الفصل الأول

2.4K 71 6
                                    


-إننا عادةً نخدع أنفسنا بالإيحاء... نغذي نفسنا بالفكرة ثم نعتنقها .... وننسى الوحي... تلك الحقيقة الخفية التي لا نملك لها دليلاً لكنها تمثل الإلهام الحقيقي للروح .... وما بين الإيحاء والوحي.. يقع الأبطال في فخ المغالطة .....

لكل من يقرأ ... تذكر جيداً أن الحب .... هو الوحي الوحيد الذي ينبع من روحك وما سواه مجرد وهم تقنع به نفسك حتى لا تواجه الحب لأنك تعلم تماماً أنه مثلما يمكن ان يكون صديقاً طيباً بإمكانه أن يتحول في لحظة الى عدو لدود !
....
....
..

الإيحاء الأول: (الحب يؤلم)*

* الأغنية لـ (نان فيرنون)

- أنا الذي لا أنتمي الى شيء او أحد.... *
*مراد السالم

.................................................. .......
-لا تكثري من وضع السكر .. تذكري ان الكريما التي ستكون فوق الكاب كيك ستكون حلوة جداً... لا تريدين أن تقتلي أحدهم بمرض السكري أليس كذلك؟
قالت كيرا جملتها ضاحكة وهي تراقب مايا تقوم بمزج محتويات الكاب كيك في مطبخ المحل...
قطبت مايا متصنعة الحنق
-من المفترض ان تشجعيني لا ان تسخري مني... ماذا حدث لوعودك بمساندتي؟
استمرت كيرا بالضحك:
-أنا أساندك فعلاً.. احذرك من ان تصيبي الاخرين بالسكري فتعيشي عقدة ذنب.....هل صرت مخطئة الآن؟...
قرقع الجرس المرتبط بالباب الخارجي للمحل.. نظرت كيرا الى ساعتها وهي تعلق:
-الوقت لا زال مبكراً لإستقبال الزبائن...
وقبل أن تتحرك خطوة لتتعرف على الزائر... كان ماتيو يخطو الى داخل المطبخ واضعاً يده في جيبه بأناقته المعتادة
-صباح الخير أيتها الجميلات
هتفت مايا:
-صباح الخير عمي... أنظر أنا أصنع الكاب كيك
تصنع ماتيو الرعب وهو يوجه حديثه الى كيرا:
-يا الهي انتِ لن تنقلي عدوى الكاب كيك الى إبنة اخي... أليس كذلك؟
رفعت كيرا حاجباً وهي تجيب:
-اوه سأفعل وسأحرص أن تكون بذلتك الفاخرة أول من يتذوق صنيع يديها
تراجع ماتيو وهو يمسك بياقة بذلته:
-أنتِ أكثر النساء شراً على هذا الكوكب
ضحكت كيرا ومايا معاً...
قالت كيرا:
-حسناً دعني أخمن... أرماني؟
تدخلت مايا:
-كلا أظنها هوغو بوس
كشر ماتيو بإبتسامة منتصرة فظهرت غمازتيه خلف لحيته الشقراء:
-توم فورد.... هذه المرة فشلتما في التخمين
تذمرت مايا:
-ألم أقل لكِ يا كيرا أن ندرس الماركات بشكل مفصل أكثر... إنه يربح في كل مرة
هزت كيرا رأسها:
-الحق معكِ .. لكنني لم أخمن أبداً توم فورد فالبارحة كان يرتدي بذلة من توم فورد.. وعمكِ العزيز نادراً ما يرتدي نفس الماركة خلال يومين متتابعين..... عجوز أرستقراطي مدلل مغرور بإمتياز
تقدم ماتيو ونظراته الذئبية لم تفقد عبثها اللطيف ..... قبّل جبين زوجته :
-يا عديمة الذوق المصابة بعقدة الطبقية...
ثم وجه حديثه الى مايا:
-هل ترين؟ ها هي بعد ثمانية عشر سنة من الزواج ما زالت لم تتخلص من عقدة انني غني... رغم أنها تجاوزت ذوقها المنعدم في الملابس.... لكنها تركت لها وريثة محترمة فـ "ليلى" تصر على جمع كل ألوان الببغاء في مظهر واحد
زجرته كيرا بنظرة مدعية الإستياء:
-لا تتحدث عن ابنتي بهذه الطريقة.. ثم أن أنجل ستغضب هي الأخرى.. وأنت لست أهلاً لغضب "رئيسة العصابة"
