الخاتمة

1.9K 90 22
                                    

الخاتمة:
"بعد شهرين"
...
أغمض مكسم عينيه بإصرار رافضاً ان يواجه صباحاً جديداً.....
كم مر عليه وهو على هذا الحال؟..... منذ خرجت مايا من المسرح تاركة له قصتهما بستارة نصف مُسدلة ورسالة تخبره فيها بأنها تحمل طفله...... هذا الطفل الذي خطط له ليمنعها من الرقص جاء في الوقت الذي لم يكن يريد لمايا شيئاً أكثر من أن ترقص ليثبت لها انه قد تغير....
منذ ذلك الوقت حاول كثيراً الوصول اليها.. ورغم علمه بإمكانية ان يفرض عليها لقائه فهو صاحب ارادة تشابه ارادة آل ميلر.. لكنه لم يفعل....... هذه المرة لم يستطع ان يفرض عليها الأشياء... لقد فعل حين فرض عليها دون علمها كل شيء ليحتفظ بها وهو لن يكرر ذلك...... لذلك اكتفى برسائلها التي تمنحه من خلالها معلومات عن صحة طفلهما ولا تتطرق لنفسها أبداً... حتى حين يراسلها "كيف حالكِ؟" تجيبه بـ "طفلك بخير"... المرة الوحيدة التي خرجت عن قاعدة الرسائل واتصلت به هي حين علمت بجنس طفلهما... يومها حدثته باكية:
-انه صبي..
عندها لم يستطع ان يركز على طفله بقدر ما ركز على صوتها وعلى حقيقة انها اتصلت... لذلك توسلها: "عودي الي"....
فما كان منها الا ان أجابته:
-احتاج ان اعود الى نفسي أولاً
الآن وهو يراجع كلماتها الأخيرة على المسرح يرى بأنها محقة تماماً... لقد احاطها سراً بقضبان حبه.. وبرر لنفسه بالحب كل فعل مسيء وجهه نحوها...
لقد احتضنته واثقة به.. فطعنها
لقد التجأت اليه لتحتمي به... عندما كان هو الخطر الوحيد الذي يحدق بها
لقد شاركته احلامها... فأطلق الرصاص على احلامها وقتلها
ويسأل نفسه بعد كل ذلك.. لماذا تركته؟
هل ظن ان الحب قد يشفع له عندها؟ كما شفع لوحشه عنده فأطلقه ليحافظ عليها فإذا به يجرحها بمخالبه في قلبها.....
الحب..!
يا لهذه الكلمة الصغيرة المخيفة..... التي بدأ بها كل شيء ... وبقي معلقاً فيها كل شيء...
تذكر ذلك الصباح الذي قرقع فيه جرس باب محل الحلويات معلناً دخوله الى حياتها للمرة الأولى...
تذكر رجفة جسده.. ارتباك نبضات قلبه وهي تنظر اليه ويتقابلان وجهاً لوجه بعد مرور كل تلك السنوات....
يومها بدت له الحلم والحقيقة... وما بينهما!
وهو بيديه دمر كل شيء....
تنهد.. وألقى نظرة الى هاتفه ليجد بأن وقت ذهابه الى العمل قد حان... عليه ان ينهض وان يواصل حياته كأن قلبه لم يتحول الى مسحوق يشبه البارود الأسود ما ان تمسه نار الشوق حتى ينفجر....
مثقلاً بذنوبه .. نهض من فراشه... واتجه الى الحمام ليأخذ حماماً دافئاً يساعده على الاسترخاء بعد ليلة نوم غير مريح...
ارتدى ملابسه ونزل الى الأسفل قاصداً باب المنزل متجاهلاً رغبة معدته في تناول بعض الطعام... لكنه لم يكن في حال جيد ليلبي أي من احتياجاته....
حين هبط السلم... توتر جسده... فقد وصلت اليه ذبذبات غريبة تشابه تلك التي كانت تبثها مايا حوله حين يملأ حضورها البيت....
قطب محتاراً.... هل بدأ يتخيل؟....
تلفت حوله بريبة فلم يجد شيئاً يدل يؤكد احساسه.... لكنه لسبب ما اتجه الى مكتبه المغلق الباب....
حين فتح الباب.... تراجع بصدمة غير مصدق....
كانت مايا تستلقي على الأريكة نائمة على جنبها... احدى يديها تتدلى عن الأريكة والثانية تستقر فوق بطنها المنتفخ.....
ثوبها الأحمر الفضفاض انحسر عن ساقيها حتى ركبتيها ... بينما كانت تنتعل في قدميها حذاء الباليه الذي زينه بنفسه لأجلها في عيد ميلادها....
مال قليلاً ممسكاً بقبضته أكرة الباب واسند الى يده كل ثقله وهو يستوعب ان مايا هناك.... وقف في مكانه لبضع دقائق خائفاً من التقدم فيكتشف انها مجرد حلم...... لكن في النهاية شوقه غلبه .. وأخذت خطاه تتقدم نحوها ببطيء جعل كل لحظة جهنمية مرت دونها تمر كشريط فيلم أمام عينيه......
وصلها... وضربه عطرها الخفيف... وتجلّت له بوضوح ملامحها.. فانخلع قلبه سعادة وألم.....
ركع أمام الأريكة وجلس يتأمل نومها دون ان تواتيه الجرأة ليلمسها....
انزلقت نظراته عن وجهها الهادئ الغافي بسلام الى بطنها المنتفخ.. وللمرة الأولى يضرب قلبه بقوة لفكرة ان طفله الان في احشاء المرأة التي يحب.. لأنه قبل هذه اللحظة كلما فكر بحملها شعر بالغضب لأنه تسبب لها به دون رغبتها وقد حصل في الوقت الذي اراد لها بشدة ان ترقص علها تسامحه....
ابتسم بمرارة... كأنه يلقي سلاماً معتذراً الى طفله............... ثم عاد ينظر الى وجهها...
أجفل حين وجدها قد استيقظت ونظراتها مصوبة اليه.....
همس بصوت أضعفه الشوق:
-مايا
رمشت... وفاض شوق يشابه شوقه من ملامح وجهها...... فرفرف قلبه ... رغم انه يعرف انها تحبه... وان هذا الحب لم يتغير ... لكن ان يراه مرسوماً بهذا الكم من الشوق جعل احساساً بالأمل يخامره
قالت بصوت منخفض:
-استيقظت في منتصف الليل وانتابني شعور عميق للرقص فجئت الى هنا... لقد اشتقت الى صالتي الخاصة
ابتسم بحزن:
-وهل اطفأتِ شوقكِ؟
هزت رأسها نفياً...
-لقد جئت الى هنا.. دخلت هذه الصالة (أشارت الى الصالة التي خلفها) ورقصت بما سمح به وضعي.. لكن الشوق لم ينطفأ...
دون ان تسيطر على حركات يدها.. ارتفع كفها الذي كان يستقر على بطنها ليلامس لحيته فتأوه مغمضاً عينيه غير قادر على كتم آهات اشتياقه
همست:
-عندها أدركت.. أنا لست مشتاقة للرقص في صالتي... بل مشتاقة للرجل الذي صنع لي هذه الصالة
تحطم قلبه للحنان في صوتها وللألم الذي يعتري نبرتها...
رفع كفه ليغطي كفها... وفتح عينيه لينظر في عينيها
-أنا آسف جداً
بادلته نظراته:
-أعلم..
ثم سألته:
-لماذا لم تأتِ.. أعلم أنك كنت فعلتَ لو أردتْ؟
اعتصر اصابعها بين كفيه برقة ثم انزلق بها الى شفتيه ليقبلها فشعر بها ترتعش شوقاً:
-لأنني لم أكن أريد ان اعيدكِ الى سجني... أردتكِ ان تقرري بحرية.. فقد أقسمت ان لا أعيد أخطائي معكِ حتى لو كلفني ذلك الموت في بعدك
تغضن وجهها بالألم:
-أنا أتوجع كثيراً مكسم...
انكسرت لمعة عينيه الحادة التي تعشقها وهمس بذنب:
-أعرف ولا أستطيع ان أصدق بأنني كنت السبب
هزت رأسها نفياً:
-لا.. أنا لا أتوجع من هذا... أنا أتوجع من بعدي عنك... من النوم على الوسادة بدل ذراعك... من تناول الإفطار مع عائلتي بدل تناوله معه... من الذهاب الى الطبيب للفحص وأنت لا ترافقني.... أنا... (أغمضت عينيها بعذاب وفتحتهما) .. أنا لا أستطيع ان أعيش بعيداً عنك.... الجميع حولي يحاول ملأ فراغك.. لكن لا أحد ينجح..... لأنهم ببساطة ليسوا أنت!
التمعت عيناه بدموع حبيسة ... ودون تردد .. وضع كفيه خلف ظهرها لينهضها عن الأريكة ببطيء مراعياً وضعها.... ثم حين استقامت جالسة .. اخذها بين ذراعيه مستشعراً للمرة الأولى بطنها التي تحمل طفله....
تعلقت به مثل طفلة وراحت تبكي بحرقة... وهي تشهق من بين دموعها:
-أنا ... أنا لا اريد
اخذ يمسح على شعرها محاولاً تهدئتها:
-لا تريدين ماذا حبيبتي؟
تشبثت به وهي تستنشق رائحته التي اشتاقت اليها حد الجنون:
-لا أريد أن أغضب منك أكثر من ذلك...
شهقت:
-لقد أخبرتك بأنني أريد أن أعود الى نفسي أولا.. لكنني فشلت.. انا لا أستطيع ان اعود اليها إذا لم اعد اليك... لأنك جزء مني
أشارت الى قلبها وقالت بحرقة:
-أنت أهم قطعة في قلبي
ابعدها قليلاً بما يكفي ليجعل وجهه قريباً من وجهها وأخذ يقبل خديها وجبينها بقبلات خفيفة متلهفة وهو يقول من بين قبلاته:
-لا تذهبي.. لا تتركيني من جديد...
عاد يحتضنها بقوة:
-أنا احبك مايا... أعدكِ لن اوجعكِ بعد الآن...
ثم انكسر صوته متوسلاً:
-لا تذهبي أرجوكِ
اخفت وجهها في صدره:
-لن أذهب ..
بدت له هذه الكلمة مثل مفتاح فتح كل أبواب الجنة أمامه..... أستل وجهها بيديه من على صدره.. ورفعه اليه .. وقبل شفتيها باثاً لها كل ما في داخله من شوق وحب... حابساً شهقات بكائها بين شفتيه...
.................................................. ..............

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةDonde viven las historias. Descúbrelo ahora