الفصل الثالث

4.3K 168 3
                                    

الفصل الثالث


في كل مرة كان ليو يعيد فيها تصفح الملف الذي ناوله إياه دانيال قبل رحيله خلال رحلته .. كان يقف مطولا أمام الصورتين المرفقتين به .. الأولى للطفلة ذات الشعر الفضي شديد النعومة... فيتذكر المرة الوحيدة التي قابلها بها قبل سنوات طويلة .. قبل ثمان عشرة سنة .. عندما كان في زيارة إلى منزل دانيال حيث اتفقا للخروج معا إلى النادي .. انتظر طويلا صديقه الذي انضم إليه شاحب الوجه وعلى وجهه علامات التوتر والقلق .. سأله إن كان هناك ما يزعجه .. وإن كان قادرا على مساعدته بأي طريقة .. رد عليه دانيال آنذاك بطريقته الغامضة :- ما من مشكلة لا حل لها .. لا تقلق .. الأمر لا يخصني أنا
رغم غموض دانيال وعزوفه عن التحدث عن الأمر كانت لندن كلها تعرف بالفضيحة التي ابتليت بها عائلة برانستون .. بالطفلة التي تحاول عائلة والدتها المتوفاة إثبات نسبها لوالدها الحقيقي .. طبعا لم يحاول ليو أبدا أن يتدخل أو يتطرق للأمر مع أقرب أصدقائه .. لقد كان يعرفه أكثر مما يجب ليحذر من التطرق لخصوصيات عائلته
استأذن دانيال ليبدل ثيابه تاركا ليو وحيدا .. إنما وحدته لم تستمر طويلا عندما أحس بحركة ما خلف إحدى الستائر الثقيلة التي كست نوافذ غرفة الجلوس الواسعة التي كان ينتظر فيها ليو
تحرك نحو مصدر الحركة بفضول .. إذ بدا وضحا أن صاحبها يحاول قدر الإمكان إخفاء وجوده ... حدق في الأصابع الصغيرة المنمنمة التي ظهرت أسفل الستائر .. والتي كانت تتلوى بتوتر مع كل خطوة كان يخطوها اقترابا .. ابتسم .. وأمسك طرف القماش السميك ليزيحه قائلا :- إيللا
إلا أن الكيان الصغير الحجم الذي رآه مختبئا ما كان ينتمي إلى إيللا الصغيرة ذات الأربع سنوات .. بل لأخرى أكبر بقليل .. عمرا لا حجما .. إذ أنها كانت في مثل بنية إيلا الصغيرة ضآلة وهشاشة
نظر بفضول وحيرة إلى الوجه الصغير الذي اختفى معظمه تحت ستار فضي شديد الكثافة والنعومة .. حيث لم يظهر منه سوى عينين واسعتين بلون الشهد .. كانتا تحدقان به بمزيج من الخوف والتمرد .. وكأنها تتحداه أن يسألها عما تفعله هنا .. ترتدي فستانا قطنيا أبيض اللون غطاها تماما تاركا قدميها الحافيتين ظاهرتين للعيان .
قبل أن يقول شيئا لها .. ارتفع صوت صديقه يناديه .. اتسعت عينا الطفلة مدركة بأن أحدهم قد اكتشف مخبأها .. وسرعان ما انطلقت تعدو كالأرنب الشارد من بين ساقيه لتعبر إلى جوار دانيال الذي كاد يصطدم بها أثناء دخوله الغرفة لولا أن تحاشاها في اللحظة الأخيرة ..
رأى ليو المرارة الظاهرة في وجه صديقه فسأله بهدوء :- من تكون هذه الطفلة دانيال ؟
واجه دانيال صديقه قائلا بشيء من السخرية الجافة :- إنها لعنة العائلة
بعد أسابيع قليلة .. تصدر نبأ اختفاء الطفلة جميع وسائل الإعلام .. لم يجد لها أحد طريقا وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتها .. خيم الاكتئاب على دانيال لفترة طويلة بعدها ... وكأنه يلوم نفسه وعائلته على عجزهم عن إيجاد الطفلة .. تحدث في ذلك الوقت أخيرا إلى صديقه المقرب .. تحدث إليه معبرا عن غضبه لأنه لم يحتويها كما يجب.. لأنه لم يصادقها كما يجب .. لأنه نبذها كما فعل الآخرون دون اعتبار لطفولتها .. فهي في النهاية شقيقته شاء أم أبى .. ولن يسامح نفسه قط حتى يجدها مجددا
ليو أيضا لم يتوقف عن التفكير بالطفلة لأسابيع طويلة ... العينين الواسعتين ذاتي التحدي الطفولي لم تفارقا أحلامه حتى مرور فترة طويلة .. نسيها مع مرور الوقت .. ولم يتذكرها مجددا حتى هذه الليلة .. في الواقع .. رؤية الألم والإحباط في وجه صديقه المفضل .. لم يذكراه فقط بمأساة آل برانستون بفقدانهم طفلة لم يرغبوا أصلا بوجودها ... بل ذكره بمأساته الخاصة .. مأساته التي كاد ينساها وقد غلفتها السنوات بطبقة كثيفة من الغبار .. وفكر بأن أصعب ما قد يشعر به رجل بقدرة دانيال .. هو العجز .. العجز التام ..
تناول الصورة الأخرى .. ونظر إلى المرأة ذات الشعر الأسود المتطاير حولها وهي تدير رأسها أثناء سيرها وكأنها تبحث عن عدو خفي ... وتساءل إن كان سيعرفها إن التقاها كما وعد صديقه أن يفعل ...
نظر إلى البيانات المرفقة .. وقرأ بتمعن كل ما كتب حول ميشيل جوردن ... ليس هناك أي معلومات حولها أو حول عائلتها قبل وصولهم إلى الولايات المتحدة من المملكة المتحدة منذ 17 سنة ... أما ما عرفه عن الفترة التالية .. فقد كان مثيرا تماما للاهتمام ... تساءل مجددا وهو يغلق الملف .. أتراه يعرفها ؟

كما العنقاء(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن