الفصل الرابع عشر

3.1K 131 1
                                    

الفصل الرابع عشر



لم تفكر أيفي قبل أن تصفق الباب في ردة فعل غريزية انتهت بالباب عالق وقد اندس حذائه الجلدي اللامع مانعا إياه من الانغلاق التام .. كل ما تطلب الأمر منه دفعة خفيفة لترجع أيفي بإحباط إلى الوراء مراقبة إياه يدلف إلى شقتها الصغيرة بهدوء مسيطر ويغلق الباب وراءه بإحكام ...
تلاقت نظراتهما لثواني طويلة تذبذب خلالها التحدي في الهواء بينهما .. مخفيا الخوف الشديد الذي تعاظم داخل أيفي رغم عنها .. رغم توقعها لهذا اللقاء .. إلا أنها لم تتخيل قط أن يحصل بهذه السرعة ..
اعتدل مبتعدا عن الباب قائلا بتوبيخ ساخر :- تؤ .. تؤ .. تؤ ... ليس من الأدب أن تغلقي الباب في وجه صديق قديم إيفلين
قالت ببرود يخفي توترا كبيرا :- أنت لم تكن يوما ضمن قائمة أصدقائي دانيال ..
انزلقت نظراته ببطء تتأمل عريها المختبيء وراء المفرش المتعدد الألوان فاشتعل الغيظ داخل أيفي وهي تضم القماش إلى جسدها بإحكام مدركة أن احمرارا خائنا زحف على وجنتيها في تزامن مع التسارع الذي بدأ يصيب خفقات قلبها وهي تتبين الوقاحة في تلك النظرات الداكنة من عينيه ...
لقد سبق وتوعدها دانيال باللقاء القريب ... إلا أنها لم تتوقع أن يأتي لرؤيتها مساء يوم خروجه من السجن .. وعيده تضمن أشياء أخرى غير اللقاء .. أشياء لم ينطق بها إنما أحست بها بغريزتها المتيقظة دائما لكل ما يتعلق به ...
كان يبدو مختلفا عن دانيال الذي عرفته معظم سنوات حياتها .. وقطعا عن ذاك الذي افترقت عنه في ظروف ترفض أن تتذكرها قبل سنوات قليلة .. لقد كان يرتدي ملابس عادية .. جعلته يبدو أقرب إلى شخص من العامة من ذاك الارستقراطي .. رجل الأعمال الثري والمتعالي الذي تذكره .. وقد كان هذا سيئا جدا .. جدا جدا .. لأول مرة تراه يرتدي سروالا من الجينز لائم ساقيه الطويلتين القويتين وأظهر مع القميص الأبيض والسترة الصيفية الرياضية التي اعتلت كتفيه كمال رجولته المخفية عادة بحلله الأنيقة ..
لقد كان شبيها بذاك الرجل الذي أغواها قبل سنتين ونصف .. الرجل الذي تخلى في لحظة ضعف عن بروده وسيطرته .. وكان مجرد عاشق ... لا .. لقد كان عاشقا ضاريا .. ذاك الذي منحها أجمل هدية لأنوثتها .. ثم انتزعها منها فور أن استعاد صحوته وتعقله ..
الرجل الذي أحبته وكرهته في آن واحد ....
الرجل الذي تمنت من كل قلبها ألا تراه مجددا ... ربما أخطأت عندما ذهبت تستفزه في محبسه قبل أسابيع ... ربما عليها الآن أن تدفع ثمنا باهظا للانتقام الطفولي الذي منحها شيئا بسيطا من الرضا عندما نظرت إلى عينيه في أقسى لحظات حياته وابتسمت شماتة به ..
قال بينما كانت عيناه اللامعتين تمشطان جسدها :- لا ... لم نكن يوما صديقين إيفلين .... ولا أظنني أريد صداقتك .. ليس وأنت تبدين كامرأة عاشقة تتحضر للقاء حبيبها ... هل أتيت في وقت غير مناسب ؟؟ هذا مؤسف .. فعشيقك الذي فتحت لي الباب آملة رؤيته .. عليه أن يجد مكانا آخر يفرغ فيه شهواته ..
