الفصل الرابع والعشرون

1.2K 60 1
                                    

الفصل الرابع والعشرون: كبري عقلكِ*

الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-وبيننا خبز، وملح ... وانتماء!
-مراد السالم

احتست زنبق القليل من الشاي المُهيّل وهي تطالع مايا الجالسة بهدوء كاذب على المقعد بجانبها.... مايا لم تكن تفرق كثيراً عن أوركد فلقد شهدت طفولتها وراقبتها تكبر وهي بشكل ما تعتبر ابنتها...
حين يئست من مبادرة مايا في الكلام، أخذت هي المبادرة وقالت بعد ان وضعت كوب الشاي في صحنه:
-حسناً مايا، أخبريني ما الذي يجعلك تجلسين بتوتر كأنكِ على وشك الانفجار
نظرت مايا اليها ولمحت في نظرتها حزناً غلف المشاعر الزهرية التي تشع من وجهها بالعادة مما جعل خوفاً يسري على شكل قشعريرة على بشرتها..
قطبت:
-ما الأمر مايا؟
تنهدت مايا:
-أذكر حين كنت صغيرة كنتً أراكِ ترقصين دائرة حول نفسك بطريقة لم تكن مفهومة بالنسبة لي... هل تذكرين حين سألتكِ مرة عن هذه الرقصة؟
ابتسمت زنبق دون ان يختفي خوفها:
-أجل.. ولقد أخبرتكِ بأنها رقصة سما..
أكملت عنها مايا:
-لقد قلتِ انها رقصة لنسيان الألم..
هزت زنبق رأسها موافقة دون أن تعلق فاسترسلت مايا:
-هل بإمكانكِ أن تعلميني هذه الرقصة؟
اهتزت يد زنبق وهي تدرك معنى الطلب الذي تطلبه مايا.... مايا تتألم .. ويبدو أن ألمها كبير جداً.. فلا أحد يبحث عن مسكن الآم في رقصة سما الا وكان وجعه أكبر من أن يحتمله...
لم تستطع ان تتحكم بالقلق الذي أفلت في نبرة صوتها وهي تسأل:
-ما الذي يوجعكِ مايا؟
اهتزت حدقة مايا وابتلعت ريقها بينما امتلأت عيناها بالدموع التي لم تجد سبيلها الى خدها..
همست:
-لا أستطيع أن أخبركِ... أرجوكِ.. دعيني اتعامل مع الأمر.. ولا تخبري أمي بما يدور بيننا الآن..
امسكت بيدها وقالت بتوسل:
-عديني
ووجدت نفسها تعدها غير قادرة على كسر قلبها الذي يبدو وكأنه قد كُسِرَ بالفعل......
وتساءلت ما الذي فعله لها مكسم؟ ... الرجل المثالي المتيم بحبها ...
عادت مايا تسأل:
-هل ستعلمينني الرقصة؟
عاجزة، هزت رأسها... لا تدري ماذا تفعل لتخفف عنها سوى ان تعلمها الرقصة التي وجدت فيها يوماً ما .. سلامها الداخلي..
.................................................. .......
أخذت تدور حول نفسها... يداها مبسوطتان بشكل افقي، أحد كفيها يرتفع نحو السماء والثاني نحو الأرض... رأسها مائل الى اليمين قليلاً... مغمضة عيناها وكأن هذا العالم لا يعنيها.....
تحت جفنيها المسدلين لم تجد ظلمة معتمة كتلك التي تجدها حين تفتح عيناها.... لكنها وجدت مجموعة كبيرة جدا من النجوم المضيئة وكأنها كانت تسبح في مجرة ملونة..... روحها الملوثة بمرارة الغدر شعرت بها تنساب منها على شكل خيوط ذهبية تتماوج بين النجوم المتناثرة... وقلبها الثقيل بالوجع كأنه جبل .. أصبح أخف من ريشة ......
شعرت بأنها تعانق الكون بذراعيها المفتوحتين .. وأن كل ما هو رائع في هذا العالم يسقط في كفها من السماء وكل ما هو رائع فيها يسقط من كفها الى هذا العالم....
وللمرة الأولى منذ اكتشفت ما فعله مكسم، ابتسمت ابتسامة حقيقية .. وواصلت الدوران .....
.................................................. ......
احتضنت زنبق نفسها بذراعيها وانكمشت على نفسها وهي تشاهد مايا ترقص ورغم انها كانت تبدو في قمة سلامها مع نفسها وانسجامها مع الكون لكن عينيها لم تريا هذا بل رأتا امرأة معذبة تحاول ان تعالج نفسها ......... كما كانت هي يوماً معذبة تبحث بيأس عن مهدئ لروحها الملتاعة....
