادت ابتسامته الحانية بينما يسألها:
_ "اتغدّيتي؟"
_ "آه من بدري."
تكاد تموت جوعا حيث لم تتناول الغداء اليوم متعلّلة أمام والدتها أنها تناولت الطعام في العمل.. وكل ذلك لأجل الأكل معه ولكن يبدو أنّ هناك تغييرا في الخطّة فلم يأتِ هذا الغبي حتى الآن! لم تجِب وداع والدها الذي ذهب نحو الدّاخل وإنّما صارت منشغلة أكثر بسبب تأخّره إلى الأن! قالت على لسان حالها بنزق:
_ "روحت فين كل ده؟!"
**********
على الجانب الآخر كان فهد بمكتبه يطّلع على مستند انتشله من غرفة أنور حين كان هناك بالأمس.. بعد ثلث ساعة قضاها من القراءة بتمعّن لإيجاد تلميح صغير عن خطّته القادمة إلا أنّه لم يجد.. أغلق دفّتي المستند ثم ألقاه جانبا قبل أن يعود بظهره إلى الوراء ويغمض عينيه متأفّفا بنفاذ صبر.. فيبدو أنّ الحظ ليس بصفّه هذه الأيام والإخفاقات تأتي إلى جانبه تباعا.. فتح عينيه ببطء بينما يحيد ببصره نحو الدّرج السّفليّ في مكتبه.. فالتفت نحوه بهدوء قبل أن ينحني قليلا لفتحه وإخراج إطار يحوي صورة قديمة الطّراز.. كانت الصورة الفوتوغرافيّة باهتة على الرّغم من الإضاءة الغامرة المكان.. فقد تمّ التقاطها منذ ما يقارب ثمانية وعشرين عاما.. صورة تحمل والديْه أثناء حفل زفافهما.. على اليسار يقف السيّد سمير بحلّته الرّماديّة بشموخ.. نظراته تشعّ بالتباهي المُطعّم بعدم الثقة.. يتأبّط بذراع والدته السيّدة مديحة التي تنظر للكاميرا بتعالٍ وكأنّها تخبر كل من ينظر إليها بأنها الأفضل لا محالة.. أخذ يحدّق بهما للحظات بينما يلوح إلى ذهنه ما عرف بشأنهما منذ كان صغيرا.. وسبب ابتعاد والده عن العائلة حتى خسر كل ما يملك ليموت بحسرته وتنتحر والدته تاركين إيّاه.. بمنتصف الطريق وحيدا ضعيفا يبحث عن من يرشده حتى احتضنته عائلة والده متناسين ما قام به ابنهم.. نسوا الأذى الذي تسبّب به الراحل المتمرّد ولكن لم ينسَ فهد ذلك.. لا يزال يذكر كيف أذاهم والده واتّهمهم بكونهم طامعين بحقّه.. ودعّمت هذا التفكير العقيم والدته التي أرادت أن يستقلّ عنهم بأيّ ثمن.. ولم يكن ليعرف ذلك لولا مساعد حسين الذي أخبره بكل شيء حين ألحّ في السؤال عن ما مضى.. وبعد أن تقصّى قليلا عمّا سمع تأكّد من أنّ كل كلمة حقيقة مؤلمة كالخناجر التي لا تنفكّ تُدبّ في صدره.. في عقله يودّ لو استطاع التحرّر من نسبه لهذين الأبوين الماجنين ولكنها أمنية قيد المستحيل.. وبينما يجلدهما اتّهاما وعتابا دون كلمة تُنطَق شعر بصوت روفان يهمس في داخله يخبره بالتوقّف.. هدأ تدريجيّا بينما يتذكّر ما جرى بينهما قبل يوميْن.. تذكّر حين تفوّه بمكنونات ألمه وما يؤرّق مهجعه لأعوام حتى شعر بالرّاحة جزئيّا لهذا الفعل غير آبه بعاقبة ذلك من تفكير روفان بشأنهما.. ولكن كان ردّ الفعل خلاف ما توقّع حين لَقِيَ منها لمسات حانية تخبره بعدم ذكرهما بسوء بل عليه بالدّعاء لهما وإلقاء الماضي خلف ظهره.. تنهّد بتعب قبل أن يعود إلى التحديق بالصورة قائلا بمرارة يتخلّلها الوجع:
_ "ربنا يرحمكم ويغفر لكم.. ويساعدني اسامحكم."
**********
ترجّل نائل عن سيّارة الأجرة ما أن وصلت عند بوّابة الفيلا حيث مُبتغاه.. تجاوز البوّابة ثم سار إلى الداخل متقدّما من الباب الداخليّ.. وفي ذات الأثناء ظهرت نيروز أمامه من العدم حيث تسمّرت بمحلّها والدهشة بملامحها مُتقَنة بينما تفتئ:
_ "إيه ده نائل!"
ابتسم من زاوية فمه قائلا بترحيب:
_ "أهلا يا فــ."
سرعان ما بتر كلمته قبل أن يقع في خطأ لفظ الدلال الخاص بها فأسرع يستدرك قائلا:
_ "نيروز عاملة إيه؟"
_ "بخير."
قالتها بهدوء رخيم ومزيج من التساؤل والحزن اعتلى وجهها بينما تقول بنبرة حاولت جعلها طبيعيّة:
_ "إنت لسّة مخلّص شغل دلوقتي؟"
أماء برأسه قائلا بجمود:
_ "أيوة كان عندي رسم لازم يخلص."
بادرت تنطق بتعجّب:
_ "وليه ماتخلّصهوش هنا وتاخده هناك بعد كدة؟!"
احتلّ التساؤل معالم وجهه بينما يرمقها بتعجّب وسؤال واحد يدور بخلده ماهيّته.. ما المقصد من هذا السؤال بالضبط؟! هل دفعها والدها إلى أن تخبره بهذا الاقتراح كي ينال عددا من التسهيلات على خلاف أيّ مهندس آخر؟! ولحسن الحظ أنها أحسنت فهم ما دار بذهنه في تلك اللحظة فأسرعت تقول بتردّد:
_ "قــ قصدي يعني عشان ما تأخّرش الغدا بالشكل ده."
الغداء! منذ متى وتهتم نيروز بغداء أحد في البيت وبالأخصّ هو؟! ولم يحدث قبلا أن مكثت معه في الحوار لأكثر من عشر دقائق بخلاف المرّة التي أتت فيها باكية! حقا لقد فاته الكثير أثناء فترة المرض!
نطق ببساطة:
_ "ماعنديش أيّ مشكلة في تأخير الغدا علفكرة المهم يكون شغلي خلصان."
وهمّ ليذهب هاربا من أسر عينيها الزرقاوتيْن المُسلّطتيْن عليه لتوقفه قائلة:
_ "بس مافيش أجمل من إنّك ترسم هنا في الجنينة وسط الهوا النقي.. ده بيلهمني لمّا أكتب مقالاتي."
تحدّث دون أن يستدير لرؤيتها متعمّدا تجاهلها:
_ "تمام هبقى افكّر.. بعد إذنك."
ثم اندفع إلى الداخل دون أن يمنحها فرصة الرد تاركا إيّاها ترقب طيفه بذهول.. متسائلة عن سبب التغيير الذي أصابه بعد الإفاقة من هذا المرض.. كان انطوائيّا ويعتزم الذهاب لحقّه.. وحين اتّضح سوء الفهم لا يزال على حاله.. هادئا صامتا نسي كيف كان اجتماعيّا يحب نشر البهجة بالأرجاء.. والأسوأ من ذلك تجاهله لها! ومعاملته الجليديّة التي لم تعهدها عليه قبلا! فماذا حدث ليتبدّل حاله بتلك السرعة؟! وماذا يكون موقفها بعد ما قلّل من شأنها في تلك المحادثة؟! هل تعزم خصامه وتركه لهذا التبدّل المزاجيّ؟ أم تحاول جاهدة أن تعرف سبب صدّه لها؟!
تحركت ببطء نحو الداخل وبدأت بصعود الدّرج متّجهة حتّى غرفتها وقد ألقى النوم بظلاله على عينيها لتشعر بالحاجة إليه أكثر من حاجتها إلى الطعام الذي انقطعت عنه منذ وجبة الفطور وكان من المفترض أن تتناوب وجبتها مع نائل.. ولكن بعد ما مرّ أعلنت شهيّتها الإضراب عن الطعام بل أضرب كبرياؤها أيضا عن البقاء معه في مكان واحد مجدّدا.. ولجت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها تحت نظرات نائل الذي كان في طريقه إلى النزول بعدما بدّل ثيابه واغتسل.. رمق الباب المُغلق أمامه وملامحه تمتعض حسرة وقهرا.. يعلم أنه قسي عليها وأنها لا تستحقّ تلك المعاملة منه.. ولكن لا يمكنه نسيان حدوده بهذا البيت.. فإن كان له حقّ –غير مكتوب-  إلا أنه لا يجب أن يسمح لطموحه بالسموّ إلى نيْل الأميرة فلا يأخذها إلا الملك المنحدر من ذات السلالة الملكيّة.. وإن رضيت العائلة باستثناء فلن تقبل الأميرة ذاتها.. تحاول معاملته بالحسنى ولكن لن يقبل ذلك بعد اليوم ولن يكون أكثر من مجرّد ضيف بالقلعة وسيقوم بصدّ جميع العطايا المتمثّلة في ودّها واهتمامها.. فليس بحاجة لهم بعد أن وقع قلبه صريع العشق.. وما يسكن بين ضلوعه إلا حجرا قاسيا لا يعرف اللين طريقا إليه..
**********
ذات صباح.. كان إبراهيم يجلس في المكتب بينما يتناول شطيرة في فترة الراحة التي لا تتجاوز العشر دقائق قبل مواصلة العمل.. ورده اتصال هاتفي فنظر نحو الهاتف على سطح المكتب ليجد أن المتصل هو والده.. أمسك بالهاتف ثم ضغط للإجابة تزامنا مع ابتلاع مضغة الطعام التي كان يلوكها بفمه قبل أن يقول بهدوء:
_ "أيوة يا بابا."
أتاه صوت والده قائلا بشيء من الاعتذار:
_ "معلش لو قاطعت وقتك يا ابراهيم.. بس قلت افكّرك اننا هنزور تقوى النهاردة."
بادر يقول بتأكيد:
_ "لا ماتقلقش.. شذا أكّدت عليّا قبل ماخرج.. إن شاء الله هبقى اجي."
_ "طيب تمام.. سلام."
_ "سلام."
قالها ثم ألقى الهاتف جانبا حين تأكّد من انتهاء المكالمة ليعود بشروده مع تلك التي لفِظَ باسمها.. شذا.. حبيبته قولا غريمته فعلا.. زوجته قولا غريبته فعلا.. تلك التي عزمت على أن تبقى بعيدة عنه بعد آخر التوضيحات من جانبه لتكتب العذاب لقلبها وقلبه.. صارت علاقتهما أشبه بالغُرباء.. الحياة بينهما تسير على نحو جيد ظاهريّا وفي الواقع تحلّ بها غمامة من الرتابة التي لا تودّ التحلّل قريبا.. هي من صنعت هذا السكون وهو المُتسبّب فيه.. فلسانه اللعين الذي نطق بمكنون قلبه تسبّب له بعذاب أبديّ.. أصاب بصدام مع آخر مخلوقة تمنّى أن تأخذ منه هذا الموقف.. ألا يكفي أنها السبب الوحيد الذي دفعه لأن يضع يده بيد يونس بعد ما اقترفه ابنه؟! خسر في نيل رضاها.. وخسر في نيل راحته.. وما راحته إلا في رضاها!!
**********
في معرض علاء إبراهيم للإبداعات الفنيّة.. وقفت أمام إحدى اللوحات المعروضة للبيع وعيناها مسلّطتان على تفاصيلها بانبهار.. جميلة تحمل ملامح رقيقة وجسد ممشوق ينتهي بزعنفة ضخمة تخصّ الأسماك.. فعلى الرّغم من ملامحها البشريّة إلا أنّها لا تنعم بالعيش معهم بل إن مسكنها في قاع المُحيط.. ويبدو أنها سعيدة بذلك.. تحمل بين يديها صدفة صغيرة تحوي داخلها لؤلؤة بيضاء تشعّ بريقا أذهل ظلام المحيط حولها.. تبتسم برقّة بينما تحتضن تلك الهبة بين يديها بسعادة ويبدو أن هناك من أهدى لها ذلك.. تعلم صاحب الأنامل التي خطّت تلك الروعة تمام المعرفة.. فلطالما رأت تلك اللوحة في أيّام الحظر وأسفلها كلمة مكتوبة:
(لؤلؤة مصونة سطع بريقها في أعماق البحار.. غالية مكنونة صعبة المنال.)
فلم تكن اللؤلؤة مقصودة بالمعنى الحرفيّ بل كانت الحوريّة هي المعنيّة بالكلمات.. ولذلك تأكّدت من كونها مُهداة لها عن طريق عاشق ينتظر قولها بعد تلك المنحة.. انقطع شرودها تزامنا مع صوت انطلق من الخلف:
_ "عجبتك؟!"
شهقت بخفّة بينما تستدير بسرعة وهي تقول:
_ "دكتور حمزة؟!"
ظلّ محافظا على المسافة الفاصلة بعدم اقترابه قائلا بعذوبة:
_ "إزيّك عاملة إيه؟"
_ "الحمد لله تمام."
قالتها وفي داخلها تشعر بالسعادة تحلّق في عنان قلبها حيث رأته ولم تتوقّع ذلك.. تكلم حمزة محزرا:
_ "جيتي تسألي عن درجتك في الامتحان؟!"
عقدت حاجبيها قائلة باستفهام:
_ "إيه؟! للـ لأ خالص.. جيت أختار لوحة من المعرض."
قالت الأخيرة بهدوء يتخلّله الارتباك من سرعة خفقات قلبها الآخذة في التضاعف ليقول حمزة بشيء من المرح:
_ "رسّامة جايّة تختار لوحة؟!"
قابلت مزاحه بعقلانيّة تامّة حيث أماءت برأسها قائلة بثقة:
_ "مش شرط اني أعرف ارسم أيّ حاجة! في اللي يقدر يحطّ الروح جوّة اللوحة لدرجة أحسّ انا بتتكلّم.. والصراحة أنا عايزاها هديّة."
لاحت ابتسامة الإعجاب على ثغره بينما يقول:
_ "جميل.. هتروح لمين؟"
حادت ببصرها قليلا بينما تقول:
_ "لشخصيّة عزيزة عليّا.. مريضة في المستشفى هتاخد وقت هناك."
_ "يبقى هيّ محبوسة."
قالها بتلقائيّة لتنظر إليه رغد بعدم فهم دون أن تفتئ ببكلمة فيقول موضّحا:
_ "أقصد سجينة المستشفى وأكيد حابّة تتحرّر.."
أماءت برأسها متفهّمة دون أن تعود الابتسامة إلى وجهها وقد اكتفت بالصّمت التام خاصة بعدما أحسن هذا التعبير عن حالة نهلة.. فما قد تكون فيه الآن غير أنّها سجينة؟! وليست سجينة الجدران وإنّما سجينة فؤادها الذي يرفض قطعا العودة بعدما تهشّم وصارت أكبر قطعة فيه لا تساوي ذرّة غبار! التفتت إليه بينما يقول:
_ "إيه رأيِك في دي؟"
نظرت إلى حيث يشير لترى لوحة مُتقَنة تحمل إبداع صاحبه حين أجاد التعبير عن الحرّيّة.. وعلى الرّغم من بساطة التصميم إلا أنّ المعنى الكامن وراءها واضح وضوح الشّمس لحظة الشروق.. فكان يوجد قفص مفتوح بابه والعصافير تحرّرت منه جميعا محلّقين في الأفق عدا اثنين أحدهما عصفورة هزيلة تقف داخل القفص خانعة متألّمة وأحد جناحيْها متهدّل بسبب انكساره وعدم قدرته على التّحليق.. في حين يقف صاحبها إلى جانبها باسطا جناحه عليها مظلّلا حيث يبثّها الأمان وأنّه لن يغادر من دونها..
نطقت بإعجاب:
_ "حقيقي حلوة جدّا وتناسبها."
ثم نقلت بصرها نحو حمزة قائلة بابتسامة:
_ "هختار دي."
أشار لأحد العاملين كي يأتي ثم همس له بأن لها خصما كزبونة مميّزة.. ما أن انصرف العامل حتى وجد رغد تنظر إليه بعمق بينما تتساءل:
_ "بس غريب ان في لوحات كتير في المعرض واختَرت لوحة لحدّ تاني غيرك! مش عايز تاكل عيش ولّا إيه؟!"
ضحك ملء فيه بقوّة على تلك الدّعابة التي أطلقتها توّا ليعود إليها قائلا بثقة:
_ "أهمّ حاجة ان اللوحة تروح للشّخص المناسب.. مش مجرّد يشوفها مرّة وخلاص!"
أماءت برأسها والابتسامة ما تزال مزيّنة شدقها دون أن يفلح عقلها في إيجاد الكلمات المناسبة من شكره أو الثناء عليه في حين يكمل هو بجديّة:
_ "ابقى قوليلي لو عجبتها."
تردّدت قليلا بعدما تذكّرت صاحبة الهديّة التي لا يعجبها شيء سوى بقائها في المشفى لأطول فترة ممكنة.. ثم نطقت بهدوء:
_ "حاضر."
**********
سار حتى وقف أمام المصعد منتظرا وصوله حتى أتى.. دلف وفي أثناء انتظاره نظر إلى الساعة بمعصمه ليتأكّد من تمام ميعاد خروجه.. فلابد أنّهم يعدّون أمرهم الآن قبل الخروج لزيارة تقوى.. وعليه بالوصول في الميعاد للذهاب معا.. ما أن خرج من المصعد حتى سار بالرواق مقتربا من الباب.. توقّف في محله مع صوت إحدى الممرّضات منادية:
_ "دكتور ابراهيم."
شعر بالقلق يتسلّل إلى فؤاده فاستدار ببطء كي ينظر إلى تلك التي وقفت أمامه والعرق متفصّد على وجهها برعونة بينما تلتقط أنفاسها بصعوبة وهي تقول:
_ "جات حالة نزيف في الطّوارئ.. ودكتور أحمد مشغول بيسألك ممكن تشوفها؟!"
مطلب أتى في وقت غير مناسب.. فكيف يذهب لتلك المريضة وهو مرتبط بميعاد آخر وانتهت ساعات دوامه على أيّ حاله.. قال مبرّرا:
_ "أصل...."
سرعان ما ابتلع كلماته مكتداركا الخطأ الذي كان على وشك اقترافه اليوم.. فليس هناك ما هو أهمّ من إنقاذ مريضة تصارع للحياة؟ كيف يذهب لقضاء شؤونه وينسى القَسَم الذي تلفّظ به أثناء التخرّج.. أيخون شرف مهنته لأجل مصلحة شخصيّة؟! لا وألف لا..
اندفع يسير نحو الطّوارئ قائلا بهمّة:
_ "يالّا تعالي."
**********
وعلى الجانب الآخر.. انتهت شذا من خطّ درجات السلّم ثم جلست على أقرب مقعد قابلها بانتظار خالها وزوجته.. أخذت تعبث بطرف ثوبها الشديد السواد بينما تذكر أياما ماضية قضتها مع صديقتها تقوى.. كم كانت تحبها وكم شعرت ببلوغ سعادتها عنان السّماء حين وافقت تقوى على الزواج من أخيها.. فصارت الروابط بينهما أقوى بإعلان ارتباطهما.. وكم تألّمت مع موتها.. وكم تألّمت مع زواج أخيها واستبدالها.. ستزورها اليوم وعيناها تلاصقان الأرض خزيا مما قام به أخوها.. ستطلب منها الغفران على خطئه الذي لا تفهم سببه حت الآن.. فما دفعه إلى القيام بذلك وقد كان بمقدوره الانتظار قليلا؟! لمَ تعمّد الزواج على عجلة وخلق المزيد من الحواجز بين العائلتين؟ لمَ فعل ذلك وقد تسبّب بصدع أصاب علاقتها مع محبوبها؟! لمَ تعمّد جرح حبيبته بهذه الطريقة؟! في الأمر لغز لا تستطيع فهمه وشيفرة من الصعب إيجاد حلّها.. أفاقت مع صوت خالها قائلا بجديّة:
_ "جوزك لسّة ما جاش؟"
وقفت عن مجلسها كي تنظر إلى خالها قائلة بهدوء:
_ "لا يا خالو ما جاش.. بكلّمه وما بيردّش.. تلاقي حاجة مستعجلة جات له فــ شغله."
قالت الأخيرة باستنتاج لتتبعها خيريّه بقولها بحنوّ:
_ "خلينا نستنّاه يا علاء."
بادر يقول بنبرة صارمة:
_ "لا هنروح.. يبقى هو يحصّلنا."
ثم سار إلى الأمام دون أن يعطيها فرصة الرّد لتتناقل خيريّ وشذا النظرات المتعجّبة عن ماهيّة الغِلظة التي أصابت صوته فجأة.. ولكن ما من وقت للسؤال بل عليهما باللحاق به وإرجاء التساؤلات لوقت آخر..
**********
_ "أخدت إذن بزيارة مدام نهلة."
نطقت بها نيروز وابتسامة هادئة تغلّف ثغرها بينما تقف أمام نادية التي طالعتها بشكّ قائلة:
_ "أهلا بيكي.. إنتي تعرفيها؟"
تلبذكت للحظات تراجع فيها ما يجب قوله في تلك اللحظة فقالت بنيرة شبه طبيعيّة:
_ "آه أعرفها."
أماءت الثانية برأسها قائلة بابتسامة مرحّبة:
_ "تمام اتفضّلي."
بخطوات بطيئة ولجت غلى داخل الغرفة لترى تلك المتسطّحة على السرير بينما تستند بظهرها إلى وسادتيْن لرفع مستوى بصرها.. زادت في القرب لتتّضح ملامح تلك الساكنة محلّها.. وعلى الرغم من التوتّر الذي يصيب نيروز تلك اللحظة إلا أن الإعجاب صار مغلّفا نظراتها حين تملّكت من رؤية تلك السيدة.. فقد اتّضح أنها جميلة للغاية.. ملامحها متّسقة تغلب الرقّة عليها.. عينان عسليتان تحدّقان في الفراغ بسكون.. فعلى الرغم من جمالها إلا أن الحزن يظلّل بعتمته عليه ليخفي من روعة بريقه الساحر..
همّت نادية لتبقى معها ولكن أتتها صديقتها تطلبها لمهمّة فتركت الغرفة لكلتيْهما معا.. جلست على الكرسي المجانب للسرير ثم صمتت للحظات كي تنتقي الكلمات المناسبة حيث قالت أخيرا:
_ "مساء الخير.. إزيّ حضرتك يا مدام.. عاملة إيه؟"
شعرت بالتوتّر يخالجها لمّا لم تجد منها إجابة.. حيث تأكّدت من صحّة ما قيل عنها من كونها صارت كالصنم لا تبدي أيّ انفعالات.. كالجسد الأجوف الذي لا يطلب سوى الماء والهواء.. الشفقة تسلّلت إلى داخلها ولكن عزمت أمرها على الإكمال.. قالت بثبات ظاهريّ:
_ "أكيد ما تعرفينيش.. أنا إسمي نيروز عمران.. سمعت عن اللي حصل لك ورفضت أكتب مقال عنّك."
لم تجبها في العلن ولكن اكتفت بالقول ساخرة:
_ "هه! لقد أصبحتُ مادة دسمة للصّحف والجرائد!"
أكملت نيروز ببساطة:
_ "أخدت جزا من المدير بس ما فرقش معايا المهم انك تاخدي العلاج من غير شوشرة.. وفرحت جدّا لما تغطية الخبر اترفضت في كل الجرايد."
شعرت بها ترمش بعينيها فعَلَا عدم التصديق ملامحها من كون الثانية أبدت ردّ فعل لحديثها.. أحسّت كونها تتخيّل وأن ذلك لم يحدث بل هو رغبتها بما تودّ حدوثه.. ولكن الحقيقة أن الثانية استثارها النّبأ حين قالت بدهشة:
_ "ماذا؟ كيف هذا؟ من منع هذا الأمر الذي من شأنه أن يتسبّب بإشهار المشفى؟!"
أتاها صوت نيروز تقول بودّ:
_ "كل اللي عايزة اقولهولك.. كوني قويّة وانسي اللي حصل واتحرّكي أدام عشان الناس اللي بتحبّك.. ماحدّش هينفعك واللي حصل اعتبريه حادثة وهتنتهي.. واللي أذاكي ان شاء الله فــ يوم هيلاقي عقاب أسوأ بكتير من اللي عمله فيكي آمين."
غلّف القهر والألم معالم نيروز التي فتئت بمرارة:
_ "ليس الأذى ممّن قام بذلك الحادث بل بمن تسبّب فيه سيّدتي.. أنتِ الآن تدعين على زوجي! أرجو أن أظل حيّة حتى أرى تحقيق هذه الدّعوة.. فكيف يكون عقابه كما أذاني؟!"
وقفت نيروز عن مكانها مختتمة حديثها بمودّة:
_ "يا رب اكون خفّفت عنّك.. يالّا هسيبك دلوقتي عشان ترتاحي.. ويارب اشوفك في حال أحسن من كدة.. سلام.."
ثم استدارت إلى الناحية الأخرى لتخرج من الغرفة.. ما ان فتحت الباب حتى وجدت كل من أمان والممرّضة خلفه كانا على وشك الدخول فقالت بابتسامة:
_ "سلام عليكم."
ثم خرجت متجاوزة إيّاهما وشعور الراحة يداعبها بعدما اطمأنّت على حال تلك البريئة.. فقد كانت تعلم أنها أُصيبَت بكسور خطيرة وجراح بالغة.. ولكن جسدها الآن خالي من الضمادات والجبائر.. فيبدو أنّ جسدها تعافى بشكل كامل ويتبقّى الآن روحها.. وترجو من الله أن تكون سببا في التخفيف عنها ولو بمثقال ذرّة..
في ذات الأثناء.. اقترب أمان من نهلة قائلا بتساؤل:
_ "مين دي؟ قريبتِك؟"
اتته إجابة نادية بابتسامة:
_ "بتقول من معارفها يا دكتور."
لم ينتبه لها وإنّما ازدادت دهشته حين رأى نهلة تهزّ رأسها نافية وكأنّها تثبت خطأ ما سمعت توّا.. فاقترب منها أمان قائلا بدهشة:
_ "إيه ما تعرفكيش؟!"
عادت تهزّ رأسها مؤكّدة ظنّهليعود ببصره إلى نادية والخوف قد بهتت ملامحهما حتى هتف أمان بفزع:
_ "يا نهار إسود دي صحفيّة!"
ثم أسرع عائدا أدراجه إلى الخارج ركضا.. غير آبه بنظرات الباقين حوله من مرضى وموظّفين.. بل أسرع يقطع الطريق بسرعة خشية أن تضيع وتنشر مقالا عن نهلة وهو ما لن يغفر حدوثه أبدا.. نزل عن الدّرج سريعا ثم انتقل إلى اباب ليجدها تسير بهدوء نحو إحدى السيارات المصفوفة.. التقط نفسا عميقا قبل أن يسرع إليها مناديا:
_ "يا آنسة لو سمحتي."
توقّفت قبل أن تدير مقبض باب السيارة لتنظر بغرابة نحو أمان الذي كان يلتقط أنفاسه بصعوبة لتقول بهدوء:
_ "أيوة!"
رفع سبّابته أمامها قائلا بصلابة:
_ "إنتي صحفيّة صح؟"
عقدت حاجبيْها متسائلة بتعجّب:
_ "عرفت منين؟"
تظنّ ان الأمر بسيط إلى درجة أن أفصحت عن هويّتها بتلك الطريقة العفويّة وكأن ليس هناك خطب ما.. احتدّت عيناه واتّسعتا غضبا بينما يبسط يديه قائلا بخشونة:
_ "الكلام اللي سجّلتيه وانتي مع مدام نهلة لو سمحتي."
تضاعفت دهشتها مع وقع كلماته على أذنها حيث قالت بعدم استيعاب:
_ "إيه؟!"
أجابها بفظاظة ولا تزال يده مبسوطة:
_ "أنا مانع منعا باتّا التعدّي على خصوصيّة المريضة وأيّ حوار صحفي عنها."
سكتت للحظات بينما تمعن النظر إليه حتى قالت باستنتاج:
_ "حضرتك دكتور أمان؟"
أجاب بغير مرادها بصرامة:
_ "التسجيل لو سمحتي."
أيّ تسجيل قد تقوم به هذه وهي التي نالت العقاب لرفض القيام بذلك منذ البداية؟! اكتسى وجهها بغلالة من الحزن بينما تقول بتفهّم:
_ "ليك حقّ تخاف على خصوصيّة المريضة بس والله أنا ما سجّلتش حاجة."
أعاد يده إلى جخصره بينما يقول بتهكّم:
_ "أمّال زورتيها على أيّ أساس؟! بتدردشي معاها مثلا؟!"
_ "بالظبط."
انفغر فاهه بقوّة بينما ينظر إليها بعدم تصديق كما لم يفهم مرمى كلمتها الأخيرة والتي على الرغم من اختصارها إلا أن مقصدها بعيد عن هدف استيعابه.. أكملت قولها بهدوء:
_ "أنا واحدة خدت جِزا بسبب اني رفضت أكتب عنها.. وفرحت جدّا لما الخبر اتكتم أكتر مع إنّه كان تريند وكنت هكسب من وراه.. أنا جيت والله عشان اطمّن عليها وربنا يعلم."
تنهّد بحرارة بعدما أدرك خطأه في سوء الظنّ.. ولكن لم يترك هؤلاء المزعجين أمامه حلّا آخر.. فلابد من التعامل معهم بصرامة.. عداها هي التي أتت فقط لاهتمامها بحالة نهلة بشكل إنسانيّ من الدرجة الأولى.. أردف باعتذار:
_ "أنا آسف يا أستاذة.. أتمنّى ما تتدايقيش منّي."
أسرعت تقول بابتسامة خافتة:
_ "ولا يهمّك وعشان تتأكّد أكتر أنا بشتغل في جريدة (....) واسمي نيروز عمران تقدر تقرأ العدد ولو لقيت حاجة مكتوبة عنها يبقى ليك الحقّ تجازيني."
ارتخت معالمه أكثر بينما يقول بامتنان:
_ "أشكرك جدا على موقفك.. وعلى زيارتك المحترمة.. ربنا يوفقك."
تحدثت بسرور:
_ "ويوفّقك في علاجها.. إعمل اللي عليك معاها.. عشان زيّ ما في ناس عايزين يستفادوا في ناس تانيين مستنيين انها تشفى.. وان شاء الله على إيدك يحصل ده."
_ "يا رب آمين."
**********
_ "لا أفهم.. ماذا يجري هنا؟! لمَ كل هذا الانفعال؟"
كانت تلك الكلمات التي دارت بذهن نهلة المتسائلة عن سبب هلع أمان واتّباعه لتلك الصّحفيّة.. لمَ أراد تعقّبها والحديث معها؟! إنها تؤدّي عملها وتودّ كتابة تقرير عن ضحيّة منتحرة تعيش الآن في غيبوبة صامتة.. فلماذا يمنعها؟! لن تكون أوّل من يأذي نهلة على أيّة حال؟!  انقطع شرودها مع صوت نادية التي قالت بابتسامة:
_ "ربنا يكرمه الدكتور أمان."
انتقلت عيناها تلقائيّا نحو نادية التي أكملت قولها موضّحة:
_ "ساعة لمّا جُم الصحفيين عشان يصوّروكي.. هوّ منعهم وطردهم كلهم.. ودلوقتي خاف من الصحفيّة دي وهياخد أيّ حاجة كتبتها عنّك."
عَلَا الذهول على وجهها وصوتها الداخلي يصيح بصدمة:
_ "أحقّا قام بذلك؟! أي أحمق يضيّع هذه الفرصة من بين يديه؟!"
_ "سلام عليكم."
التفتت برأسها نحو أمان الذي أغلق الباب خلفه ثم اقترب منها ليتّضح اللين على معالمه المتهدّلة.. في حين تقول نادية::
_ "وعليكم السلام.. إيه الأخبار يا دكتور؟"
جلس إلى جانب نهلة قائلا بابتسامة حبور:
_ "تمام جدّا.. هي آه صحفيّة بس مش هتنزّل أيّ حاجة وكانت بتزور مدام نهلة عشان تحفّزها مش أكتر."
عادت تنطق بعدم تصديق:
_ "أحقّا ما تقول؟! إذا هي صادقة وليست تدّعي كما ظننتُ؟! كيف هذا؟ كيف لا تستفيد من ذلك وما فائدة زيارتها لي؟ أحقّا جاءت لقول تلك الكلمات؟"
وكأنّه يعلم ما يدور بخلدها من أسئلة فأجابها بابتسامة واسعة:
_ "جات عشان تحفّزك يا مدام نهلة.. وبتوصّيني جدا عليكي.."
استقرّت عيناها عليه ليميل نحوها قائلا بثقة:
_ "اطمّني طول مانا موجود مش هسمح لحدّ يغلط بخصوصك."
تناست ما يقال وما يدور حولها.. وارتكز ذهنها حول ما يفعله هذا الطبيب الغريب! بداية كان يثير استفزازها حدّ الجنون بطريقته المرحة حتى شعرت بكونه مهرّجا.. ومن ثمّ انتقل إلى اتّجاه آخر حين أحضر طفلتها ليترك أثرا طيّب المذاق في نفسه.. والآن تعلم أنه ردع الصحفيّين من محاولة تصويرها والاستفادة من هذا الحادث الذي طرأ لها.. يزيد في صنع الجَميل لأجلها ولا تعرف كيف السبيل إلى شكره.. ربما لم يكن ذلك جميل وكل ما يحدث لقاء المال ولكن ألا يكفي اهتمامه لتتحسّن حالتها في أسرع ما يمكن بدلا من أن تقضي الشهور دون حدوث جديد وفي كلا الحالات هو المستفيد؟!
ولم يكن أمان يشغل بالها فقط.. بل كان هناك احتلّ هذا الطبيب حيّزا من تفكيره منذ عرف عنه من لسان نيروز حين قالت:
_ "في دكتور هناك يبقى ابن مدير المستشفى اسمه أمان.. طرد كل الصحفيين وخاف على خصوصيّة البنت وإن ده هيأثّر على نفسيتها ومنع أي أخبار تتنقل عنها.. ودلوقتي بقى هو المعالج بتاعها.. عشان كدة أنا فرحانة جدا.."
لم يكن يعلم أن هناك ما يسمّى بالضّحيّة المنتحرة.. ولكن بعد حديثه مع نيروز أجرى بحثا عنها ليعلم أنه تمّ تصويرها حين كانت ملقاة على الأرض وثيابها ممزّقة والدّماء مُراقة حولها.. عمّ صدى خبرها بأنحاء الجمهوريّة ولكن دون جديد يُذكَر.. حيث تم ردع الصحفيين وقنوات الأخبار عن إذاعة كلمات أخرى عنها.. والسبب في ذلك كان الطبيب أمان الذي يرفض قطعا وفود خبر جديد عنها حتى أطفأ شعلة انتشار الخبر قبل ظهورها..
**********
في المساء.. انتهى إبراهيم من ركن سيارته بالجراج ثم ترجّل عنها وصفق الباب خلفه.. فكانت الحالة التي تناول علاجها تحتاج مجهودا مضاعفا.. تعاني إجهاض إلى جانب كونها مريضة بالقلب.. وبعد ما تكبّد عناء إنقاذها.. لم يستطِع قلبها التحمّل وفاضت روحها.. وعلى الرّغم من أن زوجها قد وقّع على شهادة إخلاء مسؤوليّة المستشفى إلا أن إبراهيم لا يزال حزينا مكتئبا لأنه لم يستطِع إنقاذها.. لم يستطِع تحمّل رؤية زوجها وهو يصرخ باكيا بالمشفى لأجل فقدها.. فقد عانت آلام الحمل لأجل أن يُرزَق بطفل متجاهلة حالتها الصحيّة.. وها هو الآن يعاني فقد زوجته وجنينها الذي لم يتمم الستّة أشهر.. تجاوز البا الداخليّ للفيلا ليجد شذا تسرع إليه من بعيد والقلق يكسو معالمها بينما تقول بدهشة:
_ "إبراهيم! أخيرا جيت؟! خالو متدايق جدا منّك و...."
انقطعت عن الإكمال وحبست أنفاسها مع صوت علاء الذي صدح بصلابة تكاد تهزّ جدران المبنى مناديا:
_ "إبراهيم!"
تنهّد بعمق قبل أن يلتفّ بهدوء قائلا:
_ "أيوة."
طالعه بنظرات بركانيّة أتبعها بقوله باستهجان:
_ "هو الشغل بقى أهمّ من اختك دلوقتي؟!"
أجابه إبراهيم من بين أنفاسه المنهكة باختصار:
_ "أنا كنت جاي بس في عملية مستعجلة اضطرّتني أفضل في المستشفى."
لم تكن تلك الإجابة كافية لإطفاء شرارة الغضب بداخله حيث أكمل باتّهام:
_ "إنت شايف ان ده مبرّر كويّس قصاد غيبتك عن أختك بعد 6 شهور؟!"
تحدث إبراهيم بعبوس يتخلّله الهمّ:
_ "كفاية اننا فاكرينها وبندعيلها علطول.. وأنا هزورها بكرة."
أكمل علاء قوله بفظاظة:
_ "ماتنساش ان احنا بس اللي فاكرينها والمفروض نطبطب عليها بعد ما جوزها اختار غيرها ونسيها بالسرعة دي!ّ"
ألجمت الصدمة لسانه عن قول المزيد فما كان منه إلا أن ينظر إلى أباه بعدم تصديق من كونه قد ينطق بتلك الكلمات في العلن وأمام شذا.. حينها اندفعت تلك الصغيرة المتمرّدة نحوه بينما تتساءل باستنكار:
_ "خالو إنت لسّة فاكر اللي عمله بدر اخويا؟!"
التفت إليها ثم قال بامتعاض:
_ "أنا لسّة فاكر اللي عمله يونس ابوكي كمان."
أسرعت خيريّة تقترب منها ناطقة بذهول:
_ "إيه يا علاء اللي بتقوله ده؟!"
حقّا لقد تملّك منه الغضب تزامنا مع تقدّم عمره إلى درجة أن لم يعُد يعي بما يقول.. والآن ينبش في قبور الماضي ليميت هناء الأحياء على حساب من ليست على قيد الحياة! نظرت شذا إلى زوجها والشّرر بات يتطاير من سوداوتيْها بينما تنطق بنبرة حادّة:
_ "ولمّا انت فاكر كدة وافقت ليه على جوازي من ابنك؟!"
تحدّث علاء بخشونة:
_ "إنتي حاجة تانية يا شذا.. ماقدرش اعاقبك باللي عمله ابوكي أو أخوكي....."
وهنا انفجر إبراهيم عن كتمانه لانفعاله كبركان خامد ثار فجأة حيث هدر صارخا:
_ "خلاص بقى يا أستاذ علاء انا تعبت."
التفتت الرؤوس نحوه بينما يكمل إبراهيم بانفعال:
_ "بالنسبة لعمّي يونس فأنا مش عارف إيه اللي حصل وما اقدرش الومه.. بس بدر عنده حقّ فــ كل حاجة عملها."
نطقت خيرية بصدمة:
_ "إبراهيم!...."
لم يعطِها فرصة الإكمال وإنما أكمل بغضب يخفي ألما:
_ "ليه حقّ ما يفتكرهاش.. ليه حقّ ما يزورهاش.. ليه حقّ يتجوّز تاني.. ليه حقّ يحب مراته الجديدة ويعيش معاها أحلى عيشة.. واحنا مالناش غير اننا نسكت وندعي لتقوى ربنا يغفر لها."
تقوّست زاوية فم علاء الذي تكلم بدهشة:
_ "إيه الكلام ده يا إبراهيم؟ بتتكلم كأن تقوى عملت حاجة غلط؟!"
_ "عملت غلطة صعب تُغتَفَر."
قالها إبراهيم بصلابة لتشهق خيريّة بصوت مسموع بينما يقول علاء بصوت شبه مرتجف:
_ "قصدك لمّا خلّت بدر يستنّاها سنين وكانت زعلانة على زعلي؟!"
تحدث مباشرة دون الأخذ بحرمة المتوفّاة بعين الاعتبار:
_ "لا السبب اللي خلّاها تعمل كدة.. المغفور لها الآنسة تقوى.. ما خلّيتش بدر يستنّى عشان زعلك."
ثم أكمل بشيء من الخزي وكأنّه نادم لكونها أخته:
_ "كانت بتحب دكتور معاها في المركز.. ولمّا رفضها بسبب تعبها.. اتعالجت وفضلت تصدّ بدر لسنين وحجّتها عشان زعل ابويا القديم.. وفجأة كدة لقيناها واقت على خطوبتها من بدر.. قلت يمكن عقلت.. لكن اتّضح بس عشان تغيظ الدكتور المحترم اللي رجع من الخارج.. يعني مش عشان حبت بدر خالص!"
كانت تلك الكلمات كفيلة لأن تجعل شذا مشدوهة حابسة أنفاسها غير مصدّقة ما قد يحدث بل لم يدُر بخلدها دوما أن تكون لتقوى مثل هذه السابقة.. في الحقيقة تشعر أن إبراهيم ثملا ويقوم باختلاق القصص!
أكمل إبراهيم بنبرة جافّة:
_ "بدر عرف بالصدفة ولمّا واجهها جاله الهجوم وتقوى خدت الرّصاص مكانه.."
أسرعت خيريّة إلى الإمساك بتلابيب ابنها الذي كان كالجسد الخاوي بينما تصرخ زاجرة:
_ "يا ابراهيم ازاي تقول على اختك كدة؟! حرام تفتري على واحدة بين إيدين ربنا دلوقتي؟!"
لم يحاول الدفاع عن نفسه وإنما التفت إليها لترى الهمّ الكامن بعينيْه قائلا بوجوم:
_ "لو كان بدر حكى الكلام ده قدّامي ماكنتش هصدّق.. لكن للأسف سمعته بنفسي من لسان تقوى لمّا كانت بتموت.. ومافيش إنسان بيحتضر هيكدب يعني!"
ثم عاد ينظر إلى علاء الذي كان متسمّرا محلّله ولم يتجاوز ما سمع حدود استيعابه ليقول إبراهيم بعدم رأفة لحاله:
_ "قالت انها استغلّته واتأسّفت له وانا كنت اتمنّى الارض تنشقّ وتبلعني بعد اللي سمعته.. بس ساعتها بدر سامحها شفقة على حالها واتجوّزها.. لكن برضه ما لحقتش تعيش عشان تكفّر عن ذنوبها!"
ابتعد عن والدته وسار إليه حتى وقف مقابله خاتما حديثه:
_ "إيه رأيك يا بابا؟ بذمّتك بدر ما يستاهلش يكمّل حياته بقى؟!"
طالعه بنظرات تائهة وكأنّ باله سافر إلى محيط آخر بحيث لم يستطِع حتى الإجابة.. فتجاوزه إبراهيم متّجها نحو الدّرج وخلفه ذهبت شذا التي ما استطاعت تصديق كلمة وعقلها بات مشتّتا بين عدم تصديق وإعادة جرد لما طرأ عليها من أحداث بدءا من زواج بدر الذي تراه أكبر عقبة في طريق تقدّم علاقتها.. جلست على طرف السرير ثم التفتت برأسها نحو إبراهيم الذي كان يجلس على الكرسيّ والإرهاق يُغلّف معالمه.. فقالت بدهشة:
_ "أنا مش مصدّقة اللي حصل ده خالص! تقوى عملت كدة ازّاي؟!"
انتبه إليها أخيرا وقد عادت الدماء إلى الغليان بعروقه وراودته نوبة الغضب من جديد حيث ينظر إليها بانفعال قائلا بتهكّم:
_ "مالك بتتكلّمي كأنّك أوّل مرة تعرفي؟ مش الأخّ معرفكم كل حاجة عشان يقدر يتجوّز الآنسة وتين؟"
أسرعت تقف منتفضة بينما تطالعه بذهول قائلة:
_ "إيه؟! ولا جاب لنا سيرة حتى!"
ماثلها في الوقوف والمثول أمامها بينما ينطق بدهشة واتّهام:
_ "إزاي ده؟! أنا سامعك بنفسي إنتي وبنت عمّك فــ فرح بدر لمّا قلتي لها إن صحيح تقوى غلطت بس مش ده سبب يتجوّز بعدها بسرعة كدة!"
انتظر للحظات بينما ينتظر منها الإجابة حيث سكتت قليلا تفكّر فيها عن مناسبة ذكر ذلك مع نيروز حتى استطاعت التقاط ضالّتها من بين ذكرياتها البئيسة قائلة بإيجاب:
_ "أيوة فعلا قلنا كدة.. بس كنّا فاكرين إن غلطة تقوى لمّا خلّت بدر استنّاها كل ده وهي مش بتحبّه."
وهنا عمّت الصدمة على معالمه وفقد كيفيّة النطق للتعبير عن ذهوله في حين تكمل شذا مؤكّدة باليمين:
_ "والله ما حكى لنا حاجة زيّ كدة.. أخويا بدر أنضف من إنه يقول حاجة زي كدة بينه وبين نفسه حتى!"
انسابت الدموع من عينيها بينما استطردت بحسرة:
_ "استحمل مهاجمتي ليه وزعل الكلّ منه لمّا قال الخبر المفاجئ.. بس عمره ما حكى لنا السبب! وأتاريه أخويا حبيبي كان شايل جبل وما حدّش حاسس بيه!"
وكأنّها تولّت زمام الحديث عنه حيث اختار الصمت لإعادة ترتيب حساباته وقد أتى ما يصحّح سوء الفهم لديه خاصة وأنه يبدو على شذا أنها تعلم ذلك للمرّة الأولى.. أكملت هي بمقت:
_ "اطمّن يا دكتور بدر ما قالش حاجة ولا لوّث سمعة أختك.. وإن كان ده السبب اللي خلّاك تاخد منّه موقف فأحبّ أقولك ماحدّش طلّع السر ده غيرك إنت.. شكرا على كل حاجة.."
قالت الأخيرة بشيء من الخذلان بينما تبتعد عنه معلنة نهاية الحديث وتركه أسيرا لأفكاره المتزاحمة والمتناقضة يجانبهنّ الضمير الذي أراد الإدلاء برأيه فيما قام بصاحبه طيلة الأيام الفائتة..
**********
نهاية أحداث الفصل الثلاثين
إيه رأيكم في مفاجأة إبراهيم وشذا؟ ويا ترى بدر بيفكّر في أمان ليه؟! انتظروا إجابة السؤال ده في الفصل القادم من رواية #اغتصاب_لرد_الاعتبار وهمسة جديدة من #همسات_إسراء_الوزير

اغتصاب لرد الاعتبارМесто, где живут истории. Откройте их для себя