احتقن وجه أيفي وهي تقول بغضب مكبوت دون أن تصحح له معلوماته :- أخرج من شقتي دانيال
أحنى رأسه وابتسامة عابثة تلامس شفتيه .. وقال :- ربما عليك محاولة إخراجي بالقوة ..
أصدرت صوتا يدل على الاشمئزاز وقالت :- وأجبر نفسي على لمسك .. إيووو .... لابد وأنك مغطى بالقمل والبراغيث .. أو أي آفة تعج بها السجون ..
ضحك .. لقد ضحك حقا وكأنه يستمع إلى معاكسة طفلة صغيرة في السابعة ... هتفت من بين أسنانها :- مادمت مصرا على البقاء .. أنت مضطر لانتظار ارتدائي ملابسي قبل أن نتحدث فتخبرني أخيرا سبب تشريفك منزلي
استدارت لتغيب داخل غرفتها .. فأطلقت شهقة قوية وهي ترى يده تحط بحزم فوق باب غرفتها تمنعها من الدخول .. رفعت رأسها مذهولة بالقرب الشديد لجسده الضخم منها .. تراجعت بذعر عندما تحرك ليحاصرها مستندة إلى الباب ... رائحة عطره الممزوجة بعبير رجولته المألوف غمرت أحاسيسها بشكل أعاد إليها ذكريات أخافتها حتى الموت ... أحست وكأن جسدها يستيقط بعد سبات عميق .. فتلاحقت انفاسها وأظلمت عينيها عندما قال بخفوت وفمه قريب جدا من أذنها :- هل ترتدين ملابسك على شرفي أنا ؟؟؟ لكم أشعر بالإطراء عزيزتي .. إلا أنك تنسين بأنني قد سبق ورأيتك عارية من قبل ... وأن حشمتك المفتعلة هذه ... لا معنى لها على الإطلاق ..
قالت بحدة بينما صدرها يتخبط بالخوف والاضطراب :- ابتعد عني دانيال .. أنا ما عدت تلك الفتاة المضطربة التي كان يحلو لك إهانتها وقتما شئت .. والتي كنت تعبث بها بأسلوبك البارد والمتعالي تارة .. والرقيق المتفهم تارة أخرى ..
تراجع فجأة مبتعدا عنها .. فسارعت تحتمي داخل غرفتها وتقفل الباب ورائها بإحكام .. مضت لحظات طويلة قبل أن تستعيد انتظام ضربات قلبها .. وهدوء أنفاسها .. لتتمكن من ارتداء سروال من الجينز وقميص قطني كان محتشما بما يكفي لإخفاء جسدها ... ضيقا بما يكفي ليذهب احتشامها ادراج الرياح .. أخذت نفسا عميقا وهي تنظر إلى نفسها في المرآة .. عارفة بأن تحت مظهر الصحفية الجادة والجريئة ما زالت أيفي الصغيرة المحبة للتحدي تعيث فسادا داخلها ... لن تنال مني دانيال ... لن يهدأ لي بال قبل أن أذلك وأمرغ أنفك بالتراب كما تستحق بالضبط
فتحت الباب ... وخرجت لتجده واقفا عند النافذة .. يتأمل الشارع بصمت بينما اختبأت كفاه داخل جيبي سرواله .. وقد بدا حزن عميق قلما رأته في عيني دانيال برانستون
..ما الذي يفعله هنا ؟ .. فكر دانيال بهذا وهو يرمق الشارع المكتظ بالمارة .. رافضا الاعتراف بأنه لم يتوقف عن التفكير بإيفلين بيكر منذ وطات قدماه الأرض خارج السجن هذا الصباح
لقد كان بحاجة لأن يراها ... لم يعرف السبب .. ربما بسبب الغضب والإحباط المتصارعين داخل صدره ... إحساسه بالخيانة والظلم لأشهر .. العجز العقيم الذي كان اكبر مخاوفه دائما .. وأخيرا ... صدمة معرفته بما اقترفته يدا والدته قبل عشرين سنة ..
أغمض عينيه بقوة مدركا باعتراف نادر بأن سبب وجوده هنا هو أنه حيث تتواجد إيفلين بيكر .. يستطيع أن يكون الشخص الذي استحال إليه خلال السنوات الأخيرة بحرية .. يستطيع أن يكون دانيال المختلف عن ذاك المكبل بالمسؤولية .. ذاك الذي كلف منذ بداية شبابه بإدارة امبراطورية ورعاية عائلة .. هنا .. يستطيع أن يكون الانسان الذي صدم بوجوده داخله على مدى أشهر .. شخص واحد قادر على تحفيز ذاك الانسان .. شخص واحد قادر على التعامل معه ... شخص واحد .. يستطيع هو أن يفرغ فيه إحباطه وغضبه بدون أي وخز ضمير أو قلق .. إنها إيفلين بيكر ... أيفي ...
.. أدار رأسه ينظر إليها من فوق كتفه فور إحساسه بوجودها ... تأملها مجددا من رأسها حتى أخمص قدميها .. ثم برقت عيناه عندما توقفتا عند صدرها العارم المحتجز بمعجزة خلف القماش الرقيق للقميص ... وقال بابتسامة مستفزة :- زي لطيف
قالت بنفاذ صبر :- ما الذي تريده دانيال ؟
اعتدل فجأة مستديرا نحوها ... عندها .. عاد مجددا إلى دانيال الذي عرفته حقا ... ذلك الرجل الجدي والعملي وهو يقول بجفاف :- أعترف بأنك قد تغيرت حقا إيفلين ... لقد كنت أراقبك خلال السنوات ... ربما غبت عن رقابتي خلال أشهر احتجازي في السجن .. إلا أن معرفة ما فاتني سهل جدا ..
قالت من بين أسنانها :- ما عدت بحاجة إلى رقابتك دانيال ... وإن تجرأت للحظة على ذكر وصية أخي .. أو ألمحت إلى المسؤولية من قريب أو من بعيد .. لصرخت جامعة سكان المبنى كلهم إلى هنا متهمة إياك باقتحام بيتي وإزعاجي ..
ابتسم .. إنما كانت ابتسامته خالية من المرح هذه المرة وهو يقول :- لا تقلقي إيفلين ... لن آتي باسم تشارلز أبدا في أي حديث يجمعنا ... زيارتي لك لا علاقة لها بالمسؤولية لا من قريب ولا من بعيد ..
قالت بتوتر :- ما الذي جاء بك إذن دانيال ؟
اقترب ببطء خطر .. جعل حواسها تتنبه .. تمكنت بمعجزة من الثبات مكانها دون أن تتراجع حذرا وخوفا وهو يقف أمامها .. ينظر إلى عينيها قائلا :- ما الذي قد يأتي بي إلى هنا غير تسوية ما بيننا من ديون إيفلين ؟
تجمدت أوصالها وهي تردد بتوتر :- ديون !
أخفض بصره نحو وجهها الجميل ... المحاط بذلك الإطار السريالي المتمثل بشعرها الخمري الطويل ... وقال ببرود :- نعم .. ديون إيفلين .. لقد سبق ووعدتك بأن لقاءنا القادم سيكون وفقا لشروطي أنا .. وأنا لم أخلف وعدا قط
نضبت فجأة قدرتها على التماسك عندما تحركت لتبتعد عن تأثيره .. والتهديد المبطن في كل كلمة أو إشارة يقوم بها .. فأمسك دانيال بذراعها يمنعها من الحركة مما اجتذب شهقة استنكار وذعر خفي من شفتيها .. تحركت مقاومة قبضته قائلة بشيء من الحدة :- اتركني دانيال
قال وقد بدا صوته كمن يقضي وقتا مسليا :- خائفة .. أيفي .. لم أعهدك جبانة إلى هذا الحد
رفعت رأسها لاهثة تنظر إلى وجهه الوسيم ... وخلال لحظة .. ترآئى لها وجهه قبل سنتين ونصف ... عندما انقبضت ملامحه واكتست بالرغبة الخالصة اتجاهها .. عندما أرادها يوما .. وأحبها .. وامتلك جسدها يوما .. رباه ... ألن أتحرر منه يوما ؟ .. قالت بصوت ارتجفت أوتاره :- ما الذي تريده مني دانيال ؟
قال بصوت جمد الدماء في عروقها :- وما الذي قد يريده رجل تحرر لتوه بعد قضاءه أشهر طويلة... وحيدة في السجن ... إيفلين ؟

كما العنقاء(مكتملة)Where stories live. Discover now