همست في نفسها:
"ترى ماذا فعلت بها يا مكسم لتلتجئ الى رقصة سما؟"
.................................................. ............
حين عادت مايا الى البيت كانت تشعر بأنها في حال أفضل بعد أن أخرجت كل تلك الطاقة السلبية التي تعتريها....
ما زالت حتى بعد مرور أيام لا تستطيع ان تنظر في عيني مكسم رغم محاولتها ان لا تهرب منه ... لكنها في كل مرة تحاول النظر اليه تتذكر ما فعله ..... وما فعله بالنسبة اليه كان أكثر من مجرد محاولة للتأثير سلباً في مهنتها... بل كان اعلاناً صريحاً لقدرته على اخفاء جزء من نفسه بعيداً عنها بينما هي كانت تظن بأن روحيهما عارية تماماً أمام بعضها.....
مع هذا.. هي لا تفكر في التخلي عنه ... مكسم يحتاج الى مساعدتها وحبها له أكبر من ان يسمح لها بأن تعاقبه..... فقلبها يخبرها بأن مكسم محتاج الى حنانها وتفهمها أكثر من أي وقت مضى..... وهذا ما يجعلها في صراع دائم بين جرحها وحبها.... بين غضبها وحنانها .... بين مهنتها وزواجها !
سمعت صوته قادم من جهة المكتب
-مايا؟
التفتت اليه.. ومشطت بنظرتها العاشقة طول قامته وشقرته التي ترمي قلبها بسهام مضيئة... ابتسمت بمرارة وهي تتذكر بأنها لم تكن تفضل الرجال الشقر قبل ان تعرفه... لكنه جاء ليكسر القاعدة.... ولم يكن هذا هو الشيء الوحيد الذي كسره!
تقدم نحوها ببطيء وقد لاحظت كم بات حذراً في التعامل معها والتقرب اليها....
هل يظنها لم تدرك بأنها يتأخر في مكتبه كل ليلة بحجة العمل حتى يتأكد من نومها ... ام انه يظنها لا تدرك تلك الذراع الخائفة المترددة التي يحيط بها خصرها عندما يأوي الى جانبها اخيراً... او تلك القبلة المرتجفة التي تشبه الاعتذار الباكي التي يطبعها بخفة على شفتيها ظناً منه انها غافية....
اشفقت عليه بقدر ما اشفقت على نفسها...... هي تعرف كم يحبها... رباه كيف لا تعلم وقد قضى فترة زواجهما يظهر لها بكل الطرق محبته .... كيف لا تعلم وهي تدرك الان بأنه اختار ان يتزوجها رغم كل مخاوفه ومشاكله مع ماضيه ومهنة والدته..........
انها على الأقل تتوجع وجع امرأة وقع عليها الظلم من الرجل الذي تحبه.... بينما هو المسكين يتوجع وجع رجلٍ أوقع الظلم بالمرأة التي يحبها
سألته:
-هل تعشيت؟
هز رأسه نافياً:
-كنت بانتظارك
ابتسمت ابتسامة مرتجفة:
-سأحضر العشاء
تركته هاربة نحو المطبخ... لا تدري لماذا تهرب منه بينما كل ما تريده هو ان تحتضنه بقوة وتخبره كم تحبه....
بعد ربع ساعة كانا يجلسان حول طاولة العشاء بصمت...
صوت الشوكة والسكين وهما يتعاونان على قطعة الدجاج في الصحن كان كل ما يمكن سماعه وسط السكون الذي ساد جلستهما وكأن الحديث بينهما قد نفذ
أجفلت حين رمى مكسم الشوكة والسكين في صحنه دون مبالاة ونهض من مكانه قائلاً
-لا يمكنني أن أبقى هكذا أكثر
رفعت وجهها اليه لتجد ملامحه تصرخ بالعذاب ...
وضعت شوكتها وسكينها جانبها ورمت يديها في حجرها غير عالمة بكيفية التصرف .. لكنه لم يجعلها تتساءل كثيراً... اذ تقدم نحوها وركع بجانب كرسيها واخذ كفيها بين يديه يغلفهما بقوة وتشبث بأصابعه...
نظر مباشرة في عينيها ورأت في لمعة عينيه الرائعة انعكاساً للألم الذي يعتريها...
همس بتوسل:
-لا تفعلي هذا بي
رمشت وسألت بصوت أجش:
-أفعل ماذا؟
افلتت احدى يديه كفيها ورفعها نحو جانب وجهها ليبسطها عليه ويمسحه برقة:
-لا تكوني هنا ولستِ هنا.... لا تعذبيني بصمتكِ هذا... اصرخي.. اشتمي.. اصفعيني
وكأنها كانت تنتظر طلبه ... استلت احدى كفيها من تحت يده ورفعتها لتصفع وجهه بقوة صاحبها انهمار دموعها ....
لم يرف له جفن او ترتجف له عضلة ...
همس بتكسر:
-أنا آسف
ازداد نشيج بكائها وهي تنحني نحوه وتحيط بذراعيها رقبته وتعانقه باكية..
أحكم ذراعيه حول خصرها وجلس على الأرض واجتذبها اليه لتهبط من مقعدها جالسة في حضنه.. مخفية وجهها في تجويف رقبته...
بعد لحظات .. مد يده ليبعد خصلات شعرها عن صفحة وجهها ثم يلمس ذقنها جاذباً وجهها عن مخبأه .. رافعاً اياه نحو وجهه ...
نظر في عينيها الباكيتين ..
-أنا أحبك مايا...
ازدادت وتيرة بكائها لكنه كتم شهقاتها بقبلته ....
قبلها بإصرار معتصراً شفتها بين شفتيه .. لم يكن يحاول ان يثير فيها عاطفة جسدية بقدر ما كان يفرغ في قبلته يأسه وأسفه.... كان يريدها ان تعلم كم يحبها ... وكم هو شغوف بها....
قبلته كانت قبلة اعتذار... وقبلتها المتجاوبة كانت قبلة قبول كل كلمات الأسف التي ضاعت في التقاء شفتيهما....
.................................................. .........
في نهار اليوم التالي زارت مايا مكسم في مكتبه في محل المجوهرات.. تذكرت بابتسامة اول مرة دخلت هذا المكتب .. وكيف كانت تذوب مع كل لفتة وكلمة من مكسم.......
نهض مكسم متفاجئاً والفرحة تعم ملامحه:
-حبيبتي.. ما هذه المفاجئة
لقد بدى وجهه أكثر ارتياحاً بعد لحظتهما الأثيرة ليلة أمس والتي دفعته الى ان يتخلى عن عادة السهر والهرب وان يأوي معها الى الفراش محتضناً اياها بقوة لاغياً بذلك مسافة الوجع التي فصلتهما
ابتسمت له وهي تقبل خده .. ثم ابتعدت ناوية ان تجلس في المقعد امام مكتبه لكنه جذبها اليه .. لتجلس في حجره وهو جالس على مقعده خلف المكتب....
داعبت اصابعها شعره الذهبي:
-لقد جئتك بقرارات حاسمة
رفع حاجبه:
-اعتبريها قيد التنفيذ سيدة هيمسوورث
ذابت ملامحها حباً لكنها حاولت التركيز وقالت بجدية:
-أولاً سأترك الرقص مؤقتاً
قبل ان يعترض وضعت يدها على فمه ترفض مقاطعته:
-انه قراري انا مكسم
ثم واصلت:
-وأظن أنك بحاجة لشخص متخصص يستطيع ان يساعدك في موضوع ماضيك..
ظهرت غمامات الانزعاج على وجهه:
-هل تقصدين طبيباً نفسياً
هزت رأسها:
-أجل مكسم.. أنا يمكنني ان استمع اليك بالتأكيد لكنني لن أستطيع ربما ان افهم كيفية التعامل مع كل هذا الذي يعتريك..... فكرت ان تذهب الى شخص يستطيع ان يمنحك توضيحاً ويفسر كل ما تشعر به
شعرت بأنفاسه تتسارع وكادت ان تجزم بأنه سيرفض مما جعل قلبها يدق بوجل
لكنه أخيراً قال:
-لو كان الأمر سيساعدني في جعلكِ أسعد.. سأفعل... لكن بشرط ان تحضري معي الجلسة
ظهرت المفاجأة جلية على وجهها...
-لا اريد ان احرجك بسماع تفاصيل قد تؤلمك
هز رأسه نافياً:
-أنا مدين لكِ بذلك.. ثم سأشعر بأنني أفضل حين أكون ممسكاً بيدك.. عندها أتأكد بأن كل ما اسرده قد صار ماضي وان المستقبل رائع وأنا ممسك به بيدي
اغرورقت عيناها بالدموع وتقاطر من وجهها الألم فقطب وقال متراجعاً:
-إذا كنتِ لا تودين ان تأ...
وضعت يدها على فمه تسكته مرة أخرى:
-سأحب أن أكون الى جانبك...
اجلت حنجرتها ثم اخرجت تذكرتي سفر من حقيبتها:
-والقرار الثالث... نحن ذاهبان لزيارة والدتك !
*********************************************

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةDove le storie prendono vita. Scoprilo ora