الفصل الحادي والعشرون

1.2K 65 1
                                    

الإيحاء الواحد والعشرون: يوميات رجل مهزوم*

*الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-على المُنتمي ان يعود الى ما ينتمي!
-آدم الصالحي

عبرت جسدها رعشة مزعجة.. كأن البرد قد حلَّ فجأة في الغرفة الدافئة ..
لا ارادياً ارتفعت يدها تتحسس بشرة رأسها الحليق وهي تطالع ملامح مراد المصدومة ... والتي تزامن معها هتافه:
-ما الذي فعلتهِ بشعركِ؟
عندها استعادت القليل من وعيها.. تلبّس الغضب ملامحها وهي تتذكر السهم الذي رماه في قلبها في لقائهما الأخير
صاحت بوجهه:
-ماذا تريد؟
فبادلها الصياح:
-أنا أحبكِ
ارتفعت وتيرة غضبها وعاودت الصياح:
-ألم تقل إنها أشياء رخيصة؟
ضرب حافة الباب المفتوح بكف يده وصاح:
-لقد كنتُ أكذب
لم تعرف بماذا تجيب.... لأنها تعرف بأنه كان فعلاً يكذب... لم تستطع ان تتجاوب معه.. ليس الآن وهي تتحضر للمشي نحو الموت .... فما كان منها الا ان تراجعت قليلاً وصفقت الباب في وجهه ... لكن يده التي امتدت لتمنع انغلاق الباب كانت أسرع من أن تحقق رغبتها في الهرب منه ....
اخذت نفساً عميقاً... وأغمضت عينيها والتعب ينتابها فجأة لتختفي رغبتها في الشجار والقتال..... اهتزت الأشياء قليلاً من حولها.... ثم طرق رأسها بألم يذكرها بأن يومين فقط يفصلان عن مصافحتها للموت على سرير المشفى كما صافحته والدتها يوماً..
همست بإرهاق:
-اذهب يا مراد
لكنه بدل ان يذهب تقدم نحوها يفتح الباب حتى آخره .. ويخطو داخلاً غرفتها .. محتلاً المكان بحضوره ...
قال بهدوء شديد:
-لن أذهب يا أمل.. وأنا أعلم بأمر مرضكِ
رفعت وجهها مصدومة ... وشعرت بأن مطرقة ضربت جدار رأسها.. فتمايلت ليسرع هو سانداً اياها سائلاً بقلق:
-هل أنتِ بخير؟....
أغمضت عينيها بعذاب.. وهي تفكر بأنه لم يعد الا لأنها مريضة... هذا ليس حباً انما شفقة !
ازاحت نفسها عنه وجلست على أقرب كرسي صادفها وقالت:
-لن أسألك من أين عرفت.. لكنني سأطلب منك الرحيل
اخذ نفساً عميقاً كأنه يستجمع نفسه.. وجلس على حافة سريرها مواجهاً اياها وقال بجدية:
-أنا لست ذاهباً الى أي مكان يا أمل لأنني أحبكِ
قطبت في وجهه وهي تقول بحنق:
-توقف عن ترديد هذه الكلمة ... أكاد اقسم بأنك لو لم تعلم بمرضي لما كنت رأيتك الآن جالساً أمامي
هز رأسه موافقاً:
-في الحقيقة نعم....
ابتلعت ريقها علها تزيح تلك الغصة التي خنقتها.. وأبعدت عينها عنه في محاولة بائسة كي لا يلمح الألم فيهما
لكنه استطرد:
-لم أكن لأكون هنا يا أمل.. لأنني كنت سأكون مشغولاً بالغضب منكِ وشتمكِ بأفظع الكلمات لأنكِ لم تعرفي المخاطرة التي أخذتها لأعترف بحبي
اشتعل الغضب في زرقة عينيها وعادت تنظر اليه بحاجب مرفوع ساخر:
-وما هي هذه المخاطرة مثلاً؟ هل أخبروكِ بأنني الثقب الأسود؟ او مثلث برمودا؟
تنهد وتجاوز سخريتها ليقول بجدية.. فاتحاً قلبه لها لأول مرة:
-لا يا أمل لستِ أياً مما ذكرتِ.. بل أنتِ أسوأ... أنتِ المرأة التي سأنتمي اليها.. أنا الرجل الذي لم أنتمي يوماً الى شيء أو أحد... أخذت مخاطرة ان أنتمي اليكِ وطناً وأنثى... وأسمح لكِ بأن تكوني قلبي الذي يمشي على رجلين.. قلبي الذي قد يرحل في أي لحظة .. أو قد يمرض في أي لحظة كما تمرضين الآن.... هل تدركين الشجاعة التي احتجتها لأعترف بالحب الذي لطالما اعتبرته ضعفاً؟ .... لقد شهدت كيف مشى الآخرين عبر الجحيم بسبب الحب... لقد شهدت رجالاً اشداء صلبين يخرون بكاءً بسبب الحب !...... لقد عاهدت نفسي ان لا أقع فيه.. لأنني ان وقعت فهذا يعني بأنني سأخسر كل ما يجعلني الآن أنا....
أتدركين يا أمل مقدار الخطر الذي تواجهينه وأنتِ تنزعين أسلحة مخاوفكِ جرحاً بعد آخر؟ وتحتضنين شخصاً ما قادر على طعنكِ وأنتِ عزلاء تماماً، ضعيفة تماماً.... قابلة للكسر والخيبة والموت حباً؟
لذلك يا أمل لم أكن لآتي لولا مرضكِ.... كنتُ سأتكبر وأرتدي غروري وأجدها حجة مناسبة للفرار منكِ.... لكنني لا أستطيع الآن أن أفر... ليس وقلبي مريض.. ليس وقلبي سيستلقي تحت مشارط الأطباء بعد يومين....... لا يمكنني أن أفعل ذلك يا أمل.... عليّ أن أتأكد بأنكِ بخير... وأن أكون بجانبكِ.... لأطمئن على قلبي...... وحالما تخرجين من هناك مع قلبي..... سوف أتفنن في رد صفعتكِ تلك ... !
عندها انفجرت أمل بالبكاء، لكنه لم يكن بكاء حزن أو خوف، بل بكاء راحة لأن مراد يحبها حقاً، ولأنه ينوي أن يبقى الى جانبها بسبب هذا الحب...
امتدت يده يمسك بيدها معتصرة اياها بقوة يبثها دعمه:
-لا تبكي يا أمل... لقد قلتِ لكِ هذا الكلام لأبدو رومانسياً !
ضحكت من بين دموعها:
-لقد نجحت
ثم رفعت عيناها الزرقاوين اليه... هذه المرة لم يجد في وجهها ملامح عادية لا تضاهي جمال من عرفهن سابقاً.. كما لم يقرأ فيه علامات الارهاق الظاهرة ...
انه ينظر اليها الآن .. ويرى أجمل امرأة عرفها في حياته وأكثرهن نضارة وسحراً
ابتسم:
-احبكِ أمل
شعت ملامحها بضوء غريب... وشاهد قلبه ينبض في عينيها الدامعتين...
شبكت اصابعها بين اصابعه متشبثة أكثر بيديه
-وأنا أحبكَ يا صاحب الخصلة الفضية
اهتز قلبه.. كأن زلزالاً ضرب جبال روحه فتفطرت وانبثقت عنها براكين نار تسري في جسده.... هل هذا الشعور الحار بالسعادة هو الحب؟ وهل هذا الشعور بحروقٍ مؤلمة شعور عادي يصاحب حرارة الحب؟ هل يتوازى في الحب الفرح والألم... أم انه خوفه من ان يكون قد جاء متأخراً عنها بعمر هو ما يلطخ بياض سعادته بحمرة الدم الذي سيسيل منها بعد يومين؟
**************************************************

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now