الفصل التاسع

2.9K 140 1
                                    

الفصل التاسع


انتفضت أيفي قافزة من مكانها عندما وجدت كأسها يطير فور أن لامس شفتيها ليصطدم بالجدار متحطما ومتحولا إلى أشلاء ... وقد تناثرت محتوياته في كل مكان في الغرفة الصغيرة التي تشكل جناح الاستقبال كاملا في شقة باري المتواضعة ..
نظرت إلى باري مذهولة قبل أن يستحيل ذهولها إلى حنق واستنكار وهي تقول :- باري ... ما الذي فعلته ؟
قال والغموض يكسو وجهه الوسيم بينما هو يعتدل في وقفته مبتعدا عنها :- من الأفضل أن أوصلك إلى منزلك أيفي
نظرت إليه حائرة بينما قال وهو يمرر أصابعه عبر شعره الأسود قائلا بتوتر :- أعرف أنك مستاءة ... إلا أن الشراب ليس الحل الأمثل لمشاكلك أيفي ... أنت قلت أننا متشابهان .. وأنا أقول بأننا لسنا كذلك على الإطلاق .. أنت قوية .. وذكية .. ومميزة .. وأي شخص يحاول انتزاع تميزك ذاك .. أو يقنعك بعدم وجوده .. فهو إنسان حقير لا معنى لحياته
نظر إليها بشيء من الأسف بينما حيرتها تزداد .. مدركا بأنه أبدا لن يتمكن من استغلالها كما فعل مع الكثير من الفتيات غيرها .. هو ليس نبيلا ... هو فقط أكثر جبنا من أن يجرؤ على إيذائها ... أكثر غرورا من أن يرفض أخذ ما يتمنى أن تمنحه إياه أيفي بكامل رضاها بدون أي تأثير خارجي ...
تناولت حقيبتها ومعطفها ... وقالت بامتنان حقيقي :- أشكرك باري ... حقا أشكرك
وبدون أي كلمة إضافية ... غادرا شقته معا