رفع ماتيو عينيه الى السماء شاكياً:
-لقد إرتكبت خطأ عمري حين تركت لأنجل تسمية إبنتي الوحيدة.... كأنها صارت ضمن ملكيتها فقط لأنها منحتها اسماً....
رفعت مايا يدها ملوحة بها تنبه عمها:
-إبنة رئيسة العصابة هنا.. وقد تنقل كل ما يقال..
أشار ماتيو الى مايا ناظراً الى كيرا:
-ها .. هل رأيتِ؟ حتى إبنة أخي المفضلة تبيعني لأجل أمها.... إنكن متحيزات لبعضكن.....سأغادر بسلام منظماً الى أخويّ... علهما يحمياني من شركما
سخرت كيرا:
-هه يحمياك؟ من؟ جوزيف مثلاً؟ أنت تحلم.... أما أخاك الرزين ذاك فسيقول لك (قلّدت صوت كايل العملي) لقد كبرنا على مثل هذه الحركات
انفجرت مايا ضاحكة يشاركها ماتيو وانضمت اليهم كيرا.... أحاط ماتيو كتف زوجته وهو يتأمل أناقتها البسيطة والتي اكتسبتها طوال سنوات تواجدها في مجتمعه دون أن تفقد لمستها الشخصية مثل هذا السوار البشع المعلق في يدها ...
همس لها في أذنها: صباح الخير أيتها الأكولة.... لقد جئت ألقي التحية بما انني استيقظت ولم أجدكِ
رفعت كيرا عيناها اليه مبتسمة:
-صباح الخير أيها المغرور الأنيق
وقفت مايا تتأملهما بإبتسامة حالمة على وجهها.... لقد كبرت وهي تشهد حب والدها لوالدتها وأعمامها لزوجاتهم.... لكنها ابداً لم تكن تمل من مشاهدة أي أحدٍ منهم وهو يعبر للآخر عن حبه...... ذلك الحب الذي يُقال بنظرة.. أو بعبارة ساخرة مضحكة تبدو وكأنها مجرد مزاح عادي لكنها تخبيء في طياتها الكثير من الألفة والحب... حتى الخصام له طعم آخر فهو يعيدهم دائماً أكثر حباً وتفاهماً..... وهي التي عاشت في مثل هذا الجو.. لم تكن تحلم بأقل من حبٍ كالذي تشهده حولها كل يوم.... ذلك الحب الذي يجعلك تشعر بأمان مطلق حتى حين يسقط العالم فوق بعضه فإنك لا تبالي... لأن هناك من يمسك بيدك ومن يخبرك "أنا هنا لأجلك" ..... هي لا تريد حباً عابراً... تريد حباً حقيقاً .. ثابت وأبدي............ طوال حياتها وبحكم تجوالها الدائم في عروض الباليه كانت تقابل الكثير من الأشخاص وهم ينقسمون دوماً الى قسمين... قسم لا يعرف من تكون فيتقربون منها ويحاولون استمالتها فتجد فيهم أكبر عيب يجعلها تنفر من أي رجل.... عدم الشعور بالأمان... كأن الجميع على استعداد دائم للرحيل... فبالنسبة لهم لم تكن أكثر من هدف لعلاقة والعلاقة تجربة قد تنجح وقد تفشل... أما بالنسبة لها فالعلاقات شيء آخر...... العلاقة تعني حب... والحب لا يفشل ابداً... ولا يثير الخوف أبداً..... الحب أمان مطلق.. وثقة مطلقة..... أما القسم الآخر من الرجال الذين قابلتهم فهم يعرفون من تكون... إبنة جوزيف ميلر العظيم... والدها وأعمامها يعشقونها ويدللونها بشكل خاص.... وهذا يعني أنها ايضاً محمية بشكل خاص.. وأنها منطقة ملغمة من يخطئ معها فإن والدها وأعمامها سينفجرون في وجهه بقوة اسوأ من قوة الديناميت لذلك فهم يفضلون عدم التورط معها على الاطلاق............
قاطع أفكارها اقتراب عمها منها... زرع قبلة على شعرها وهو يقول:
-أراكِ فيما بعد أيتها الفراشة الراقصة
مازحها باللقب الذي تطلقه عليه الصحافة كونها راقصة باليه ...
وقفت على رؤوس أصابعها وطبعت قبلة على خده
-أراك لاحقاً حبيبي....
إقتربت كيرا تتفحص عمل مايا وقالت:
-أظن ان عليكِ ان تلحقي بالدروس مايا.. دعينا نكمل في وقت لاحق... لقد شارفت الساعة على التاسعة
هزت مايا رأسها وهي تمسح عن يدها آثار الدقيق والسكر بقطعة قماش صغيرة
-حسناً.... سآتي ربما لاحقاً للمساعدة
في تلك الأثناء عاد جرس الباب الأمامي ليقرقع معلناً عن زائر جديد
سألت مايا:
-قد يكون داني؟ ..
كان داني هو العامل الوحيد في محل كيرا الذي لم يهرب من تذمرها الدائم حول عدم وضع المقادير الصحيحة في كل انواع المعجنات التي يتم صنعها
هزت كيرا رأسها نافية:
-لقد اخذ إجازة هذا اليوم.... سيخرج مع خطيبته في رحلة
ازاحت مايا مريول المطبخ:
-لابد انه زبون... سأراه ثم سأغادر بعدها.... (أخذت حقيبتها من على الكرسي بجانبها) .. الى اللقاء "كيك"
تذمرت كيرا: لا تناديني بالإسم السخيف الذي تطلقه علي والدتكِ
ضحكت مايا متجاهلة تذمرها.. وخرجت لترى الزبون ...
وسط المحل الصغير والديكور الأبيض الناعم ... والعارضة الزجاجية لقوالب الكيك والبسكوت الممتلئة بألوان مختلفة ... وقف رجل قدرت بأن طوله يتجاوز المئة وتسعين سنتمتراً وبالنسبة لقامتها فقد بدا لوهلة عملاقاً..... كان يعطيها ظهره... يدق بحذائه الأرضية الخشبية واضعاً يده في جيب بنطال بذلته الداكنة بحركة تشبه حركة عمها ماتيو الواثقة... ويتأمل علب البسكوت الزجاجية المرتبة على رفٍ جانبي قرب طاولة صغيرة بدت وكأنها طاولة دمى أمام طوله الفارع ......
قالت بصوت ترحيبي:
-صباح الخير...
التفت اليها اخيراً... عينان زرقاوان ضيقتان ... لا يميزهما شيء سوى لمعة حادة جداً.... اتجهتا مباشرة الى عينيها للحظة خاطفة سريعة جعلت الرعدة تسري في أوصالها...... لكنها ابتسمت وهي تقف خلف العارضة
-أعتذر عن تأخري
أزاح يده عن جيبه... وتقدم نحوها... ووقف أمامها مباشرة... لا تفصلهما العارضة .... شعره الأشقر الطويل نسبياً كان مصففاً بطريقة أنيقة ... وملامحه وسيمة لكنها عادية حسب تقديرها الشخصي... مزيج من عينين ضيقتين بلمعة حادة وانفٌ جميل الشكل وفم مرسوم ليناسب القوة الناضحة من ملامحه ... بالمجمل كان رجلاً يملك جاذبية خاصة لبعض النساء لكنها لم تكن منهن اذ انها لا تميل الى الرجال الشقر
اخيراً انشق الفم الصارم عن ابتسامة بسيطة... عادية.... لكنها ساهمت في رأيها بتلطيف ملامحه
قال أخيراً:
-لا عليكِ.... سيكون لطفاً منكِ لو اعطيتني علبة بسكوت من هذه التي على الرف...
صوته كان عميقاً... لكنه خالي من أي نبرة معينة وكلماته تنضح تهذبياً.....
هزت رأسها : بالطبع
واتجهت نحو الرف لتلتقط أحد العلب وتعود لتضعها في كيس ورقي مرتب يحمل إسم المحل ...
أخرج محفظته ودفع لها ثمن البسكوت ... فسلمته الكيس الورقي قائلة:
-أرجو ان يعجبك طعمه.... ننتظرك مرة اخرى
أخذه منها وهمّ بالخروج.... لكنه قبل أن يفعل التفت اليها وقال بنبرة دافئة:
-جزيل الشكر أيتها الفراشة الراقصة....
وغادر ..!
رمشت مايا ببلاهة... لقد ناداها لتوه بلقبها.... إذن لا بد انه يعرفها.. ربما حضر لها عرضاً او قرأ عنها خبراً.... لكن خاطراً داهمها ان نبرته الدافئة الغريبة ... كانت تحمل أكثر من ذلك ...... !

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now