هتفت ميشيل بألم وإحباط :- ليس من حقك أن تفعل هذا .. توقف ..
بدت وكأن كلماتها تخاطب الهواء بينما هي تراقب الرجال وهو يفرغون المبنى من محتوياته .. الأثاث .. صناديق الأوراق .. كل ما ينتمي لجمعية شباب المستقبل .... لقد خسرت قضيتها ... وعجزت عن الحفاظ على المبنى القديم المتهالك .. والذي يساوي الكثير رغم ذلك بقيمته الروحية والمعنوية وكل المساعدات التي كان يقدمها لكل من يحتاج إليها
قالت لولا وهي تقف إلى جانبها والأسف يرسم خطوطه واضحة على وجهها :- ما كان بيدك فعل أي شيء لإنقاذه ميشي ..
هذا صحيح ... بعد نضالها الطويل مع القانون لأجل الحفاظ على المكان ... توقف المتبرعون عن النضال معها .. وبيع المبنى القديم لشركة أجنبية ستبدأ بهدمه خلال أيام قليلة لتبدأ بمشروع تجاري يدر على المنطقة فائدة أكبر مما كانت تفعله مؤسسة خيرية متهالكة كتلك التي كانت تديرها ... ما كانت قادرة على فعل أي شيء لتوقفهم .. إلا أنها ما كانت أيضا بقادرة على منع نفسها من الإحساس بالألم والعجز وهي ترى أحلامها تنهار أمام عينيها ... أحست بيد جاك تربت على كتفها وهو يقول بتعاطف :- لقد أنقذت هذه لأجلك ميشي .. أعرف بأنها تعني لك الكثير
نظرت نحو الصندوق الذي كان يحمله بيده الأخرى ... وترقرقت دموعها تأثرا وهي تتناوله ناظرة عبر فتحته إلى كومة الصور التي جمعتها بنفسها واحتفظت بها على مر سنوات
تمتمت :- شكرا لك جاك ...
هل تراها سترى كل من جاك ولولا بعد أن انتهى العمل الذي جمعهم معا ؟؟؟ تستطيع لولا أن تجد نشاطا آخر يسلي شيخوختها كالحياكة لأحفادها كما اعتادت أن تفعل خلف مكتبها كلما وجدت وقتا .. وجاك .. يستطيع أن يجد عملا تطوعيا آخر في أي مؤسسة أخرى بما لا يتعارض مع مواعيد عمله الحقيقي ... ولكن ماذا عنها هي ؟ ما الذي ستفعله الآن ؟
ودعتهما محاولة ضبط مشاعرها ما أمكنها ... راقبتهما يرحلان بينما التفتت هي تسير في الطريق المعاكس .. ضامة صندوقها إلى صدرها ودموعها تخونها أخيرا .. وكأن كايل قد مات مجددا ... وكأن ألم فقدانه يتجدد مرة أخرى .. لم ترى الشخص الذي وقف قاطعا طريقها .. ينظر إليها بإمعان منتظرا إياها أن تصطدم به في خضم غرقها في بؤسها .. اختل توازنها حتى كادت تسقط أرضا لولا أن أمسكت بها أصابع قاسية منعتها .. إلا أنها لم تمنع الصندوق عن السقوط .. والصور الكثيرة المتجمعة داخله عن التناثر أرضا .. أطلقت شهقة ملتاعة وهي تحرر ذراعها من قبضة منقذها ... لتجثو على الأرض جامعة الصور بلهفة قبل أن يلطخها الوحل .. من بين دموعها ... تمكن من رؤية الرجل يجثو أمامها ويمد يده ليساعدها في التقاط الصور .. قالت بصوت أجش :- أستطيع القيام بهذا بمفردي ..
أتاها صوت هاديء .. بلكنة إنجليزية واضحة يقول :- القليل من المساعدة لا تضر .. جميعنا بحاجة لمن يقف معنا بين الحين والآخر ..
أطلقت شهقة مكتومة وهي تنظر مذعورة نحو الرجل الأنيق الذي رفع رأسه ليقابل نظراتها بأخرى أكثر ثباتا وثقة ... لم يكن ليو .. شعورها بالراحة لم يستمر .. إذ أن الملامح ذات الوسامة الرجولية الأنيقة ... العينين الزرقاوين والشعر الداكن الشقرة والمقصوص بإتقان ... الهالة الواضحة من الرقي والأستقراطية المحيطة به جعل الصور التي جمعتها تسقط من يدها مجددا ... هذا الوجه .. هذا الوجه
بهدوء .. وكأن وجهها لم يستحل بشحوبه إلى قطعة من الرخام ... تابع دانيال التقاط الصور .. وجمعها في الصندوق من جديد ... كان يعرف ما رأته ميشيل جوردن عندمال نظرت إلى وجهه .. فشبهه بوالده يزداد أكثر فأكثر مع مرور السنوات ... والده قبل عشرين عاما .. كان يبدو مثله تقريبا ... وسارة الصغيرة .. لم تكن صغيرة بما يكفي لنسيان والدها ... حتى ومعرفتها به لم تتعد الأسابيع ..
تناول الصندوق ووقف .. بينما اعتدلت هي مرتجفة وصوت يردد ... اهدئي ميشي .. لقد مات ذلك الرجل منذ سنوات طويلة .. فهي لن تنسى أبدا تلك الليلة التي سمعت فيها والدتها تسر لوالدها دون ان تشعر بإنصاتها عن خبر وفاة جيرالد برانستون في حادث سير مأساوي ... كانت الراحة تغمر صوت أمها .. راحة أحست بها هي نفسها إذ أدركت أن أحدا لن يأتي لانتزاعها من عالمها الآمن ... حتى وأخ صغير غير متوقع .. عشقته بجنون قد جاء إلى الحياة ليحرمها من كل امتيازاتها ..
إلا أنها لم تحسب أبدا حساب أخ لا تذكر أنها فكرت به يوما ...
الأسابيع القليلة التي قضتها في منزل عائلة برانستون ... كان خلالها مرور مراهق بدا لها وقتها كبيرا وضخما وغامضا ومخيفا .. عابرا جدا ليستقر في ذاكرتها ..
لم تفكر قط أنه قد يأتي لأجلها .... حتى بعد أن حذرها ليو من قدومه ... قال بصوته الهاديء :- كيف حالك سارة ؟
تمكنت من تخطي المفاجأة قائلة بجفاف :- اسمي ليس سارة ... ولن يكون كذلك قط
هز رأسه في تسامح وهو ينظر إلى وجهها المألوف .. وبريق من العاطفة يشع في عينيه الزرقاوين :- كما تشاءين ميشيل ... الاسم مهما اختلف ... لن يغير أبدا حقيقة من نكون ..
رفعت رأسها قائلة بشموخ :- إلا حقيقة نرفضها .. ونختار أن نتجاهلها .. أظن صديقك أخبرك بأن حضورك إلى هنا غير مرغوب به ..
قال :- لقد فعل .. إلا أن هذا لن يثنيني عن رؤية شقيقتي .. أنت شقيقتي ميشيل ... مهما كان رفضك لهذه الحقيقة .. ومهما كان الاسم الذي تختارين حمله .. أعرف بأن ذكرياتك عن لندن ... عني وعن العائلة لم تكن مرحبة تماما .. إلا أنني شقيقك .. وسأبقى كذلك ... ولن يهنأ لي بال حتى أستعيدك .. وأتأكد بأنك بخير

كما العنقاء(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن